الفَصلُ السَّابِع: حَنينٌ إِلى المَاضِي.
فِي زُقاقٍ مُظلمٍ وَضيقٍ دُفعَ إِيزومِي عَلى الجِدارِ بِقوةٍ كَادَت تُحطمُ عِظامَه الهَشة، ثُمَ تَقدمَ شَابٌ إِليهِ بِخطى هَادِئةٍ كَملامحِ وَجههِ، اِمتازَ بِشعرٍ شَابَه الغُروبَ فِي اللَون، وَعُيونٍ اِنسكَب الفَضاءُ دَاخلهَا. نَفثَ دُخانَ سِيجَارتِه قَبل الشُّروعِ فِي الكَلام، إِذ نَبسَ بِنبرةٍ لَعُوبة جَعلت هَذَا الأَول يَستذكِر كُلّ مَاضيهِ البَائس الّذِي بِالكَاد اِستَطاعَ نِسيانه: «هَل اِشتقتَ إِلي؟ طوالَ مُدة مُكوثِي فِي السِّجن لَم أَنسكَ لَحظة، لِذَا حَظيتَ بِشرف أَول زِيارَة، هَل أَنت سَعيد؟ فَبالنِّسبةِ لِي أَنا أَتحرقُ شَوقًا لِلعب مَعك كَالمُعتَاد.»
مَر أَمامَ عُشبي الشَّعرِ شَريطُ ذِكرَياتِه المَقيتة، التِي جَعلتهُ يَشعرُ بِالغَثيَان، لَكَن إِحداهَا كَانَت أَثمَن مَا يمَلك، إِذ أَنها عَن أَول لِقاءٍ لَه بِنَاويَا أَو كَما سَماهُ حِينَئذٍ بِالبَطل.
يَتذكَر ذَلكَ اليَوم جَيدا، فَحِينئذٍ كَان وَضعهُ الحَالي مُشابهًا لِتلكَ المَرة، أُصيبَ بِجروحٍ مُتفاوتةِ الخُطورةِ تَحتاجُ عِلاجًا وَفِي الحَال، وَقبلَ أَن يُسحَب مِن قبلِ الدِّيجُور إِلى اللَاوعي وَربمَا إِلى خَلاصِه، لَمحَ مُراهقًا بَدا أَصغَر مِنه سِنًا وَهو يُطيحُ برِيكِي وَرفِيقيه.
اِستيقظَ لِيجِد نَفسهُ فِي المُستشفَى مُضمَد الجِراح، وَللأَسف لَم يَلقَ الفَناء. ثُم تَناهَى إِلى مَسمَعهِ صَوتُ خُطوات كَعبِ الحِذَاء فِي المَمَر، وَشُعلةُ أَملٍ نَمت فِي قَلبِه، لَكِنهَا سُرعَان مَا اِنطَفَأت حَالمَا هَوت يَد الرَّجلُ -الذِي دَخل الغُرفةَ تَوًا- عَلى وَجهِه بِلطمةٍ قَويةٍ تَردَد صَداهَا فِي المَكان.
«أَلم أُخبركَ أَن تَعيشَ وَكأنكَ غَير مَوجُود؟! بِسبَبكَ كَادَت تُفلِس شَركَتنَا، أَهكَذا تُجازِي سَنواتَ تَعبِي فِي تَربيةِ لَقيطٍ مِثلك؟ غَدًا سَتعتَذرُ إِلى وَريثِ عَائلةِ نَاريزَاوَا، وَلا حَاجةَ لِي لِأعذَارك.»
حَدقَ فِي عَينَيه اللتَان اِحتدَتا اِمتعَاضًا وِحِقدًا مُبتسمًا بِسخريةٍ مَريرةٍ عَلى كَلامِه، ثُم ضَحكَ بِهِيستِيريةٍ عَاليةٍ حَتى اِنبجَست العبرَات مِن عَينَيه الزُّمردِية مِن فَرطِ الضَّحك، وَحَتى كَادَ يَموت مُختنقا، وَلم لَا؟ فَقد أَدرَك كَم كَان مُغفلًا، سَاذجًا، وَأحمَقًا طَوالَ هَاتِه السَّنوات؛ رُغمَ عِلمِه التَّامِ بِمدَى كُره الوَاقفِ أَمامَه لَه، إِلا أَنه لَطالمَا مَنحَ نَفسهُ أَوهامًا وَاهية، لَم تُفلح إِلا فِي تَفتُق رُوحِه الغَائرة.
دُهشَ الرَّجُل مِن تَغيرُه المُفاجِئ، إِلا أَنه لَم يُبالِ، فَأدَار كَعبهُ مُغادرًا غُرفةَ المُستشفَى مُغمغِمًا بِسخَط: «آخِر مَا يَنقُصنِي هُو تَربيةُ مَجنون!»
عَقب مُغادَرتِه دَخل نَاويَا الذِي كَان يَسترقُ السَّمع عَلى مَا دَارَ بَينهمَا، لِيتَوقفَ إِيزومِي عَن الضَّحكِ مُحَاوِلًا اِلتِقاطَ أَنفاسِه، فَتجتَاحُه نَوبةُ سُعالٍ حَادةٍ لَم تَتوَقف إِلا بَعد شُربِه كَأسَ المَاء الذِي قُدمَ لَه مِن قِبل هَذَا الأَول.
«هَل أَنت بِخير؟»
سَكنَ المُحَدثُ لِبرهةٍ يُفكِر فِي إجَابةٍ عَلى سؤَاله، بِخير؟ لَا هُو قَطعًا لَيس بِخير.
أَنى لَه أَن يَكون بِخيرٍ ورُوحه غَائِرةٌ فِي الظَّلام؟ أَنى لِشخصٍ دُهسَت رُوحه بِلا رَحمةٍ بِشتَى الخَيبَات أَن يَكُون عَلى مَا يُرام؟ تَفرَقت شَفتيهِ رَغبةً فِي الحَديث لَكن الكَلمَات خَانَته مِثل مَا خَانَه العَالم؛ يُنيرُ عُتمَةَ طَريقِه بِبصَيص نُورٍ سُرعَان مَا يَندَثر، يُوقدُ شَمعةَ الأَمل فِي أَعماقِه لِتنطَفئَ تَاركةً خَلفها قَلبًا مُحطمًا وَمُستنزَفا؛ فَأَصعَبُ شُعورٍ هُو أَمَلٌ بَعدَ عَناء، ثُمَ يَتحَطمُ كَالزُّجَاج، صَعبٌ جَمعُ شَظَايَاه؛ لِأنَه لَن يَلتحِمَ أَبدًا.
مِن دُون إِدراكٍ مِنه أَو مُقدمَاتٍ أَحسَ بِبللٍ فِي وَجنتَيه، ثُمَ سَمحَ لِبكَائِه الذِي زَلزَل كَيانَه بِالعُلو، وَقد حَلَت دُموعهُ مَحل الكَلمَات لِتجيبَ عَلى السُّؤَال الذِي كَادَ يُنسَى مِن قِبل سَائلهِ المُتسمِر فِي مَكانِه؛ فَمَا الذِي يَجب عَليهِ فِعله حِيالَ بُكائِه؟
بِلا أَدنَى تَفكِيرٍ تَقدمَ نَاحِيتهُ مُحتضنًا إِيَاه، لِيتشبَث إِيزومِي بِقمِيصه مُطلقًا العنَان لِمشاعِره المُتراكِمة دَاخِله أَن تَنسابَ عَلنا، حَتى اِنتشَلهُ الظَّلامُ رُويدًا لِيغُط فِي سُباتٍ هَادِئ، بَعيدٌ كُل البُعدِ عَن الكَوابيسِ التِي كَانَت تُرَاودُه. عَلى الأَقل لِمرةٍ وَاحدةٍ سَيهرُب مِن كَوابِيس يَقظتِه وَأحَلامِه.
أُعيدَ إِلى الوَاقعَ إِثرَ الأَلمِ النَّاجِم عَن شَد شَعرِه مِن قِبلِ أَصهبِ الشَّعر الذِي أَحرقَ كَف يَدهِ تَاليًا بِسيجَارتِه، صَدرَ أَنينٌ خَافتٌ مِن فَاهِ إِيزومِي الذِي يُحُدقُ بِه بِامتعَاض وَغيظٍ شَديدَين.
«أَين فَارسكِ المِغوارُ يَا سُموَ الأَميرة؟ هَل مَل مِنكِ وَتَخلَى عَنك؟»
لَم يَتغير تَعبير المُخَاطبِ وَلو تَغيرًا بَسيطًا وَهُو يُنصت إِلى سُخريةِ رِيكِي، مَا أَزعجَ هَذا الأَخير لِيحطمَ رَأسهُ عَلى الجِدارِ فَينبثِق سَائلٌ سَاخنٌ مِن جَبهتِه، أَشعَر المُتنمِرَ بِنشوةِ الاِنتقَام.
لَكِن لَحظاتِه السَّعيدة لَم تَدم؛ إِذ أَن سُخريةَ مَن نَعتهُ بِالفارسِ المِغوَار اِستَفزته.
«هَل تَبحثُ عَني؟ لَم أَدرِ أنكَ اِشتَقت لِلضّرب لِهذهِ الدَّرجة.»
تَجاوَز نَاويَا رَفيقَي رِيكِي بِكل بَساطة، فَهما لَيس نِدًا لَه وَلا حَتى المُقابل لَه، وَهذا مَا يُدركهُ أَصهبُ الشَّعرِ جَيدا، لِذا اِستلَ سِكينًا مِن جَيبِه، وَعلَى غِرار المُتوقَع لَم يَرتَع لَازورديُ العَينَين.
«أَباِعتقَادكَ أَن اِستعانَتك بِالمُدْية سَيغيرُ النَّتيجة؟ يَالكَ مِن فَاشِل!»
فَقد بَنفسجِي العَينَين السَّيطرةَ عَلى أَعصابِه إِثر اِستفزَاز الآخَر لَه، لِينقضَ عَليه كَأسَدٍ يَتربصُ بِالفَريسة، لَكن رَدة فِعل نَاويَا كَانَت أَسرع فَنجَح فِي تَفادي الطَّعنة، ثُمَ ردًا عَليه رَكلهُ عَلى مَعدتهِ بَاصقًا الدِّماء.
اِنتهَى القِتال بَعد عَشر دَقائقَ مِن بَدئه بِفوزِ نَاويا فَوزًا سَاحقا؛ إِذ جَعلهُ عَاجزًا عَن الحَراك وَلو إِنشا، فَقد رَد مَا فَعلهُ بِرفيقِه أَضعافًا مُضاعَفة.
«هَل أَنتِ بِخيرٍ يَا سُموَ الأَميرة؟»
مَد نَاويَا يَده نَحوَ إِيزومِي الذِي اِبتسمَ بِإشرَاقٍ -رُغمَ جُروحِه- مُمسكًا يَده المَمدُودة، ثُمَ أَجاب: «أَجل، بِخير أَيا فَارسِي الشَّهم.»
لَولا جُروحُ زُمردِي العَينَين لَما تَوانَي نَاويَا عَن إِطاحتهِ أَرضًا جَراء كَلماتِه الآخِيرة، ثُمَ اِستطرَد بِاِستهَزاء: «مَع جُروحكَ البَليغة هَذه؟ أَتساءَل عَن صِحة كَلامِك.»
«أَنت آخِرُ مَن يَتحَدثُ عَن هَذا.»
لَم يَفهَم المُخاطَب المَقصَد مِن كَلمَاتِ المُخاطِب حَتى تَلقَى ضَربةً خَفيةً مِنه عَلى الكَتف، لِيشعُر بِتيارٍ كَهربائيٍ يَسرِي فِي جَسدِه مُطلقًا أَنينًا خَافتا.
«أَعتَقدُ أَن كِلانَا بِحاجةٍ إِلى عِلاج.»
اِكتفَى نَاويَا بِالتَّحدِيق بِه بِغيظٍ شَديدٍ بَينمَا يَتوعَد لَه بِالاِنتقامِ حَالمَا يُشفَى، فِي حِين أَن الآخَر أَهلسَ ضَاحِكًا لِعلمهِ بِتفكِير رَفيقه. ثُم أَعقب بِاِبتسامةٍ دَافِئةٍ حَملَت بَين طَياتِها حَنينًا إِلى أَيامٍ مَضت: «هَذا يُشعرنِي بِالحَنين إِلى المَاضي.»
لَا رَد، لِذا اِستَأنفَ المُتحدثُ كَلامَه: «مُمتنٌ لِهيكَارُو الذِي أَفلح فِي إِخراجكَ مِن قَوقعتِك، رُغم اِستحالتِي للأَمر.»
حَدقَ نَاويَا بِه وَبين عَينَيه تَقطيبة قَائلا: «مَا قَصدُك؟»
«لَا تَهتم، فَمع مُرورِ الأَيام سَتفهم.»
* * ✿ ❀ ❀ ✿ * *
«هِيكَا تشَان، هَل اِشتَقت لِي؟» نَغمةٌ رَتيبةٌ تَرَامَت إِلى مَسامِع هِيكَارُو الذِي حُضنَ مِن الخَلف، وَوضعَ فَوق رَأسِ المُتحدِث، وَلم يَكُن ذَلك الشَّخصُ سِوىَ إِيزومِي الذيِ لُفَ رَأسه بِشاشٍ أَبيضَ تَلطخَ بِلونٍ أَحمرَ قَان.
صَرخةٌ خَافتةٌ وَشَت عَن صَدمةِ الصَّغيرِ الذِي لَا يَدرِي كَيفَ وَصل إِلى السَّماء فِي غَمضةِ عَين، حَدقَ أَسفلَه فَيجِد كَيانًا مُبتسمًا بِحبُور، لِيبادِله الاِبتسامَ بِتِلقَائِيةٍ نَاطِقا: «عَمِي!»
لَكن سُرعَان مَا بَهتت مَلامِحه حَالَ رُؤيتهِ لَرأسه المُضمَد، وَعينَاهُ تُنذرانِ بِدمعٍ دَاهِس. لَاحَظ نَاويَا تَقلبَ مِزاجِه لِذَا قَررَ إِراحَته قَائلًا: «لَا تَقلَق، فَعمكَ بِخَير، ضَربَ رَأسهُ بِالحَائطِ عَن طَريق الخَطأ فَقط.»
أَومَأ بِرأسهِ عَلى مَضضٍ غَير مُقتَنعٍ بِمَا قَاله، ثُمَ سَألَ إِيزومِي بِقلقٍ عَارِمٍ سَكَن دَاخِله: «هَل هِي تُؤلِم؟»
فَكرَ سَماوِي الشَّعرِ لَحظةً قَبل أَن يَنبسَ بِلَهجةٍ لَعُوبة: «وَإِذَا كَانَت تُؤلم، فَما أَنت بِفاعِل؟»
«سَأقبلُ جُرحَك؛ فَجَدتِي كَانَت تَفعلُ هَذَا دَائما، وَيختَفي الأَلمُ كَالسِّحر!»
لَهجتهُ الجَادَة وَكذَا تَعابيرُه جَعلَت نَاويَا يُطلقُ ضِحكةً خَافتة، بَينمَا رَفيقهُ أَنزلَ الصَّغيرَ أَرضًا جَاثيًا عَلى رُكبتهِ مُواريًا بِذلك فَارقَ الطُّولِ الشَّاسِع.
«فِي هَذه الحَالة، إِني أَتألمُ قَليلا، فَهلَا سَاعدتنِي؟»
تردُدٌ سَكن قَلب هِيكَارُو مِن فَرطِ الخَجل، وَقد بَدا ذَلكَ جَليًا فِي تَصرفاتهِ وَسكُونه فِي مَكانِه عِدةَ ثَوان، إِلا أَنّه وَمع ذَلك حَاولَ اِستجماعَ شَتاتَ شَجاعتِه. وَقد أَفلح بِالفِعل، لِيقبلَه عَلى جَبهتهِ بِخفةٍ خِشيةَ إِيلَامِه، وَقبلَ أَن يفِر إِلى نَاويَا قَصدَ الاِختباءِ خَلفه، رُفعَ عَاليًا مِن قبلِ إِيزومِي الذِي اِنبلجَ وَجههُ بِجَذل.
«شَرَفٌ عَظيمٌ لِي أَن أَتعالج لَدى سَاحِرٍ عَظيمٍ مِثلك!»
«سَاحِر؟ أَنا؟!» تَلعثَم يَققُ الشَّعر فِي كَلامِه بَينمَا اِحمرَت أَذانه، وَبريقٌ خَفيٌ لَمعَ فِي مِحجري الأَوبال خَاصته.
«أَجل، أَنت!» خِتامًا لِكلمَات الأَكبر، تَهلَلت أَساريرُ الصَّغيرِ فَرحا، وَعلَى إِثرهَا اِبتسمَ مُتباينَ الشَّعر بِخفة. مَع أَن شُعورًا بِالضِّيقِ اِجتاحَه وَلا يَدرِي سَببه، وَلكَم هُو مَقيتٌ هَذا الشُّعور!
عَلى مَقربةٍ مِنهم، وَقفت عَجُوزٌ خَالطَ شعرُهَا الأَبيضَ وَالأسوَد، وَحفرَ الزَّمنُ عَلى وَجهها، تُراقبهُم بِبسمةٍ رَاضيةٍ وَعُيونٍ بَاسمة.
اِنتبَه لَها هِيكَارُو المَحمول مِن طَرفِ نَاويَا لِيلوحَ لَها بِيدهِ وَأمَاراتُ الفَرحِ مُرتسمةٌ عَلى وَجهه، فَتبادلهُ العجُوز التَّلويحَ حَتى يَندثِر أَثرهُ فِي الأُفق.
يُتبَع...
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro