
(16)
بقلم نهال عبد الواحد
وجاء يوم عيد ميلاد كارما وقد فتح يومها مروان مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة يتفقد صفحاتها مثلما يفعل هو الآخر دائمًا في صمت، لكنه تفاجأ بصورة لها تنشرها بصحبة شاب ما وهي تحمل كعكة عيد ميلاد وتبتسم ابتسامتها الرائعة.
فطار لُبّه واشتعل غضبًا ففتح خانة التعليقات مسرعًا ليعرف من هو ذلك الشاب! وكيف يقف مقتربًا منها هكذا بل ويحتضن كتفيها!
لكنه لم يصل لشيء؛ فكلها تعليقات تهنئة بعيد ميلادها وأخرى تتغزل في جمالها وأخرى أمنيات لها بالسعادة، لكن لم يصل بعد لإجابة سؤاله وهوية ذلك الشاب!
أغلق الهاتف وألقى به نحو فراشه على طول يده وزفر بغضبٍ شديد وهو يتمتم: يعني إيه! مين ده؟! معقول حد دخل حياتها في الفترة الصغيرة دي!
ثم قال: وإنت مالك أصلًا بيها! ولّا هي تبقى مين؟!
حاول تصنّع التبلد لكنه صار كالأسد الثائر في قفصه، وأخذ يجوب غرفته ذهابًا وإيابًا ثم أمسك بهاتفه فتحه مجددًا، أخرج رقمها من سجل المكالمات وقبل أن يضغط على زر الاتصال أغلق الهاتف ورماه مجددًا، ثم جلس وتمتم: وأنا مالي أصلًا...
لكنه عاود الكَرّة أمسك بالهاتف وفتح إحدى صفحات محادثتها فيجدها نشطة فيهمّ بمحادثتها ثم يتراجع، وبعد قليل فتح وكتب « إزيك عاملة إيه؟ كل سنة وإنتِ طيبة، صورتك منورة إنهاردة، ياترى مين اللي جنبك ده؟! خطيـ...
وقبل أن يتم كتابته مسح كل شئ وخرج من صفحتها مغلقًا الهاتف، وهاهو يتنفس بصوتٍ عالٍ كأنه ينهج ويمسّد على شعره ويفرك وجهه ربما يهدأ من اللاسبب، ولكن هيهات!
بعدها ببضعة أيام كانت كارما توزّع بعض الدعوات على البعض من زملاء وزميلات المدرسة؛ تدعوهم لحضور حفل زفاف أخيها، واتجهت نحو مكتب صاحب المدرسة لتدعوه أيضًا.
وصلت لباب المكتب وطرقته فسُمح لها فدلفت، لكنها تفاجأت بوجود مروان! فوجمت قليلًا ثم بدأت تستعيد رباطة جأشها لتكون أكثر طبيعية، أخذت تنظم أنفاسها المتلاحقة سريعًا، ثم قالت برسمية: السلام عليكم ورحمة الله، إزي حضرتك يا كابتن؟!
ولم تنتظر جوابه والتفتت نحو صاحب المدرسة قائلة بابتسامة لم تصل لعينيها: مش هاخد من وقت حضرتك يا مستر...
ثم أخرجت بطاقة الدعوة وقدّمتها إليه قائلة: أتمنى إن حضرتك تشرّفنا.
وفجأة سمعت صوت شيئًا ما يصطدم بالأرض، إنه هاتف مروان قد سقط من يده من الصدمة، لكنه نجح في تمالك نفسه وجمود ملامحه فأسرع وأحضر هاتفه مصطنعًا اهتمامه به، بينما صاحب المدرسة قد أخذ الدعوة منها وفتحها يتفقدها مبتسمًا قائلًا: ألف مبروك وربنا يتمم بخير، إده! يوم السبت!
فأومأت برأسها فتابع قائلًا وهو يدخل البطاقة داخل الظرف: آسف جدًا يا كارما؛ للأسف هكون مسافر، إتفضلي الدعوة تنفع حد تاني، وعقبال ما نفرح بليلتك!
فابتسمت بدبلوماسية قائلة: ميرسيه يا فندم! عل إذن حضرتك.
وتراجعت بضع خطوات ثم عادت مجددًا وأمسكت بقلمها تكتب شيئًا ما على مظروف الدعوة وهي تقف أمام مروان مباشرةً، ثم فاجأته بتقديم الدعوة إليه قائلة بصوتٍ مرتعش: طلعت من نصيبك الدعوة دي يا كابتن أتمنى تشرفنا!
فحملّق يبحث بعينيه بين أصابعها عن أي خاتم، لكنه لم يجد، فأخذ منها الدعوة وقال بلامبالاة تخالف ما بداخله: مبروك!
لم تعجبها طريقته في الكلام ولم يعجبها الموقف بأكمله فاغتاظت وتذمرت منه، استأذنت وانصرفت.
بينما مروان لا يزال يرتسم الجمود على ملامحه وأسرع بفتح تلك البطاقة لكنه انتبه لاسم العروس «الآنسة (S)» فأفاقه صوت صاحب المدرسة قائلًا: كارما دي بنت هايلة ومجتهدة ولطيفة وأخلاقها عالية وزي القمر ودمها خفيف، آه لو ابني كان طاوعني وجه يشوفها لكن بني آدم غبي!
فالتفت له مروان فجأة يجاهد نفسه لألا ينفجر غاضبًا في هذا الرجل، فابتلع ريقه بهدوء وابتسم ابتسامة سريعة واستأذن وانصرف.
كان يسرع الخُطى ليلحق بها ولا يدري لماذا! فهاهي ستتزوج وبسرعة لا يصدقها!
خرجت كارما من المكتب وتشعر بضيق أنفاسها لأقصى درجة، بقدر ما افتقدته طوال تلك الفترة بقدر ما أغضبها بشدة ردة فعله المتبلدة! لكن ماذا كانت تنتظر منه؟!
كانت تضرب بقدميها أثناء طيها للأرض بخطواتها تريد تنفيس غضبها الحارق لكن لا زال يخنقها، حتى سمعت صوت رجولي ينادي عليها: ميس كارما!
فالتفتت نحو مصدر الصوت لتجد رجلًا طويل القامة بشرته مائلة للسُمرة، مجعد وقصير الشعر، ضيقت عينيها نحوه كأنها تحاول تذكره، فتابع الرجل: شكل حضرتك مش فاكراني يا ميس، أنا والد أحمد مع حضرتك في الكلاس.
فأومأت برأسها وأجابت بهدوء: أيوة أيوة إفتكرت حضرتك، أهلًا وسهلًا، لكن أحمد بآله فترة (absent).
فأومأ برأسه واحتله فجأة حزن عميق ومرارة ترأّست نبرة صوته وهو يتنهد قائلًا: أصل أحمد تعبان.
فأجابت كارما: مفيش مشكلة ممكن مامته تتواصل معايا وهبلغها كل اللي أخذوه أول بأول وتحت أمرها في أي سؤال، ولو تحب ممكن أسجل فويس بصوتي بالشرح.
فتابع الرجل بمرارة شديدة وعبرة بدأت تسيطر عليه: الموضوع مش كده خالص، أحمد غالبًا مش هيكمل.
فضمت حاجبيها بتسآل وقبل أن تنطق بحرف تابع الرجل قائلًا: أحمد مصاب بـنيروبلاستوما ومش هينفع يجي.
فجحظت عيناها وتجمدت الكلمات في حلقها، فتابع الرجل مكملًا: هو بيحب حضرتك جدًا والدكتور قال إن وجود أحب الشخصيات له هيساعده يتحمل ألم العلاج، تقدري حضرتك تنسقي مع المدام بعد شهر من دلوقتي عشان يكون انتهى من أول جرعة كيمو.
فأومأت برأسها بصدمة شديدة دون أن تنطق، لكنها فجأة جثت على ركبتيها أرضًا وبكت بشكل هيستيري، كأنها قد وجدت أخيرًا المخرج الذي تنفس به عما داخلها، هكذا نحن دائمًا نظل مشحونين حتى تمام الشحن ليجئ أي موقف أو خبر فيُخرج كل شئ ونبكي فيه على القديم والجديد!
وضعت يديها على وجهها، انتحبت بشدة لدرجة جمعت حولها آخرين سواء من زملاءها ووقف الرجل مدهوشًا من ردة فعلها وبدأ يحدثها لتهدأ لكنها لم تكن تسمعه ولم تسمع أي صوتٍ حولها!
كان مروان وسط هؤلاء المحيطين بها وكل حواسه موجهة نحو كارما وبكاءها الغزير بعد ما سمع مقالة ذلك الأب وتألم كثيرًا، وآلمه أكثر انهيار كارما بشكل غير متوقع، كم تمنى لو حملها مرة أخرى وضمها إليه ورحل بعيدًا عن كل هؤلاء.
لكن استوقفته كلمات الأب المريرة وهو حزين على مرض ابنه، ابنه!
أين أنت من ابنك؟!
خمسة أعوام وأكثر لم تفكر مرة أن تقترب منه ولا حتى حاولت أن تراه حتى بعد أن صار يعيش معي تحت سقفٍ واحد! بأي ذنبٍ أؤاخذ هذا الطفل وأحمّله ما لا طاقة له به؟!
تُرى لو كنت مكان هذا الأب هل سأحزن وأحترق وجعًا مثله أم أتنهد شاكرًا أن جاءتني فرصة التخلص منه ممهدة!
شعر بتأنيب ضميره للحظاتٍ لكنها آلمته أشد من آلام الطعن بالسيوف والرماح فانسحب من بينهم بهدوء يحاول تناسي أي شيء من تلك الأفكار والتساؤلات.
جاءت لمياء ومديرة قسم رياض الأطفال بعد أن علمتا بانهيار كارما هكذا خاصةً بعد معرفتهما لتفاصيل الموقف من والد الطفل أحمد.
كانت لمياء متأكدة تمامًا أن ذلك الخبر بمثابة جذب الفتيل لتنفجر منهارة هكذا، لكن أردفت مديرتها قائلة: قومي يا كارما، قومي حبيبتي روّحي وما تكمليش يومك، معلش حبيبتي كلنا زعلنا عليه، وإن شاء الله ربنا هيشفيه ويقومه بألف سلامة، قومي يلا...
ثم التفتت إلى لمياء قائلة: يا ميس لمياء هاتيلها حاجتها م الكلاس وكملي اليوم لوحدك.
فأومأت لمياء واتجهت بعيدًا، ثم عاودت حديثها لكارما: حبيبتي لو تعبانة لبكرة ما تجيش.
نهضت كارما واقفة وانصرفت دون أن تنطق بحرف، أخذت أشياءها من لمياء وغسلت وجهها وانصرفت من المدرسة.
مر على ذلك اليوم عدة أيام لم تشعر كارما بالفرح من داخلها رغم أنه زفاف أخيها الوحيد وصديقتها المقرّبة الذي كانت تعدّ الأيام والليالي ليجئ، فأغلقت صندوق خفاياها على ما بداخلها وتصنّعت ابتسامة لكنها لم تصل لعينيها.
وجاء يوم الزفاف فارتدت كارما فستانًا من القطيفة كحلي اللون ضيق من الأعلى حتى الخصر ثم هبط باتساع قليل بالإضافة لطبقة أخرى تحيط خصرها من الخلف كأنه ذيل لكنه لم يزيد عن الشبر حولها، كان الفستان مشغول قليلًا من الكتفين والصدر بنفس لون الفستان وأيضًا حول المعصمين، مع حجاب من اللون الرمادي.
وقفت كارما تزين نفسها قبل ارتداء حجابها، وكانت كارما ماهرة في استخدام مساحيق التجميل بتقنية رائعة تضاهي خبيرات التجميل، حتى إنها لتزين صديقاتها وقريباتها في حفلات خطبتهم أو أي حفلٍ، لكنها لا تميل للخروج بمساحيق التجميل.
أنهت كارما تجميلها واكتملت هيئتها، كانت رائعة بحق، أخذت تتطلع لنفسها أمام المرآة حتى دلف إليها أخيها العريس، فنظر إليها مبتسمًا بإعجاب ثم صفّر قائلًا: زي القمر يا بت! أنا عارف الشباب انتصوا ف نظرهم ولا إيه!
فدلفت أمها وهي تجيب قبل أن ترى ابنتها: يا خويا، إما عمرك ما جبتلها واحد صاحبك ولا أي حد معرفة!
ثم رأت ابنتها فاتسعت ابتسامتها وهي تحتضنها بسعادة: ما شاء الله! الله أكبر الله أكبر! زي القمر، ربنا يفرحني بيكِ! يا رب ما تروحيش إنهاردة إيدك فاضية!
فأجابت كارما بعدم رضا: إيه اللي بتقوليه ده! لا طبعًا أنا كده مرتاحة.
فزمت الأم شفتيها قائلة: يا شيخة اتوكسي، مش لما تلاقي حد يعبرك الأول وبعد كده تبقي تتشرطي، يلا هنتأخر ع الناس...
قالتها ثم خرجت فأمسك عمرو بذراع أخته لتتأبطه وخرجا بعدها وهما يكتمان ضحكاتهما على كلمات أمهما المعهودة.
وصل الجميع لقاعة الفرح، أجواء الحفل تسير على ما يرام، العروسان متألقان ورائعا الهيئة والجميع سعداء ويشاركون العروسين الرقص والاحتفال.
كانت كارما تشاركهم من حينٍ لآخر لكن لا تشعر بالحماس يخرج من داخلها، حتى جاءت لحظة التقاط الصور مع العروسين، وبدأ المدعوين يتبادلون الوقوف جوار العروسين مع أنغام موسيقى شرقية قديمة كانت لفيروز وأم كلثوم.
وبينما الأجواء هادئة وقت التقاط الصور إذ وصل مروان واتجه مباشرةً نحو كوشة العروسين، وكانت عينا كارما قد رصدته منذ دلوفه للقاعة، شعرت بروحها تهفهف وبسعادة تنبع منها خاصةً مع نظرة الإعجاب الصريحة التي خصها بها منذ وصوله ودلوفه للقاعة.
وما أن اقترب من العريس ليبارك له وكادت كارما تتولى تقديمه لأخيها، حتى رآه عمرو وعرفه وصاح بسعادة: كابتن مروان حسني بنفسه! يادي النور يادي النور! ده انا محظوظ والله!
فابتسم مروان بهدوء يصافحه: ألف مبروك.
فتابع عمرو بحماس: الله يبارك فيك! على فكرة أنا متابعك وعارفك من زمان مش من دلوقتي وكنت لاعبي المفضل، وعمري ما صدقت أي حاجة اتقالت عنك، وكمان أنا دلوقتي بتابعك في برنامج هات وخد.
وبمجرد ذكر عمرو لمعرفته له منذ أن كان لاعبًا حتى اختفت ابتسامته تمامًا، تشنّجت ملامحه وقتمت نظراته وصار أشبه ببركان على وشك الانفجار ولفح الجميع بحممه الحارقة!
لم ينتبه عمرو لكل ذلك بقدر انتباه كارما ومتابعتها لكل ملامحه وتغييرها، بينما تأبطه عمرو مبتسمًا ناحية المصور ليلتقط له صورة مع لاعبه المفضل وقد نسى حتى أن يتساءل عن سر تواجده بالحفل!
بالطبع ما كانت ثواني حتى اختفى مروان من الحفل تمامًا بينما علق بذهن كارما كلمات أخيها.
ظلت شاردة هكذا تحاول تصيّد أخيها حتى لمحته يخرج من القاعة يتحدث في هاتفه فتبعته مسرعة.
ظلت واقفة عن بعد حتى انتهى من مكالمته ثم اقتربت مسرعة نحو أخيها والذي ابتسم لها مباشرةً، فبادرته بالسؤال: إنت فعلًا تعرف كابتن مروان!
فأومأ برأسه وقال: يا بنتي ما بيقدم البرنامج اللي بنشوفه!
- هو فعلًا كان لاعب كرة! وإيه اللي قالوه عليه!
- أيوة كان لاعب زمان، حتة لاعب ما جبتوش ولّادة بس عمل حادثة واعتزل بعدها مع ظروف كتير مر بيها لدرجة إن الكل قال عنه إنه مجنون!
فشردت كارما بذاكرتها لصورته التي قابلتها قديمًا وتذكرت وصفها له بـالسائح المجنون!
فتابعت بسؤاله: وليه قالوا عنه كده؟!
فأجابها: إنتِ نازلة فيّ تحقيق وأنا اللي المفروض أسألك إنتِ تعرفيه منين لدرجة إنه يحضر فرحي؟!
فأجابت بهدوء مصطنع: بيدرب الولاد في المدرسة أصلهم عاملين مدرسة كورة، زميل يعني.
فأومأ برأسه بشك، فتابعت متسائلة: ما قولتليش ظروف إيه اللي مر بيها دي؟!
فتابع قائلًا: كارما، أنا سايب فرحي!
فتوسلت له: معلش معلش، عشان خاطري عايزة أعرف.
فأطال النظر نحوها كأنما يستشف أمرًا ما، فرفع حاجبيه بهدوء وابتسم قائلًا: شوفي يا ستي...
...................
......................................
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro