(ما بعد الانفصال)
بقلم نهال عبد الواحد
كنتُ لا أزال متأثرةً بألم نزعي وتفريقي عن أهلي ومسقط رأسي، آلامٌ تداهمني بلا رحمة، لا أعرف لأين سأذهب أو ما مصيري! فالمستقبل مجهولٌ تمامًا، حتى تلك الخيالات الضّبابية الّتي أراها أثناء سحبي أو ربما حملي من أحدهم... لم تكن واضحةً أو مفهومةً بالنّسبةِ لي!
كأنّي قادمةٌ من كوكبٍ آخر! ربما لعدم اختلاطي بأحدٍ أو خروجي من قبل، إنّها الحقيقة يا سادة! إنّها بالفعل أول مرّة لي أخرج إلى العالم الخارجي والنّاس!
«لا تذهب إلى حيث يأخذك الطّريق وإنّما اذهب إلى طريقٍ مسدود واترك هناك أثرًا.» همسات سمعتُها دون فهمها، لكن شعرتُ أنّها شيءٌ جميلٌ ونبيلٌ، وإن كان ليس بوسعي إلّا أن أُساق وأؤخذ إلى حيث لا أعرف.
لكن طال وقت الانتقال، لم أصل بعد إلى أي مكان، فقط ضوضاء وترنّحاتٍ تهزّني على وتيرةٍ واحدة حدّ الملل، حتى أنّ الكرى كان ينال منّي حينًا فأغفل سِنةً من نوم وسرعان ما أستيقظ مفزوعة من اصطدام أحدهم بي بقوةٍ تزيد آلامي ألمًا فوق الألم، لا أعرف فيمَ أُصدم! هل أشياءٍ وجماداتٍ صلبة أم أولئك البشر يركلوني أو يدفعوني دون أي رحمةٍ منهم؟ أم ربما اجتمعت جميع الأسباب فقط لأحيا كلّ ما هو مؤلم ومخيف؟!
انقضى المزيد من الوقت حتى شعرتُ بنفسي أطير في الهواء، كأن أحدهم ألقى بي على طول يده بلامبالاة! حاولتُ الصّراخ لكن صوتي كان مكتومًا لا يخرج نهائيًّا ولا حتى أنّة أو مجرد أنفاس متسارعة من فرط الإنهاك!
وفجأة انتهى ذلك الطّيران بسقوطي وارتطامها بشيءٍ ما، لا زالتُ أحاول الصّراخ لأعبّر عن ألمي... بلا فائدة، لكنّي أتساءل بحقّ هل صرختُ ذات يوم أو سمعتُ لي صوتًا من الأساس؟!
عصفت ذهني قليلًا وبالطّبع الإجابة لا تحتاج إلى تفكير أو محاولة للتّذكّر؛ فأنا لم أصرخ أبدًا أو أتحدّث من قبل! بل لم أسمع لي حتى مجرد صوت أنفاس!
بدا الأمر مفاجئًا لي! بل الأمر كلّه غريبٌ ومريبٌ؛ كيف مرّ عليّ طوال ذلك الوقت من قبل دون أن يكون لي صوتًا أُعبّر به عن حالي ومخاوفي... أو انفعالاتي المختلفة؟! بل كيف لم أدرك هذا أو أشعر بحاجتي إليه؟!
ربما يكون منامًا وسينتهي حتمًا كلّ شيءٍ، لكن ما هو المنام؟ إنّي أيضًا لا أدري معنى هذه الكلمة أيضًا!
كان المكان مظلمًا؛ حيث عسعس اللّيل دون شكٍّ، ثمّ سكون تام... لا حركة... لا أصوات... ترى هل أطمئن وأسكُن بأمان أنا الأخرى أم أترك لمخاوفي العنان فتنطلق راكضةً إلى ما لانهاية؟!
كان الوقت يمرّ عليّ دون أن يحرّكني أحد من مكاني أو يتفقّدني أحد، لكنّي كنتُ حينًا أشعر ببعض الضّوء مع أصواتٍ لمارِّين في الشّارع... بعض أصوات الباعة ينادون عن سلعهم بأساليبٍ عديدة... منها المفهوم الواضح ومنها المشابه للهجةٍ غير مفهومة البتّة! إضافةً إلى أصوات أطفال أو مشاجراتٍ بألفاظٍ عجيبةٍ بدت لمسامعي أنّها سيئة للغاية! تصدر حينًا بأصواتٍ ذكورية وحينًا أخرى بأصواتٍ أنثوية فظّة فيزداد ارتعابي من المجهول حتى يهدأ ويسكن كلّ شيءٍ مجددًا مع هجوم الظّلام.
كان كلّ هذا يتكرر بنفس التّرتيب، لم أكن أفهم ماذا يجري أو ماذا يعني! لكنّي اعتقدتُ أنّه موطنّي الجديد الّذي سأحيا وأسكن فيه، بالرّغم من الوحدة والبُعد عن الأهل والعشيرة... كأن الأمر فارقٌ لي! وكأنّي كنتُ ثرثارة لا أكفُّ عن الكلام! حتى هم كانوا مثلي بالضّبط، فقط محيطٌ بنا أنس أبناء الشّعب الواحد.
صرتُ أتعجّبُ من نفسي من فرط ورود تلك الكلمات العجيبة على عقلي، هل تعلّمتُ يا ترى؟ أم أنا مجرد ببغاء أردّد كلّ شيء وأي شيء؟!
لكنّي لا أردّد إلّا داخل عقلي! حقيقةً لم أعد أفهم نفسي مثلما لا أفهم أي شيء!
ظننتُ الأمر سيظلُّ دائمًا، لكن شعرتُ بقدوم خطواتٍ تقترب منّي، ارتجفتُ وارتبتُ حدّ الارتعاب! فلا زال كلّ شيءٍ مجهولًا لي.
وفجأة شعرتُ بأحدهم يسحبني... يرفعني ثمّ يبسطني... يربّت عليّ... حقيقةً الأمر ليس مؤلمًا بالرّغم من استمرار الخوف، لكنّي صرتُ أرى المكان من حولي بوضوح؛ لقد كنتُ داخل ذلك الشّيء، الّذي ليس شفّافًا وليس معتمًا... هو فقط يحدث صوتٌ يثير استفزازي.
بدا المكان كحجرة داخل بيت؛ حيث لمحتُ خزانة خشبية للملابس، كانت متواضعة للغاية وتصدر صريرًا مزعجًا كلّما فُتحت أو أُغلقت، لكنّها على أية حال تفي بالغرض.
وبينما كنتُ أحاول تفقّد هذه الحجرة إذ فجأةً شعرتُ بوخزاتٍ مؤلمة، كدتُ أنتفضُ من الوجع لكنّي لم أستطع! أعتقد أنّي شعرتُ بمثل تلك الوخزات من قبل، بالرّغم من أنّها لم تكن متتابعةً هكذا!
لكن طردني من أفكاري شيئًا حادًّا يتحرّك عليّ ذهابًا وإيابًا مسبّبًا ألمًا أقوى من السّابق، وكالعادة لا أقوى إلّا على التّحمّل والصّمت!
مرّت تلك اللّحظات كأنّها سنينًا وذلك الشّيء يؤلمني ويمزّق منّي أجزاء... إنّني أعرفه، إنّه نفس الشّيء الّذي انتزعني بقوةٍ من أهلي وعشيرتي...
لحظة! سأستحضر اسمه حالًا... كان اسمه مقص، هكذا سمعتُ ذلك الشّخص يقوله قبل أن ينفيني بعيدًا هكذا... ثمّ تُركتُ بعد أن طُويتُ مجددًا على شيئًا آخر صلبًا، على أغلب ظنّي هو منضدة خشبية، لكن هذه المرّة صارت رؤية الواقع واضحة دون حائل، وكذلك الأصوات.
تُركتُ هكذا حتى سُحبتُ مجددًا من أحدهم، صرتُ أراها عيانًا بيانًا، إنّها فتاة، شابّة، ذات ملامحٍ هادئة سكنها الهمّ أو شيئًا من هذا القبيل، عقدت وشاحًا فوق رأسها لم يظهر إلّا منبت شعرها الأسود.
أمسكت بي وبدأتُ أشعرُ مجددًا بوخزاتٍ متتابعة، لم أعد أحتمل تتابع الوجع، إنّها تحرّكنّي بين يديها بوتيرةٍ واحدة، ذهابًا وإيابًا، وكلما وُخزتُ وخزةً كلما التحم شقّي الآخر الّذي قطعته منذ أيام لنتّصل ونصبح شيئًا واحدًا حتى وإن كان في غير محلّه الأول، تُرى لماذا؟ وما الحكمة من ذلك؟ لِمَ فرّقتني ثمّ وصلتني؟!
كانت بعد فترةٍ تطويني وتعيدني مكاني على المنضدة وتنصرف ثمّ تعاود الكَرّة مرّةً أخرى في يومٍ آخر، هكذا في أيامٍ متتابعات، لكن الغريب أنّي لم أعد أتألّم من الوخز رغم استمراره!
هناك صوتٌ داخلي يخبرني بـ «مَن لم يُمتحن بالألم يجهل ثمن السّعادة.» ومرّة بعد مرّات تراودني كلماتٌ وتعبيراتٌ لا أفهم مغزاها أو ماذا تعني! لكنّي أشعرُ بصدقها حتى دون معرفة كيف ذلك!
استمر الوضع على نفس الحال أيامًا أخرى، أشعرُ أن شيئًا ما يتغيّر في من دواخلي وأن نتاج هذا الألم والمعاناة تغييرًا ونتيجة مبهرة... حتى وأنا لا أعرف معنى مبهرة!
لكن بعد أن اعتدتُ على هذا النّوع من الألم تفاجأتُ بنوعٍ جديد لم يخطر لي على بال، حقيقةً لا أعرف لأي شيءٍ تخطط هذه الفتاة!
ألقت بي فجأةً في شيءٍ كبير مملوءًا بالماء وشيئًا آخر رائحته نفّاذة، وقد صُدمت لحظة ارتطام جسدي بالماء وبدأتُ أرتجف، لكن بدأت رحلةٌ أخرى من العذاب، صوتًا مزعجًا للغاية يكاد يصمُّ أذنايّ -حتى وإن كنتُ لا أعرف مكانهما- إضافةً إلى صدماتٍ في كلّ اتجاه، حينًا في جدار ذلك الشّيء، وحينًا أخرى كلما دُفعت لأغوص داخل الماء وأنا لا أعرف كيف أسبح، لكن ما معنى السّباحة أصلًا؟!
ثمّ أُخرجت أخيرًا، لكنّي دُفعت بالمزيد من الماء، وفي النّهاية وجدتُ نفسي معلّقًا على حبلٍ يطير في الهواء لكن ليس حرًّا، على أية حال أنا أشعر الآن بانتعاشٍ غريبٍ ومريحٍ في نفس الآن.
تُركتُ فترةً أخرى وسط الظّلام ثمّ ظهر نور الشّمس رويدًا رويدًا حتى ارتفع وبزغ في كبد السّماء مسلّطًا عليّ حدّ الضّيق، كنتُ أشعر أنّي سأحترق رغم مداعبة الهواء لي، حقيقةً هو شعورٌ غريب، خليطٌ بين البرودة والحرّ... بل لا أدري كالعادة!
كلّ ما يهمنّي الآن ألّا أسقط بالأسفل البعيد وأرتطمُ أرضًا، ولا يُغدر بي من فوقي فيسقط عليّ أي شيء؛ فوضعي أترنّحُ هكذا غير مريح، حتى جاءت صديقتي وحملتني برفقٍ وأدخلتني بالدّاخل، بدأتُ أحبُّ هذه الفتاة بالرّغم من كلّ ما فعلته بي.
وهاهي تبسطني على سطحٍ ما ثمّ فجأةً سارت فوقي بشيءٍ معدني لكنّه ساخن، ساخن بكلّ ما تحمل الكلمة من معنى! إذن سحبتُ صداقتي، ولا زلتُ أتساءل ما آخر كلّ هذا الألم؟
إنّ الألم لا يحتاج حديثًا طويلًا، فأحيانًا تكون نبرة الصّوت نصف الكلام، وأنا لا أملك نبرة الصّوت ولا الكلام! فلم أجد إلّا الصّبر والانتظار فوجدتُني قد وُضعتُ في شماعة وتمّ تعليقي، ولا زلتُ لا أفهم شيئًا!
ظللتُ مكاني فترةً من الزّمان لا أدري مقدارها، حتى شعرتُ ذات صباحٍ بهرجٍ ومرجٍ ثمّ كلماتٍ مرحّبة وأصواتٍ سعيدة، فلم أنكر سعادتي العجيبة غير المسبّبة ولم أجد إلّا أن أظلّ مكاني، حقيقةً أنا مسلوبة الإرادة أساسًا وليس لديّ أي اختيار.
بعدها دخلت الفتاة وتسند في يدها امرأةً أخرى منهكةً، بدت لي أنّها مريضة أو حديثة عهدٍ بالشّفاء، جلست المرأة على حافة الفراش بمساعدة الفتاة، ثمّ تحرّكت الفتاة مسرعة وأنا أرى ابتسامة سعادة وراحة تحتلُّ كلَّ إنشٍ في ملامحها وهي تهدر بفرحة: حمدًا للّه على سلامتك يا أمّي! حمدًا للّه على شفائك التّام، أقسم لكِ لم أكِلّ أو أملّ كثرة الدّعاء، وأخيرًا تحققت أغلى وأعظم أمنية.
قالتها وهي تسحبني برفقٍ من الشّماعة، ثمّ تحرّكت بي نحو أمّها قائلة: ومن يقيني بشفائك قد أعددتُ هذا الثّوبُ من أجلك، وقمتُ بحياكته بنفسي كما علمّتيني، وقد بحثتُ كثيرًا حتى وجدتُ لونكِ المفضّل، اللّون البنفسجي...
قالتها وهي تساعد أمّها أن ترتديني، كنتُ بحقٍّ في قمة سعادتي وأنا شاعرةً بتلك المشاعر الصّافية الرّائعة، وقفت الأم أمام المرآة وقد أتمّت ارتدائي، فأحضرت الفتاة قنينة صغيرة ونثرت القليل فوقي، فانبعثت منّي رائحة عطر زهرة الياسمين، وما أروعه من عطر!
فعانقتها أمّها ممتنّة وقد اتسعت ابتسامتها قائلة: بوركتِ يا ابنتي وكُتبتِ من سعداء الدّنيا والآخرة.
في هذه اللّحظة والّتي شعرتُ بقيمتها وشاركتهما هذه السّعادة كأنّي لم أتألّم قط، فحقًّا لا قيمة للسّعادة ولا لذّة إلّا بعد الألم والمعاناة من أجل التّغيير الحسن، ولو من أجل ابتسامة...
تمت 🌷
مارس 2022
Noonazad💕💖💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro