٣٣
سبع مرّات تغفر لك ذنوبك:
أستغفرالله الّذي لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم و أتوب إليه.
٣٠٠ فوت/ صوت
****
تعرف ايلا الخيط الرفيع بين الشك والثقة كما تعرف التعرجات في خطوط راحة يدها. و تعرف انها ترقص على هذا الخيط الرفيع تميل تارةً يمين وتارةً يسارًا بين الحدين. لكن ما يثير رعبها فكرة ان تسقط بين هذين الحدين ؛ فهي لا تريد احدهما، فهي لا تريد ايهما. لا تستحق الثقة كما تدرك جيدًا (رغم هدفها النبيل) لكنها قطعًا لا تستسحق ان يشك احدٌ بها. على الاقل قبل ان تعطيه سببًا لذلك، لذا عندما افترقت عن اجاثا تأملت فجأةً السماء من النافذة. كئيبة لحدٍ ما. لكنها تجعلها تشعر بشعور حذر ينتابها من كل شيء حولها. شعور يتجذر عميقًا داخلها، كان مألوفًا لدرجة مزعجة، بأنها تعرف انه عندما ينتابها هذا الشعور، شيء قادم سيحدث لن يعجبها.
كشرت و قطبت حاجبيها تتجاهل انعكاس وجهها في الزجاج وتستعمله لتنظر وراءها عوضًا عن ذلك.
لم يسع ايلا سوى التفكير بما حدث في اسكوتلندا بعناية اكثر، بطبيعة الحال كانت افكارها تجرها الى ايفان بين فينة واخرى، تلعنه لأنه ليس طرفًا ثابتًا بجوارها ، بل يبدوا كما لو انه يستمتع بالقفز بينها و بين عائلته، واحيانًا يتجاهل الطرفين و يختار نفسه. ينظر فقط بينهما و يستمتع بمعاناته وشكها به. دون ذكر كونه متناقضًا لدرجة تدعوا للقلق، حتى انها ترغب في ان تسلمه لجاسبر ليفحص عقله لمصلحته فقط.
مع ذلك امعنت ايلا التفكير بالأمور، تحدق بشرود من خلال النافذة تنتظر عودة جون من المستشفى، و بين فينة واخرى تستخدم انعكاس الزجاج لتتصيد من ينظر اليها. منذ حديثها مع اجاثا مذ ساعةٍ تقريبًا. كانت الخادمة التي تحوم حولها كما لو انها تتوقع منها شيئًا، و لا تدري ايلا ما سبب ذلك، لكنه ضاعف الشعور الواخز في قلبها، وهذا الشعور لا يكذب ابدًا ، اخيرًا ضاقت ذرعًا و التفتت اليها تبتسم بلطفٍ مزيف، لا يحتاج المرء ان يكون خبيرًا ليدرك زيفه "هل تريدين شيئًا؟"
"...لا." كان رد الخادمة مرتبكًا، مصدومة حتى من انها تتكلم معها هكذا، فكانت ايلا منذ مجيئها متحفظة و هادئة لا تظهر تعابيرًا غير ابتسامتها الودية و الصادقة عندما تقع عينها على اخوها، استعادة السيطرة على نفسها و اجابت بسرعة "لا."
محت ايلا تعابيرها المزيفة -التي بصدق لم تبذل اي مجهود لجعلها مقنعة- وعبست بشراسة وقلة صبر "ما الأمر اذن؟"
"لا شيء، انا اقوم بعملي."
"ظننتك عكس ذلك من حومك حولي طوال الوقت، اعذريني، لا تجعليني اشغلك اذن." و ثبتت نظرها مجددًا للنافذة.
على الاقل قالت الخادمة الحقيقة وهذا ما وجدته مسليًا بطريقة ملتوية. كيف انها حقًا تقوم بعملها عن طريق مراقبتها لا القيام بما يفترض به ان تفعله. ليست ايلا بليدة كي لا تنتبه لذلك، اجاثا بنفسها لمحت لها بتعابير قاتمة، وهي بدورها حرصت على ان تدع ايًا كان يراقبها ان يعرف انها تعرِّف. تأملت ايلا اوراقٍ برتقالية تتساقط من الشجرة العارية. اخر اوراق الخريف جرفتها الرياح بعيدًا. معلنة دنو الشتاء باقل من اسبوع او نحوه اذا ما تخنها ذاكرتها. ديسمبر في فرنسا سيكون لطيفًا مع والدها الروحي. حسمت امرها على اية حال. يجب ان يدركوا انها ليست وحيده ولن تكون وحيدة ابدًا، وان لديها عائلة اخرى في مكانٍ اخر. و سيكون من اللطيف اكثر لو تختطف جون ايضًا، تدفنه اسفل البطانيات امام المدفئة و بين فراء الكلب جوي. و ربما، تخبره بكل شيء مرةً و للأبد لتتخلص من ثقل قلبها.
ابتسمت، ليست فكرة سيئة البتة. لو انها تملك الشجاعة فقط.
نظرت بطرف عينها، كانت الخادمة الآن في الغرفة المقابلة تمسح الغبار عن الكتب المصفوفة بعناية، رفيقتها لا اثر لها في اي مكان. نظرت ايلا لمرةٍ اخيرةٍ في الأفق الداكن وهمست "ليكن اذن." و استدارت ، وقالت بصوتٍ عالٍ للخادمة التي تراقبها الآن بتيقظ بطرف عينها "انا ذاهبة لأنام عندما يعود جون ايقظيني، حسنًا؟"
استرخت الخادمة 'جين' كما سمعت مرةً نايت يدعوها، و هزت رأسها "حسنًا يا سيدتي."
لم تكن ايلا ملمةٍ في علم النفس كما حال ڤاي، و لا كجاسبر مثلًا بما انه طبيب نفسي معتمد بين الاثنين، لكنها تعرف يقينًا ان الخادمة استرخت بمجرد ان قالت ما قالته ولا تحتاج لخبير ليخبرها بخلاف ذلك. كانت كما لو ان ايلا حمل ثقيل تخلصت منه وكان من الافضل ان يبقى محبوسًا في غرفته حيث تعرف انها ستبقى هناك بدلًا من تتبعها يمينًا و يسارًا،
كما لو انها طفل هي مجبرة على مجالسته ومراقبته.
هذا أكدّ شكوكها، كان احدهم يراقبها، وتساءلت ماذا فعلت بالضبط لتستحق هذا؟ لا بلايك و لا ادوارد اظهرا لها شيئًا. لكنها لم تكن لتستبعدهما ايضًا، بلايك بعد شجارهما ربما يظن انها تنوي ان تفعل شيئًا مثلًا، و ادوارد، بشخصيته التي لن تفهمها ابدًا يضع عينًا عليها. لكن لماذا ليضع عينًا عليها وهي لم تعطه سببًا حقًا ليفعل ذلك؟ عدا انه يصعب على شخصٍ مثله ان يفوته الجو المشحون بينها و بين بلايك المتصاعد مؤخرًا والذي لم يكن سببه جون بشكلٍ رئيسيٍّ على ايةِ حال.
بحثت عن الخادمة الاخرى و هي تحاول تذكر اسمها. انه على طرف لسانها لكنها فقط لا تستطيع التقاطه. افترضت ايلا انها ربما تكون تفتش في اغراضها او تحوم حول غرفتها بينما الاخرى تضع عينًا عليها. ولم تستطع ان تمنع وسوستها على الاطلاق عند هذا الحد. لكن في طريقها توقفت تمامًا في مكانها. كانت الخادمة عكس ظنونها لم تكن في غرفتها، لكن في الرواق الذي يقود الى غرفة جون وفيما يبدوا قد خرجت لتو تحمل معها كيسًا صغيرًا و علبة عصيرٍ غازيٍّ فارغة.
عندنا صادفت ايلا ابتسمت تحييها بإيماءةٍ و تجاوزتها. بقيت ايلا واقفةً في مكانها تنظر الى الخادمة المبتعدة ثم الى الباب، تشعر بالسذاجةٍ الآن
"هل اصحبت مهووسةً كما توقعت ڤاي؟" تمتمت بحرج، لكنها سرعان ما فردت ظهرها بعنادٍ وهمست "تبًا لهذا، حدسي لا يخطئ ابدًا." والتفتت الى غرفة جون تفتح الباب.
كانت الغرفة ترقد في سكونٍ مميت. لا ضوء سوى من النوافذ المشرعة، يهب نسيم خفيف الى داخل الغرفة. دخلت ايلا واغلقت الباب برفقٍ وراءها. ثم نظرت حولها بتمعن، كانت الغرفة منظمةً تنظيمًا مرضيًا، كما لو ان صاحبها مهووس بالنظافة، وهو ما افترضت ان جون كذلك اصلًا. لكن النظر الى الطاولة القصيرة قرب السرير جعل سخريتها عالقةٍ في حلقها. كانت فوضوية، مجموعة من الادوية متموضعة بتنظيم على احد اطرافها، و على مساحة معظمها جهاز لوحي و كتب و آلبوم الصور، وحتى قلم او اثنين.
جسلت على طرف السرير، تسحب الآلبوم بلطف تداعب الغلاف الذي كانت قد اختارته بعنايةٍ منذ اسبوعٍ او نحوه.
تتذكر ملامحه عندما رأى ما هي هيئة هديتها. حساسة و حزينة. قاذتها الفكرة لتفتح الآلبوم بشكلٍ عشوائي تجول بين الصور تبحث عن وجهه وهو اصغر سنًا و اقل همًا. لكن عينها وقعت عوضًا عن ذلك على صورة لجوليا، تبدوا امها فيها اكثر حساسيةٍ من اي صورةٍ اخرى. قابلة للكسر، عادةً من تكون في الصور الملتقطة تنظر الى نقطة بعيدة تضفي غموضًا على نفسها دون ان تدرك ذلك، جوليا دائمًا ما تشع من حولها هالة داكنة من الغموض تجعل الناظر لها يحبس أنفاسه في ترقب او تأمل، وجهها وهالتها يسترعيان الاثنين على ايةِ حال.
او تكون منشغله بالتحديق في زوجها أو ايًا من يكون معها بشبح ابتسامة و تعابير على قابلة للقراءة. في هذه الصورة كانت تقف وراء حانةٍ مألوفةٍ في قلب ليون المشعة اسفل اشعة الصيف الحارة ، شعرها مجتمع في ظفيرةٍ سميكةٍ على كتفها العاري، وابتسامتها ناعسة و كسولة كما هي دائمًا، بينما الشمس تغمر وجهها و تضفي لونًا غنيًا على شعرها يشابه أوراق الخريف البرتقالية و يجعلها اكثر توهجًا
"اعتقد انني اصبحت موسوسة حقًا يا أمي، ڤاي دائمًا ما تخبرني انه سينتهي بي الأمر كذلك. وانا الحمقاء كنت اسخر منها و لم اصدقها. والآن ها انا ذا، انظري الي، موسوسة يقودني غضبي الأعمى وعنادي اللعين .. كأنني سيزيف لا اجد نهايتي التي اسعى اليها."
جوليا المبتسمة بكسلٍ في الصورة لم ترد. وكأنها اكسل من ان تفعل ذلك. لكن شيء في نظرتها خيل لآيلا انها مؤنِب يخبرها ان تنتقي ألفاظها.
"اسفة يا أمي. هذا تأثير بلايك."
تتنهدت ايلا بإحباط، حدقت للحظاتٍ على الطاولة مجددًا بتكشيرة. اجتاحتها رغبة في ترتيبها لتماشي تنظيم الغرفة. وبدت الفكرة افضل من التحدث كالمجنونة مع صورة أمها.
التقت كتابين و صفتهما فوق بعضهما بعناية. ثم و ضعت القلم في دفتر الملاحظات الذي لم تستطع ان تقرأ حرفًا مما كُتِب فيه، لأن خط جون لا يُقرأ. ووضعت الدفتر فوق الكتابين ليكون في متناول اليد بسهولة. وعندما التقطت يدها علبة الدواء تساءلت ايلا ما نوع الأدوية التي يأخذها جون، كان ايفان يقول شيئًا عن مشاكلٍ في القلب. عن تشنج اوقف قلبه وجعله ميتًا لدقائق قليلة. جعلتها الفكرة تقشعر من رأسها حتى اخمص قدميها، ان تفكر بالموت شيء، ان تفكر بجون وهو يلاقيه شيءٌ اخر تمامًا.
فتحت العلبة تنظر الى الأقراص البيضاء الدائرية، ثم الى الاسم على العلبة
"فيراباميل، ما هذا؟." جالت بأعينها على الكتابة على العلبة التي لم تقل الكثير عن ما هية الدواء سوى تعليمات ابعاده عن الاطفال و اخذه بوصفةٍ طبية و مكوناته، وهذا لم يرضي فضولها. سحبت هاتفها ونقرت الاسم في خانة البحث، جالت اعينها على الاسطر قبل ان تعلو نظرة كئيبة وجهها. ما قرأته قتل فضولها كليًا. لم تعد تريد ان تعرف لأي درجةٍ أخوها كان عليلًا، كان اكثر راحةً لها ان تتخيله مصابًا بالحمى فقط او شيء كهذا، ولاشيء اكثر، لكن قراءة شيء جدي كموسع اوعية دموية و علاج ضغط الدم اثار اكتئابها. يؤلمها ان أخوها الشاب اليافع يأخذ اشياء كهذه.
فجأة توسعت أعينها و ارتجف الهاتف بيدها. رمشت عدة مراتٍ تستوعب ما رأته، و بعجل فتحت الصورة بالمقال تنظر الى الأقراص البيضاوية البيضاء.
ما داخل العلبة كان اقراصًا دائرة بيضاء.
ما داخل العلبة لم يكن فيراباميل.
جون طوال هذه المدة لم يكن يأخذ دواءه الصحيح.
جون طوال هذه المدة كان يأخذ شيئًا اخر. جون الأحمق ، كان يتعمد (؟) أن يأخذ شيئًا أخر؟ أم كان جاهلًا؟ جون الأحمق...
حبست انفاسها تعد للعشرة لأنها بدأت تذعر
قلبها دق في صدرها بعنف ولم تستطع منع نفسها من سكب الاقراص على ملاءة السرير، كانت كلها دائرية بيضاء.
فلعنت ايلا اسفل انفاسها ويدها ما تزال ترتجف تنقر بأصابع غير ثابتة تبحث بين الصور عن اي نوع فيراباميل ربما يحمل نفس الشكل. لكن لا. كانت العلبة البيضاء والزرقاء تحمل بداخلها شكلًا واحدًا فقط : اقراصًا 'بيضاوية' بيضاء.
"جوني.. ياللهي، ايها الأحمق." لم تعرف ماذا تفعل، و نظرات امها المسلطة عليها وكأنها تلومها جعلتها ترتجف في مكانها اكثر وتغلق الآلبوم بعصبية لتوقف سيل النظرات الجارحة.
"فكري فكري" بهستريا قالت لنفسهازلنفسها وهي تهب واقفة تمشي جيئةً وآيبة. قبل ان تتوسع عينها مجددًا عندما عاد بعض الصواب اليها. امسكت بالهاتف مجددًا تأخذ احد الأقراص الدائرية تتفحصها، كان هناك اسم منقوش على سطحها 'زاليبلون'
مجددًا كتبت الاسم في البحث و بترقب انتظرت المقال ليظهر لها. عيونها جالت على الاسطر بتسرع و هدأت نبضات قلبها على حين غرة تشعر بنفسها تسترخي قليلًا، ايًا كان ما توقعته، لم تتوقع هذا "علاج للأرق؟ لماذا؟ لا افهم.. ما المغزى من اخذه بدلًا من العلاج الحقيقي، لماذا يحتاج احد الى التبديل بينهما؟ لماذا يبدل بينهما اصلًا؟"
بقيت ساكنة في مكانها للحظة، ثم عادت لتفقد الادوية الاخرى والتي كانت هي نفسها دون تزييف أو تبديل.
العديد من الاسئلة هبطت عليها. تحتاج الآن ان تصل الى طبيب يخبرها بمضاعفات اي من هذا. تحتاج الى ان تعرف اذا كان اخوها الاحمق الانتحاري يفعل ذلك بنفسه ام ان احدًا يفعل ذلك له. و اذا كان احد الخيارين التاليين حقيقيًا ،فليساعدها الله، لأنها هذه المرة لن تكتفي بصفع احدهم
اخذت علبة الدواء المزيفة وهبت واقفة الى الحمام لتتخلص منها. صارت تنظر الى الاقراص تدور في دوامة في المرحاض قبل ان تختفي بتجهم. عندما اعادة كل شيء الى خرجت من الغرفة بهموم اثقل على كاهلها. و وضعت ظهرها على الباب تغمض عينيها و تنظم نبضات قلبها المتسارعة.
"ايلا. ماذا تفعلين عندك؟."
فتحت عينها.
كان يقف امامها تمامًا بتعابير قلقة. لم توقف نفسها على تأمله بمرارة. ما تزال هناك سواد اسفل عينيه، وجهه شاحب وهناك شيء ما خاطئ بشأنه لاحظته الآن، لكنها لا تستطيع ان تضع اصبعها عليه. كان كسولًا بوقفته يحاول دائمًا ان يعيد النشاط الى نفسه، كان دائم السرحان حتى معها. كان يصمت فجأة عندما يتحدث وكأنه يتذكر شيئًا مفاجئًا لا يدركه غيره ثم يدكن وجهه.
قبل ان تفتح فمها سأل "هل انتِ بخير؟ هل تريدين الجلوس؟ لا تبدين بخير."
"سأقول نفس الشيء عنك."
"لا هذا وجهي الطبيعي ، انا لا ابدوا بخير ابدًا على ايةِ حال.. تعالي اجلسي." امسك بيدها يسحبها، لكنها امسكت بيده وبقيت واقفة في مكانها تنظر الى يديهما معًا
رفع حاجبه بعجب "ما الأمر؟"
"اعتقد انني...لست بخير، لنخرج، اريد ان اتنفس..لا يمكنني التنفس هنا."
"اي مكان تريدينه، هيا." جرها مجددًا. بجهدٍ اكبر لأن خطواتها كانت ثقيلة كما لو انها تحاول ايقاف نفسها عن السير. كان البستاني يشذب اوراق الشجر بالحديقة دون ان يلقي لهما بالًا وهما يسيران بجواره ليجلسا في مكانهما المعتاد على النافورة.
واجهها اخيرًا يضع كفتيه الكبيرتين على كتفيها ليحجزها في مكانها "ماذا الآن؟" قال بالفرنسية ليحافظ على خصوصيتها، لفتة لطيفة ادفئت قلب ايلا ، مما جعلها تتأمل فيها قليلًا، في لكنته. فيه هو نفسه، في عطفه و قلقه و حبه و بالطريقة التي يظهر فيها هذه المشاعر كلها. لا تتخيل ان تفقد ايًا من هذا لأي احدٍ كان او لأي سببٍ كان و لا لنفسها. لن تسمح بهذا، ابدًا
"انت أخبرني."
بدا محتارًا من عبوسها المفاجئ وغضبها و قال بصدق
"انا لا افهمك، اخبرك بماذا؟."
"هل تفكر بقتل نفسك بالنوم الى الابد مثلًا؟ لا اعلم، شيء كهذا"
نظر لها بعجب و بحيرة ثم انفجر ضاحكًا لدرجة ان البستاني ترك عمله ونظر لهما يبتسم من ضحكته القوية والحقيقية جدًا. حتى ايلا وجدت شفتيها ترتفعان الى الاعلى قليلًا تتأمل جمالها مفتونة.
"هل هذا لأنني انام كثيرًا؟ انه من الادوية اللعينة، هاري يقول ان هذا ليس طبيعيًا حقًا لكنه يفترض ان السبب بي أنا. على ايةِ حال انه يقول انه شيء مؤقت حتى يعتاد جسدي عليها ثم سيصبح لدي مناعة من تأثيرها الجانبي او شيء كهذا. صدقيني انه يزعجني بقدر ما يزعجك..انا ايضًا لا احب ان انام يومًا كامل و استيقظ في الثالثة صباحًا بلا شخصٍ حولي ولا عمل لاقوم به."
"من هاري مجددًا؟."
"هذا طبيبي."
"ظننت ان العم ويليام هو طبيبك."
"لا، انه فقط يحب ان يلقي نظرة بين فينة واخرى. انا مسؤولية هاري.. على ايةِ حال، هل هذا فقط كل ما في الأمر؟"
"انظر جوني." سكتت فجأة لا تدري ماذا تقول اسفل نظراته المسلطة عليها بترقب و فضول ، فتحت فاهها واقفلته ترتب الكلمات جيدًا. "الأمر فقط انني اشتاق لك ولا اجدك حولي. ولا احب التفكير بأنني لن اراك مرةً اخرى. هذا يقتلني."
"لن ترينني مرةً اخرى؟ اليست هذه مبالغة كبيرة."
"فقط عدني، ايًا كان الأمر لن تتركني ابدًا."
تلاشت ابتسامته المتسلية الآن حقًا وقال بجدية "الموت فقط هو من سيأخذ احدنا عن الأخر. لن اسمح لنفسي ان اتركك ولن اسمح لك بأن تتركيني، انتِ عالقة معي الآن و دائمًا."
"عدني بذلك."
"فعلت لتو، اعدك."
"جيد."
"هذه طريقة غريبة في التعبير عن الحب لكن، ليكن، لم اكن اظن انك طبيعية على ايةِ حال."
ربت على كتفيها برفق. و سألته "اين كنت طوال اليوم على ايةِ حال؟."
"مغامرة صغيرة. اولًا كنت في المستشفى لأن ويليام ارادني. ثم زرت جايك وبعدها قابلة احد اصدقائي"
"وماذا حدث في المستشفى؟"
تثائب جون وهز رأسه بملل "لا شيء."
عبست ايلا تشاهد تعابيره الكسولة وهو يحدق بالسحب فوقهم بعينين نصف مغمضتين "اتعلم؟ انا اقول ان هذا هراء."
"ماذا؟" اخفض نظره لينظر اليها بحاجبين متصلين من انفعالها المفاجئ "ما الأمر معك؟"
"انت! لماذا تثاءبت الآن؟"
"انه شيء معتاد عليه، لا اراديًا.." مشوشًا نظر لها غير مدرك ما خطبها "المعذرة، هل اسأت لك بطريقة ما؟"
"لا، اقول ان هذا هراء.. لماذا تتثاءب طوال الوقت وتنام طوال الوقت وتستلقي في كل مكان حولك، حتى دانتي لا يفعل ذلك.. انا اقول ان هذا هراء، لابد ان هنالك مشكلة مع طبيبك هذا. هيا بنا اليه." ونظرت بتردد الى وجهه وهو يبدوا مذعورًا من طلبها المفاجئ "وايضًا... على ذكر ذلك، منذ مجيئي الى هنا دائمًا ما اخبر نفسي انني يجب ان التقي بجايك، لكنني لم افعل ذلك. اي اخت سيئة اكون يا ترى؟ ماذا تظن انت عني وماذا يظن جايك عني؟ اللعنة على هذا، احتاجك بجانبي عندما اقابله لانني لا اعرف كيف اعتذر كما يجب."
****
ايميلي ذات الستة والعشرين عامًا كانت فتاة شقراء لا يمكن وصفها بأنها محظوظة بما فيه الكفاية، بعد طلاق والديها في عمرٍ صغيرة ورفض الاثنين الاحتفاظ بها و تقديم الرعاية اللازمة كأي والدين طبيعين، هما كانا يرميانها على بعضهما في اقرب فرصة. حتى انتهى بها الأمر في كنف جدتها لأمها. أمرأة لا يمكن وصفها بأنها 'رقيقة' ابدًا، كانت جدتها متصلبة الأراء و صعبة المراس. لكنها الشخص الوحيد لدى ايميلي. وهي تحبها بكل بذرة فيها.
جدتها، بارك الله روحها الطيبة. اقنعتها على ان تسلك مسار الطب. لأنها في رأيها من أنبل المهن واكثرها حساسية. تتفق معها ايميلي. غير انها لا تريد ان تحبس في دوام كارثي متعبة و مسؤولة عن حيوات اناسٍ اخرين طوال الوقت.
لكن ينتهي بها الأمر ترضي نفسها وجدتها واصبحت ممرضة -بطريقة ما، بسبب معارف جدتها، اصبحت ممرضة في اهم مستشفى خاص في لندن- كان الدوام دائمًا اقل ازعاجًا مما توقعته. وربما تجروء على وصفه بأنه قد يكون مريحًا حتى. فقرتها المفضلة في اليوم هي عندما تستمتع بمظهر الوسيم الاشقر وهو يدلف الى غرفة -من عرفت بعد بذل جهد بسيط في استمالت ممرضة اخرى- بأنه أخوه، وهو رجل وسيم اخر ، لا يشبهه تمامًا، لكنه وسيم ايضًا، في غيبوبة طويلة الأمد منذ اتت الى هنا وسمعت من باقي الممرضات انه هنا منذ اكثر من عقد ربما
كانت ايميلي دائمًا تتأمل بصمت وهي تشرب قهوتها، بعدما ان تنتهي من تحريك عضلات مريضها في الغرفة ٣٠٢ ، المسمى بـ جايك سالفاتور، والذي كما اتضح يعد فردًا من العائلة المالكة للمستشفى.
توصلت الى شيءٍ واحدٍ فقط، كان وجه جون رغم جاذبيته ووسامته، من اكثر الوجوه كآبةً التي رأته في حياتها كلها. كان في ايامٍ يدلف اليهم بأصابع مرتعشة و وجهٍ كالح كشخصٍ قد استيقظ من كابوس للتو. و احيانًا كان يمشي بتلقائية فقط دون ان يحيي احدًا و دون ان يرتدي تعابيرًا على وجهه. له ملامح عابسة طبيعيةٍ على ايةِ حال، لكن لا يمكن وصف تعابيره بالعبوس لحظتها. تساءلت ايملي بصمت. لماذا يأتي الى هنا كل اسبوع؟ لماذا لم ييأس بعد من اخيه؟ و لماذا -فوق كل شيء- لا يزور المريض في الغرفة ٣٠٢ الا هو؟ رغم انها تعرف جيدًا ان جميع العائلة أحياء معافون يمارسون حيواتهم كما هي، واحيانًا حتى ينتهي بهم الأمر في هذا المستشفى لسببٍ او لأخر، لكن ابدًا لم يأتوا لرؤية المريض في الغرفة ٣٠٢.
العديد من الاسئلة تجول في بالها. كانت تدرك شيئًا واحدًا فقط، انها تملك احترامًا يمنعها من التواجد لحظتها في المكان نفسه مع الاخوين. لأن ما بينهما شيء مقدس لا يمكن ان يلوث بالأعين المتطفلة، وقطعًا لن تكون هي الشخص المتطفل، في ذلك اليوم، كأي يومٍ اخر. دخلت ايميلي غرفة المريض في الغرفة ٣٠٢. ونظرت الى وجهه الساكن، كان له لحية خفيفة الآن، وشعره طال مجددًا. مما يعني ان المسؤول عنه في الدوام الليلي أخلف وعده بالحِلاقة له كما قال انه سيفعل، وهي بطبيعة الحال ليست جريئة بما يكفي لتضع موسىً على رقبةِ أحدهم. و لا تملك حتى خبرةً في الحلاقة. لذا ما عليها سوى ان تمسك به وتخبره مجددًا ان عليه ان يحلق لمريضهما.
تنهدت و شرعت ببدأ روتينها اليومي معه. كان اخوه قد زاره سابقًا فلا مجال لأن يأتي مجددًا ، لأنه رغم استمراره بالمجيئ لا يأتي الا مرةً واحدة كل اسبوع، واحيانًا مرتين، لكن لا يأتي مرتين في اليوم الواحد، على الاقل حسب ملاحظتها منذ ان توضفت هنا، غطت مريضها مجددًا وخرجت من الغرفة تعود الى فنجان قهوتها القابع على طاولةٍ قصيرة مع باقي أوراقها، كان الفنجان باردًا الآن، لم يبقى سوى نصفه، حدقت به قليلًا تتأمل تكوم البن في قاعه و على الحافة حيث التقت شفتاها بالزجاج ، وحينها، عكس ما توقعت تمامًا ، بطرف عينها انتبهت لشعر الاشقر و الهيئة المألوفة
جاء الرجل الاشقر لمرة الثانية في هذا اليوم، السالفاتور ايًا كان اسمه. كان هناك شيء مختلف بشأنه لم تستطع وضع اصبعها عليه. لكنها حينها ادركت وبسرعة ان ما اثار استغرابها هو الفتاة بجانبه ممسكة بيده تجر خطواتها جرًا الى الغرفة ٣٠٢
في هذا اليوم ، ولأول مرةٍ منذ ان توظفت هنا، زار شخصٌ اخر ، ليس الشاب الأشقر، المريض ٣٠٢
***
تعرقت راحة يدي ايلا، التي يحتفظ فيها جون بيده، كان مستمتعًا لحدٍ ما بمدى توترها و لم يفعل اي شيءٍ لتخفيف منه.
دارت عينيها في المستشفى بوجوم. حتى توقفوا اخيرًا امام الغرفة رقم ٣٠٢.
"جاهزة يا ايلا؟."
اخذت ايلا نفسًا عميقًا زاد من تسلية جون، وهزت رأسها "نعم."
فتح جون الباب. الضوء اعماها قليلًا. لتدرك بأن النافذة مفتوحة يتسرب منها هواء لطيف، دلف جون اولًا. يجرها معه، كانت يده الآن تقبض عليها برقةٍ مفرطة جعلت انتباه ايلا يتحول الى الاصابع الملتفة على يدها للحظات. لم تدري ايلا ماذا توقعت ان ترى بالضبط. لكنها حبست انفاسها وهي تشاهد الرجل على السرير. لوهلةٍ اولى كان شعور الرهبة مجددًا يثيرها بالغثيان بشدة. ذكرها بأول مرةٍ عرفت فيها عن عائلتها وعن قصة والديها، وعن تعابير وجه ابوها المستنكرة والكارهه عندما رأها اول مرة في نفس هذا المكان بالضبط قبل ثلاثة اشهر، ابتلعت ريقها. كان جون لطيفًا بما يكفي ليسحبها برفقٍ مجددًا و يقفان امامه
"ايلا، جايك.. جايك، هذا هي ايلا."
كان جايك كما توقعت ايلا تمامًا نسخة اخرى من بلايك ، لم يصعب تخمين ذلك نظرًا الى انه صورته وهو اصغر سنًا يبتسم بمشاكة لأبوهما المتململ منه تومض في رأسها الآن، بلحيةٍ خفيفة تغطي وجهه. و شعر اسود كثيف كريش الغربان. كان نسخةً شابةً واكثر ضمورًا من بلايك. لم تدري ايلا ماذا تفعل او تقول ، وخرج صوتها مرتجفًا من اعماقها "مرحبًا جايك..سعدت اخيرًا بمقابلتك."
دون ان تدرك كانت يدها تمتد الى شيء ما في وجهه. ربما حاجبيه، كأنه تصوير اخر لبلايك ارادت ان تحل عقدة حاجبيه، عدا ان جايك لم يكن معقود الحواجب كوالدهم. كان ساكنًا فقط، بلا تعابير. كأي شخصٍ نائم. مع ذلك لم تترك يدها معلقه في الهواء. لمست وجهه، وجنته خشنة بسبب الشعر القصير المتنامي ، ثم انزلقت الى الاعلى لتلمس عينه المغلقة بشرود. لم يكن صعبًا ان تبتلع دموعها. لكنها نجحت بعد كل شيء. امسكت اخيرًا بيده الثقيلة وعانقتها بقوة تجلس على طرف السرير تكرر مجددًا "مرحبًا جايك. انا اختك."
راقب جون المشهد بلا تعابيرٍ للشخص الناظر، لكن اذا امعن النظر فيه فسيكون من السهل مراقبة لين حواجبه و شبح ابتسامة على شفتيه، لكنها ليست ابتسامة سعيدة ولا حزينة. شيء غريب لم يكن يدرك انه يحمله في صدره. في الصباح كان مستمتعًا بفكرة اغاضة ايلا بالقيادة الى هنا، لأنها طوال الطريق كانت تلعن و تصرخ عندما استوعبت انه لا يجدر به ان يقود من الاساس. اما الان، اختفت متعته، كان يشعر بالخواء يمزقه من الداخل. عدم الشعور بشيء لم يكن شعورًا جديدًا، لكنه شعورٌ مقيت.
لم يكن على الامر ان يكون هكذا، لم يجدر بأيٍ من هذا ان يحدث، عندما يفكر في الأمر مليًا يلعن نفسه و كل لحظةٍ قفز فيها مع جايك يطلبان من والديهما ان يسافرا الى لندن هذه. لو بقوا، ربما لم يكن ايًا من هذا ليحدث. لو بقوا في ديارهم كانت لتبقى -ربما- أمهم معهم. وكان ليكون جايك -ربما- بخير ، وكانت لتكبر آيلا -ربما- معهم.
كم كرِّه كلمة ربما حينها. كم كرِّه نفسهُ وكرِّه بلايك وكرِّه عائلته المنافقة كلها بلا استثناء. كم كره نفسه اكثر من اي شيءٍ أخر
"هل تدرك ان جون تقنينًا كسر القانون و قاد بنا الى هنا وهو تحت تأثر ادويته، والتي بالمناسبة تصنف كمخدرات؟ لكنني لست غاضبة منه الآن، ليس بسبب ميولي الانتحارية طبعًا، احدهم كان عليه ان يفعل ذلك منذ اتيت الى هنا، فأنا أجبن من أن أتي بنفسي بعد كل شيء."
هذه المرة لم تستطع ان تكتم دموعها. ولا ان توقف رجفة صوتها. الأمر فقط يبدوا خاطئًا بكافة المقاييس، شيءٌ ما داخلها تصدَّع.
مسحت بخفة دمعةً انزلقت على وجنتها و تابعت تهز رأسها بسخرية تتابع "..و بلايك لا يمكنه جر مؤخرته لأن يفعل شيئًا مفيدًا، أما جون بالمناسبة ينام اكثر من اي شخصٍ اخر، اكثر من رضيع حديث الولادة حتى. ناهيك عن نزواته الغريبة في خرق القانون مؤخرًا."
قاطعها جون "ان كنتِ تحاولين ان تألبي أخي علي فقد فشلتي. جايك دائمًا ما يشجعني على التمرد.."
"هذا يفسر الكثير، دماء رجال هذه العائلة ليست طبيعية كما تقول العمة اجاثا."
"لا ادري ما هو رأيي بتوطيد علاقتك مع اجاثا. لكن فقط حبًا بالله لا تطيعي افكارها."
ضحكت ايلا بشدة اكثر مما يجب. لا يدري جون ما بينهما. لكن كما لو ان غريزته السادسة اخبرته. نظر لها متعجبًا من انفجارها المباغت و لكنه ابتسم ايضًا ثم تقدم اخيرًا يطرد الشعور الغريب في صدره، وجلس على الطرف الاخر من السرير. توقفت نوبة ضحك آيلا الهستيرية والتي ربما كانت بسبب تلف اعصابها اكثر من الجو المشحون نفسه، لكن هذا لا يمنع من متعة التفكير بأن جون شم رائحة المصيبة قبل ان تحدث دون ان يدرك حتى. ثم صمتت تمامًا. حط بينهم صمتٌ مريح. ينظران مبتسمين بخفةٍ الى اخيهما الأكبر بينهما ، امسك جون بيده الحرة ، يقترب منه حتى يصبح بين وجهيهما عدة انشاتٍ قصيرة ، و همس بصوتٍ خفيف "اعلم انني كنت احوم حولك قبل ساعتين لكن ها انا ذا عدتُ مجددًا ومعي ايلا كما وعدت. اشتقتُ اليك، كما افعل كل يوم وكل ساعة، وكما سأفعل الى أخر يومٍ في حياتي.. الحال كما هو لكنه اقل كئابة مؤخرًا، او لا ادري، يصعب التمييز مؤخرًا."
عندما قال ما قاله. لا شيء في العالم لحظتها يمكنه ان يجعل ايلا تبتسم ابدًا. خيمت الكئابة ثقيلةً على قلبها، شعورًا كريهًا كما شعورها بالعجز من عدم مقدرتها على ان تخفف على جون ما يعيشه. بالطبع لا تقارن نفسها بين الاثنين، على عكسها جون عرف طعم هذه العائلة ولو لفترة قصيرة. هو لعب مع جايك. هو كبر معه، وهو من عاش فقده.
عكسها هي التي تراه لأول مرةٍ اليوم. مع ذلك، الشعور كان كريهًا وصادقًا جدًا لدرجة انها رغبة بالانفجار بالبكاء. و تماسكت. عندما رفع جون رأسه اليها بخجل وندم مما قاله. فتحطمت كل حصونها وبكت بقوة.
جفل الشاب مقابلًا لها ببلاهه. ثم قفز من مكانه ليذهب اليها ويجلس بجوارها "اللهي، اللعنه علي يا ايلا. اللعنه علي. لم اقصد هذا. انا لا اعنيه حقًا." و تمتم اشياءً اخرى لا تدري ما هي لان صوت بكاءها كان اقوى. تلطخ قميصه بالدموع و بالماسكرا. حتى هدأت بعد خمس دقائق ونظرت اليه
كرر مجددًا "لم اقصد ان احزنك يا ايلاي."
ابتسمت بخفةٍ على اللقب الذي اطلقه عليها "اعلم. لكنه شيء جيد ان تخبرني بما تشعر كما تفعل مع جايك، اعدل بيننا ان كنت تعتبر نفسك اخًا جيدًا."
"عندما تخبرينني انتِ انا سأخبرك"
رفعت حاجبها على الرد المفاجئ. وكأنه يشك بشيء ما. وكأنه يبحث عن شيءٍ في عينيها يدينها، لكن عقل ايلا الموسوس لم يكن يستوعب انه فقط يحبها اكثر من اي شيءٍ اخر وقلق عليها. الذعر انتابها و جفلت. لكن يده الثقيلة الآن بقيت على كتفيها تثبتانها في مكانها بحزم ، وقال بقلق "ما الأمر؟"
"...لـ لا شيء."
"حقًا؟"
"... نعم." ابعدت عينيها عنه و لم يرد ان يطيل الأمر، فعانقها بخفة، وايلا ممتنة ان الاتصال البصري بينهما قطع. تستمتع بركون رأسها على صدره الصلب. وعندما ابتعدت اخيرًا عينها وقعت على قميصه الازرق المطلخ بالدموع والماسكرا ، وعبست تتمتم "اسفة."'
لم تتغير ملامح جون ابدًا . وابتعدت ايلا عنه قليلًا، تجيب على سؤاله "احتجت الى بكاء جيد وانت نجحت في ذلك، لا تقلق علي. ضغوط متراكمة، وليس عليك ان تعتذر من شيء. انت ايضًا نفس عن غضبك و حزنك وكل مشاعرك. ان اردت هيا لنكسر سيارة ايفان حتى؟"
"بحق الله ما مشكلتك مع ايفان؟"
"انه بغيض."
"في الواقع انه شخص عظيم بمجرد ان تقعي في جانبه الجيد." كان يخبرها بأدب انها ايضًا لا تروق له كما يبدوا، مما يعني انه لم يفته مشاكسات الاثنين لبعضهما كما ظنت.
عبست مجددًا "هراء. ليقع هو على جانبي الجيد إن استطاع اصلًا."
"ماذا فعل؟."
"ماذا لم يفعل؟ هل تعلم بأنه ايقضني من نومي ليطردني من السيارة وهو يخبرني انني اخرته. ثم حينها عندما فات الاوان ادركت انها كانت سيارتك في المقام الاول، والبغيض ركنها واخذ سيارته. لكنه استعجلني بحده ليزعجني فقط. بغيض."
ابتسم جون، كان هذا قطعًا فعلًا كريهًا كان ايفان ليفعله به لو كان غاضبًا من جون. "هذا فقط؟"
"ايضًا، انه يمتلك الجراءة لأن يخبرني مع من اخرج ومع من الا اخرج. اخبرتك انه بغيض." و التفتت الى جايك بعبوس وكأنها تطلب دعمًا لتثبت صحة كلامها
"عندما كنت اصغر كان يفعل هذا لي ولنايت. ايفان معروف بحمايته المفرطة ستعتادين مع الوقت كما اعتدنا. لكن هذا جيد، هذا يعني انه يهتم بك و يعدُكِ منا. انتِ من القطيع الآن."
"لا اريد ان اعتاد. لا احد يخبرني بما يجب ان افعل، وفي المره القادمة التي يجرب فيها فعل ذلك سألكمه في حلقه، وسترى بنفسك."
"لماذا انتِ شرسة اليوم؟ بدأت تخيفينني."
"على احدنا ان يكشر عن انيابه، ليس ايفان فقط من هو 'مفرطٌ بالحماية' كما تقول، انا كذلك وانا اكثر شراسة منا تتوقع. و عندما يزعجك احدهم مجددًا او يخبرك يما يجب عليك ان تفعل ، خاصة هو ، سألكمه في منتصف وجهه أو أفضل، سألكمه في منتصف حلقه و اكسر له قصبته الهوائية..فقط صدقني."
وهنا كان دور جون لينفجر ضاحكًا بشدةِ حتى سالت الدموع من عينيه وسط تعجب ايلا وشعورها بالخجل.
اخيرًا توقف عن الضحك وجفف دموعه "سأحب رؤية هذا يا ايلا، هل تفعلين هذا لبلايك؟."
فكرت للحظة ثم هزت رأسها بجدية "ربما ألكمه في حلقه لكن لن اكسر قصبته الهوائية تمامًا ، فليام يحبه لهذا السبب سأبقيه بجانبنا لفترة حتى يمل منه."
عاد جون لينفجر ضاحكًا بقوةٍ اكثر ، حديثها عن بلايك كما لو انه حيوان اليف يثير تسليته.
انسحبت برفقٍ من جانبه وابتسمت "ذاهبة للحمام يا جوني انتظرني عندك، احتاج لأن اعدل مكياجي بما ان نصفه مطبوع على قميصك اصلًا."
"لا مشكلة حقًا لا امانع." هز رأسه بلطف و خرجت ، تنظر اليه مرةً اخيرة يعيد انتباهه الى جايك قبل ان تخرج نهائيًا و تغلق الباب. مسحت عيونها ونظرت الى كمها حيث بقعة سوداء من بقايا الكحل. دلفت اولًا الى الحمام تنظر الى انعكاس وجهها في المرأة. لم تكن مريعةً كما توقعت انها ستكون. فقط عينيها ما تزالان ملطختان قليلًا من الماسكرا والتي سرعان ما نظفتها تمامًا ونشفت وجهها قبل ان تخرج مجددًا. لم تكن تريد ان تقابل طبيب جون هذا وهي في حالةٍ يرثى لها على ايةِ حال. شقت طريقها الى الاستقبال مجددًا و نقرت باصبعها لتجذب انتباه المرأة المنشغلة بجهازها
"كيف اساعدك سيدتي؟."
"مرحبًا، انا هنا ابحث عن الطبيب هاري، لا اعرف اسمه الأخير.. هو طبيب أخي، جون سالفاتور واحتاج لأن اتحدث اليه بشكلٍ عاجل."
"الد. هاري في مكتبه، الطابق الثاني يمينًا الغرفة في اخر الرواق.. ستجدين اسمه على الباب."
"شكرًا جزيلًا." استدارت و نزلت السلالم الى الطابق الثاني. لم يكن ايجاد المكتب صعبًا، لان كان الوحيد المغلق بحيث يظهر الاسم واضحًا على الباب. طرقته برفق . وانتظرت لحظةً قبل ان تسمع صوتًا يستدعيها. فتحت الباب لتجد شابًا واقفًا وراء مكتبه يفتش في الادراج عن شيءٍ ما
"مرحبًا."
رفع رأسه اليها بحاجبين معقودين "اهلًا ، كيف لي ان اخدمك؟ لا اعتقد ان بيننا موعد.."
"لا في الواقع. اعذر لي زيارتي المفاجئة، لكن الموضوع لا يحتمل التأجيل او التأخير. أنا ايلا سالفاتور بالمناسبة، انت طبيب أخي جون الشخصي وأنا هنا من اجله."
هب واقفًا من فوره يمد يده ليلتقط يدها الممدودة و يصافحها "هاري مور. سعيد بمقابلتك اخيرًا أنسة سالفاتور."
"الشرف لي."
جلست على المقعد الاقرب حيث اشار لها
"ماذا تشربين؟"
"لا شيء. انا مستعجلة على ايةِ حال."
"بالطبع، ما هي المشكلة؟."
ترددت ايلا فيما ستقوله تفكر. قطبت حاجبيها و قالت "صباحًا. وجدت شيئًا غريبًا في غرفة أخي. لكن اولًا و قبل كل شيء عليك ان تعرف بأنه لا يعرف بأي من هذا ولا يعرف انني هنا. و اظن انك الشخص الوحيد الذي يستطيع مساعدتي. او على الاقل هذا ما أامله." لأن ، ليساعدها الله ان كان هو طرفًا أخر من هذه المهزلة فلن تتوقف حتى تنهي مسيرته مرةً و للأبد.
"ارجوك، انا الآن فضولي..لك كلمتي، لن اخبره بأي من هذا."
سحبت هاتفها ودخلت على تاريخ البحث لتريه المقالتين التي عثرت عليهما "اريد ان اعرف التأثير الذي يتركه استبدال هذا الفيراباميل بمنوم؟ مع العلم، اعتقد انه لم يكن يأخذ الدواء الصحيح من البداية. لأن علبة الفيراباميل استبدلت محتوياتها بهذا الشيء زاليبلون. لست طبيبة، لكنني ادرك ان الابله فقط من يتلاعب بأدويته هكذا."
توسعت عيون هاري. ثم استدار الى كمبيوتره المكتبي بعصبية
"ما الأمر؟"
"انني انظر الآن الى ملف جون. نعم نعم معك حق، الأبله اللعين من من يتلاعب بأدويته هكذا. هل تقولين انه متعمد مثلًا؟ هل بدلها بنفسه؟"
"هذا ليس منطقيًا. أعني، من السهل اخفاء المنوم بعلبته الاصلية في مكانٍ ما على سكب محتويات علبة دواء اخر واستبداله به."
قرأ هاري ملف جون بعناية وقال دون ان يشيح بوجهه عن الشاشة بصوتٍ خفيضٍ حذر "هل تقولين أن احدهم يتلاعب بالأدوية؟"
"لا اقول شيئًا بعد." نبرتها تقول عكس ذلك، كليهما يعرف هذا جيدًا. بقيت هاري للحظاتٍ يحدق بالشاشة دون ان يقرأ شيئًا. عقله بدأ يعمل اخيرًا، يستذكر تململ جون على المقعد الجلدي حيث تجلس ايلا الآن ، يغمض عينيه مغمغمًا عندما يتذمر هاري منه ان يريحهما فقط. يتذكر عندما يسأله عن شيءٍ تحدثا عنه من قبل و يتجهم وجه جون بعبوس لأنه لا يستطيع ان يستحضر المحادثة. عند التفكير بالأمر، حتى نايت سخر مرةً منه في احد المواعييد عن زهايمر مبكرٍ اصابه. وجون صار يحمل معه مفكرةً على ايةِ حال.
"لا لم يكن زهايمر." قال هاري بأدراك مفاجئ ، وضرب الطاولة بقبضة يده فجأة "اللعنة، لا لم يكن."
"ماذا؟."
"نعم، انتِ محقة.. عند التفكير بالأمر، سبب نومه ليس لأن جسده لم يعتد على الادوية بعد. وهذا ما كنت افترضه، لم يخطر في بالي ان شيئًا ما كان يدخل الى نظامه ايضًا. كان يأخذ بدلًا من دواءه منومًا. ولكن ما الناتج؟." كان سؤالًا لا يتطلب منها اجابةً اصلًا لأنه نهض فجأة واقفًا يكمل بعصبية وادراك "ذاكرةٌ قصيرة المدى. ضعف في الادراك والاستجابة، بلادة وكسل..." ثم سكت فجأةً ينظر لها عندما ظهرت الصورة واضحةً اخيرًا لكليهما. وجلس على كرسيه بهدوءٍ و سأل "ولكن لماذا؟ لماذا يريد احدهم ، في حال كان هنالك احد، ولا اوافقك الرأي في نظرية المؤامرة المفترضة، ان يمسح ذاكرته؟"
"عندما تقول نظرية مؤامرةٍ هكذا انت تظهرني بصورةٍ الموسوسة. و هل تعني انه سيفقد الذاكرة؟"
"لا، استخدامي لمصطلح 'يمسح الذاكرة' مبالغٌ فيه، وهو لن يفقد الذاكرة على هذا المنوال، فقط سينسى ماذا فعل قبل ساعتين وماذا اكل على الفطور وماذا حدث بالأمس. اشياء كهذه. قد تكون بلا قيمة. لكن مثلًا اذا كان هنالك محاكمة و سيحتاجونه كشاهد فلن يكون شاهدًا ذي قيمة ولا تعتبر شهاداته، لأن شهداته ستعتبر معطوبةً حينها حتى لو كانت صادقة، ماذا فعلتِ بالأدوية؟"
"في المرحاض. ذعرت وتخلصت منها. اعطني جديدة لأضعها له، من الآن فصاعدًا سأنتبه أنا لها وسأتفحصها بنفسي. اريد ايضًا ان تضاعف الكمية لأنني اريد ان احتفظ بأحتياطٍ في غرفتي في حال -بطريقة ما- الادوية تغيرت مجددًا."
"انتِ حقًا تتهمين احدهم؟." تتمتم تقريبًا لنفسه، بشبح ابتسامةٍ على شفتيه لم ترها ايلا.
"بالطبع افعل، ان اثق بجوني و هو لن يؤذي نفسه عن عمد لأنه يعرف ان هذا يؤذيني، وعندما اعرف من فعل ذلك له سأسحقه بنفسي.." لديها شكوكها على ايةِ حال
"بالمناسبة، سأكون ممتنة اذا لم تخبر احدًا للأن فقط.."
"لا استطيع ان اعدك، يجب ان اخذ عينةَ دمٍ عاجلةٍ لأخوك المهمل. علي ان احرص الا شيء قد حدث بسبب هذه الكارثة غير افتراضاتي."
"لكن لا تخبر احدًا للآن. دعني ارى بنفسي. احتاج لأن اعرف اذا كان احدهم حقًا قد فعل ذلك. و اخبارك لأي أحد قد يفسد امساكي للفاعل بالمجرم المشهود. ليس وكأني اشك في العم ويليام مثلًا، اعرف انه مديرك وانه رجل جيد لكنني لا اعرف ما قد يفعل ... فقط احتاج الى وقت مساحة، هل تعطيني ذلك؟"
نظرا لبعضهما للحظاتٍ قبل ان يزفر بأستسلام و يغمغم "شهرٌ واحد فقط، اذا تكرر الأمر، انا قطعًا سأخبر الد. ويليام من فوري."
"شكرًا."
تبادلا الأرقام بعجل وخرجت من المكتب بخطواتٍ متسارعة. عندما وصلت الى الغرفة كان جون ناهضًا للتو
"اين كنتِ؟ كنتُ قلقًا عليك ونهضت لأتفقدك."
"الماسكرا كانت عالقةً في جفوني، ايًا يكن. دعني اودع جايك و لنعد لدي موعد الليلة قبل ان اغير رأيي." تجاوزته و نظرت الى وجه جايك بتردد، ثم انحنت وقبلت جبينه كما فعل جون "الى اللقاء يا أخي، اراك في وقت لاحق. لنأمل ان المرة الاخرى يكون لقائنا اقل كئابة، ها؟"
****
شاهد ظلالًا سوداء، مجهولة، رجلين وإمرأة يتحدثون. كان يستطيع ان يفهم ما يقولونه، فلغته الانجليزية كانت افضل من لغة اخيه بعد كل شيء. لأنه هو من كان يدرس مع جارهم. هو من كان يتابع مسلسل 'الأصدقاء' الامريكي الملل لأنه اراد ان يتكلم بلغة أبيهم قبله. رغم انه تساءل وقتها بحاجبين معقودين ما الفرق بين الامريكية و البريطانية؟ حتى اوضحت له أمه ان الأمر اشبه بالمقارنة باللكنة الباريسية مع لكنة اهالي القرية.
لكنه في حالته هذه لم يكن يستوعب ما يقال. بدا وكأن المشهد كله ديجا ڤو يعاد تمثيله في دنيا ميتافيزيقية مرارًا وتكرارًا رغم محاولاته العنيدة في ايقافه.
الشيء الوحيد الملموس كان غضبه، غضبه الحقيقي بين كل الاشياء الكاذبة، كان هنالك خيبة الأمل ايضًا. التي كانت تترك شعورًا مرًا في فمه يجعله يرغب بالتقيء حتى لا يبقى شيء في داخله. مع ذلك تابع هذا الحلم الغريب ، لانه ايضًا ادرك ان في هذا المشهد شيئًا ما يفوته، ولا يدري ما هو..
كان في الصالة، ككل مساء يوم جمعة حيث لا يكون لديهم مدرسة ولا لوالدهم عمل ، يستلقي الرجل الضخم على الاريكة، وككل مساء يوم جمعة، يكون اخوه متوسدًا صدره يشخر بصوتٍ خافت. انتظر في مكانه ان يسقط الطفل، لكنه بقي بلا حراك فوق الصدر العريض مسترخيًا و وجهه ملتصق برقبة الطرف الأخر. مجددًا بقي ينظر اليهم بتمعن، و شعور النوستالجيا المرير يجتاحه ويثير قشعريرة كريهةً في اعمق نقطةٍ فيه، وكأنه يتنبأ بوقوع كارثة، وكأن والدهم سـ...
قطع حبل افكاره السوداء فجأةً عندما لاحظ شيئًا في الصالة العاتمة، أو ربما ميز، لا يدرك هل تغير المشهد أم انه هو الذي لم ينتبه ، هم ليسوا في باريس، لا أثر للحرق على السجادة عندما حاول جايك التدخين من وراء ظهر والديه ليجرب فقط الشعور، لا اثر لألعاب جون المتناثرة، ولا أثر للقطة التي ما كانت دائمًا تستلقي اسفل الطاولة هربًا منه. لأنها تبغضه اكثر حتى مما تبغض والدهم -لسببٍ ما-
انهم بلندن الآن، النافذة تطل على مباني بيضاء يغطيها طبقات رقيقة من الثلج الطازج. مشى ولحق الرجلين والمرأة. يسمع حديثهم مجددًا يكررونه. لكنه لم يستطع ان يتبعهم اكثر من ذلك، فأمامه تلك النافذة .. والتي كما ادرك كان خائفًا من الاقتراب منها كيلا يتكرر المشهد مجددًا. كيلا يبتعد كل شيء و لا يبقى سوى صورة بطيئة للسماء والغيوم و جسده يسقط الى الاسفل عاموديًا حتى اختفاء كل شيء. لا يريد ان يعيش ذلك مجددًا. لا يريد ان يبتعد عن اليد التي حاولت التقاطه و فشلت. لا يريد ان ينبض قلبه كما فعل في تلك المرة.
شعر بالعجز يخنقه و لم يستطع التنفس، نبضات قلبه تتسارع بعصبية، كان غاضبًا، لا .... كان يستشيط غضبًا. اراد ان يصرخ لكن كان عاجزًا، ضعيفًا ، بلا حول ولا قوة.
وعندها، ولأول مرةٍ منذ ما يقارب ثمانية عشر سنة، جايك سالفاتور فتح عينيه.
****
في المساء، كان ويليام جالسًا على مكتبه يحدق بأوراقٍ بشرود. خلع نظارة القراءة و ازاحها جانبًا ليدلك المنطقة بين حاجبيه. كان يشعر بالتعب بالاضافة الى انه غاضبٌ من جون ايضًا منذ ذلك اليوم. و شعوره هذا لم يجعله يشعر بتحسن. لكنه يستحق ان يعامله بشدة بين فينةٍ واخرى ليدرك بألا مجالًا للعب وانه حياته ليست رخيصة ليلهوا بها كما يشاء. كان ايضًا يفكر بجدية في عرضه لطبيب نفسي. اقناعه، او حتى تسليط جاسبر عليه ليقوم بالعمل بنفسه.
لكنه ايضًا يفكر بأن هذا لن يروق له اصلًا ، وربما يزيد الفجوة بينهما. عادةً هو شخص لا يهتم. ويدرك ان جون يعرف انه يفعل ما يفعله لمصلحته، هو شخص لا يملك طرقًا ملتوية كوالده مثلًا في اظهار اهتمامه -ان كانت افعال بلايك المتطرفة تسمى اهتمامًا اصلًا- على عكسه، كان ويليام يهتم فقط و يظهر ذلك بكل بساطة. ليس لجون فقط، لإيفان و نايت ايضًا.
الجميع يدرك ان لويليام نقطة ضعف تجاه الايتام بشكل خاص. حتى لو كانوا هؤلاء الايتام اغنياء و يملكون كل ما يحتاجون اكثر من اي شخصٍ اخر في الدنيا. دائمًا ما يكون شعور النقص بألا يمتلك المرء لأب او لأم مريرًا و لا يمكن تعويضه، هو كطفلٍ عاش يومًا بلا أمٍ بنفسه يعرف ذلك جيدًا اكثر من غيره. كان ايضًا لا يمكنه ان يرفض طلبًا لهم عندما كانوا اصغر سنًا، فعندما يأتيه نايت بشقاء طفولي يخبر فيها انه لم يحضر الى المدرسة و يريد عذرًا حقيقيًا لكيلا يتصل المدير بوالدته، يعطيه الورقة، و يتصل بنفسه بالمدير ليحيل بين ذلك، لكنه قبل كل شيء يعطي الفتى حصته المستحقة من التوبيخ و التهديد و العقاب حتى.
وفي النهاية لا يخبر اليزابيث لأنه يعرف انها قد تكون شرسة عندما يتعلق الأمر بكسر اطفالها للقواعد. ربما فعل ذلك سبع مرات عندما كان نايت بالاعدادية. و لم يعترف ويليام لها سوى عندما تخرج من الثانوية. على عكسه كان هناك ايفان الذي لا يسمح لنفسه بأن يحتاج احدًا، كان صارمًا كما لا يجدر بطفل مثله ان يكون. كان نزقًا ايضًا ومتحفظًا. لكنه كان ولدًا جيدًا بعد كل شيء. يعرف ما يجب عليه فعله وما لا يجب. حتى كونه اراد ان يخفف الحمل عن كاهله لم يستطع
ايفان حمل نفسه مسؤولية والدته واخيه ثم ارث ابوه. وكان ويليام يشعر بالفخر لذلك.
اما جون، فعكس الاثنين. كان لا يسبب اي مشاكل. كان منطويًا هادئًا. اذكى من اي طفل اخر. يستطيع ويليام ان يرى بين فينةٍ واخرى نزواتٍ شرسة مشابهةٍ لنزوات ابيه انما اقل ضررًا. القاسم المشترك بين الاثنين انهما اعند مما يمكن لأي احد ان يتصور.
يتخيل ويليام اليوم الذي يقرر فيه جون ان يكف عن التفكير بالآخرين و ان يبدأ بالتفكير بنفسه و يتصرف وفقًا على ذلك، عندها ربما، سينظرون اليه ويقولون 'نعم، ابن ابيه حقًا'
'معاذ الله ان يأتي هذا اليوم' يخبر ويليام نفسه و يفكر للحظة 'او ليأتي. ربما يكون هذا افضل لهم جميعًا بعد كل شيء'
جون كان اكثر حكمة، حتى في غضبه يفكر مليًا بكلامه و تبدوا كل كلمةٍ ينطق بها موزونة كما لو ان من نطقه شخصٌ اكبر عمرًا. ربما لهذا السبب يشعر ويليام ناحيته بشعورٍ مختلفٍ تمامًا، لأنه يبدوا كما لو انه لم يعش طفولته يومًا، كما لو انه اجبر على ان يكبر في اللحظة التي فقد فيه امه وعائلته. ربما لهذا السبب بالضبط. اعتبره ويليام مسؤوليته الشخصية كما لو انه من صلبه هو نفسه.
فجأة فتح الباب دون ان يطرق. و نظر ويليام بأمتعاضٍ لشخص الذي تجرأ على ان يقطع خلوته بفضاضة و هسهس "ما معنى هذا؟."
رفع حاجبه بإستنكارٍ للمرأة الشقراء أمامه والتي انحنت على طرف الباب لتلتقط انفاسها. ثم رفعت رأسها فجأة وقالت اخر شيءٍ توقع ويليام ان يسمعه في حياته "سيدي، جايك سالفاتور استفاق."
****
اول شيء فكر فيه ويليام وهو ينظر الى العينين اللازورديتين الغاضبتين -ربما؟ وجهه لا يساعد في كشف ما يشعر به- انهم بحاجةٍ الى مترجمٍ ليفهمه والى طبيبٍ نفسيٍ بشكل عاجل. عليه ايضًا ان يرتب مع اطباء الأعصاب اجتماعًا لأجل حالته، يحتاج الى تصوير اشعة جديد لأجل عظامه. والعديد من الاشياء عقله المتوتر لا يستطيع ترجمتها بما فيه الكفاية، كما لو انه طبيب مبتدئ مرةً اخرى، عدا ان ويليام لم يكن ابدًا طبيبًا 'مبتدئًا' فقد تجاوز مدرسيه حتى بالخبرة. لكن الصدمة رغم ذلك لا تزال تشل افكاره. جايك سالفاتور خيب كل توقعاته ويجلس الآن أمامه يحمل في وجهه تعابير أبيه المقيتة.
غمغم ويليام
"احضروا مترجم فرنسية، الولد يتحدث الفرنسية" ثم سكت حينها فجاةً، من امامه ليس ولدًا، كان رجلًا بالغًا، نسخة شابة من ابن عمه النزق، بشعره الاسود وحاجبين العميقين ينظر اليه بعيون سوداء عميقة تخترق الروح. لا يدري ويليام كيف يصف تعابيره. وهذا ما يزيد رغبته بأخذ جرعة من الويسكي. اطبق شفتيه مجددًا لمحوا مشاعره عن وجهه، وهو يتجاهل اتصالًا من ايزابيل، يتأمل للحظة الرجل أمامه ، كان جسده ضامرًا كحال اي شخص قضى كل هذه المدة نائمًا. عضلاته لينه، وجهه مجعد في عبوسٍ كئيب كطفلٍ استفاق من كابوس سيء.
"استطيع تحدث الانجليزية شكرًا جزيًلا لك." قال الشاب فجأة. وبدا صوته خشنًا و ثقيلًا، حتى انه احس بحنجرته تجرح من مجرد الحديث، لكن ويليام وجد نفسه متفاجئًا من السخرية العميقة التي نطق بها ما قاله.
بحذر تمتم ويليام "بالطبع يا جايك.."
ثم اقترب منه، اشياء قليلة يعرفها ويليام عن الصحة النفسية، واكثر ما يدركه ان عليه ان يتحرك بوضوح كي لا يخيف مريضًا مستيقظًا حديثًا من غيبوبةٍ طويلة الأمد. خاصةً كشخص مر بما مر به الولد.
بحذر سكب ويليام كوب ماءٍ له وناوله له يتابع محاولًا فتح محادثةٍ معه "لعلي نسيت هذا يا جايك."
اخذ جايك الكأس منه. لم يكن يملك الرغبة الواضحة في ابدأ اي نوع من الاخلاق للرجل الماثل امامه. كان كئيبًا من الحلم المزعج، وكان يريد أمه. أين أمه على أيةِ حال؟
شرب الماء و سال على ذقنه ورقبته. ثم مسحها بظهر يده تحت نظرات ويليام المترقبة
"مضى وقت طويل، يا جايك."
'انت رجل الآن ٢٧ عامًا؟' لم يقلها، لكنها كانت توشك على ان تنزلق من فمه، كرر مجددًا لنفسه انه بحاجةٍ الى ان يرى التقرير الطبي مرةً اخرى. و يحتاج ان يستجمع نفسه بأسرع وقتٍ ممكن.'
"اين انا؟"
"اخبرتك، انت في المستشفى..بسبب حادث مؤسف، هل تتذكر ذلك اليوم يا جايك؟."
"حادث مؤسف؟."
"لا ترهق عقلك، خذها بروية."
صمت قليلًا و اصبح وجهه داكنًا وهو ينظر بشرودٌ الى اصابعه الطويلة يتمتم
"نعم اتذكر، النافذة.. لكن الاهم من هذا كله، انا... اين أمي؟.."
"لا احد هنا الآن. لكن يمكنك ان تثق بي. نحن عائلة."
ارسل نظرة واحدة للممرضة التي ادركت الأمر و اقتربت منه برفق لتضخ المنوم في انبوب التغذية المثبت الى الآن في يده. بينما ويليام يشتته.
لم يجيب ويليام على سؤاله، وقال جايك بإنزعاجٍ واضح "من انت اذًا؟ انا اريد أمي واريدها الآن"
"على رسلك، انت الآن بالمستشفى."
لم يعره جايك اهتمامًا. لأنه فجأةً نظر الى يديه. و فتح عيونه بوسعها يحركهما أمامه ، كانتا كبيرتين. كانتا ليستا بيديه التي يعرفهما. الجرح على كفةِ يسراه كان غائرًا. مجرد خطٍ ابيض شفيف للغاية لم يميزه اول الأمر. لكنه مجددًا لم يستوعب. وجايك يكره عندما لا يفهم شيئًا
"ما الذي..." و سكت ، اين هو الان؟ اي والديه؟ اين امه؟ اين جون؟ ماذا يفعل هنا؟
نوبة ذعرٍ انتابته و انفجر حينها في حركةٍ عصبية. قبل ان يدرك بأنه لا يستطيع الحركة، قدميه لا تطيعانه، فجف فمه مجددًا و توسعت عيونه ينظر الى الرجل أمامه
جلس ويليام على طرف السرير و امسك بيدي جايك يحتفظ بهما في كفيه الدافئين "اسمعني جيدًا. انت في مأمن هنا. نعم لا تستطيع التحرك، لكن هذا للآن فقط أعدك. عندما ننتهي منك ستسير مجددًا و سترى عائلتك..بروية خذ الأمرر بروية." و تشوشت رؤية جايك وهو يغمض عينيه. كان اخر شيءٍ رأه الملامح المبهمه لرجل الغريب. الذي يشعر بإطمئنان بمجرد وجوده. اغمض عينيه مسترخيًا يشد على الكف الدافئ اكثر.
****
انا مدينة بأعتذار لكم على تأخري رغم حلول الموعد واتمام الشروط، لكن احيانًا المرء يحس بإشمئزاز عجيب تجاه اكثر الاشياء اللي يحبها. وهذا اللي صار الشهرين اللي راحت. حاولت اكتب بس ما قدرت. على الاقل بشكل متواصل. البارت نتاج كتابات في فترات مختلفة و اثناء احاسيس مختلفة. لذا يمكن يكون دون المستوى المطلوب؟ ما ادري مو انا اللي احكم، انتم قولوا
اسئلة غالبًا طرحتموها ولن اجيب عليها لأنني اكسل من افعل ذلك ؛
- من ايميلي وهل لها دور مستقبلي مهم؟ لا. انا احب اغمر الشخصيات الجانبية بالحب حتى لو كان وجودها لـ ٥٠٠ كلمة فقط، هي مجرد هامش استخدمته لأصف حالة جوني وجايك من منظور شخص خارجي تمامًا، احب هذا الاسلوب في الروايات واستمتع فيه ، وهذي ثاني مره استخدمه في الرواية هذي هيهي
- الشجرة وجايك؟ اخبرتكم بأنني سأغير الفصل الأول والثاني من قبل ، عن السبب الفعلي لغيبوبة جايك، عن ما يظنه جون وعن بلايك، لكن مجددًا انا اكسل من ان احرك اصبعًا، لكن توقعوا ان افعل ذلك في هذا الاسبوع اخيرًا او الذي بعده (متى ما الله افرجها علي) . لن يتغير شيء كثير ولا حدث محوري . فقط الفين كلمة منه توصف الحياة بعد جوليا بالنسبة لثلاثي المرح بلايك و طفليه واخيرًا الحياة مع بلايك دون جايك.
- يا بنت الحلال وموعد كريستيان؟ ايييه شفت ان البارت ٧ الالف كلمة و هونت اكتبه، الحلقة الجاية ان شاء الله.
- ليش تأخرتي؟ عندي حياة يا مسلمين
يلا وقت تعليقاتكم هيهي
- ايلا اول مرة تحرك استها وتسوي شيء؟ هيهي
- جوني؟
حدثكم المفضل؟
-رأيكم بالبارت؟
-استيقاظ جايك اخيرًا -اهم حدث من بداية الرواية تسألوني عنه-
اعرف ما فيه ظهور لايفان و بلايك لكن ما حسيت انه يسترعي وجودهم.
متحمسين لتعابير العايلة السعيدة اذا قابلوا جيجي؟
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro