حلزون: النبلاء
أصيبَ ثلاثتهم بالدهشة، فحسب هذه الرواية تكون هذه المرأة هي الامبراطورة.
وكم كان هذا صعب التصديق وصعبَ التكذيب، وهذا يعني أن الأكيد هو وجوب تنفيذهم لما تطلب، خاصةً أنها أكدت على وعدها السابق: وكما اشترطت ها قد حان أوان مساعدتكم لأصل إلى قصرِ الأسفار سالمةً دون أن يحسّ بي أحد، اتقاء شرّ العدو أن يمسّ بي قبل العودة إلى حصني، وقد قطعت كلمتي بأنكم لن تقضوا لي حاجةً بلا مقابل، فإن كان المال أو غيره أبشروا بكل خير.
-قبل كل شيء أيتها السيدة، أعني سموّ النبيلة، أتعتقدين بأنه من الممكن أن يكون الامبراطور في خطر بدوره؟
طرح عبدُ الحكيم، فألقت: بل انطلق بالزورق وهو آمنٌ أكثر من الطير في أعشاشها.
-إذًا يجب أن يكون قد بلّغ الجهات الأمنية للبحث عنكِ.
فتحَ عُدَيّ فاهَهُ بعدما صمتَ منصتًا طويلًا، وأخضعَ حِسُّهُ الآذان.
عضت على شفتها السفلى بينما تقبضُ كتفها كابحةً الألم أكثر من ذي قبل. هناكَ سرٌ ما، وهو ما لا يجب على هؤلاء أن يعرفوه.
سرعان ما بدّدَ الناطق شحنة الذي قالَ، ففي الأمر مال، ألم ترَ الدولارات في عينيه؟ سيفعل أي شيء لأجل المال: تنكري كفتى، سيكون إخفاؤكِ أسهل.
جذبَ الانتباه لخطته فاستطرد: سآتي ببعض ثيابي من النزل، ثم ندخلها معنا على أنها رفيقنا.
-تربيتي.
عزّزَ لهُ صديقه، قبل أن يُقبِل الملهوف للشروع إلى نيّته.
أما الأخير فقد تبرع بقبعته اللَيليّة لإخفاء شعرها أسفلها وأسرع ليقوم بخطوة مهمة، عنى الصيدلية لجلب بعض ما يمكنه أن يساعد في تصبير إصابتها التي تزداد سوءًا، لدرجة وقوعها في جُحرِ النوم بلا مقاومة وفي مكانها.
بعد ذهابِ كلٍ من عاشقِ المال وعاشقِ البيئة خلصَ عبدُ الحكيم بالمرأة النائمة، والتي لم تكُن مرأةً في عيون الجماعة التي أقبلت في الجوار، فمن بعيد عاينوا مجرد صبيّ متكئٍ إلى الجذع بقبعة البيسبول، فما لم يعلمهُ مالكُ القبعة الأصلي أنه لو لم يضحي بقبعته العزيزة خلال هذه الدقائق القليلة، لكانت الخطة قد باءت بالفشل قبل بدئها.
عند استقرارهم في الشقة اتفقوا على ما اقتضت عليه خطة عُدَيّ الذكيّ. بما أن لديهم طرفًا يمكنه الوصول إلى داخل القصر (كريمة) فستكون هي الوسيط، فالخطوة الأولى تقود إليها لإخبارها بما يجري، وتلك مهمة أكبرهم لا ريب.
لكن قبل هذا لزمَ أن يُدَبّر مُعين أكبر من هناك، وذا الذي أرشد المخطط للسؤال: أتثقين بأحد يساعدنا من داخل القصر؟
استمعت وهي تبتلعُ ثلاث حبات مسكّنة ثم فكرت وكأس الماء في يدها، بدا أنه سؤال غاية في الصعوبة، والاختيار مخاطرة عظيمة.
-طالما لا مفر من الاختيار فالنبيل إرَم أوسَطهم.
-
استقبلت الخطّاطةُ صديق والدها بعد أن كانت تراجع الاتفاقية للمرة الألف متوترةً، وازداد التوتر عندما أدركت أنها لا تملك شيئًا تضيّفه به، خاصة أنها تذكرت أن صديقه الشاب سيكون معه، إلا أنّه فاجأها بالولوج متعجّلًا مقفلًا الباب خلفه، فسألت: هل أنت وحدك؟
-أجل، لا حاجة لمجيء الآخرين.
-الآخرين؟
دنا منها أكثر مما تطيق وباغتها بإمساكهِ لكتفَيها: كَرّومة! أنتِ أملي!
تسيّدَها الرَوْعُ من هذه الدراما، وما احتاجت السؤال فهو أكثر اندفاعًا ليوضّح بإخراجه رِقًّا مطويًا من جيبه: عليكِ إيصال هذه الرسالة إلى النبيل إرَم.
-ماذا؟ لماذا؟!
استقرأَ كم أخافها الطلب، فتراجعت إلى الوراء متوسّعة العينَين، نسيَ هَوْلَ جُبْنِ هذه الفتاة.
تمالكَ حماسه، أدرك أن انفعالهُ هو ما رَوّعها فاتّخذَ الأريكة الزرقاءَ مقعدًا وحكَّ رأسهُ مبتسمًا في هدوء، وبصرهُ منخفضٌ يفكر بسبيل لإقناعها.
-كَرّومة الحلوة، تعلمين أن صديقيّ والدكِ العزيزَين بحاجةٍ إلى المال بصفتهما غريبَين في العاصمة.
-ستتسوّل عند النبلاء؟!
-معتوهة لا!
صرخَ فعادت لانغلاقها عنهُ وتراجعت أكثرَ حتى التصقت بالحائط.
استأنفَ المحاولة: أعني أنني مُرسَلٌ من نبيلٍ آخر كمرسول، هذا كل ما في الأمر.
-لمَ ينبغي أن أتوسط لك إذًا؟
-لأن الذي أرسلني يريد أن تصل الرسالة بشكل سرّي وتبرّعت أنا لمساعدته مقابل أجر، ألا ترغبين في مساعدتي؟
أبطنت النفي، ولأنه جواب غير لائق استبدلتهُ بالسكوت، فتمهّلَ عن الإضافة حتى قالت: لكنني لم أُستَدعى بعد.
-وهذه فرصة! تسَحَّبي إلى مَوجِدِه وإن سُئلتِ عن غرَضك فقولي إنكِ ستسألين عن سبب التأخير.
-ماذا لو كُشِفت؟
-وماذا في ذلك؟ أنتِ تدخلين القصر بشكل قانونيّ.
-ولكن قال لي أبي أن أبتعد عن كلّ شخصٍ ليست له صلةٌ بعملي.
-لا ينبغي أن تتبعي تعليماته بحذافيرها.
-ولكن...
-كفّي عن التعذُّر، صدقيني هذا على مسؤوليتي.
سحبَ يمناها برِقّة لئلّا تفزع وحشرَ الرسالةَ بين أصابعها، وابتسمَ بوِدٍّ كجروٍ لطيف، فتُبدي الاشمئزاز صامتةً.
ما باليد حيلة، تناولت الاتفاقية بيد والمفتاح المرقّم بيدها الثانية ولم تنسَ الهويّة، عند المدخل يتم التأكد من هويّة العاملين أكثر من مرة، فبرغم كونها تجاوزت الأسوار العالية كانت هناك ثلاثة مناطق تفتيش بانتظارها، وما إن مرّت بهم جميعًا أصبحت حرةً في الساحة الضخمة لدرجة تنقُّل السيارات والعربات فيها.
القصرُ أشبهُ بمدينة مصغّرة مليئةٍ بالبيوت العملاقة، ولم تعلم أين ستعثر على المدعوّ إرَم بالضبط، فاختارت الدخول إلى أقرب بيت، وهو الذي امتلأَ بالنوافذ النيليّة الكبيرة فكان هذا ما يميّزه، أما جدرانهُ فبياضها يدلّ على أنها تُلمّعُ بشكلٍ دوريّ.
وطأت خطوتها الأولى على البلاط العاكس لصورتها كالمرآة، زُرقتهُ الساحرة كأنما تمشي على بُحيرة، فمشَت على هوادةٍ تتأمّل منبهرةً كأنها تتأكد من أنه بلاطٌ بالفعل وليس ماءً من الكريستال، متجاهلةً رائحة الاحتراق التي اشتمّتها بمجرد أن دخلت.
-احفظ لسانك، ما تفوّهت به سيودي بك.
سمعت الصوت النسائيّ الذي جمّدها واقفةً باستقامة حرصًا على هيبتها، لقد اقتربت كثيرًا من مصدر الصوت أثناء اختبارها للأرضية الكريستالية دونما إدراك، واستطاعت أن ترى صاحبته أمام السُلّم المفروش.
إنها غادةٌ فضّيّة الشعر المرفوع كَكعكة، فستانها خلا من الأكمام غيرَ أن مرفقها وما تحتهُ كان مستورًا، بشالٍ يُآخي الرداء غطّى جلّ أصابعها.
-فعلها مرتَين.
ردَّ جليسُها، نحيلٌ حنطيُّ البشرةِ كُحليّ الثَوب، طُرِّزت أطراف كُمَّيهِ بخيوط ذهبيّة متقنة، تعلو رأسهُ غترةٌ بترسيمةِ الفارس بعقالها، ويشغلُ فاهَهُ بسيجارةٍ علّلت ريحَ الاحتراق. شفطَ دفعةً ثم نفثها في الجوّ بعدَئذْ تحدث.
قالت: جلالتها معهُ هذه المرة.
-لطالما فعل عازف ما أراده، دائمًا كانت لديه خطة.
تشنجت كريمة عندَ إدراكها لمن يتحدثان عنه، وهي تنظر إلى السيجارة التي رماها بإهمالٍ على هذه الأرض الصافية، لتهمّ خادمةٌ لإطفائها بحذائها ثم تنظيفِ بُقعةِ وقوعها بعناية بجانب قدمَيه مباشرةً، بينما يُشعل هو واحدةً جديدة.
عايَنتها النبيلةُ فساءلتها مُستَنكِرةً في دلال: ماذا تفعلين هنا؟
توجّه اهتمام المُدَخِّن إلى مَن خاطبتها مُحَدِّثَتُه، عندئذٍ تردّدت المسؤولة في الإجابة، فلربما يكون هذا الشخص هو من تبحث عنه، فإن قالت بأنهُ طلبها مثلًا وتبيّن أنه هو ستكونُ كذبتها مفضوحة، وبهذا حرّفَت القَول وَشَلًا: قصدتُ مقابلة النبيل إرَم فأضعتُ مكانه.
لئن كان هوَ سيبدو وكأنها كانت ترتَقِبُه، ولئن لم يكُن سيرشدانها. هكذا خطّطَت ولم تحسب حسابَ أن تردّ الناعمةُ تدَخُّلًا: وما حاجتكِ به؟ لم يرِدني خبرٌ حول طلبهِ لعمالةٍ جدُد.
هذه المرأة تعرف جميع المحيطين بهِ بلا شك، وإلا فكيف عرفت بأنها جديدةٌ مع العدد الهائل للعمالةِ في هذه القلعة؟ ولأن كريمة تكرهُ المشاكل قررت عدم التورُّط معها في المستقبل، هذا إن وُجِدَ لها مستقبلٌ هنا بعد هذا الموقف.
امتنانًا للغَيث المتمثّل بهيئة هذا المُتغتِّر، مُرشِدًا غيرَ مكترثٍ بفضول التي معه: قد تجدينهُ في مكتبةِ مبنى (١١).
-أُعطِيتَ العافية.
شكرتهُ وأسرعت دون أن تثير الشكوك، وتظاهرت بأنها لم تسمعها وقتَ دعتهُ ناهرةً: جُود!
-كُفّي عن التدخل في شؤون الخلق.
-لن أسامحك على إهانتك!
استقلّت عربةً للوصول إلى المبنى المنشود، في رحلةٍ استغرقت حوالي دقيقتَين قضَتهُما في تأمُّل البَهيّاتِ على الطريق، بِركةٌ على طول صفّ الزهور وعرضِ امتداد النخيل، ومجلسٌ أرضيّ اجتمع فيه رجالٌ من طبقات كبرى، مُظّلّلٌ بأقوى أنواع الخشب وأصلبها لونًا، وشتّى أنواع المظاهر حول الشارع الذي تمشي فيه الناقلة.
شُبِّه المبنى (١١) بالمتحف، إذ معزّزٌ بأعمدة متينة رخامية، توسّطت المتاهة الخضراء اليسيرة، فعبرتها المُغامرةُ واعتبرت أنها أتمّت المهمة، فبمجرد أن دخلت المكتبة رأت شخصًا جالسًا على أحد مجالسها الحريرية.
إنه الذي رأتهُ في السيارة الذهبية، ذو الأنف الحادّ والعيون العريضة، والشامةِ التي سادت علوّ خدّه الأيسر، هوَ عينهُ مَن أسرَ قلبها بغتةً~
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro