(28)
بقلم نهال عبد الواحد
ظل مروان يضمها إليه بإحدى ذراعيه وبقبضة يده الأخرى يضرب أحد جدران المصعد ويصيح بقوة ينادي على حارس الأمن، شعر برجفة شديدة وخوف شديد يهاجمه؛ لا يدري ماذا أصابها ويخشى بشدة فقدانها، هكذا هي نقطة ضعفه، الخوف من الفقدان!
بعد قليل جاء حارس الأمن وأدار المصعد يدويًا لأقرب طابق، وما أن فُتح الباب حتى حملها مروان وهبط ركضًا على الدرج، وبسرعة ركب بها السيارة وانطلق بها.
قاد سيارته بإحدى يديه وتفقد تنفسها بيده الأخرى ولا يدري إن كان تنفسها ضعيف أم هو الذي لا يشعر!
وصل سريعًا لأقرب مشفى ودخلت يفحصها أطباء قسم الاستقبال والطوارئ، وهو يقف بالخارج يحمل حقيبتها على كتفه ويتحرك ذهابًا وإيابًا وينظر في ساعته، يشعر أن عقارب الساعة لا تتحرك رغم مرور الوقت.
يفتح أزرار قميصه العلوي فنفسه هو الآخر يضيق بدون سبب ويشعر أن قلبه سينفجر من قوة الدق فيمسك صدره بشدة ويستند بظهره على الحائط محاولًا تنظيم أنفاسه.
وبعد لحظات خرج الطبيب فأسرع إليه مروان وقد أنهك بشدة من القلق يتساءل بصوتٍ مرتجف: طمني عليها يا دكتور! هي كويسة! مالها!
فأجاب الطبيب بمهنية: إطمن حضرتك مفيش حاجة، التراب عملها أزمة تنفس عادية مع الخضة من حبسة الأسانسير فحطينها على جهاز التنفس وحقنة في محلول عشان ضغطها وطي أوي، بس كده.
- طب أقدر أشوفها!
- آه طبعًا، هي تفوق شوية وتروّح عادي، هكتبلها على علاج للحساسية لو هي بتاخد علاج خاص بيها يبقى تاخده مع موسع للشُعَب، وياريت ما تتعرضش لتراب أو أي روايح نفّاذة أو لو في حيوانات منزلية بلاش، ريحة شواء أو دخان، بس كده.
- شكرًا لحضرتك.
قالها مروان بامتنان، ثم دلف لداخل حجرة الاستقبال فأشارت له الممرضة إلى مكانها، فاتجه إليها، تنحنح وفتح الستارة المحيطة بالسرير.
جلس جوارها في ذلك الجزء الصغير الفارغ، كانت مغمضة العينين وتتنفس وعلى وجهها قناع التنفس، كان وجهها شاحبًا بشدة مع بعض الانتفاخ كأنها مريضة منذ زمن! ثم رفع عينيه نحو ذلك المحلول المعلق ليجده ما زال ممتلئًا.
أمسك مروان بيدها واقترب منها وهمس: ألف سلامة عليكِ.
ففتحت عينيها قليلًا بتعب وضغطت بطرف أناملها على يده تومئ أنها تسمعه.
فابتسم قائلًا: خضتيني عليكِ، إترعبت الكام دقيقة دول، ما كنتش هسامح نفسي لو جرالك حاجة.
فأغمضت عينيها ورأى دموعها تتساقط فأسرع بمسحهما بطرف أصابعه وهمس بحنان: مااستهالهمش دول والله! كارما، بلاش! دموعك بتوجعني!
فسمع زفرتها عبر قناع التنفس، ظلت مغمضة عينيها لتهرب منه؛ فقلبها لا يتحمل.
وبعد فترة جاءت الممرضة ونزعت جهاز التنفس، فبدت كارما تتنفس بتعبٍ ظاهر وبعد مرور فترةٍ أخرى، انتهى المحلول وبدأت كارما تجلس لتستعد للانصراف.
كانت لا تزال مغمضة العينين حيث تشعر ببعض الدوار ولم تنتبه لكونها تستند برأسها على كتفه وهو جالس جوارها.
كان يقاوم نفسه لألا يفتح ذراعه ويضمها إليه لتتكئ عليه ليكون موطنها ومكانها.
وبعد فترة استعادت كارما نفسها وجاء الطبيب وتأكد من توازن ضغطها فنزع تلك الإبرة من يدها وسمح لها بالخروج بعد أن أحضر مروان العلاج المطلوب.
ركبا السيارة وسار بها في صمت لا يجد ما يقوله لكنه بات يشعر براحة بعد اطمئنانه عليها، بات الهواء يدخل ويخرج من رئتيه بحُرية! كانت تتابع قطرات المطر وهي تسقط وتصطدم بزجاج السيارة، تشعر برغبة أن تشتم رائحة المطر وتسير أسفل منه تتبلل بماءه؛ تتمنى أن يغسلها من تعب قلبها، تتمنى أن تعود كارما التي تعرفها فهي الآن تعيش مع فتاة غريبة عنها تمامًا!
وما أن وصل بها لبيتها فقال لها: خلي بالك من نفسك، هطمن عليكِ.
أجابته دون أن تلتفت إليه: مروان، من فضلك إخرج من حياتي.
فصُدم من هذه الكلمات التي لم يتوقعها كأنما لم يُصدم من قبل، فأمسك بيدها بقوة وقال وهو يهدر أنفاسه: إنتِ بتقولي إيه! ما ينفعش طبعًا، إحنا خلاص بآينا قدر بعض مفيش مجال للبعد، حياتنا اتعلقت ببعض، معقول مش فاهمة! مش حاسة!
قال الأخيرة بأنفاسٍ لاهثة تكاد تنقطع، فصاحت بصوتٍ مبحوح: وأنا مش هتحمل أعيش ذكرى عشان أشغل مكان حد تاني!
فشدد في قبضته على يدها وهو يقول بلا وعي: ما تقوليش كده، أوعدك إني...
فأومأت برأسها أن لا وسحبت يديها ثم ترجلت دون أن يكمل كلامه ودخلت منزلها تحاول التماسك لألا تفترش الأرض.
بينما هو ظل ناظرًا لطيفها حتى بعد اختفاءها ويسحب أنفاسه بقوة وهو ينحني نحو المقعد الذي كانت تشغله، يتنفس مكانها ويتلمّس المقعد بحنينٍ شديد وكأنها قد تركته منذ سنواتٍ طويلة!
ترنحت كارما حتى وصلت أمام المصعد وهمت لتفتحه، لكنها شعرت بخوفٍ فجائي يجتاحها، ترى نفسها تُحبس داخله بعد أن يتعطل بها مجددًا، وهي وحدها دونه!
تراجعت وصعدت الدرج على أقدامها تقاوم سقوطها، حتى أخيرًا وصلت وفتحت الباب، وما أن سارت مترنحة بضع خطوات حتى تفاجئت بأمها أمامها والتي شهقت بمجرد أن رأتها: مالك جرالك إيه!
قالتها وهي تسرع إليها لتسندها فلمحت ذلك اللاصق الطبي في يدها فصاحت فيها: إنتِ كنتِ في المستشفى ولا إيه!
فأومأت برأسها وهي تسند برأسها على أمها وتقول بصوتٍ مختنق: الجو قلب تراب وما لاقيتش معايا كمامة في الشنطة فتعبت، روحت مستشفى خت جلسة تنفس وعلقولي محلول وجيت.
فصاحت فيها بعد أن أجلستها: لوحدك يا كارما! لوحدك! إيه مقطوعة! ما اتصلتيش بينا ليه؟!
- يا ماما أنا ما كملتش حاجة.
- هتموتيني بعمايلك دي! مش شايفة نفسك عاملة إزاي؟!
- خلاص يا ماما حصل خير، هبقى أتأكد بعد كده إن معايا كمامة قبل ما انزل.
- لا كده إنتِ عايزة تدفنيني وتخلصي!
- يا ستي حقك عليّ، خلاص بأه.
قالتها وقبلت وجنتي أمها ونهضت واقفة تتجه نحو حجرتها، فصاحت أمها: وطبعًا مش هتاكلي حاجة!
- مقتولة نوم مش هقدر، خلي الأكل يوم تاني.
- خلي الأكل يوم تاني! أنا كل يوم أطلع الأكل وأرجع أشيله تاني في التلاجة، وكل واحد فيكم يا دوب يسلم عل أكل، أنا بقهر في نفسي ليه؟ مش طابخة تاني!
فالتفتت كارما وهي تقول: يا ريت، خدي أجازة لحد رمضان!
قالتها ثم دخلت لحجرتها، فضربت هدى على فخذيها وهي تتمتم: والنبي ما هتسكتوا غير لما انجلط منكم! ما دي أخرتها! الناس عيالها تكبر وترتاح وأنا لسه بدادي ومش عاجب!
ففُتح الباب ودلف من الخارج زوجها مجدي فوجدها تجلس تندب حظها فألقى السلام ثم جلس جوارها يتسآل: مالك يا هدى! في إيه!
- بنتك هتجلطني، قال إيه ما تطبخيش لحد رمضان!
- أحسن حاجة والله! خلي الطبيخ يوحشنا شوية.
- إنت كمان يا راجل هتعوم على عومها! ما أنا عارفة، إنت اللي مقويها، خليك كده دلعها!
فزفر بفرغ صبر ثم ابتسم لها وأمال بجسده نحوها قائلًا: ما تقومي تعمليلنا كوبايتين شاي بالنعناع كده وجايب لب سخن من المحمصة ونقعد قعدة حلوة ما بعض وانسي العيال وقلبة المخ دي.
فضحكت قائلة: والنبي ما حد بيجبر بخاطري غيرك، ربنا ما يحرمنا منك!
فقهقه بملء صوته ونهضت هدى تتجه نحو المطبخ، بينما كارما بالداخل تبدل ملابسها وقد استمعت لحديثهما المعتاد فابتسمت قليلًا بتعب واستلقت في فراشها ودثرت نفسها.
هجمت عليها الأفكار فأحدثت الفوضى داخلها فتنهدت؛ لم تعد تعرف أي شيء، تحبه! تخشاه! تخاف الاقتراب! لا تقوى على البعاد!
وفجأة سمعت رنين هاتفها يعلن عن وصول رسالة، فأمسكت به وفتحته وكانت رسالة منه:
«من هنا ورايح مفيش خروج في أي يوم فيه تراب»
قرأت رسالته وأمالت فمها بعدم رضا، ثم كتبت الرد:
«مش هيحصل»
وأغلقت الهاتف تمامًا بعدها واستلقت مرة أخرى وبعد قليل غطت في النوم بفعل تأثير العلاج.
أما مروان فكان لا يزال في سيارته يتجول في الطرقات، وبعد أن أرسل الرسالة لها بلحظات سمع صوت رنين يعلن عن وصول رسالة.
أمسك بهاتفه ليفتح الرسالة بلهفة خاصةً عندما وجد ردًا منها، لكن كان الرد صادمًا!
فترك هاتفه ونظر أمامه في شرود، ساعده عليه ازدحام المرور وتباطؤ سيرها...
كان يجلس في سيارته في موقفٍ مشابه من تباطؤ تدفق المرور ويتحدث عبر الرسائل مع أمنية.
فكتب:«من هنا ورايح مفيش نزول بلبسك المقندل ده»
فأجابته:«مش هيحصل»
- «هو عِند وخلاص!»
- «بطّل رجعية وخليك سبور»
- «لا، أنا ف دي قِفل مسوجر»
-«يا حبيبي أنا كنت في النادي»
- «إن شا الله حتى تكوني عل بلاج، مفيش خروج تاني بحمّلات»
- «يا حبيبي إنت شخصية عامة، يعني لازم لما نظهر سوى أشرفك»
- «يعني مش هتشرفيني غير لما تلبسي عريان!»
- «يووه! إنت ما بتزهقش!»
- «مش هسكت غير لما أحجبك إن شاء الله»
-«مش هيحصل»
وعاد من ذكرياته وابتسم بألم وهو يتمتم قائلًا: الله يرحمك يا أمنية! ما لحقتش أحجبك.
ثم قال بتنهيدة: شكلك موعود بالعند!
مرت بعدها أيامٍ أخرى وجاء يوم مناقشة رسالة الماجستير الخاص بكارما، كانت في إحدى القاعات الملحقة بالجامعة وقد صاحب كارما والديها، أخيها وزوجته سمر، ولمياء التي ظهرت عليها مخايل الحمل وزوجها عماد، وعدد من الأهل والأصدقاء.
كانت قد دعت مروان، ولا تدري من أين جاءتها تلك الجرأة! لكنها فعلتها، ورغم شعورها بحاجتها لوجوده هو بالتحديد معها اليوم إلا أنها غير متأكدة من كونه سيلبّي دعوتها؛ خاصةً وهي عادت لعدم إجابته عن أي رسالة فقط تكتفي بقراءتها.
كانت إطلالتها هادئة ورقيقة، تنورة رمادية وكنزة تجمع بين الرمادي والقليل من الوردي وفي الأسفل قميص وردي مع حجاب يجمع بين الرمادي والوردي، كم يليق بها تلك الألوان! مع بعض تحديدات هادئة لملامحها بمساحيق التجميل، فأعطتها رونقًا مميزًا، وفوق كل ذلك سُترة التخرج السوداء ذات الشريط الستاني أزرق اللون مع غطاء الرأس الأسود الخاص به.
وقفت كارما تناقش رسالتها وتجيب عن أسئلة السادة أعضاء هيئة التدريس الجالسين كلجنة تحكيم.
كانت تضع كل تركيزها في المناقشة والإجابات دون التفكير في أي شيء.
وبعد فترة من الأسئلة والمناقشات تم الإعلان عن حصول الطالبة كارما مجدي ومنحها درجة الماجستير بتقدير جيد جدًا، وبدأت بعدها فقرة المباركات والتقاط الصور وتوزيع الحلوى والشيكولاتة.
ووسط كل هذه الاحتفالات رأته يشق الجموع ويقترب، لا تدري متى جاء وإن كان قد حضر المناقشة أم لا، لكنها كانت تشعر به قريبًا منها وقتها ويساندها حتى وهي لم تراه! حتى وهي لم تشغل تفكيرها به في تلك اللحظات وكأنما قد صار جزءًا منها ووجوده أمر حتمي!
مد يده يصافحها وعيناه تحتضن عينيها في لقاءٍ بديع وباليد الأخرى يقدم لها باقة من الورد بنفسجي اللون، كم أسعدها ذلك كثيرًا! حتى وإن لم يُقدم إليها الورد قبل ذلك من أي شخصٍ كان، لكن حتى ولو لم تكن المرة الأولى فباقة الورد منه مختلفة تمامًا.
تركت لملامحها وقتها العنان لتعبر عما بداخلها بلا قيود ولا تفكير في أي شيء، لا تدري إن كانت قد نسيت كل شيء بوقوفه أمامها أم تناست واختارت أن تعيش اللحظة، لحظة احتفال، نجاح وقرب الحبيب!
أجل! الحبيب...
......................
........................................
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro