(9)
بقلم نهال عبد الواحد
مر وقت التدريب هذه المرة كما يمر كل مرة ولا زالت كارما تعاني من إجادة بعض الحركات، كانت تظن أن الأمر سهلًا لن يزيد عن الأسبوعين لكن هاهو يقارب الشهرين ولا زالت تشعر بصعوبة بعض الحركات وتأديتها بتثاقل.
ولا جديد خلال لقاءاتهما، حديثهما وكل تعاملهما رسميًا لا تطغى عليه أي مشاعر ولا أي خروج عن النص!
بعكس ما يحدث بداخل كل واحدٍ منهما، هناك انجذابًا ملحوظًا وشعور يزداد عمقًا أكثر من التآلف، لكن لا حديث، حوار ولا حتى رسائل!
كلاهما يتابع أخبار الآخر على مواقع التواصل الاجتماعي بدقة وبصورة شبه يومية، لكن متابعة بصمت بلا تعليقات أو إعجاب!
لم تكن كارما وحدها بذلك التخبط الغريب، بل مروان أيضًا لكنه أكثر جلدًا منها، يشغل نفسه بأعمالٍ كثيرة لا يريد التفكير فيها بل لا يريد التفكير في أي شيء خاصةً حياته!
مهما بدا خلوقًا باشًّا دائم المزاح وخفيف الظل، لكن يسكن تصدعات قلبه أوجاع وآلام لا يريدها تسيطر عليه من جديد، أو ربما يسعى لييقظها أحيانًا، لكنها لا زالت قوية لا زالت تحتله مهما ظن أنه استقل عنها.
سرعان ما يجد نفسه يفتح خزانته يفتش عن ذكرى الماضي وينبش فيه!
يجلس ويفتحها بكل شغف، كأن روحه تحلق داخلها! أخرج خاتمي زواج أحدهما ذهبي والآخر فضي ونظر داخل كلًا منهما، قرأ الحروف والتاريخ، ظل محملقًا فيهما، يغمض عينيه كأنما يستعيد أحداث بعينها، وفجأة يقفز وينهض سريعًا واضعًا الخاتمين داخل الصندوق مجددًا ثم يحفظ الصندوق مكانه، وقد زادت قتامة عينيه وتشنجت ملامحه بالكامل، كأنه يشحن نفسه بالهموم كلما نساها!
أما عن لمياء فقد انغمست في عملها مع كارما التي صدقت بالفعل أنها تحتاج لشغل وقتها ليس إلا، فصارت بالفعل كل مايشغلها كيف تنهي كم العمل الذي تكلفها به كارما كما تتفقا معًا! وبين أعمال المنزل وكيف تنهيها سريعًا قبل مجئ زوجها عماد من عملها، فيجلسان ويتجاذبان أطراف الحديث حول يوم كل منهما، وقد شعر عماد بالتغير والهدوء بالفعل فلم يعد هناك مشاحنات حول مواعيد الأطباء أو ضغوط بسبب مرور هذا الشهر دون حدوث حمل.
لكنها لا زالت متابعة لكارما وتغيراتها منتظرة ذلك الوقت الذي تأتيها وتصارحها بمكنونات قلبها، خاصةً وكلما سألتها عن أخبار التدريب لا تجد سوى إجابة عامة أي غير شافية لفضولها.
أما عن سمر فلا زالت غير منتظمة المجئ للعمل؛ فتأتي يومًا كاملًا وآخر تستأذن باكر قبل موعدها لموعد يخص مشترواتها أو إحدى تفصيلات الشقة، ويوماً آخر لا تأتي بالمرة.
وذات يوم بينما كانت كارما تجلس منتظرة موعد التدريب بعد انتهاء يومها الدراسي وكعادتها معها بضعة من الكتب الخاصة برسالتها تقوم بتصفحه وكتابة بعض من أجزاءه.
تفاجأت بمن يجلس جوارها وعيناه تحملقان بها، فانتبهت فجأة فأخفض عينيه داخل المرجع فنظرت إليه مضيّقة عينيها بمعنى غير مصدقة باهتمامه بكتب المراجع.
فقال وهو يتهجّى اسم المرجع ليهرب من الموقف:
( Teaching Symbolic Skills to Children with Autism Using Pivotal Response Training ).
ثم رفع مرجعًا آخر وقرأ عنوانه:
( The Development of Emotional Concepts in Autism, J. of Child Psychology and Psychiatry).
وآخر: الأطفال المتوحدون.
وآخر: الذاتوية.
ثم أخفضهم والتفت إليها معلّقًا: إنتِ بتذاكري!
فأومأت برأسها مجيبة: بذاكر للماجستير.
فرفع حاجبيه بإعجاب قائلًا: هايل! وموضوع الرسالة عن إيه؟
- باختصار عن الطفل التوحدي، الأوتيزم.
فزم فمه بعدم فهم: ده اللي هو إزاي؟
- إنت ما سمعتش عنهم قبل كده فعلًا!
- آه! قصدك العيال اللي عنيها ضيقة شبه الصينيين دول!
فأومأت برأسها نافية مع إبتسامة تحاول إخفاءها: لا لا مش دول، دول أطفال منغُل، نوع من الإعاقة العقلية.
- متخلفين يعني!
فأجابت باشمئزار: متخلفين! الكلمة دي اتلغت من زمان، اسمهم أصحاب الهمم.
- طب آسف يا ستي، مين الأوتيزم ده ولا اسمه إيه؟
- باختصار نوع من اضطرابات النمو بيتميزوا بحاجات كتير وبينقصهم حاجات كتير، ولأن معدلهم بيزيد فلازم قدر من التوعية للأهالي مع وجود برامج حقيقية تدعمهم وتساعدهم يكملوا حياتهم بشكل أفضل.
- وده جاله من إيه يعني!
- جالهم من إيه! هو دور برد!
- حاسس بتريقة ف كلامك!
- لا مش القصد، بس ده مش فيروس ولا ميكروب يعني عشان تقول جالهم من إيه!
ثم تابعت بهدوء: ممكن يكون شذوذ جيني ف الكروموزومات أو تغير في كيميائية الدم فتأثر على جزء في المخ أو مشاكل في فترة الحمل أو الولادة أو بعد الولادة مباشرة، إصابة في الدماغ مثلًا... صعب تحدد أسباب بعينها وتقول إن هي دي أسباب التوحدية.
- أيوة أنا برضو ما فهمتش، بيبقى شكلهم إيه!
- هم بيكونوا...
ثم ابتسمت قائلة: طب خليها مرة تانية، الولاد وصلوا.
وبالفعل جاء الأولاد من أجل التدريب، كانت هذه المرة الأولى لحديثهما معًا طوال تلك الفترة باستثناء الكلمات الروتينية في السؤال عن الحال، أو ما يخص التدريب، ربما لم يكن من اهتمامه معرفة المزيد عن ما تبحث عنه بقدر انجذابه للحديث معها حتى لو كان موضوعًا بعيدًا كل البعد عن اهتماماته.
لم تنكر كارما سعادتها الداخلية بتلك الدقائق القليلة، ولا زالت لا تجد سببًا مقنعًا لما تشعر به أو حتى وجدت إجابات عن تساؤلاتها بشأن تآلفهما الغريب، ولا زال كلاهما لا يملكان الشجاعة والجرأة لمفاتحة الآخر عن تلك التساؤلات التي تشغله!
كانت كارما طوال فترة التدريب مشغولة بتلك الأفكار لدرجة جعلتها اليوم كثيرة الشرود وبدأ انتباهها يقل بل ينعدم، وفجأة انحنت قدمها تحتها وسقطت أرضًا، لا تدري كيف ولا متى!
أسرع نحوها مروان بلهفة لم يستطع إخفاءها خاصةً مع صراخها وتألمها وهي جالسة أرضًا وممدة ساقها أمامها.
فتساءل بلهفة: إنتِ وقعتِ إزاي؟
فأجابت بصوتٍ مختنق بالدموع والتألم: مش عارفة... آه! رجلي بتوجعني أوي! آه!
- لحظة واحدة، معايا شنطة إسعافات، إخلعي الكوتشي والشراب.
وبالفعل فعلت وقد جاء بحقيبة صغيرة والتفت حولها الأولاد يواسونها في أسى، لكن كانت قدمها متورمة.
ضغط مروان على مشط قدمها من الأعلى فصرخت بشدة، فقال: هو إن شاء الله خير، لكن الأحسن دكتور يشوفك ويطمنا، قصدي تطمني.
- آه! إيه رجلي اتكسرت!
- لا لا إن شاء الله، هو غالبًا تمزّق في الأربطة، أو ممكن يكون شرخ بسيط، إن شاء الله الدكتور هو اللي يفيدنا، قومي معايا أوصلك لأقرب مستشفى.
- لا لا، أنا هطلب عربية تيجي توصلني.
- عربية إيه بحالتك دي!
قالها باعتراض ظاهر، ثم تابع: لا هوصلك بعربيتي طبعًا، مش هكون مطمن عليكِ غير وأنا معاكِ، قصدي هتمشي إزاي؟! وعشان ما تكونيش لوحدك، يلا بينا قومي معايا.
- لكن...
فقاطعها: ما لكنش، يلا...
حاولت ارتداء حذاءها مرة أخرى لكن الألم لم يمهلها فوضعته داخل كيسٍ بلاستيكي كان داخل حقيبتها التي أحضرها لها أحد الأولاد.
بدأت تحاول النهوض فثنيت ساقها السليمة لتحمّل عليها وتنهض واقفة وهي ترفع ساقها المصابة في الهواء، لكن بالطبع لم تفلح في هذه الحركة البهلوانية وللمرة الثانية ارتمت للخلف لتسقط وقبل أن تقع كانت ذراعه تسندها حاميةً لها من السقوط أرضًا.
وقبل أن يمهلها لتزيد في حديثها وجدت نفسها محلقة في الهواء بل محمولة بين ذراعيه، ورغم صراخها وبكاءها وتمديد ساقها للأمام بلا حذاء والواضح من هيئتها كونها مصابة، لكنها شعرت بخجلٍ شديد لكنها لم تقوى على الرفض.
فحملها وحمل حقيبتها وحقيبته وأسرع بها نحو الخارج متجهًا إلى سيارته، ربما لم يستغرق الأمر بضع دقائق، لكنه مر عليهما كأمدٍ بعيد.
رغم شعورها بالحرج من ذلك الموقف، لكنه بث داخلها شعور آخر كأنما تمنت ألا تبتعد عنه أبدًا؛ فلأول مرة تجرّب القرب منه هكذا، بل القرب من أي شاب على الإطلاق.
أما هو فخوفه ولهفته عليها جعله يشعر بأن الوقت لم يمر أبدًا.
وصلا أخيرًا إلى سيارته فساعدها في الولوج داخلها في المقعد الخلفي لتمدد ساقها أمامها، ثم أسرع نحو مقعد القيادة وانطلق بالسيارة.
وصلا بالفعل لأقرب مشفى، ترجّل من سيارته مسرعًا نحو الباب الخلفي ليساعدها في الهبوط من السيارة، كان يمسك بساعديها لتقترب إليه بحركة متزحزحة على المقعد وبعد فترة وصلت أخيرًا لباب السيارة.
انتوت أن تترجّل وتهبط واقفة وتتحرك بتعرّج أو حتى تحجل على قدم واحدة، وبحركة تلقائية أمسكت بذراعه فشعرت بكم العضلات في ذراعه القوية فانتابتها رجفة في جسدها وقبل أن تبعد يدها كان قد عاود حملها مرة أخرى، لكنها لم تبعد يدها عن ذراعه بل تشبثت بها لدرجة أنه شعر بتشبثها هذا فالتفت إليها، متمتمًا من داخله: ما أجملها من هذا القرب! ما أروع ملامحها! هل في جمال عينيها شبيه؟
أو في دلال أهدابها! وماذا عن وردتيها اللتين أزهرتا على وجنتيها؟ ولن أحكي عن هاتين الكرزتين الشهيتين!
لكن ذلك الغزل الداخلي كاد ينتهي بفاجعة حيث تعثرت أحد قدميه على درجات السلم وكادا يسقطا معًا، فتعلقت فجأة بعنقه في حركة سريعة كادت تزهق روحهما من الفجأة وتنهك قلبيهما من شدة الخفقان.
لكن سرعان ما ابتعدت كارما وهي لاتصدق ما فعلته توًا، ظلت جاحظة عينيها تنظر أمامها في اتجاه آخر، شعرت بتدفق الدماء في وجنتيها من شدة الحرج؛ لقد قامت بمعانقته! كأنما نسيت الوجع وأي ألم.
أما هو الآخر فظل واجمًا أمامه لا يصدق ذلك العناق ولا ينكر تأثيره الذي لم ينتهي، بل تمنى لو تعثر مرارًا لتتعلق برقبته مجددًا وينعم بذلك الحضن الدافئ الذي رغم أنه لم يستغرق دقيقة لكنه قد شعر به بكل كيانه.
وصلا إلى مكان عيادة العظام، وضعها برفق على أحد الكراسي وكانت لا تزال على وضعها من أثر تلك المفاجأة!
انتظرا بعض الوقت حتى حان دورها فدخلت للطبيب وفحصها عدة فحوصات وأكد فحصه بأشعة أنها مجرد تمزّق بالأربطة، فربط قدمها وطلب منها عدم الوقوف أو السير عليها لمدة من أسبوع إلى أسبوعين من تناول العلاج ودهانها عدة مرات في اليوم وإعادة ربطها، ثم أعطاها حقنة مسكنة.
وبعد انتهاء الفحص خرجت كارما من المشفى جالسة على كرسيّ متحرك إلى سيارة مروان، ولم ينطقا بكلمة فقط سألها عن عنوان بيتها فوصفته له بصوتٍ مرتعش، وظلا صامتين يسيطر على ذاكرتهما ذلك الموقف بعينه وذلك الشعور حتى ولو لم يتجاوز الدقيقة... لحظة العناق!
وصلا بالفعل إلى بيتها وترجّل من سيارته واتجه نحوها يساعدها على الهبوط من السيارة مثلما فعل عند المشفى، لكن هذه المرة كانت عيناهما معلقتَين ببعض في نظرة طويلة لم يقطعها سوى...
.......................
.....................................
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro