
(22)
بقلم نهال عبد الواحد
زفر عمرو وفرك وجهه يتمتم: اللهم طولك يا روح! كان إيه اللي رماك يا بني تحت إيديها! ده إنت هتشوف أيام!
نظر لمروان بطرف عينه وهو يمسك مقود السيارة بقوة وعصبية واضحة وقلة حيلة، فتنهد بخفوت ثم أعاد رأسه للخلف يتذكر...
بعد أن تحدّثت سمر مع عمرو بشأن ما حدث بين كارما ومروان وإصراره على السفر معها، ظل شاردًا لفترة وبعد طول تفكير أمسك بهاتفه يتصفح موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك حتى وصل إلى صفحة مروان فضغط على المحادثة الخاصة، وكتب...
-«السلام عليكم ورحمة الله، إزيك يا كابتنا؟»
بعد قليل جاءه رنين يعلن عن رسالة عبر (الماسنجر) ففتحها فوجد ردًّا من مروان: «وعليكم السلام ورحمة الله، تمام الحمد لله!»
فكتب:«واضح إنك مش عارفني»
- «معلش مش واخد بالي»
- «أنا عمرو مجدي أخو كارما اللي جيت شرفتني في فرحي»
وما أن قرأ مروان هذه الرسالة حتى ارتبك كثيرًا وابتلع ريقه، فكر بسرعة ماذا يريد منه! هل يريد تأديبه لأن أخته قد اشتكت منه، أم ماذا؟ لكنه قرر قطع الشك باليقين وإكمال المحادثة ووضع حد لكل شيء، فكتب: «أيوة، أهلًا وسهلًا طبعًا فاكرك!»
أرسلها ثم توقف لايدري بماذا يبدأ ولا كيف سيتجه الحديث؟ فهو لا يعرف عمرو ولا طباعه، لكن جاءته رسالة من عمرو:«بدون مقدمات، عرفت إنك عايز تسافر مع كارما!»
- «والله مش زي ما إنت فاكر!»
- «طبعًا من حقك تسافر وتزور المكان اللي يعجبك، لكن اشمعنى رجلك على رجلها؟!»
- «طبعًا هي اشتكيت من غير ما تفسّر ولا تعرف حاجة! بس ما دي المشكلة، هي مش مدياني فرصة تعرف أي حاجة»
-« أولًا مش هي اللي قالت لي، ثانيًا أنا اللي عايز أعرف إنت عايز إيه من أختي عشان أحدد إن كنت أقدر أساعدك ولا لأ!»
- «بصراحة، بجد مش عارف أنا عايز منها إيه، لكن كل اللي أعرفه إننا اتحطينا في سكة بعض مش عبث، أنا مش قادر أحدد انطباعي ناحيتها ولا أديله مسمى، كل اللي أعرفه إنها بمجرد ما سألتني عن حياتي حكيتلها بالتفصيل وأنا عمري ما عملت كده مع حد! وقبل ما أكمل انسحبت من حياتي فجأة من غير حتى ما أكمل كلامي، جننتني ببعدها وتجاهلها ومش عارف ليه؟! حاسس إني عايز أفضل أتكلم معاها، حاسس إن في رباط بينا بس مش عارف إيه هو، ولا عارف ليه بتشد لها كل يوم عن اليوم اللي قبله، رغم إن بآلي أسابيع بكلمها وببعتلها رسايل بترجاها ترد عليّ وهي ولا سائلة!»
-«عندك فراغ وبتتسلى يعني!»
- «لا والله! بس أنا بجد مش لاقي اسم كل اللي أعرفه إني محتاج أتكلم معاها محتاجها جنبي، مش عارف الخطوة الجاية إيه، بس... حاسس إنك بتقول عليّ مجنون ومختل أو يمكن بتشتمني عشان بطلب طلب زي ده، بس أنا مش عارف أعبر ولا حتى عارف إزاي إتكلمت معاك بحرية كده ومنتهى صراحة! ولا عارف ليه اتعصبت عليها! بس بصراحة هي استفزتني جدًا»
سكت عمرو لفترة وهو يقرأ رسالته بدل المرة مرارًا، ويقرأ بين السطور عشقًا خفيًا حتى عن طرفي ذلك العشق، سواء هو أو كارما، لم يعترفان بحالتهما حتى لنفسيهما برغم ذلك العذاب!
وبعد فترة كتب: «يعني إنت بس عايز فرصة تتكلم معاها!»
- «يا ريت!»
- «وبعد الفرصة!»
-«مش عارف!»
فهمس عمرو متأففًا: دي خيبة إيه التقيلة دي...
ثم كتب:«طيب، هديك فرصة إنك تتكلم معاها بس في وجودي، مش إنت عايز تسافر معاها؟»
- «آه ياريت!»
- «هي متفقة معايا أعدي عليها السبت الصبح، إيه رأيك لو جيت معانا!»
- «تمام، وهاجي بعربيتي كأنك مأجّر عربية بسواق؛ لأنها لو شافتني قبل ما تركب هتركب راسها ومش هترضى تركب معانا!»
فتمتم عمرو هامسًا: طلعت خفيف أوي يا كابتن وأوفر أوي كمان، كأنك بتكلمني عن واحدة غير أختي...
ثم كتب:«تمام يا كابتن، هأكد عليك الميعاد بكرة بليل إن شاء الله!»
-«إن شاء الله! ألف شكر»
- «الشكر لله، تصبح على خير»
-«وإنت من أهله»
ثم عاد عمرو من شروده وهو ينظر نحوهما بطرف عينه، فتمتم من داخله: ده طلعت أنا اللي ما أعرفكيش يا كارما.
وظل الصمت طوال الطريق سوى آيات القرآن الكريم التي تصدع داخل السيارة حتى وصلوا إلى باب المشفى.
هبط الثلاثة وترجلوا حتى دلفوا إلى داخل المشفى، واتجهوا نحو مكان التبرعات وقدمت كارما المبلغ المقدّم باسم صاحب المدرسة وآخر صغير من خاصتها، وكذلك فعل عمرو ومروان، ثم اتجه الثلاثة نحو غرفة الطفل أحمد.
كانت كارما تتجه بحماس لتصل إليه فقد اشتاقته كثيرًا وما أن وصلت لغرفته ودلفت حتى تسمّرت مكانها وجمدت بأرضها؛ فقد تبدّل أحمد، فقد وزنه، غارت عيناه بداخل محجرهما، ظهرت عظام وجه واختفت وجنتاه النضرتان، تقيّح لونه لدرجة فاقت أي تصور، فقد جزء من شعره بشكل متفرق من رأسه!
كانت ترتدي كمامة على فمها وأنفها فرسمت ابتسامة على وجهها رغمًا عنها تخالف ما بداخلها من ألمٍ شديد، اقتربت منه لتضمه إليها لكنها شعرت أنها تضم اللاشيء، تشعر بضم عظامه، كما شعرت بأنّة تخرج منه كأن عناقها له قد آلمه، فابتعدت قليلًا.
وظلت تحكي معه وتمزح معه وتلعب معه ليضحك وقد شاركاها عمرو ومروان، وبدأ بالفعل أحمد يتجاوب معهم وكأنه قد نسى كل شيء للحظات.
وقبل أن تغادر كارما تمتم أحمد هامسًا بصوتٍ متعب: ادعيلي يا ميس أرجع المدرسة تاني وهذاكر كل حاجة حتى لو كان (homework) كتير هخلصه كله وهكتب بخط جميل وهسمع كلامك ومش هعمل أي ( naughty ) أنا مش عايز أموت، لسه في حاجات كتير ما عملتهاش.
ابتلعت كارما ريقها لألا تهطل عبراتها ثم قالت بصوتٍ متحشرج: لا يا حبيبي إنت بطل، وهتخف وهترجع المدرسة إن شاء الله، وساعتها هتعمل كل حاجة، هاجيلك تاني يا قلبي، مع السلامة.
سلمت عليه برفق ثم سلمت على أمه، وخرجت من الغرفة وقد تثاقلت أنفاسها بشكل واضح لعمرو ومروان اللذان تأثرا أيضًا.
لكن كارما استغلت الوقت في زيارة المزيد من الأطفال فهم بحاجة أيضاً لمن يخفف عنهم و يلهيهم عن آلامهم التي تفوق أي احتمال حتى ولو لبعض الوقت.
انتهى اليوم وخرجت كارما من المشفى وقد تهالكت قواها واستُهلك تحملها مما لاقته من منظر الأطفال المرضى ومعاناتهم وأيضًا مدى مقاومتهم وإصرارهم وتشبثهم بالحياة.
كانت تسير بخطواتٍ مترنحة ويتبعها عمرو ومروان يشعر كلًا منهما أنها ستسقط توًا وبدءا يستعدا ليلحقا بها قبل أن تفترش الأرض، وما أن وصلت للسيارة حتى صدح صوت عمرو مقترحًا: إيه رأيكم نروح الحُسين وناكل حمام ومشاوي عند فرحات.
فأجاب مروان بحماس: فكرة تجنن، موافق طبعًا، وممكن نسهر شوية في الفيشاوي كمان!
فالتفتت إليهما كارما وقالت بضعفٍ واضح: إنتو فاكرين نفسكم طالعين رحلة! أنا عايزة أرجع إسكندرية فورًا.
فقال عمرو بضيق: طب إحنا على لحم بطننا م الصبح وهنموت م الجوع يعني.
فقالت وهي تفتح باب السيارة وتركب: عندك سوبر ماركت هناك، جيب منه أي حاجة وسد جوعك ما حبكش حمام.
فنظر مروان وعمرو لبعضهما بقلة حيلة بينما عمرو كان يمسح وجهه بغضب من تصرفات أخته التي لم يعهدها أبدًا، ثم أومأ لمروان أنه سيذهب يشتري أي شيء يؤكل لأنهم بالفعل سينهارون من الجوع.
التفت مروان لداخل السيارة فتفاجأ بكارما مغمضة عينيها، ظل محملقًا فيها يتأمل ملامحها الجميلة بل الرائعة رغم عدم وجود أي ذرة من مساحيق التجميل على الإطلاق، ورغم ملامحها المجهدة لكنها لا زالت جذابة ورائعة، ما أجمل رسمتا عينيكِ! وتلك الأهداب الطويلة المرتبة سبحان الخالق ! أم تلك الوجنتين المزهرتين، وماذا عن كرزتيها الرائعتين تفجّان حمرة ونضارة كأن الشهد يقطر منهما.
أغمض عينيه بانسجام وهو يشهق نفسًا عميقًا غير آبه بذلك الأيسر الذي يكاد يخرج من قفصه الصدري من قوة نبضه، ترى هل اعتاد عليه فصارت دقاته القوية ملازمةً له أم أنه قد نسى كل شيء حتى نسى نفسه وهو أمامها يتأملها!
فتح عيناه فوجد عمرو قادم يحمل بعض المخبوزات والعصائر فاتجه الاثنان يدلفان لداخل السيارة.
قدم عمرو لمروان فشكره وأخذ قطعة ثم قدمها لتلك النائمة خلفه: يا ميس كارما، قومي كلي.
فأجابت وهي مغمضة عينيها: لا شكرًا مش عايزة.
فنظر مروان لعمرو والذي بدأ بدوره وقد بدأ ينفذ صبره نحو أخته: كارما، قومي بطلي دلع إنت ماكلتيش حاجة وهتقعي من طولك، إيه عايزة الحاجة هدى ترفع الشبشب ولا إيه!
فتململت وهي تفتح عينيها بتأفف يشبه الأطفال: يا عمرو مش عايزة حاجة، لو كلت هرجّع.
فأغمض عينيه بقرفة ثم قال: الله يقرفك يا شيخة! يعني مصدّرة الوش الخشب وأول ما نطقتِ عايزة ترجعي في عربية الراجل!
فأجابت ببرود: ما حدش قاله ييجي.
فارتبك عمرو بشدة ثم قال مادًّا يده بجدية وإصرار: طب لمي نفسك وخدي، دي حاجة حادقة مش هترجعي ولا حاجة.
ثم تمتم قائلًا: هو الترجيع ورايا ورايا! أوف!
لكن كان صوته مسموعًا فالتفت إليه مروان، فابتسم له عمرو قائلًا وهو يمد لأخته بكيس من المخبوزات الحادقة: أصل المدام حامل.
- ربنا يقومهالك بالسلامة!
أهدر بها مروان بنبرة وطريقة ركزت فيها كارما بشدة، وقرأت فيهما ذكرى وفاة زوجته وتشنجت ملامحها وقد لاحظ عمرو ذلك، فعادت بظهرها بدون تعليق وتابع عمرو الطريق من النافذة، بينما أدار مروان القرآن الكريم من جديد فقدْ فقدَ أي أمل في محادثتها اليوم!
أما هي ففتحت هاتفها تعبث به وهي تمضغ ما تأكله دون اهتمام، حتى فتحت الصور وفتشت فيها؛ فقد حفظت صور زوجته الراحلة سواء صورها وحدها أو صورهما معًا منذ أن كانت تبحث عن أخباره عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
كانت جميلة بحق وتبدو متحررة وجريئة من حركاتها في الصور وهيئتها وملبسها، أي تختلف كارما عنها تمامًا!
إجعلي صورها دائمًا نصب عينيكِ لتعلمي أي نوعٍ من الإناث يحب ويفضل، نوع يختلف عنكِ تمامًا، لا تمنّي نفسك بالمستحيل فمهما فعلتِ لن ينساها وستظل عالقة عقبة بينكما.
هكذا حدثت نفسها وهي تغمض عينيها بمرارة تتحكم بأقصى درجة لألا تهبط أي دمعة، فقط تسند برأسها للخلف وتبتلع ريقها بمرارة ثم تجز على شفتيها المرتعشتين لألا تشهقا بالبكاء.
لم تكن تعلم أن هناك عينان تتابعها رغم خفوت الضوء، كان يتابعها في حيرة من أمره، لا يستطيع فهمها أو تفسير تصرفاتها، كيف يشعر بها وفي نفس الوقت تدفعه دفعًا وطردًا من حياتها؟! لقد أصبحتِ لغزًا كبيرًا يا كارما.
مرّ الطريق كأطول ما يكون، فكارما تنتظر الوصول بفارغ الصبر لتطلق لعينيها العنان في البكاء ولصوتها في الشهقات، تمنى مروان أن يقترب منها اليوم ولو للحظات ويتحدث معها أو حتى يمسك بطرف خيط يساعده على إيجاد الطريق المناسب، أما عمرو فقد ظن أنه اليوم ستوضع النقاط فوق الحروف، لكن لم تتواجد أي سطور لتكتب عليها ولا نقطة واحدة.
وصلت سيارة مروان أخيرًا لباب بيت كارما وبعد فترة انتبهت أنها قد وصلت؛ يبدو كانت شاردة لدرجة كبيرة وأخيرًا انتبهت!
فقال مروان: حمد الله على سلامتكم!
فأجاب عمرو: الله يسلمك! ألف شكر تعبانك معانا والله يا كابتن.
فأجاب مروان: عيب عليك مفيش تعب ولا حاجة، وبعدين إحنا بآينا صحاب يعني تشيل كلمة كابتن وخلي البساط أحمدي كده.
همّت كارما بفتح الباب لتترجل من السيارة لكنها تراجعت وقد لاحظ ذلك مروان وتسارعت دقات قلبه، فقد نظر نحوها في المرآة وتأكد من أنها ستقول شيئًا ما فتحفّز ليستمع إليها.
فصدع صوتها المرهَق بشكل واضح: كابتن مروان، تسمحلي بسؤال!
فتابع مبتسمًا: إتفضلي طبعًا.
لم يعلم عمرو لماذا يمسك قلبه بيده من سؤالها هذا؛ فيشعر إنها ستقذف حجارة الآن لتختم اليوم!
فتساءلت بنفس الإرهاق الظاهر: إيه انطباعك ناحية الأطفال إنهاردة!
فأجاب: وجعوا قلبي بجد، ربنا يشفيهم ويصبر أهليهم! حاجة صعبة أوي!
فتابعت بنبرة اتهام: إده! يعني بتحس!
فقال بصدمة: نعم!
بينما وضع عمرو يده على جبهته، لكنها تابعت: يعني يا فندم حطيت نفسك مكان واحد منهم! لو لا قدر الله وابنك إنصاب بأي مرض يا ترى هيكون شعورك إيه! هتزعل! هتتأثر! هتتصدم! هتهد الدنيا عشان تخفف عنه وجعه! ولا هتفرح لأنه مش فارق معاك وبركة يا جامع والحمد لله إنها جت من عند ربنا، ما كده كده عمرك ما حبيته ولا حتى جربت تقرّب منه، خلي بالك لأن ربنا لما بينعم بنعمة ويُساء إليها بتنزال من وش صاحبها وممكن تنزال بلا رجعة، راجع نفسك يا كابتن قبل النعمة ما تنزال من وشك.
وفتحت باب السيارة و انصرفت دون أن تمهله أن يجيبها، بل ظل واجمًا مصدومًا، بينما عمرو كان في شدة الإحراج لدرجة لجمّته فلم يعد يعرف من أين يبدأ، حتى قال: والله ما عارف أقولك إيه! والله عمرها ما كانت سخيفة كده ولا قليلة الذوق كده!
فأهدر مروان بتثاقل وهو ينظر أمامه بشرود: هي ما غلطتش أبدًا، بلاش تلومها...
......................
........................................
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro