الأخير
بقلم نهال عبد الواحد
صاح مجدي: كفاية يا هدى!
ثم التفت نحو مروان وقال: إسمع يابني...
فقاطعه مروان: إسمعني حضرتك، الموضوع مش زي ماانتو فاهمين، أنا طبعًا أتمنى إن كارما تكون أم أولادي، لكن...
فصاحت كارما بقهر: لكن إيه؟!
فاقترب منها حتى وقف مقابلًا لها ونظر داخل عينيها وتنهد بعشق ثم قال: خايف عليكِ، مرعوب يا كارما!
قال الأخيرة بصوتٍ متحشرج ثم ابتلع ريقه بمرارة وتابع: كارما، إنتِ أغلى حاجة عندي وأحلى حاجة حصلت لي في عمري كله، مش مجرد واحد حب بنت حلوة ولا متجوز واحدة بتحبه وتريحه، لا! إنتِ كل حياتي، حاجة كده ما لهاش وصف، أقرب لي من نفسي، بحبك واشتاق لك في نفس اللحظة حتى من قبل ما تغيبي عني، حتى وأنا بعيد بحسك حواليّ بس برضو بشتاق لك، خايف أخسرك زي ما خسرتها وده فوق طاقتي، مش هقدر؛ أنا روحي فيكِ...
فصاحت هدى: وكمان بتفوّل على بنتي! ده بدل ما تدعي إن ربنا يقومها بالسلامة!
فصاح بقهر: أرجوكم افهموني!
فتدخل مجدي بهدوء: طب تعالى يا بني واستهدى بالله!
فتابعت هدى بعدم رضا: إنت لسه هتحكي معاه!
فصاح فيها مجدي: يا تقعدي ساكتة يا تتفضلي من هنا.
ثم أشار لابنته قائلًا: تعالي حبيبتي اقعدي هنا جنبي، تعالى يا مروان يا ابني.
فجلس الاثنان ثم جلست هدى وسلوى، فنظر مجدي إليهما ثم قال: يعني الحكاية كلها إنك خايف تخسرها، تموت يعني وهي بتولد!
فتدخلت هدى مسرعة بغضب: ألف بعد الشر عليها!
فنظر إليها زوجها بفرغ صبر ثم تابع: طب ما كلنا هنموت ولا في حد قاعد مخلّد! الموت مالوش سبب ولا سن يا بني، وبعدين لو كل الستات بتموت وهي بتولد كانت الناس خلصت من زمان، المرحومة زوجتك توفاها الله لأن عمرها انتهى يعني كانت هتموت سواء كانت بتولد أو لأ.
وبعدين أحبب حبيبك هونًا؛ التعلق الزائد بأي حد أو أي شيء آخره فقد ويكون الحب ده سبب لعذابه وهلاكه؛ لأن كل المقادير بيد الله وتسير حسب إرادة الله، ما ينفعش تختبر ربك أبدًا، ما ينفعش تقول لو حصل كذا أموت، لأن ببساطة إنت إنسان يعني أضعف ما يكون، ودائمًا التعلق الزائد بيصحبه تصرفات لا تليق إنما التعلق الزائد لازم يكون بالله الواحد الباقي وحده وليس للمخلوق الفاني، فاتعود على الترك لينضبط تعلقك بالشيء أو الشخص؛ فكل شيء فاني وليس غير الله يبقى.
وبعدين فين حسن ظنك بربك؛ الله عند ظن عبده إن خيرًا فخير، فاستبشر خير وادعي لها ربنا يقومها بالسلامة وتفرح بخلفك الصالح، إستبشر ولا تنفر، إدعي لأن الدعاء يرفع البلاء، ويغير القدر، إدعي لنفسك بالثبات والهداية، وحّد الله يا ابني!
فأهدر مروان بتنهيدة: لا إله إلا الله!
فالتفت إلى إبنته قائلًا: وإنتِ كمان يا كارما يا بنتي، وحّدي الله.
فتابعت: لا إله إلا الله!
فابتسم وربت على ابنته وقبّل جبينها وقال لها مبتسمًا: ألف مبروك يا حبيبتي، ربنا يكتب لك الخير ويقومك بالسلامة ويهديكم ويبعد عنكم الشيطان! خلاص يا بنتي روحي مع جوزك واعذريه وهو عرف خطأه وربنا هيثبته إن شاء الله.
وتابعت سلوى: أيوة الله يفتح عليك يا حاج! إستهدي بالله يا حبيبتي، وأنا من هنا ورايح هراعي كريم ومالكيش دعوة إنتِ بحاجة.
فأجابت كارما: ما ينفعش نغير نظام حياته كل شوية، صعب!
فتدخل مجدي: يبقى الست أم مروان تتفضل في البيت معاكِ واهو تبقى بتراعي كريم من غير ما يغير نظام حياته.
فقالت سلوى: إن كان عليّ ماعنديش مانع والله! ومنها أراعيها واخلي بالي منها، وما تخافوش مش هتدخل في حاجة تخصكم وهتكونوا على راحتكم.
فقالت كارما: كلام إيه ده بس يا طنط! حضرتك عندي زي ماما بالظبط.
فقال مجدي: يبقى خلاص، أهي اتحلت لوحدها.
فتدخلت هدى: طب مش نطمن قبلا على كارما عند دكتور وتتابع!
فأجاب مجدي: طبعًا، ده شغلكم إنتو بأه.
فقالت سلوى: شوفوا دكتور مناسب يكون شاطر وتحجزوا عنده.
فتدخل مروان مسرعًا: دكتورة ست مش دكتور!
فقالت هدى: أيوة طبعًا دكتورة ست، الدكتورة اللي سمر بتروح عندها شاطرة ومية مية.
فتابع مروان: خلاص شوفوا مواعيدها واحجزوا، بس لازم أكون معاها.
فقالت: أيوة طبعًا.
ثم التفتت نحو سلوى وقالت على استحياء: ما تآخذنيش يا سلوى يعني، دخلت كده زي القطر وطِحت في الكل!
فابتسمت سلوى وقالت بهدوء: معاكِ حق، بنتك وخايفة عليها، لو كانت بنتي كنت هديت الدنيا، بس الحمد لله الموضوع إتلم وكل حاجة بآت تمام، صح يا مروان!
فأومأ برأسه وأجاب: طبعًا، هو أنا لي مين غيرها!
فأطالت النظر إليه بعتاب ثم نهضت واقفة وقالت: عن إذنكم أنا تعبانة وداخلة أنام.
فوقفت هدى واحتضنتها وهي تقول: وماله يا حبيبتي خشي نامي وارتاحي، بس لازم تاكلي عدل وخصوصًا اللبن.
فتدخل مروان: أنا بشربها كل يوم من يوم ما اتجوزنا.
وقالت سلوى: ما تخافيش عليها أنا معاها وهراعيها.
فتركتهم ودخلت كارما لحجرة مروان ثم قالت هدى: أنا عارفة ما هي بنتك برضو.
ثم التفتت نحو مروان وقالت بعتاب: معلش ما تزعلش من كلامي وعصبيتي إنت زي عمرو ابني برضو، بس إنت طلعت شياطيني!
فأجاب بهدوء وعينيه في اتجاه حجرته التي بداخلها وأنفاسه تتصاعد بعشق: ما جراش حاجة.
فتدخل مجدي: هو لسه هيعرفك، بتطلعي تطلعي وتنزلي في الآخر على مفيش.
فقالت سلوى: ربنا يديم المعروف!
فنهض مجدي واقفًا وهو يقول: إطمنا والحمد لله، نتوكل على الله، يلا يا أم عمرو.
فقالت هدى متابعة: يلا يا خويا، هنحجز عند الدكتورة ونبلغك.
فأومأ مروان برأسه ثم سلم الجميع وغادرا الوالدين وعم الهدوء من جديد.
بمجرد مغادرتهم أسرع مروان يدلف لحجرته فوجدها مدثرة في فراشه القديم، كان يعلم جيدًا أنها لم تنام .
اتجه نحو خزانة الملابس وأخذ منها طاقم من ملابسه القديمة قبل الزواج وغادر الحجرة وبعد قليل عاد ورأسه فيها أثر ابتلال ورائحة سائل الاستحمام تملأ المكان.
وقف مروان يصلي وأطال قليلًا، يبدو أنه يدعو ويكثر في دعائه، وبعد فترة انتهى من صلاته فدخل في الفراش.
اقترب منها وجذبها من خصرها إليه فألصقها بصدره وكانت مستديرة له بظهرها، قبّل خدها وهمس: حقك عليّ ما تزعليش مني.
- إبعد عني!
- ماقدرش؛ ده انتِ روحي!
- وأنا مش طايقاك!
- بحبك.
- وأنا بكرهك، إمشي يلا!
فضحك بخفة ثم قال وهو يسند بخده على خدها: كدابة! عمرك ما تقدري تكرهيني.
- طب إبعد عني عشان بجد مش طايقاك.
- أمال مين اللي كان رايح جاي يتمسح فيّ زي القطط لا همه شارع ولا ناس ولا أي شيء.
فنهضت جالسة ودفعته بيدها تبعده عنها وهي تقول متذمرة: قلت إبعد عني!
فضمها إليه رغمًا عنها وسط مقاومتها وقال: لا يمكن هبعد عنك أبدًا، ولا إنتِ كمان.
فأخذت نفسًا عميقًا ثم قالت: بآيت عارف كويس نقطة ضعفي وبتلعب عليها، بتوجعني وإنت متأكد إني مش عارفة أكرهك، مش في إيدي غير إني أحبك، أفضل أحبك وبس.
فضمها إليه بعد أن استكانت بين يديه وهمس: خلاص سماح بأه، مش هزعلك ولا هوجعك تاني.
ضمها إليه محاولًا مجاراة الأمور وقرر أن يحتفظ بقلقه لنفسه ولا يظهره لأحد!
ظل منتظرًا حتى جاء موعد الطبيبة وذهب برفقة زوجته وأمها وكان كل شيء على ما يرام وليس هناك ما يثير القلق فوق العادي.
وزيارة تليها زيارة ومروان لم يتغيب عن أيهم، أو يترك أي موعد مهما كان ويذهب مع زوجته، لم ينكر أبدًا شعوره عندما ينظر نحو شاشة جهاز أشعة الموجات أو يسمع صوت نبضات الجنين، يظل مطيلًا النظر وتترقرق عيناه بالدمع ويرتجف قلبه.
لم تمر زيارة عند الطبيبة إلا بعد أن تخرج كارما وأمها يعاود الدخول لمكتب الطبيبة ويقسم عليها أن تخبره بحقيقة حالة زوجته بعيدًا عن الجميع، فتضحك منه الطبيبة متعجبة وتقسم له أن كل شيء على ما يرام.
جاءت سلوى بالفعل للعيش معهما في بيتهما دون تدخل في شؤنهما، لكن كارما لم تترك مجالستها لكريم؛ فمهما تخبرها أو تخبر مروان بما يجب فعله لا يكون مثلما تفعله بنفسها، خاصةً وهي ترى أهمية استغلال الوقت حتى يزداد تطوره.
ولحسن الحظ توافق بداية حملها مع الإجازة الصيفية ومر من حملها قرابة الخمسة أشهر في الصيف أي بعيدًا عن العمل المدرسي، لكن حرارة الجو في الصيف ترهق أي أم في فترة حملها.
كانت كارما تسبق الوقت تريد الانتهاء من رسالة الدكتوراة قبل ولادتها فكانت تجلس وتذاكر وكان مروان يضطر للذهاب مرارًا إلى المكتبات المختلفة لإحضار المراجع اللازمة التي تحتاجها.
أما عن حال كارما مع مروان فكادت تصيبه بالجنون؛ فكانت متقلبة بشكل لا يُصدقه، فحينًا تحب قربه وتعشق ملاصقته تتشممه بهيام وتشتاق إلى لقاءه خاصةً لقاءاتهما الخاصة، كم يعشقها ويهيم بها وهي في تلك الحالة!
وحينًا أخرى تنفر منه ولا تطيقه بل وتشمئز من اقترابه بأي صورة فيشتعل منها غضبًا وغيظًا!
لم يعد مروان يفهمها أو يتوقع ردود أفعالها، دائمًا تفاجئه بتصرفات غريبة تارةً ترضيه وتوافق هواه وتارةً أخرى تتحول إلى عدوته اللدودة!
حتى إنه من نفاذ صبره من أفعالها يحاول تذكر ما كانت عليه زوجته الراحلة في فترة حملها فيتفاجأ أنها مجرد ذكريات مشوشة، إذن فقد تخطى كل شيء ولم يعد يذكر سوى كارما وتصرفاتها المجنونة المتناقضة!
ربما تلك التصرفات ما جعلته يصرف النظر عن المبالغة في التفكير بلحظة ولادتها التي يرتعب منها، لكنها كثيرًا ما تنهض من نومها ليلًا تجده متكئًا يحملق فيها كأنما يملئ عينيه منها، فكانت تجذبه إليها وتسند برأسه على صدرها مربتة بحنان لتهدئه.
لكن بتقدم شهور الحمل قد صار الأمر أكثر صعوبة، فقد ازداد حجمها وثقلت حركتها، ربما كان في الشهور الأولى تلك الزيادة تعطيها رونقًا وتمنح جسدها المزيد من الإنحناءات الأنثوية، فكانت مغرمة بكثرة تصوير نفسها، لكن بعد ذلك تضخمت أكثر وامتلأت من كل جانب حتى قدميها، ذراعيها ووجهها، كل شيء قد انتفخ فيها، فصارت تتذمر من هيئتها وتثاقل حركتها فأتمت النصف الدراسي الأول في عملها بالكاد وكانت في أسابيعها الأخيرة ترتدي فقط عباءة كبيرة ونعال رجالي كبير؛ فلا شيء من أشياءها صار مناسبًا لمقاسها أو حجمها الجديد.
كانت لا تزال مع إعدادات استقبال الوليد من إعداد كل اللوازم الخاصة به، لا تزال تصر على إتمام الدكتوراة حتى تحدد أخيرًا موعد مناقشة الرسالة.
وإن كان الموعد الذي حدده الدكتور المشرف على رسالتها غير مضمون فهو في شهرها التاسع وصارت مرتعبة أن يجيئها المخاض قبلها.
وجاء يوم مناقشة الرسالة وكانت مستعدة أو بالأحرى مروان هو المستعد؛ فقد أجهد في الآونة الأخيرة في طبع الرسالة وإعداد كل شيء بالإضافة إلى تجهيزات الولادة ومتابعته لكل ما يخص كارما، لقد أنساه انشغاله وجهوداته هذه كل قلقه وهواجسه التي كانت تؤرقه منذ بداية فترة الحمل.
كان أكثر ما يضايق كارما اليوم هو هيئتها الضخمة وبالطبع تلك العباءة الكبيرة التي ترتديها، فتنظر إلى هيئتها الآن وتنظر إلى صورة لها بأناقتها يوم مناقشة الماجستير، فالفرق شاسعًا كما بين السماء والأرض فيزداد تذمرها.
ذهبت تسير متثاقلة حتى وصلت إلى مكانها لتبدأ في مناقشة الرسالة في القاعة المحددة.
ربما دعت ألا تلد الآن أكثر من دعاءها أن تُوفق في مناقشتها! وبدأت المناقشة وكانت بالفعل منهكة، تنظر إلى الساعة من حينٍ لآخر تتمنى أن تنتهي المناقشة على خير، خاصةً وقد بدأت تشعر ببعض التقلصات في بطنها! وبدأت تظهر على ملامحها المعاناة وبعض قطرات العرق لكن لم تطول فقد انتهت أخيرًا تلك المناقشة وبمجرد أن أعلن الدكتور المسؤول عن حصولها على درجة الدكتوراة وبداية مباركات الجميع وقبل أن يقوم مروان بتوزيع الحلوى هو وأمها على المدعويين صرخت كارما صرخة مدوية، فترك مروان كل شيء وأسرع إليها.
ذهب بها مروان إلى المشفى بعد أن أخبر طبيبتها وكان معها الجميع؛ حيث كانوا حاضرين لحفل المناقشة.
وبمجرد وصولهم إلى المشفى وبداية التحضيرات للولادة حتى عاود مروان القلق مجددًا وصار يرى يوم ولادة أمنية، اليوم الأخير!
لم تكن آلام الولادة متتابعة ولا مبرحة مما جعلها تنتظر في إحدى الغرف مع إعطاء أدوية تساعدها على الولادة، فتارةً يجدوها هادئة وتارةً أخرى تصرخ وتصيح، حتى جاءت اللحظة الحاسمة.
عرضت الطبيبة أن يحضر مروان الولادة مع زوجته داخل غرفة العمليات ليطمئن قلبه أكثر فوافق على الفور فقط ليكون جوارها.
وُضعت كارما فوق سرير الولادة وقُيدت بأحزمة وقد كلّت قواها تمامًا فلم يعد لديها أي طاقة حتى للصراخ فأمسك مروان بيدها وظل ينظر إلى وجهها ويتمتم بكل ما يتذكره من ذكر أو دعاء ثم ينحني ويهمس داخل أذنها: مستنينكم يا كارما، يلا خلصي وقومي أوام!
ظل ناظرًا إليها دون أي التفات حوله حتى بعد أن سمع صوت صراخ طفلته، لم يحاول الالتفات، كان ينتظر أولًا أن تنهض أمامه مُعافة دون أن تعاني من أي شيء.
مر الوقت حتى انتهت الطبيبة من كل ما يخص كارما، أما الوليدة فقد ذهبت إلى غرفة الأطفال حديثي الولادة ليفحصها الأطباء المسؤولين ويتأكدون من صحتها عن طريق ذلك الكشف الروتيني والإجراءات التي تُقام لكل المواليد.
خرجت كارما من غرفة العمليات نائمة نومًا عميقًا من شدة التعب والإجهاد خاصةً في الأيام الأخيرة كانت لا تهنأ في نومة بالإضافة إلى جهد المذاكرة.
خرج معها مروان حتى الغرفة التي ستقيم فيها وكان الجميع ينتظرها، كانت واجهة الغرفة مزينة بزينة وبالونات من اللون الوردي مع جملة ترحيبية مكتوبة بتزيين ترحّب بالمولودة الجديدة، وبمجرد مجيئها اتجهوا إلى غرفة المواليد لرؤية الوليدة ثم انسحبت لمياء مع زوجها بينما عمرو أخذ سيف وكريم إلى مكان جوار المشفى فيه ركنًا للأطفال؛ فقد ملّ الطفلان من جو المشفى.
أما مروان فاتكأ جوار زوجته في فراشها ممسكًا يدها ومحملقًا في ملامحها الشاحبة باهتة اللون عقب الولادة، لكن لم يطل الأمر كثيرًا وغطّ نائمًا جوار زوجته.
ظلت كارما مستغرقة في نومها حتى عسعس الليل رغم محاولات الجميع في إيقاظها، فبدأت تتململ وتفتح عينيها تدريجيًا فتهللت أسارير مروان، وإن كان كل شيء لا يستدعي أي قلق لكن بمجرد أن فتحت عيناها شعر بأن روحه قد رُدّت إليه.
أمسك بيدها وانهال على يدها ووجهها بالقبلات فاتسعت ابتسامتها وهمت لتنهض بتثاقل لكنها شعرت بنفسها وقد استردت خفتها ونهضت جالسة بسهولة إلا من بعض الأوجاع.
اقترب منها المحيطين مباركين لهما وكان لا زال مروان ممسكاً بيدها يقبلها من حينٍ لآخر.
بدأت أمها تقدم لها المشروبات الدافئة تباعًا دون أي عذر أو مجالًا للرفض، وبعدها جاءت عاملتين لتساعدا كارما على النهوض لتحمماها وتنظّف فراشها من آثار دماء الولادة.
نزعت إحداهما الغطاء لتترجل كارما فانكشف ساقيها فهب مروان نحواها يسترها بغضب؛ فهو شديد الغيرة حتى ولو كانت نساء.
وبعد حمامها وتبديل ملابسها بدت كارما منزعجة ومتذمرة من هيئة جسدها؛ فجلد سائر جسدها صار مترهلًا منكمشًا باشمئزاز خاصةً بعد فقدانها لكل ذلك الانتفاخ في جسدها ولم يتبقى سوى القليل المتورم، فصاحت بانزعاج: أنا بوظت خالص! يعني الأول كنت زي الدبّابة، ودلوقتي...
فقاطعها مروان وهمس بعشق: عاجبني، المهم إنك قمتِ بالسلامة وهنكمل حياتنا سوا، مش مهم أي حاجة .
بعد قليل جاءت إحدى الممرضات تحمل الطفلة الوليدة، وبمجرد أن دلفت الغرفة تعلقت عيون كارما ومروان بها، مدت كارما يديها وحملتها وهي واجمة في شعور غريب لا تعرف ماهيته ولا كيف تصفه!
أمسكت بإصبعيها كفها الرقيق بأصابع دقيقة منظمة سبحان الخالق!
ثم مست بطرف أصابعها وجنتها الرقيقة وغرتها الصغيرة، مسدت على شعيرات رأسها القليلة ثم اقتربت تقبّل جبهتها ووجنتيها بقبلاتٍ رقيقة متتابعة.
في نفس الوقت كان مروان يمسك بإصبعه كفها الصغير ويتفقد ملامحها كما يختبر شعور جديد وغريب لم يجربه من قبل، بل لم يحاول أن يشعر به؛ ربما بسبب الظرف المؤلم الذي عاشه أو ربما بسبب حماقته الشديدة.
فابتسم هو الآخر وانحنى يقبل ذلك الكف الصغير، فأهدرت كارما بسعادة وهي تلتفت إليه وتضم طفلتها إلى صدرها: شوفت جمالها!
فأومأ برأسه وقد اتسعت ابتسامته ويضمها بأحد ذراعيه ويضم طفلته بالأخرى.
فتساءلت سمر: هتسموها إيه؟
فنظر الزوجان لبعضهما البعض ثم بدأ مروان: سميها إنتِ يا كارما.
فأطالت النظر إليه ثم قالت: يعني إنت مافكرتش في اسم؟
فنظر أمامه ثم تنهد قائلًا: فكرت في اسم فعلًا، دايمًا كان بيجي على بالي، بس قولي إنتِ حاسس إنك مختارة اسم بعينه.
فأومأت برأسها وتابعت: عندي اسم فعلًا بس ما كنتش بحب أتكلم معاك خصوصًا يعني...
فابتسم وتابع: ما أنكرش حالة الخوف والرعب والقلق المبالغ فيهم، لكن بصراحة عمايلك والفيلم اللي كنت عايش فيه نساني أي حاجة.
فضحكت كارما وتابعت أمه: كنت محتاج تتربى شوية والحمد لله اتربيت!
فضحك الموجودين ثم قال: من جهة اتربيت فاتربيت بالأوي، بس أخبار الفصام اللي عندك إيه يا قلبي لسه موجود ولا عقلتِ خلاص!
فضحكت كارما مجددًا: طب أعمل إيه! كان غصب عني!
- وده اللي كان خارسني خالص، مع إني كنت بموت م الغيظ لما بتجيلك الحالة وتكرهيني.
فضحكت وقالت: بس الحالة التانية كانت على هواك!
فرفع إحدى حاجبيه وأشار بيده نحو الجميع يعني بذلك أن لا يصح أمامهم تلك التلميحات فسكتت ثم قالت: طب إفرض الاسم بتاعك كان أحلى!
- بصي يا ستي قولي وبعدين أقول وإبقى اختاري.
فأومأت بالموافقة ثم قالت: هسميها حياة؛ لأنها بداية لحياة جديدة لينا ومرحلة تانية مختلفة، مروان على أد ما كنت بشوف خوفك وقلقك وإنت مش عارف آخرة حملي ده إيه على أد ما اديتني حب وحنّية، مروان إنت عارف إنك بتجري في دمي، عارف إنك هوايا اللي بتنفسه، تبقى إنت حياتي وهي حتة منك تبقى حياة.
فاتسعت ابتسامته ثم قال وهو يومئ برأسه: تبقى حياة.
- طب الاسم اللي كنت عايزه.
قالتها كارما ونظرت إليه بتوجس فانفجر ضاحكًا ثم تنحنح وكأنه قد فهم مقصدها فأومأ برأسه نافيًّا وقال: لا، أنا كمان كنت مختار اسم حياة؛ لما كانت بتهاجمني الهواجس إياها وأفضل أدعي ربنا يقومك بالسلامة كنت بحلم إن يوم الولادة ده يبقى بداية إنه يبقى معاه حياة مش حاجة تانية، كارما أنا من يوم ما عرفتك وإنت بتديني كتير أوي، صحّيتِ فيّ حاجات وعدلتِ فيّ حاجات تانية، لو اتكلمت عن حاجة واحدة بس هيخلص الكلام من قبل ما أعبّر، كفاية علاقتي بكريم اللي رجعتيها وبتتعبي أد إيه عشان تفضل مترابطة، وقفتك ودورك مع كريم اللي خلاه يتطور في وقت قياسي، ما أنا كنت بذاكر معاكِ الدكتوراة نسيتِ ولا إيه؟
فضحكت كارما ثم أكمل: ساعات بتهيألي إنك اختارتِ موضوع رسالة الدكتوراة مخصوص عشان تقدري تفيدي كريم وتديه.
فابتسمت وأسندت برأسها على صدره ولم تعقب فتساءل: يبقى صح!
- في الماجستير لأ، لكن في الدكتوراة فعلًا؛ القلب اللي بيديني كل الحب ده يستحق أديه على أد ما أقدر حتى لو كان في ابنه.
ثم قالت بمزاح: هات وخد يا كابتن، ألا صحيح هو إشمعنى هات وخد!
فضحك بشدة ثم قال: لا ده مصطلح كروي ما تشغليش بالك، مرات كابتن مروان حسني فلة في الكورة!
فتابعت بتهكم مصطنع: ماحدش قالك إني هلعب في الدوري!
فضحك مجددًا فطرق الباب ودلف عمرو ومعه سيف وكريم فالتفتت إليهم كارما ثم قالت لأخيها بامتنان: عملت طيب تسلملي يا غالي!
فسلم على أخته وقبل رأسها ثم رأس الوليدة وتابع بمزاح: بطلي هبل أنا اخوكِ ، هه! سميتوها إيه؟
فأجاب مروان بسعادة: حياة، حياة مروان.
ثم نظر بجانبية ناحية كارما فابتسم عمرو وقال: بورك في الموهوب وشكرتم الواهب!
فنظرت كارما إلى كريم وأشارت إليه تناديه فاقترب منها وعينيه على ذلك الشيء الصغير فضمته كارما بذراعها الآخر بقوة كما اعتادت معه، ثم قالت وهي تمسك بيده وتضعها على وليدتها: حياة أختي، حياة أختي...
ظلت تكررها مرارًا حتى لمحت شفتيه تنفرجان بتردد وتتحرك بحركة نطق الكلمة، فتابعت كارما مكررة وسط نظرات من حولها منها تعجب ومنها إعجاب ومنها ملل؛ فتكرار كلمات بعينها تكرارًا نمطيًا بتلك الصورة لابد وأن يثير الملل، لكن هذا ما يجب أن يكون، التحدث بكل تفصيلة بهدوء ووضوح وتكرار بعدد لانهائي لمدة ساعات وأيام.
فقالت هدى: يا طولة بالك يا كارما!
فأجابت سلوى: هي شغالة كده على طول، كل حاجة بيعملها تفضل تكرر وتعيد وتزيد كده، ربنا يبارك لها ويسعدها!
فتابعت هدى: يا رب! بس إنت بتكلميه بالمشقلب يا بنتي.
فأجابت كارما: لأن وعيه باللغة لسه ما اكتملش فبيكرر وبس مش بيفهم الفروق بين الضماير، فبقلب أنا الضماير عشان وهو بيردد يقول صح، لحد ما وعيه ينضج إن شاء الله!
فابتسم مروان وقال: كده إنتِ فوقتِ وخفيتِ كمان، يلا بأه روحي ناقشي الرسالة من تاني بأه، ولا أقولك همتحنك أنا وأناقشك!
فعكرت حاجبيها وقالت بتذمر: ما تفكرنيش!
- المهم إنك خلصيتِ منها وختي تقدير جيد جدًا، عايزة إيه تاني يا مفترية؟!
وقبل أن تنطق بحرف بدأت الطفلة تصرخ فيه فالتفتت كارما حولها تمد يدها بالطفلة لأيٍ منهم، فضحكت سمر بملء صوتها وقالت بمزاح: لا لا، دي بتاعتك، إتفضلي سكتيها يا حلوة وورينا المواهب.
فتابعت كارما بقلة حيلة: أعمل إيه! أعمل إيه؟!
فضربت هدى كفًا بكف وصاحت: خيبة إيه دي! وقال عاملة دكتوراة قال! رضعيها يا هبلة إنتِ أمها!
فنظرت كارما إلى مروان بتساؤل فأومأ برأسه ضاحكًا ثم تابع الآخرين ضحكاتهم عليها...
وهكذا بدأت الحياة تدب في هذه الأسرة الصغيرة ليعيشون معًا حياة حقيقية بكل تفاصيلها حلوها ومرها قائمة على التعاون والعطاء... هات وخد...
النهاية ❤
سعدت بحسن متابعتكم ،
وإلى اللقاء في رواية أخرى وشخصيات أخرى ،
خالص تحياتي،
2020
نهال عبد الواحد 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro