الفَصلُ العاشِر: شَبحُ الاِنتقَام يَطرقُ عَلى الأَبواب.
وَسطَ دُجنةِ المَكانِ وَسُكونهِ المُخِيف يُسمعُ صَوتُ بُكاءٍ خَافِت، وَأَنينٍ مَكتُوم. بَينمَا جَسدُ الفَانِي الصَّغير يَرتجِف، وَحَولَ نَفسِه مُتكَورٌ يَبتغِي بَعض الأَمان، بصمتٍ يُناشدُ مَن عَلى عَرشِ قَلبِه اِعتَلى لِلمَجِيء وَإِنقاذِه، وَفِي ذَاتِ الوَقتِ يَلومُ نَفسهُ عَلى اِتباعِهِ شَخصًا غَريبا.
«أَنا طِفلٌ غَيرُ مُؤدَب، سَتغضبُ مِني جَدتِي لِخرقِ كَلامِها، وَلن تُفكرَ أُمي أَبدًا بِإعادتِي إِلى البَيت...وَالسَّيدُ اللَطيفُ سَيكرهنِي هُو الآخَر!» بِمجردِ التَّفكِير بِهذَا اِختلجَت عَينَاهُ وَزادَت حِدةُ بُكائِه، فَيَا لَيتَ الزَّمنُ يَعودُ وَراء، وَيَمنعُ نَفسهُ الغَبِية مِن الذَّهابِ مَع ذَلكَ الرَّجُل الشَّرير، لَكِن هَيهَات يَنفعُ النَّدمُ بَعد الخَطأ!
صَوتُ خُطواتٍ صَدحَت فِي المكَان مُعلنةً عَن قُدومِ الخَاطِفين، مَا جَعل قَلب الصَّغيرِ يَغرقُ هَلعًا وَاِرتيَاعا.
أُضيئَت الأَنوارُ وَتوَضحَت مَعالمُ المَكان، مُستودعٌ قَديمٌ فَارغٌ إِلا مِن بَعضِ الخُردة المُغطاةِ بِأغطيةٍ بَلاستيكيةٍ تَحجبُ الرُؤية، وَفي مكانٍ يَبعدهَا وُجدَ هِيكَارُو الّذي يزْحفَ خَوفًا حَتى اِرتطمَ ظَهرهُ بِالجِدار.
مَنظرهُ الّذي بَدى كَأرنبٍ وَديعٍ وَسطَ مَجموعةٍ مِن المُفترِسين أَضحَكت الشَّابَ الّذي مِن المُرجحِ أَنه قَائد المَجمُوعة، ثُمَ اِستطرَد: «لَا تَخف يَا صَغِيرِي، فَنحنُ لَن نَمسكَ بِسُوء.»
لَم يُصدق هِيكَارُو كَلمَاتِه، فَأجَاب مُبرطًِما وَفي ذَاتِ الوَقت بِحنق: «لَكِنكم خَطفتُمونِي!»
أَرجعَ الشَّابُ خُصلاتَ شَعرِه الشَّقراءَ المَصبوغةِ إِلى الخَلفِ ضَاحِكا؛ عَليهِ الاِعترافُ أَنه قَد أَحب هَذا الطِّفل مِن الوَهلةِ الأُولى، ثُمَ اِستدارَ إِلى أَحدِ أَتباعهِ سَاخِرا: «لَم أَكُن أَعلمُ أَن ذَلكَ المُتوَحدُ سَيكُون حُثالةً حَقًا وَينجِبُ خَارجَ إِطارِ الزَّواج، أَم أَنّهُ مُتزوجٌ بِالفِعل؟»
خَتمَ كَلامهُ بِعلامةِ اِستفهامٍ رُسمَت فَوق رَأسه، وَكأنهُ لَم يَكن وَاثقًا فِي بِدايةِ كَلامِه قَبل قَليل. فَهزَ المعنِي بِالسُّؤَال رَأسهُ نَافيًا كَونهُ مُتزوجًا وَله اِبن.
جَثَى الأَشقرُ عَلى رُكبتيهِ أَرضًا مُفترسًا مَلامحَ الأَمهق، وَكم كَانَت فِي نَظرِه شَبيهةً بِملامحِ نَاويا، ثُمَ قَال: «أَنت حَقًا شَبيهٌ بِناويا، وَكأنكَ نُسخةٌ مُصغرةٌ عَنه، لَا شَكَ فِي أَنكَ اِبنهُ البيُولُوجِي.»
رَمقهُ الصَّغيرُ بِنظراتٍ مُستنكِرة؛ فَما الّذي يَتفوهُ بِه هَذا العَمُ المَجنُون؟ إِلا أَنهُ لَن يُنكِرَ رَغبتهُ بِأن يَكونَ نَاويَا وَالدهُ الحَقِيقِي، وَمع هَذا فَهو يُدركُ جَيدًا كَيفَ يُميزُ بَين الوَاقعِ وَالخَيال، وَأَن لَيس كُل مَا تَصبُو إِليه وَتتَمنى سَيتحَقق.
ثُمَ نَطقَ بِخفُوت، وَبنبرةٍ تَشي عَن مَأقه: «لَا أَمتلكُ أَبا.»
«سَواء أَكان نَاويَا وَالدكَ أَم لَا، فَذلكَ لَا يَهم مَا دَامَ أَن حَظكَ السَّيء قَد وَرطكَ مَعه.» فِي لَحظةٍ اِختفت هَالتهُ اللَطيفَة، وَاِسُتبدلَت بِوجههِ الحَانِق المُكفهِر، وَبغيظٍ صَكَ عَلى أَسنَانِه مَع كُلّ كَلمةٍ قَالهَا. وَقد تَمكَن هِيكَارُو مِن لَمحِ البُغضِ وَالسَّخط يَنبثقانِ كَشررٍ مِن عَينَيه؛ مَا جَعلهُ يُفكر: «لِمَ هَذا العَمُ الشَّرير لَا يُحب السَّيدَ نَاويا؟ إِنهُ لَطيفٌ وَلن يُؤذِي أَحدا.»
وَلو عَلمَ المَدعُو رِيُو بِمَا فِي عَقلِه مِن أَفكَار، لَأهلَس ضَحكًا حَتى يَجتوِي الدُّمع المِحجرَين؛ فَاللطَافةُ وَناويَا خَطانٍ مُتوازيان لَا يَلتقيَان حَتى فِي الأَحلام. يُمكِنه التَّذكرُ وبِوضوحٍ تَام مُجريَات الأَحداث الّتِي عَلى إِثرهَا آل الأَمر إِلى مَا عَليهِ فِي هَذا الحِين.
بِخطى بَطيئة، مُتمهلةٍ كَان يَسير، وَبصرهُ مُنتكِسٌ عَل أَحدًا لَا يَلمحُ عَينَاه المُمتقعتَان مِن فَرطِ البُكَاء، نَفَث هَواءً سَاخنًا عَلى رَاحةِ يَديهِ المَخدوشَتين، وَإِلى صَدرهِ ضَمهمَا؛ يَكفِيه حَاليًا شُعور أَنه مَا زَال يَمتلكُ نَفسه، نَفسهُ الّتي لَن تَتخَلى عَنه كَما وَالدَيه وَكُلّ مَن اِبتغَى تَبنيه فِي البِداية، لَكنهم غَيروا قَرارهم بِحجةِ أَنه وَحشٌ يستحِق المَوت، أَلأنهم قَالوا ذَلكَ فَعليهِ التَّنفيذ؟! مُجردُ التَّفكِير فِي هَذا مُجددا، يَجعلُ العَبرات تَنبجِس مِن مَآقيه دُون كَلل.
وَمن دُونِ أَن يشعُر اِقتادتهُ قَدمَاهُ إِلى مُتنزهٍ اِعتادَ القُدومَ إِليهِ كُلّ وَقت ضِيق، وَعلى كُرسيٍ رُخامِيٍ جَلسَ مُتكورًا حَولَ نَفسِه يَستمعُ إِلى المُوسيقَى عَلهَا تُنسيهِ هَمه. لَا يَدرِي كَم وَقتًا مَضى، إِلا أَن الضِّيقَ فِي صَدرِه اِنزاحَ قَليلا.
ثُمَ شَعرَ بِلمسةٍ حَانيةٍ تُمسدُ شَعره، فَرفعَ رَأسه لِتقابلَ عَيناهُ المُنتفختَين مِن البُكاء عَينَين يَاقوتِيتَين غُمرَا بِقلقٍ عَارم، فَتختلجُ بِدهشةٍ وَهوَ يقُول: «أَكيو...»
بِرفقٍ اِكتسَح نَبرة صَوت أَكيو قَال: «لمَ أَنتَ تَبكِي مُجددا؟»
اِستعدَل رِيو فِي جِلستِه مُطالبًا إِياهُ بِالجُلوسِ جَانبَه دُونَ إِعطائهِ أَيّ إِجابة، إِلا أَنّه أَبى ذَلكَ قَائِلا: «أُريدُ مَعرفةَ سَببَ بُكائك، أَحدثَ شَيءٌ مَا فِي المَيتم؟»
«آه، إِنه لَا شَيء، فَقط أَمرٌ رُوتينيٌ يَتكررُ كَكلِ مَرة.» رَد الأَصغرُ بِبلادَةٍ وَعينَاهُ بِتملمُلٍ تُحدقانِ فِي الأَرجَاء؛ فَقد اِجتازَ الأَمر بِسهُولة، أَو هَذا مَا أَوهمَ نَفسه بِه. وَمع ذَلكَ فَهو يَبقى أَفضلَ مِن النَّحيبِ كَالأَطفَال.
«ثَبت نَظركَ عَلي وَأنتَ تُحدثُني!» أَمسكَ أَكيو ذَقنهُ مُثبثًا نَظرهُ نَاحِيتَه، عَينَان ذَهبيتَان مِلؤهُمَا الحُزن وَالكَمد، كَانَتا النَّقيض لِاِبتسامةٍ مَرحةٍ رُسمَت عَلى الشَّفتَين، وَكم أَتعسهُ هَذا المَنظر! مُنذ صِغرِه وَهُو يُنعتُ بِالوَحشِ جَالبِ الحَظِ السَّيء؛ فَكُلّ مَن يَتبنَاهُ يُعيدهُ لِلميتمِ بَعد مُدةٍ قَصيرةٍ لِجلبهِ سُوءَ الحَظِ لَهم، وَلم يَكُن الأَمرُ مُختلِفًا عَن وَالدَيه البيُولوجِيان فمُزامنةً مَع وِلادَتهِ بَدأَت الأُمُور السَّيئةُ تُلاحِقهُما. وَذاتَ مرةٍ قَررا اِستشارةَ عَرافةٍ أَخبرتهُما بِأنَ رِيو جَالبٌ لِلحظِ السَّيء لِكُلّ مَن يَقترِب مِنه، وَعلى إِثر هَذا تَخلَيا عَنه، وَكم كَان قَاسيًا وَمُؤلمًا لِطفلٍ فِي الخَامِسةِ مِن عُمرهِ سَماعُ هَذا الهُراءِ مِن أَقربِ وَأعزِ النَّاس لَه!
مِن السَّخيفِ تَصديقُ شَيءٍ كَهذا، فهُو مُجردُ صَبيٍ مِسكِينٍ حُكمَ عَليهِ بِسوءِ الفَهم وَحسب. وَأكبرُ دَليلٍ عَلى ذَلكَ بَقاؤُه مَعه تِسعَ سِنينٍ كَاملةً وَمُتواصلةً وَلعَل مُعظمَها إِن لَم تَكُن كُلهَا ذِكرياتٌ ثَمينةٌ يَودُ لَو تُحفرُ فِي ذَاكِرتِه إِلى الأَبد.
«رِيُو، هَل تُريدُ العَيش مَعي؟»
وُسعَت حَدقتَا الأَشقرِ لِأخرَيهمَا غَير مُصدقٍ لَمَا الأُذنُ سَمعت، فَاِسترسَل الأخَرُ فِي الكَلامِ شَارِحا: «أَخبرتكَ مِن قَبل، صَحيح؟ حِينمَا أَستقرُ فِي مَنزلٍ جَيدٍ مَع وَظيفةٍ لَا بَأسَ بِهَا سَأخدكَ للِعيشِ مَعي، لِذَا إِلى حِين ذَلكَ الوَقت كُن قَويًا مُتمَاسكا، لَا تَدع شَيئًا يَهزُك. أَليسَ رَائعًا أَن نَعيشَ أَنا وَأنتَ تَحتَ سَقفٍ وَاحد؟!»
مِن فَرط سَعادتِه لَم يَتمَالك نَفسه فَقفزَ عَليهِ مُعانِقًا؛ مُمتنٌ حَقًا لِوجُودِ شَخصٍ كَأكِيو بِجانِبه، وَفي ذَاتِ الوَقتِ نَادمٌ لِعدمِ مُلاحَظتِه التَّغيرَ الطَّفيفَ فِي تَصرُفاتِه، وَالّذي سَيجعلهُ يَبكِي دَمًا عَلى ذَلكَ بَعد عِدةِ أَيام.
يُتبَع...
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro