(26)
بقلم نهال عبد الواحد
إن دقــت علـى الرأس الطبــول
وأُنهك الكاهل من كثرة الحمول
ترى أي اللحظات فارقة الحلول
هي ما قيل وقال أم ما سيقـول
حلّت ساعة الحسم بأسوأ حلول
كلما دقت مزقها الكلام والمقول
قد بُدّلت عقاربها بسيفٍ مسلـول
تدق فوق جراحها فتنزف سيول
متـى ينتهي الألم وتُـزال الغلـول
أم يظل سرمدي المقام والحلـول
أكبر الأخطاء في أحلك الظروف
ذُلت الأقدام والقلوب أسوأ ذلول
ليتني أجد طريقاً للفرار و الفلول
أو بصيص أمـل بأنسـب الحلــول
—————————————
كانت كل المواقف والكلمات تتدفق في رأسها تدفق فيضاني شلّ قدرتها على التفكير في أي حل، كيف كانت وكيف صارت؟! ومهما ابتعدت تجد نفسها تعود، قد خطّ القدر ذلك فلأين تهرب وتفر؟!
ومع تدفق كل تلك الأفكار كان يتدفق الماء الساخن فوق رأسها وهي مغمضة العينين؛ ربما تتوقف عن سيل الدموع، و ربما في تدفق الماء يغسل رأسها من كل تلك الأفكار، لكن قد طال الوقت وازداد البخار؛ تفاجئت به عندما فتحت عينيها فتفاجأت وأسرعت في إغلاق الماء وفتحت النافذة قليلًا لألا تصاب باختناق، لكن ترى ما الفارق؟!
ففي جميع الأحوال كل شيء يدعو للاختناق!
جففت جسدها ودلكته بزيتٍ عطري ربما تنتعش قليلًا بتلك الرائحة الندية، ارتدت ملابسها البيتية وربطت شعرها المبتل بمنشفة، خرجت من الحمام واتجهت نحو علبة المحارم الورقية تلتقط منها؛ فهي دائمة العطس عقب كل حمام.
وفجأة رن جرس الباب فاتجهت نحو ولا زالت تعطس عطساتٍ متتالية، وما أن فتحت الباب حتى تفاجأت بمن يدخل ويغلق الباب خلفه.
أجل! هو بالفعل مروان، قد جاء في زيارة فجائية عجيبة! لكن ما لم يكن في حسبانه أن يراها وتسحره هكذا.
كان يحملق بكل إنشٍ فيها، فوجهها المشرّب بالحمرة من أثر الحمام الساخن، عيناها المنتفختين قليلًا والمعكرتين من أثر البكاء، لكن كان لها رونقًا عجيبًا في عينيه!
هيئتها وعلى رأسها تلك المنشفة مع نظرتها الفجائية والواجمة؛ فقد جُمدت بأرضها! وماذا عن تلك الرائحة العطرة المنبعثة منها! كل شيء فيها يدعو للانجذاب بل مزيدًا من الاقتراب، ذلك الطارق بقوة الكائن بيساره سيشق صدره ويقفز حتمًا، هو الآن لا يفكر إلا في أن يجذبها نحوه ويضمها إليه بشدة؛ لديه يقين أن بين هاتين الذراعين راحته وإلقاء لكل همومه المثقلة به، لم يشعر بذلك الإحساس من قبل ولا حتى مع أمنية، ربما هو إحساس من نوعٍ خاص أم هو ليس إحساس بالمرة بل مجرد هواجس وتهيؤات، هكذا يقنع نفسه!
لم تنكر كارما لحظة دلوفه أمامها خاصةً في حالتها الآن أنها أضعف ما يكون، أطالت نظرها إليه هي الأخرى تعاتبه وتشكو إليه منه؛ فقد آلمتها اليوم بما يكفي لإنهاكها بشدة، ماذا تريد أن تفعل بها أكثر من كل فعلاتك؟!
لكنها استعادت نفسها أو تصنعت ذلك وهي تتلفت حولها؛ فوالديها بالداخل، تشعر بانزلاق المنشفة من فوق رأسها فأمسكت بها بيديها بسرعة وقد تدفقت الحمرة لوجنتيها؛ أدركت لتوها هيئتها التي فتحت الباب عليها، ولتلك النظرات الغريبة التي ينظر بها إليها، ربما لو كان شخصًا غيره لنعتته بالعاشق الولهان!
لكنها وفي لحظة نفضت كل شيء وقالت بجمود: خير! حد يطب ع الناس دلوقتي من غير ميعاد!
وقبل أن يجيبها أتى صوت أبيها من خلفها: مين يا كارما بتتخانقي مع مين؟!
ثم انتبه لمروان الواقف فأهدر مُرحّبًا: أهلًا وسهلًا يا بني، إتفضل.
فتساءلت كارما بنفس تبلدها المصطنع: يتفضل!
فصاح أبوها: مالك! ما يصحش كده! خشي غيري وتعالي.
فانصرفت من أمامهم مسرعة لحجرتها وهي تسير بخطواتٍ تدق الأرض بقوة من غضبها.
تبعها مروان بعينيه ثم أخفض بصره زافرًا يشعر أنه سيخرج نيران حارقة من جوفه مثل المخلوقات الأسطورية من شدة شعوره بلهيبٍ شديدٍ داخله، تبع مجدي وجلس معه، لم يكن أبوها لديه أي تصور عن سبب مجيئه أو أي علاقة يمكن أن تجمعهما لكن أزعجته بشدة حدة ابنته لدرجة أن اعتذر لمروان.
مر بعض الوقت ومجدي ومروان يتحدثان في أمورٍ شتى بالطبع أغلبها حول كرة القدم، وبعد قليل انضمت هدى وقد زادت من ترحيبها له بسعادة وانهالت بضيافتها له، وتحول اللقاء إلى جلسة ودية تآلف فيها الجميع.
في حين كانت كارما جالسة داخل حجرتها تحاول إيجاد سبب لمجيئه، لكن فشلت في ذلك تمامًا، وفي نفس الوقت تشعر بمدى ضعفها الآن، قدومه في وقت غير مناسب لها؛ منذ أكثر من الساعة وهي تحاول ارتداء قناع التبلد والجمودية لكن لا تقوى، تعاني من حالة انهيارٍ تام، تتذكر نظراته التي انتصرت عليها في لحظات، لا تدري إن كان لم يتدخل والدها في الوقت المناسب ماذا كان سيحدث؟!
شعرت بكونها غارقة وفي تلك النظرات طوق نجاتها، ورغم كل آلامها شعرت برغبتها في أن يحتويها، إحتواءه هو وليس من غيره، تتأكد أن ظمأها هذا الذي لن يرويه غيره حتى وإن كان هو نفسه مصدر أوجاعها، وكأنه صدق المثل القائل:«القط ما يحبش إلا خنّاقه».
وفي نفس اللحظة جاءها صوت أمها مع طرقات الباب ثم فتحت ودخلت إليها وتفاجئت بجلوس ابنتها بنفس هيئتها المنزلية، فقط نزعت المنشفة من فوق شعرها وتمشطه بشرود!
فصاحت فيها: وأنا اللي بقول كل ده بتلبس إيه! أتاريكِ قاعدة ولا على بالك!
فأجابت كارما بعدم فهم: ألبس!
- أيوة طبعًا! عشان تقابلي الراجل المزروع برة بآله أكتر من ساعة مستني السفيرة عزيزة تهل عليه بسلامتها!
قالتها أمها بسخرية.
فصاحت كارما بحدة: ومين اللي قاله يجي؟! ولا ده كان ميعاد زيارة دي الساعة عدت عشرة!
فأغلقت أمها باب الحجرة مسرعة وتابعت بغضب: يا خربيت شيطانك! هي البعيدة ما تعرفش الذوق أبدًا! الراجل جه وإنتِ عارفة مرزوعة هنا ليه بأه؟! هو جاي لينا ولا ليكِ!
- ما عرفش جاي ليه؟! وياريته يزهق ويتفضل...
- يا ريتك تفزي وتخرجي تقابليه، غيري وإفردي وشك، واعمليله قهوة حلوة زيك كده واطلعي قدميها زي البنات الحلوين.
فنهضت وهي تجذب إسدال صلاتها وترتديه وتقول بغضب: لا هلبس ولا هتنيل، ده أخرِى، أما بخصوص القهوة لو عايز إعمليله إنتِ لأني لو عملتها هسمّه بيها!
فتأففت أمها وهي تتجه نحو الباب وتتمتم: هتجنيني، مش هتسكتي غير لما تجيبي أجلي، يقطع الخلفة عل عايز يخلف زي خلفك، عوض عليّ يا رب عوض الصابرين!
خرجت أمها ومسحت كارما على وجهها فرغم قدرة أمها على إغضابها لكنها أخيرًا تمكنت من ارتداء الجمود والتبلد مع إسدال صلاتها، شهقت نفسًا عميقًا ثم فتحت الباب وخرجت.
كان لا يزال مروان و والدها يتحدثان فجلست على المقعد المقابل لمروان دون كلام، فالتفت ببصره نحوها يومئ لها أن هلا تذكرتي وجودي الآن!
فأشاحت بوجهها عنه ألقت نظرة نحو التلفاز ثم أعادتها إليه وهي تقول على فجأة: خير يا كابتن! شكلك مستنيني!
فرمقها والدها؛ فلم تعجبه طريقتها ولا نبرة صوتها على الإطلاق لكنها تابعت: سوري يومي كان طويل إنهاردة وعلى أخرى.
فأطال مروان نظره إليها؛ يعرف كم هي غاضبة منه وتحاول التنفيس عن غضبها فيه، ثم قال: عايز أطمن على ابني إذا سمحتِ.
وما أن سمعت هدى كلمة (ابني) حتى نحّت القهوة جانبًا ووقفت تستمع إلى باقي الحوار باهتمامٍ شديد ممزوجٍ بصدمة!
فأجابت كارما: أنا بلغت والدة حضرتك بكل حاجة، زي ما بلغتها إن التعامل هيكون بيني وبينها وبس!
- وأنا ما فهمتش ابني عنده إيه!
- التشخيص النهائي لسه ما قولتهوش، لكن زي مااتفقت معاها، كريم هيتعرض على دكتور أنف وأذن وحنجرة عشان يتأكد من سلامة أجهزته، ودكتور مخ وأعصاب اللي أكيد هيطلب رسم مخ وأشعات عشان برضو يتأكد من سلامته أو إنه بحاجة لجرعات علاجية تهدّيه، وزي ما قلتلها القدرة بتيجي الأول يعني لازم يكون عنده القدرة على السمع والكلام وبعد كده أعمله جلسات تخاطب، مثلًا الطفل اللي ما بيعرفش يمسك القلم ما ينفعش أشتكى إنه مش بيكتب على السطر!
وبعد كده الدكتور المشرف على رسالتي هيعيد الاختبار اللي عملته عشان يتأكد من نفس النتيجة اللي وصلتلها، وساعتها هنبدأ في تنفيذ برنامج تأهيل مناسب.
- إختبار إيه!
- لحظة واحدة.
قالتها وهي تنهض واقفة وتمسك بطرف إسدالها لتتجه مسرعة لحجرتها فاصطدمت بأمها الواقفة فتابعت خطواتها، لكن لحقت بها أمها ودخلت خلفها وتسآلت: هو عنده ابن! يعني طلع متجوز!
- أيوة.
قالتها وهي تفتش وسط أوراقها في حقيبتها.
فتابعت أمها: يادي الحظ! أمال هو جاي ليه؟!
- بيطمن على ابنه زي ما سمعتِ.
- إوعى يكون ابنه الحالة اللي قولتِ هيرشحهالك الدكتور بتاعك.
- هو كده بالظبط.
قالتها كارما وهي تخرج من حجرتها وتمسك بيدها عدد من الأوراق.
فتمتمت أمها هامسة: أتاريكِ مقلوبة وعفاريت الدنيا بتتنطنط أدامك!
خرجت إليه كارما وقدمت الأوراق له فأخذها وتصفحها وكان يبحث بعينها عن تلك الأسئلة التي كانت كارما تسألها وأثارت حنقه بشدة، فرفع عينيه قائلًا بهدوء: آسف.
- أتمنى تكون اتأكدت إني كنت بسأل أسئلة مكتوبة مش بغرض حاجة تانية.
قالتها بجمود.
قد آلمته طريقتها الجافة، لكنه شعر بوجعها الذي سببه لها، وقبل أن يجيبها تطلّع مرة أخرى لما في يده وهو يعود للصفحة الأولى والتي بها اسم المقياس، فجحظت عيناه وقال بصدمة: مقياس لإيه... الطفل الـ....
فأجابت مقاطعة وهي تومئ برأسها: توحدي، لكن الحكم النهائي هيجي بعد ما نخلص كل الفحوصات ونعيد المقياس ده في وجود أستاذي المشرف.
- يعني لو طلع كده فعلًا مش هيخف!
- ده مش فيروس هياخدله علاج، ده اضطراب نمائي معقد كتير يلزمه فترة طويلة من التأهيل والصبر وطولة البال.
- أيوة يعني... يعني أتعامل معاه إزاي؟!
- هبلغ والدتك بكل التفاصيل وبدورك، لكن لازم تفهم كويس جدًا إنه نمطي وروتيني أوي مش بيحب التجديد ولا التغيير حتى في أبسط الأمور، بيحب كل حاجة تفضل زي ما هي حواليه، واللي منهم الناس اللي حواليه، فلو حضرتك عايز تكون جزء من حياته خليك أدامه طول الوقت وبنفس الطريقة ما تحاولش تتغير أبدًا ولا تحاول تفاجئه بأي حاجة جديدة إلا لما يبدأ يتطور أدام شوية وهبلّغ حضرتك إزاي تدرج، وزي ما وريتكم إحساسه بالإحتواء مش بمجرد حضن عادي لازم يكون حضن قوي لأن واضح إن إحساسه ضعيف شوية، ولو نوبة غضبه بسبب إنه عايز حاجة معينة فالحل مش تلبية رغبته عشان تشتروا دماغكم وده حتى مع الأطفال العاديين، لما بيضرب نفسه ده بيغطي بيه عن إحساس تاني مضايقه زي النور المباشر أو بعض الأصوات العالية، ودي حاجة بتكون شبه قرصة النملة لما تضايق الواحد فيفضل يهرش فيها بقوة لدرجة إنه ممكن يجرح نفسه ويتعور، لكنه في الحقيقة بيغطي على الإحساس الأول، عمومًا كل مرحلة ولها وقتها وهشرح فيها كل حاجة بالظبط.
ثم قالت: تعرف إنك المفروض تحمد ربك إنه طلع مش حاسس بيك ولا بأي حد.
فنظر إليها بدهشة فتابعت: لو كان طفل عادي كان وصله رفضك وكرهك له من زمن وكان أثّر في شخصيته، لكن دلوقتي حتى لو كنت معاه يوم بيوم فنفس ردة فعله ناحيتك زيك زي الغريب بالظبط؛ ما بيعرفش يتعلق بحد ولا يتعامل مع حد، وده دور التأهيل محاولة لأقلمته مع المجتمع بقدر المستطاع مع تدعيم قدراته المميزة اللي هتكون نقط القوى اللي هنرتكز عليها.
فتساءل بأسى: وده لحد إمتى؟
- مفيش توقيت محدد، هنشوف مدى استجابته لبرامج التأهيل الاجتماعي واللي طبعًا مش محددة الوقت مش كل الولاد زي بعض، وبعدين لسه فيه اختبارات ومقاييس تانية، إطمن حضرتك أنا هتابعه بنفسي ومعايا والدة حضرتك.
وهنا تدخلت هدى بفظاظة: وفين أمه من كل ده إن شاء الله؟!
فرمقها مروان بشدة بينما أغمضت كارما عينيها ونظمت أنفاسها بسرعة ثم قالت: والدته متوفية يا ماما، الله يرحمها!
لم ينطق مروان بحرف فقط انصرف بهدوء وكارما تتابعه بعينيها وتحترق من داخلها، وبعد قليل همّت لتدخل حجرتها فجذبتها أمها: رايحة فين هنا تعالي وفهميني!
فأجابت كارما بتنهيدة: في إيه يا ماما! ابنه وعنده مشكلة وهساعده ببرنامج متخصص.
- وإنتِ مالك يا عين أمك!
- مالي إنه تخصصي والطفل محتاج للمساعدة والتدخل.
- مالناش دعوة، هو كان من باقي عيلتنا؟!
- من فضلك يا أمي ما تتدخليش.
- وهتستفادي من ده بإيه فهميني! هو تضييع وقت والسلام!
- هو حضرتك كنتِ فاهمة إيه! زي ما ساعدني هساعده، خدمة مقابل خدمة هات وخد، فيها حاجة دي!
فنظرت لها أمها وتمتمت: ياريت فعلًا ما يكونش فيها حاجة!
أطالت كلًا منهما النظر إلى الأخرى ثم تركتها كارما ودخلت لحجرتها، بينما جلست أمها بتباطؤ على الأريكة بالخارج وتتنهد بضيق، فاقترب زوجها منها متسائلًا: مالك يا ام عمرو! إيه اللي شقلب كيانك كده؟!
فتنهدت قائلة: الجدع طلع متجوز ومخلف.
- مش فاهم!
- كنت متعشمة في حاجة واهي خربت.
- خدت بالي وأحسن لك تبطلي طريقتك دي، بنتنا مش رمية عشان نلزقها لأي حد.
- عارفة والله! بس شكلها مش هتعدّي على خير المرة دي.
- سيبي بنتك براحتها أحسن.
- يعني لو جه واتقدم بسلامته هتوافق عليه!
- لحد دلوقتي الولد مش وحش، بس إنتِ بتسبقي الأحداث ليه؟!
- عايز تجوز بنتك لواحد كان متجوز ومخلف كمان؟!
- أديكِ قلتِ كان...
- واللي قاهرني إن حاسة إن الموضوع ده على هواها!
ده لا يمكن يحصل أبدًا، فاهم لايمكن، لأ يعني لأ!
قالت الأخيرة بعصبية شديدة وانصرفت لحجرتها، وكانت كارما تستمع لحوارها مع أبيها لتكتمل باقة الصعوبات، أغمضت عينيها وهي تتمتم: كان إيه اللي عملته في نفسي ده! غلطة عمري ومش عارفة أخلص منك، شكل الوجع هيفضل ملازمني على طول...
...................
......................................
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro