Chào các bạn! Vì nhiều lý do từ nay Truyen2U chính thức đổi tên là Truyen247.Pro. Mong các bạn tiếp tục ủng hộ truy cập tên miền mới này nhé! Mãi yêu... ♥

٣١

٣٠٠ صوت/ فوت = بارت جديد
سُبحانَ الله وَبِحمدِه ، سُبحَانَ الله العَظِيم

***

جعد نايت انفه بقلةِ صبرٍ ينظر الى محيا ديريك القاتم ثم الى ويليام الذي يسير جيئةً وآيبة، متذكرًا مشهدًا مشؤومًا كان قد تكرر قبل شهرين أو نحوه عندما أصيب المعني بوعكته الصحية. نقل ثقله من قدمٍ الى اخر. و اهتز الهاتف في معطفه. نظر فإذا بهاتف ديريك يهتز ايضًا لكن الفرق انه اغلق الخط في وجه المتصل دون ان ينظر اليه. بينما هو رفع شاشة الهاتف ونظر الى رقم أمه للحظات، التفت الى الممر ثم مشى خارجًا من المستشفى. كانت الريح زمهريرية تتخلل شعره. اغمض عينيه مهيئًا نفسه ثم فتح الخط "اهلًا يا أمي."

"لماذا تأخرتم الى هذا الحد؟." قال صوت أمه الذي كان اكثر ثباتًا مما كانت عليه قبلًا. التفت نايت الى المستشفى واضواء النيون في الشارع المقابل تغشي عينيه ، وتابع سيره في الحديقة الصغيرة رغم عويل الريح ، وقرر أنه من الافضل قول الحقيقة بلا اضافة اي أملٍ زائف "لا شيء. انه بخير. أدوية منومة و لا ادري اختلطت ببعضها البعض لهذا ننتظر تحليلًا أخر، عدا عن ذلك. الأحمق يشخر.." ابتسم نايت، فهو حقًا بقي ينظر له لدقائق فاغرًا فاهه عندما ادرك انه حقًا يشخر بصوتٍ خفيض رغم كل ما جعلهم يمرون به.

ربما كانت ابتسامته قد وصلت بطريقةٍ ما الى والدته. لأن الصمت فجأةً حل بينهما، لكن صمتٌ مريح استمع فيه الى اصوات طقطقةِ الحطب و بأجاثا تصر عليها على ترديد ما قاله للتو لتفهم.

شعر نايت ان كل شيءٍ بخيرٍ لحظتها، والا شيء في العالم يمكنه ان يفسد سكينته اللحظية القصيرة والتي كانت غامرةً حتى شعر بأنها انتقلت لأمه ايضًا ، همست له "اعتني به، عندما يستيقط اريد ان اكون اول من يحادثه."

"إن لم يقتله العم ويليام قبلها لكِ ذلك."

اغلق الخط مودعًا، و عاد الى الداخل، هذه المرة كان ديريك و جايمس و ويليام يقفون أمام الرجل بالأبيض الذي كان يحك رقبته من الخلف و يتبادل معهم الأحاديث "فعلت ما بوسعي يا سالفاتور لأدبر أمر التحاليل. ها هي ذي، سترى بنفسك ان الأدوية مختلفة عما في الوصفة التي اعطيتني اياها. لقد توقف عن أخذ الفيراباميل و بدلًا من ذلك هنا الزاليبلون كما ترى."

تابع ويليام بعينين ضيقتين يرى التحليل "ما يقدر بقرصين من الزاليبلون في مقابل حبة فيراباميل في الأربعة وعشرين ساعةً الأخيرة، لم يلتزم بالوقت المحدد للجرعة بل و أيضًا بدل الفيراباميل بالزالبيلون." كانت جملته هذه موجهةً لجايمس الذي أدرك ان الأمر سيء رغم كونه بطبيعة الحال كبقيتهم لم يفهم ماذا عسى هذا ان يعنيه.

"ماذا يعني هذا؟." لم يمنع نفسه من السؤال ، و قال ويليام موضحًا "الفيراباميل هو الدواء الذي وصف له، انه موسع للأوعية الدموية ، ما يهم ان تعرفه انه أهم دواءٍ وصف له، إما الزاليبلون هو دواء منوم، مضاد للأرق، و لم نصِّفه له في المقام الأول اصلًا."

"لن يكون لهذا اي اثر عكسي، لا؟." سأل ديريك بريبة

"لا لحسن الحظ، لو لم ننتبه للأمر لكان كذلك."

"يعني سيخرج معنا؟."

ترقب نايت ونظر الى وجه ويليام الصامت، والذي بدوره نظر للطبيب الواقف في صمتٍ هو الأخر قبل ان يقول اخيرًا مجيبًا عليه "ان اردتم بالطبع، لا سبب لبقاءه."

"نعم، نريد تحويلًا لمشفاي." اخبره ويليام ، لا ينوي ان يترك الأمر دون محاسبته.

"مع الاسف هذا يعني انكم ستنتظرون الموافقة. حتى ذلك الحين يمكنه البقاء لحين استيقاظه، طابت ليلتكم."

"شكرًا لك يا اندرسون وعذرًا على ازعاجك في هذا الوقت."

جلس جايمس على الكرسي وتنهد "ماذا يعني هذا الآن؟."

"يعني ان بلايك اخيرًا يملك سببًا ليغضب، ما فعله الولد كان من الممكن ان يؤدي بحياته. كان من الممكن ان يقتل نفسه سواءً كان متعمدًا لذلك أم لا، لقد فقد ثقتي به ولن اكون متساهلًا معه الآن، و دعني اخبرك من الآن بمجرد ان يدخل تحت مسؤوليتي لن اسمح لأحد بالتدخل بشأنه."

ضغط جايمس بأصابعه على جبينه يدلكه ببطء وقال "عندما يستيقظ، اتصل بي فقط. اريد ان اتحدث معه قبلها.. وانتما، هيا لنعد، لا سبب لتبقيا. لنطمئن من بالمنزل."

وضع جايمس يده على كتف ديريك و ضغط عليه بشدَّة يسحبه معه.
"انا باقٍ هنا. وصية أمي.. ستقتلني اذا عدت دونه." سبق عمه جايمس الذي هز رأسه بتفهمٍ و سحب ديريك معه يخبره "بالطبع لن تقول انك باقٍ انت ايضًا، احتاج لأحدٍ ليقود بي الى المنزل."

****

كان شعورها غير مألوفٍ ومألوف بالآن ذاته. عجز من نوع غريب، كأنها شخصٌ يحاول التنفس اسفل الماء. والحقيقة الوحيدة انها فقط تغرق، وهناك من يسحبها الى الأسفل.

آلم ثقيل ألَمَ في صدرها، و لم تتوقف دموعها عن السيلان حتى اثناء غفواتها القصيرة التي ضل عقلها فيها ضائعًا بين اليقظة والنوم. قضى بلايك الليل القصير يحدق بالسقف و ينصت الى شهقاتها و بكاءها المفاجئ للحظات و همساتها الناعمة في لحظاتٍ اخرى ، تنادي 'جدتها وأمها و عمها' أناس اخرين لم يغادروا عقل بلايك يومًا، حتى رغم انكاره لذلك على نفسه، كانت أيام باريس تومض في عقله بلا توقفٍ مؤخرًا ، منذ اتت آيلا بشكلٍ أدق، الذكرى بعد الذكرى، ليلته الأولى ، غضبه ، هيامه في الشوارع قارعًا الطرق المجهولة.

كان الآن يشعر بالهوان و الكسل و التعب و الهم، متكدر البال كأيامه تلك ، يفكر من جهةٍ بجون و من جهةٍ اخرى بها.
تأمل في صمتٍ وجهها. و مسح بأصابع مترددةٍ على شعرها. يخشى من ان تستيقظ بسببه، فيخيفها او ينغص عليها نومها. لكنه لم يستطع في النهاية منع يده من العبث.

نظر بتمعنٍ الى محياها التعيس. يبحث للمرة الألف بقصد او بدون قصد عن محيا جوليا العذب في محياها. اراد ان يجد شيئًا لا يدرك ما هو، شيئًا يألفه و ..... يحبه.

فيما مضى كان يستلقي هكذا على ظهره على السرير يراقب اضواء الشارع تشير و تعكس ظلالًا على الغرفة، في تلك الاضواء المتلاشية كان ينظر الى المستلقية بجواره تنام بعمق كما تفعل ابنتها الآن حتى يخيل للمرء الا شيء يمكنه افساد هذا النوم — في تلك الفترة قبل ان يرزقا بأيٍ من ابناءهم. كان حينها لتو حديث زواج بعد ان قرر قطع اخر طرق العودة عن طريق الزواج نفسه، ان يرتبط بإمرأةٍ اخرى و يلتزم معها. ان لا يدع مجالًا لأبيه من ان يسلب منه سلواه كما فعل مرةً اخرى عن طريق ربط نفسه مرةً و للأبد، لكن بلايك لم يتربط بجوليا نكايةً بأهله، كان قد ارتبط بها لأن لا شيء صحيحًا اخر غير الارتباط بها. لأنه أحبها اكثر حتى من نفسه ومن أي شيءٍ اخر.

في أيامه تلك ، التي كان النهار فيها اطول من الليل. كان يقضي جل وقته خلف البار يسكب الويسكي، او يرشد السياح، او يلعب مع مديره الشطرنج و يتابع عمله تحت اشعة الشمس الحارة، احيانًا يفض النزاعات و احيانًا يكون احد الاطراف فيها. وفي ليالي نهاية الاسبوع عندما يكون البار مزدحمًا لم يكن لديه اي وقتٍ ليفكر بأي شيءٍ اخر. كان راضيًا بقدر شعوره بأن شيئًا ما ينقصه. عندما ينهي عمله اول شيءٍ يراه هو جوليا المبتسمة تتكلم مع مديره و تحمل احيانًا شيئًا ما اخذته من البقالة او شيئًا ما اعطوه لها الجيران لتوصله الى أمها او لجيرانها. و احيانًا اخر تحمل بين يديها باقات ورودٍ طازجة اشترتها من المحل في اخر الشارع. عندما تنتبه اليه ينظر اليها، كانت تبتسم ابتسامتها تلك التي يحب، والتي بمجرد رؤيتها تعب العالم كله يسقط من على كاهله. فلا يطيق سعةً حتى ينتهي من مسح البار لأخر مرةٍ ليخرج من وراءه و يضع يديه عليها.

عندما يصلان الى المنزل و يتلاشى صوت جوليا اثر انهزامها الى النوم كان يبقي عينيه مفتوحتين يحدق بالسقف المتقشر فوقهما. رغمًا عن آنفه وعن كبرياءه، كان يمضي الليل مهمومًا يفكر في حياته التي خسرها و عائلته التي يفتقدها، وهم اصلًا بدورهم قطعوا كل سبل الاتصال به. و هو لم يكن يومًا الشخص الذي يحاول او يترجى. كان اكثر عنادًا و أعظم كبرياءً من ان يضع نفسه في موضع ضعفٍ و شفقة.

لكن، النظر الى محياها العذب الساكن يبقي قلبه دافئًا و يزرع السكينة في لياليه الباردة، شعور مختلف و طيب وجديد يحس به، ادرك حينها انه لن يحتاج الى اي احدٍ اخر طالما انه سيفتح عينه وسيكون وجهها هو اول ما يراه كل يومٍ الى اخر يومٍ في حياته الفانية. فهي عزاءه.

سحب نفسه من دوامة افكاره تلك، ينظر الى السقف فوقه. لم يكن متقشرًا كما هو سقف شقته في بيروج، انه ها هنا في ادنبرة، في فيلا عائلته الصيفية. في سرير ليس له. في مدينةٍ لا يحبها ، و من بجواره ليست جوليا.

نظر الى وجه ايلا مرةً اخرى بإمعانٍ اكثر، يؤمن بسذاجةٍ انه لو نظر عن كثبٍ بما فيه الكفاية سيستطيع رؤية ذلك الشيء المألوف الذي يبحث عنه ، فتأمل خط الدموع الجاف يرسم على وجنتيها خطًا متعرجًا ، بأصبعه محاهُ برقةٍ و حزن غريب وهادئ اثر اكتشافه الجديد
'لا' قال لنفسه، لم تكن تشبهها ، كانت تشببه هو. كل ما فيها كان يصوره هو، طباعها و شكلها و ووجهها و حاجبيها و عنادها و غضبها وتلك النيران المتقدة في عينيها عندما يغضبها ، كانت تجسيدًا له ، لكنها تجسيدٌ أكثر نعومة منه فقط. كانت لا شيء يمت لجولياهُ بصلة. لكنه ايضًا لم يستطع ان يكره ذلك فيها. كان شعوره نفسه ناحيتها يزداد قوه لا لشيءٍ سوى لكونها هي ، شبيهته الصغيرة التي تشكل عزاءًا صغيرًا و سريًا. ثمن مآساته. ربما ثمن غضبه ايضًا ، غضبه و عناده و خطاياه. خلقت لتعاقبه بعينيها الحارتين و بلسانها الحاد و شفتيها التين إن شاءت تشكلان اشد الابتسامات سخريةٍ في العالم. رغم كل هذا كانت عزاءه ايضًا.

فتحت ايلا عينيها و رأت مشهد السواد مبهمًا أمامها، كانت الدموع العالقة تشوش رؤيتها، و رائحة غريبة ذكورية اخترقت أنفها. ضوء الشمس لمس وجهها بنعومة. و القميص الرطب تحتها جعلها تدرك ان حزنها تسرب من عينيها رغمًا عنها، لم يكن دفئ الجسد بجوارها كما برودة الجسد الذي رأته في احلامها مستلقٍ على السرير بلا حراك و بطيف ابتسامةٍ كانت دافئة لتناقض هذا البرد.

عوضًا عن ذلك، هذا الجسد الحي بجوارها، كان صاحبه كئيب المحيا، بشفتين مزمومتين ، ينظر الى السقف فوقهما بحاجبين معقودين، ربما مثلها كان ضوء الشمس يغيضه ، او ربما لا يستطيع ان يفك اشتباك حاجبيه حتى في وضعيات الاسترخاء. لا تستطيع ايلا الجزم بهذا الخصوص. فدائمًا ما يخيل لها انه خلق بحاجبين معقودين. كانت هناك ظلال سوداء اسفل عينيه غير مألوفة ، حديثة الوجود

اخفض نظره اليها. لا تدري كيف كانت تعابير وجهها، لكنها تعرف في قرارة نفسها الا شيء لتظهره على محياها، لأنه لم يكن هناك ما يقال. عكسها كان يبدوا كمن ينوي على ان يقول شيئًا و متردد في ذلك. اخيرًا قال "ويليام اتصل، انه بخير، فقط نائم."

رمشت ايلا بغير فهمٍ حتى اندفع كل شيءٍ عنوةٍ في رأسها، فانتفضت في مكانها "لماذا لم توقظني؟."

"هل هناك حاجةٌ لذلك؟."

"انت وعدتني!"

"قررت انه لا فائدة من ايقاظك، لأنه بخير ولله الشكر، هذا اولًا، و ثانيًا لأنك لا تفتقرين الى قلةِ النوم ايضًا.. عودي الى النوم يا ايلا."

"ماذا عسى هذا ان يعنيه؟."

نبض الصداع بخفةٍ في رأسه، و ابتعدت هي عنه، منا جعل من السهل عليه ان ينهض من السرير اخيرًا يشعر بآلمٍ واخز في كتفه الذي قد اقرض اليها طوال الليل لتغرس اظافرها فيه اثناء اخراجهم لجون من الغرفة ، دلكه بخفةٍ وقال "سمعتني جيدًا، لا شيء لتستيقظِ لأجله، عودي الى النوم الآن."

"انت وعدتني."

"لم اشى ايقاظك." تجاهل اتهامها الخفي ببساطة و ببرود مكررًا ما قاله. رفعت ايلا رأسها وجلست اخيرًا ، تشعر بالألم الخفيف في رقبتها ، وقالت بصوتٍ خرج اكثر حدة الآن "اريد ان اذهب اليه."

"لا." بحزمٍ اجابها ، نهض من السرير ومشى الى النافذة ينظر الى البعيد. و راقب قطرات الندى تتقوس نحو الضوء المتلئلئ في الأفق، و تنزلقُ بنعومةٍ على الزجاج البارد.

و شعر بنظراتها تحرق ظهره تقاطع تأمله القصير عنوةً.  وكان شعوره بالصداع اقوى و أشد من أي شيءٍ اخر حتى من ازعاجه منها. وعندما يتألم هو، تكون اعصابه مشدودة و يكون قليل صبر و لا يستطيع فعل اي شيءٍ حيال ذلك، لكن في حالتها، كان يعد الى العشرة قبل ان يفتح فمه. بكاءها و انفعالها و كلامها ليلة أمسٍ كان صداه يتردد مرارًا وتكرارًا في رأسه كناقوسٍ يحذره من فتح فمه بكلمةٍ ضدها، هنالك العديد من الاسئلة بلا اجاباتٍ تقرع في رأسه، ويعلم جيدًا انه ليس وقتها، لكن ما يوقنه تمامًا هو انه لا يستطيع ان يسمح لنفسه بأن يضغط عليها بعدما سمع ما سمعه منها اثناء نومها

"لماذا؟."

"أوامر ويليام. ليس الآن على الأقل، كلي شيئًا وعودي الى النوم. في الخامسة سأخذك اليه، و ليس قبلها." اجاب بهدوء وصبر، و اسدل الستائر، لأن ضوء الشمس كان يعزز شعوره بالألم و الصداع. وكان يمقته اكثر من اي شيءٍ آخر لحظتها. و نوى ان ينزوي الى غرفته هو الأخر، الآن بما انها مستيقظةً و تبدوا بحالٍ أفضل مما كانت عليه.

وقال متمتمًا "سيكون بخير. دائمًا ما يكون كذلك على ايةِ حال، لا تقلقي بشأنه."

"هل بهذا تعزي نفسك أم انك لا تهتم اصلًا؟"

"متى استعدتي نشاطك لمجابهتي مرةً اخرى؟ عودي الى النوم أفضل لكلينا. لا اريد ان اقول شيئًا اندم عليه لاحقًا."

"لماذا؟ ما الذي يمنعك أصلًا؟"

"هذا سؤال جيد، ربما لأنك بكيتي بما فيه الكفاية طوال الليل. لا نريد كلينا ان تكوني ندةً لي لأنه حينها سيكسر قلب أحدنا، ولن يكون هذا أنا."

جملته جعلتها تفتح عينيها بوسعها، لا تدري آيلا ما الذي قالته بالأمس او اذا ما اظهرت له ما حدث في دنيا احلامها، التي كثر ما كانت تفعل ذلك. لكن وجهه أخبرها بكل الأشياء التي لم تقال
"هل قلتُ شيئًا؟." اخيرًا سألته، مشمئزه من التفكير بالأمر وغاضبةٌ

أخذ بلايك وقته يفكر في سؤالها ، و مشى يجلس على طرف السرير و يوليهها ظهره، يضغط بخفةٍ على صدغه النابض ، ثم قال اخيرًا "ماذا حدث لجوليا؟."

بقي سؤاله معلقًا في الهواء للحظة. ان يسألها هكذا فجأةً و اخيرًا جعلها تشعر بنبضات قلبها تتسارع، كانت تعرف ان هذه اللحظة آتيةٌ لا محاله، منذ وضعت قدمها خارج الطيارة. كانت تتخيل كل الاشياء التي كان من الممكن ان تقولها، ردات الفعل و الكلام وكل شيء. تخيلت وجه جون يذبل في حزن جديد وأعمق، و في مناسباتٍ كثيرة كان الوجه الوحيد الذي تراه هو وجه بلايك الذي لم تستطع ان تحسم آمرها في كيفما سيبدوا. هل سيشعر بالحزن الكئيب الذي تحس به و سيحس به جون ايضًا، و ربما حتى جايك؟ هل سيتألم بمقدار ذرةٍ واحدةٍ كرمىً لأيامهم معًا؟

تعرف انه سيفعل، رغم كل الاشياء التي تظنها في بلايك سابقًا. لكن هنا في اسكوتلندا حيث منحت لها فرصة معرفته عن قرب عندما سمح لنفسه ان يفتح قلبه لها. عرفت انه فقط رجل عنيد و مكسور الفؤاد. كان يحبها و يمنع نفسه جاهدًا من آذيتها. كان لا يريد ان يستحيل ما بينهما لما بينه هو وجون. تعرف ذلك جيدًا و موقنة منه. كان يمنع نفسه من يخبرها بصراحةٍ ما يظنه في أمها حمايةً لها هي. كي لا يشوه صورتها، لأنه يعرف كم تعني أمها لها. تعرف كل هذا جيدًا. و يؤلمها ان تعرضه لهذا الأذى. سواءً كان من الممكن أن يتألم لها أم لا.

التفت اليها بعينين ضيقتين، و فغرت آيلا فاهها. ثم نظرت الى حجرها تضم وسادة جون الى صدرها و غمرتها رائحته الطيبة ، تتذكر تلك الصبيحة جيدًا "عندما كنت في السابعة، او ربما الثامنة. لا اتذكر. ذهبت مع جدتي الى محل الأزهار الذي نملكه. في ذلك اليوم لم ارى أمي لأنني ظننت أنها نائمة... كان كثيرًا ما يحدث هذا، ان تنام الصبيحة و تستيقظ قبل الظهيرة بسويعة او نحوها. في فترة الأعياد تلك كان العمل مزدحمًا، ومضت الساعات حتى انزعجت جدتي من تأخر أمي في النوم، فأرسلتني لمناداتها. اتذكر ان جدتي ايضًا مع رفاقها، اصدقاء للعائلة، كانوا يشغلون طاولةً في المقهى المجاور و يدخنون و يحتسون القهوة. كان وجود أمي مهمًا لتحدد لهم ابنة من في قريتهم التي ستتزوج بعد يومين. أو ربما لم يكن هذا الموضوع المهم ان وجودها كان مهمًا لتحسم لهم امرًا بهذه الأهمية لهم، وايضًا لتذهب مع عمي - أبي بالمعمودية، لتختار هديةً لزوجته. فأرسلوني أنا لأحضرها، اتذكر ان الجو كان باردًا بما فيه الكفاية لتظهر انفاسي واضحةً أمامي. عندما وصلت الى المنزل لم اخلع حذائيَّ المبللين. لأنني قررت انه من الأسرع الا افعل لأعود بسرعة، ولاحقًا سأنظف ما خلفته. ذهبت الى غرفتها وطرقت الباب ولم ترد. كان هذا جديدًا، فهي عندما اطرق الباب بطريقةٍ ما تعرف ان الطارق هو أنا، دائمًا ما تفعل ذلك، و عندما تفعل فإنها تنده علي ان ادخل. لم تردني يومًا عن الدخول اليها. الا ذلك اليوم..

انا فتحت الباب ونظرت، كانت الغرفة معتمة الا من النافذة المفتوحة التي يتسرب منها الهتان خفيفًا. كانت باردة نعم، لكن ما كان ابرد منها هو يد أمي الساكنة. كانت أمي تبتسم في وجهي، او ربما هذا ايضًا يخيل لي. لا استطيع الجزم، لكن احب ان افكر انها كانت تبتسم لي.."

لم تحتج لتكمل ما حدث، لأن بلايك فهم. ملامح وجهه متصلبة و كئيبة. حاجبيه لم يعودا متصلين في غضبٍ و عصبية، كان وجهه فارغًا بلا معنى.

تابعت ايلا رغم ذلك "ربما تأخرت بإدراك انها ماتت حتى بعدما أخذوها من السرير، حتى صفعني عمي للمرة الأولى في حياتي...اتضح انها اخذت جرعةً زائدةً عن طريق الخطأ. خطأها الصغير كلفها حياتها و ... حياتي أيضًا.. ان اجد جون هكذا، لا ادري ماذا يسمونه.. بدا الأمور وكأنها ديجاڤو لست بحاجةٍ لها. لأنني سأجن لو مات هكذا وبهذه الطريقة وأمامي هو الأخر، اذا حدث ذلك سأقتل نفسي." همست بجملتها الاخيرة و دفنت رأسها في الوسادة حيث رأئحةُ جون مختلطةٌ برائحة ابيها. عينيها غشتهما الدموع مجددًا. و بالكاد منعت كتفيها من الارتجاف بنوبةِ بكاءٍ اخر، لأنها صادقة فيما تقول، ليست قوية بما فيه الكفاية لتشهد موت جون بذات الطريقة التي ماتت فيها أمها. ولن تكون قويةً ليومٍ كهذا ايضًا.

رفعت رأسها عندما تمالكت نفسها، ما يزال ظهر بلايك امامها دون حركة. و شعرت ان هذا افضل لكليهما، ليست مستعدة للكلام بعد لأنها بالكاد تمنع نفسها من البكاء.

من جهةٍ اخرى شعر بلايك بقلبه منقبضًا. شعر بشيءٍ ما يتكسر داخله و بوجهه يمتقع ، شعر بأشياءٍ كثيرة لم يعرف ما هي هيئته وكيف يفسرها. كانت مجهولة و ثقيلة.
شيءٌ في داخله اخبره ان يلتفت لها، ان يتصرف، ان يمسح على شعرها حتى، وشيءٌ اخر ايضًا، صوته أقوى و رغبته أشد، تخبره ان يخرج من الغرفة و يبتعد. لا يدري الى اين. فقط ليبتعد الآن وهذا هو المهم.

نهض واقفًا، دون ان يلتفت لها وخرج من الغرفة. عندما بقيت وحدها ارتجفت اطرافها، لكنها ارتاحت ايضًا، كان الأمر اشبه بهمٍ وقد انزاح نصفه عن كاهلها لتستطيع التنفس. رؤية بلايك هكذا، بهيئته المخيفة و هالته الغاضبة اكثر قتامةً و غضبًا جعل الدم باردًا في عروقها، و بمجرد مغادرته ارتاحت، استلقت في مكانها تحتضن جسدها بقوة كجنين و اغمضت عينيها، لا شيء سوى رائحة جون في السرير ، و الدافئ المتدفق في انحاء جسدها. دخل احدهم و شعرت بيدٍ دافئةٍ تحط على وجهها "هل تبكين؟." قال ليام مدهوشًا، وكأنه لم يرى احدًا يبكي من قبل

بقيت ايلا تنظر الى وجهه بلا تعابير، ثم سحبته ليدخل معها و عانقته بقوة

***

خرج بلايك من الغرفة متجاهلًا ليام الذي خاف من هيئته بدوره وتراجع. كان صدره يعلو يهبط متسارًعا ، نبضات قلبه تتسابق، و يده ترتجف حتى رغم ضغظه الشديد عليها. دخل الى غرفته وضرب الباب وراءه مما افزع كاميلا الجالسة على التسريحة تمشط شعرها ، هبت واقفةً بقلق "بلايك ما الأمر؟."
وضع بلايك احدى يديه على صدره و الاخرى على الجدار منحنيًا، يتنفس بعصبية. هيئته المخيفة اخافتها ، فاقتربت منه لكنه همس يوقفها "اخرجي..اخرجي من الغرفة الآن."

"هل حدث شيء؟."

"الآن!" صرخ بصوتٍ عالٍ اوقفها تمامًا في مكانها، يمنع نفسه بصعوبةٍ من قذفها بالمزهرية قربه. فتراجعت الى الوراء متمتمةً "حسنًا.. حسنًا."

القى بجسده على السرير، سحب الوسادة. و دفن رأسه فيها ثم صرخ بقوةٍ حتى شعر بحباله الصوتية تؤلمه و بأنفاسه تتقطع. بقيت كاميلا وراء الباب بعيونٍ متوسعة تسمعه، نبضات قلبها تسارعت عندما خطر لها ان جون مات. تركت قبضة الباب وقابلة امامها كاترينا التي تنظر باستغراب الى عمتها والى ضوضاء عمها بقلق "هل عمي بخير؟."

"هل جون بخير؟." سألتها كاميلا بيدين مرتجفتين.

واثر سؤالها انتقل الذعر الى كاترينا التي قفزت تمسك بيدها بقوة
"لماذا، ماذا حدث؟."
نفضت كاميلا يدها منها و ركضت امامها الى الاسفل تتبعها كاترينا بدورها، عندما دلفت الى الصالة كان عمها جالسًا قبال النار يضع كفيه بين يديه ساكنًا. يخيم الهدوء الثقيل على الغرفة، لا صوت سوى صوت المدفئة يطقطق الحطب في جوفها، أمامه يجلس ايفان الذي انتبه الى هيئتهما اولاً

نظرت كاميلا اولًا حولها، الى العمة اجاثا تحيك في صمت، والى اليزابيث الواقفة قبال النافذة تحدق بندفِ ثلجٍ صغيرةٍ تتساقط قبل ميعادها دون ان تولي اي احدٍ اخر الانتباه.

ثم وضعت يدها على صدرها تهدئ نبضات قلبها المتسارعة، كان بخيرٍ ادركت ذلك، او ربما لم يكن و لم يعرفوا بهذا بعد. هذه الفكرة جعلتها تجفل في مكانها. دلفت كاترينا وراءها تمامًا ونظرت الى عمتها اولًا ثم الى ايفان ثانيًا، لكن كاميلا اشارت لها ان تصمت. ومشت لتجلس بجوار العمة اجاثا تكتف يديها بقلةِ صبرٍ و تنتظر.

كان دور كاترينا لتنظر اليهم واحدًا تلو الأخر، حتى حطت عنيها على ايفان، كعمتها خمنت انه مات ولم يعرف اي احدٍ بعد. ارتجفت شفتيها و امتلئت عينيها بالدموع و لفت رأسها ذاهبةً الى الخارج. تأكد ايفان من ان جده بخير. و هب واقفًا يتبعها
اغلق الباب وراءه ومشى في البرد يركض يتبعها تنحني وراء الشجرة "كاترينا، ما الأمر؟."

"هل مات؟."

"ماذا؟."

"عمي في الغرفة.. جون مات يا ايفان، سمعت عمي بلايك."

اخرج ايفان هاتفه، يشعر بالعالم يدور حوله، ضغط رقم اخوه ووضع السماعة في اذنه، ومرت اطول لحظاتٍ مرت عليه في حياته كلها، اخيرًا سمع صوت نايت الرائق "اهلًا." ارتاح ايفان للحظة ، ثم قال يثبت عينه على كاترينا "اين انت؟."

"في المستشفى طبعًا.. البرد قارص هنا."

"اين جون؟."

"أمامي تمامًا.."

"نايت، كيف هو؟"

"يشخر وكأن لا همًا فوق رأسه."
اغمض ايفان عينيه واتكئ على الشجرة، يناول الهاتف الى كاترينا "اخبرها بهذا، هلا فعلت؟."

سمعت كاترينا صوت نايت يقول شيئًا ما لها ثم يجيب صوت عمهم الذي يناديه، قبل ان يقول مجددًا لهما "ما الامر عندكم؟"

"لا شيء." همست ، واغلقت الخط في وجهه. تمسح دموعها

تنهد ايفان واخذ الهاتف منها. يدسه مرةً اخرى في جيبه. "هذا ليس وقتك انتِ ايضًا. لا يمكنني ان اداري الجميع وحدي هنا، واين اخوتك على ايةِ حال؟."

"لا ادري، من المفترض ان تكون هذه عطلة. كل ما جنيته منها هو اعصابي المرهقة."

"ماذا سمعتِ خالي يقول؟."

زفرت كاترينا تنظر بعيدًا ، ثم هزت رأسها "غالبًا طرد خالتي من غرفتهما، ثم في اللحظة التي اغلق فيها الباب سمعنا صراخه، كان يبدوا كمن يحبس نفسه في الوسادة او هذا ما يخيل لي.. ظننت انه يكتم موته حتى يهيئون اخبار جدي..لا ادري."

صمت ايفان، ينظر الى المنزل، تحديدًا الى الغرفة في الجناح الأيسر منه مقابل شجرة الصفصاف العمالقة، حيث غرفة خاله بلايك. ومشى تاركًا كاترينا وراءه تحدق في ظهره، وقفت في مكانها تضع يديها على خصرها وتتنفس الصعداء متمتمةً "جيد ان كلوديا لم تكن هنا."

دخل ايفان مجددًا و راى خاله جايمس يحتضن نصف جسد اليانور يخبرها بشيءٍ ما ، ثم سبقه الى الداخل ووقف في المنتصف حيث جميعهم كانوا مجتمعين بلا استثناء ، لا احد يبدي اي تصرف او حركة عدا العمة اجاثا التي ما تزال تحيك بشرودٍ وتهمهم لنفسها "أبي، اعتقد ان الوقت مناسب لتعودوا الى لندن... الأولاد بالفعل حزموا الحقائب، و ويليام سيأخذ جون بنفسه من المستشفى، انهم فقط ينتظرون اتمام طلب النقل..الأولاد متعبون يا أبي، وانتم متعبون ايضًا...و لن اقبل لا كإجابة.. هذا ليس خيارًا مطروحًا أمامكم.."

"احتاج لأن اراه."

"و ستفعل، لكن في لندن..هيا يا اليزابيث، وانتِ يا اليانور اذهبي واخبريهم..انتهى الآن، اين كريستوف؟ هو سيوصلكم يا اليزابيث..اتصلوا على ستيفان."

صعد ايفان الى الاعلى يسمع احتدام نقاشهم يرتفع و يخبو اثر ابتعاده، دلف الى غرفته ودفن رأسه في السرير يغمض عينيه بإنهاك، امسك بهاتفه و اعاد توقيته، ثم اغمض عينيه ينوي اخذ غفوةٍ قصيرة، لكن شعر بجسمٍ صلبٍ يزعجه في بنطاله. فوضع يده في جيبه يتحسسها ثم سحب القلادة الصغيرة. ليحدق بالنقوش التي دخلها الطمي. كان قد نسيها في غمرة الاحداث، فنهض من السرير الى الحمام يغسلها. سالت الطين والاوساخ و ظهر الذهب نظيفًا وواضحًا على مرأً منه يتأمله قليلًا، ثم عاد الى السرير يضعها بجواره على المنضدة و يغمض عينيه

****

في احيانٍ كثيرةٍ يحاول جون ان يغمض عينيه و يتذكر شيئًا ما من ماضيه الأغبر، لكنه يجد الذكريات ضبابية و غير واضحة، وبعضها يفوق المنطق و المعقول، خصوصًا سنين عمره الاولى التي ربما بسبب صدمته النفسية كانت رمادية. ذكرياتٌ صغيرة فقط هي الصامدة رغم مرور الزمن، كان دائمًا ما يمسك بمذكراته المهترئة من كثرة الاستخدام و يكتب دون توقف ادق التفاصيل ، كان خائفًا من ان يفقد ذاكرته، فيحشو الصفحات حشوًا و يعيد قراءتها مراتٍ متتاليةٍ مراجعًا لما كتب، وحين يشك بصدق جملةٍ فإنه يشطب عليها بالرصاص او يرسم حولها دائرةً غليظة، واذا صادف انه يتذكر شيئًا جديدًا بخصوص هذه الذكرى المكتوبة بالصفحة ، فإنه يضيف التفاصيل في الحواشي، و يحشر الكلمات حشرًا فوق بعضها البعض، ضبابية ذكرياته تخيفة، فصار يطردها طردًا

من جهةٍ اخرى ، ادرك جون ان ذكرياته كانت ضبابية في لندن فقط، وليس في باريس التي كان قبل اشهرٍ يتجول في شوارعها، و يطفو حول منزلهم القديم، يلمس الاعمدة في الشارع، يراقب زخات المطر المتساقطة
كل ذكرىً واضحة بشكلٍ استثنائي ، كل منعطفٍ وكل زاويةٍ كانت تشكل جزءً من ذاكراته، لهذا اطال البقاء في باريس يكتب ، يقبض على ذكرياته بأصابع مرتجفة تضغط على القلم بعصبية، حتى استوعب انه قضى اكثر مما تصور في الشوارع الفرنسية الدافئة، فعاد سريعًا في اول طائرةٍ للندن المظلمة، التي تشكل هي الجزء المفقود من ذاكرته لسببٍ ما. كان يظن ان هذا مرض من نوع ما، ان يفقد ذكرياته، زهايمر مبكر -كما يسخر نايت منه كثيرًا- او على الاقل هذا ما يخشاه

على كلٍ لم يكن اليوم شيئًا مميزًا في حلمه. كان يحس بحرارة المدفئة و بيديه الصغيرتين تلمسان الجدار بجانبها ليكسب الدفئ. في فترات عيد الميلاد الباردة. يتذكر الصالة المظلمة عدا من النوافذ المشرعة، جسد ابوه يستلقٍ بكسلٍ على الاريكة و يضع يده فوق رأسه ويغط في نوم بلا حراك. لذلك دائمًا ما يكون صامتًا، لا يحب ان يوقظ بلايك من نومه و لا حتى جايك الذي كان منزويًا في مكانٍ ما في العلية كما يتوقع يوصي أمه بالأشياء التي يريد من السوق لأنه لا يستطيع ان يذهب معهم بسبب الزكام. اصيب بالزكام لأنه عصى أمهما و لعب اسفل المطر، يتذكر ذلك جيدًا وكأنه حدث بالأمس. كان يريد ان يلعب معه، لكنه لا يعصي والديه، لا يفعل ذلك ابدًا.

يتذكر معطف أمه البني. يديها الناعمتين وهي تساعده في ارتداء قبعته الصوفية. ثم مشهد الثلج الرقيق الطازج يسحق بشدةٍ اسفل اقدامه. يسبق أمه في السير واحيانًا هي تسبقه. ينظر الى شعرها الأحمر ظاهرًا من اسفل شالها تلاعبه الريح. لا شيء جديد في هذا الحلم.. او هل عساه يقول الذكرى؟ يصعب الجزم، ولا يوجد من يتأكد منه، فذاكرته تخدعه مجددًا. لكن فوق كل شيء ، كان شعورًا طيبًا ان يسير في ذلك الشارع يسحق الثلج الرهيف بقدميه سحقًا. و يمسك بيد أمه ليمشي قافزًا بمساعدتها ، رائحة الخبز الطازج تغمره. والجوع ينتابه لا يطيق صبرًا ليعود الى المنزل.

ما حدث اليوم بالنسبة له كان استثنائيًا، لأنه عندما فتح عينيه مبتسمًا لم يألف المكان الذي هو فيه. و لم يكن هناك من هو حوله. تلاشت ابتسامته تمامًا ورفع ذعرًا رأسه من الوسادة. في ذات اللحظة فتح الباب و اطل منه نايت "أنت مستيقظ!."

خرج جون من السرير، مصعوقًا من برودة الأرض اولًا. ومن ادراكه انه في المستشفى من الاجهزة الراقدة بجوار السرير بصمت جنائزي "نايت.. اين انا؟ ماذا حدث؟." ضغط بسبابته على جبينه متأوهًا

"اجلس اجلس." دفعه على السرير و ضيق عيونه بضيق لنايت الذي قال "يالك من أحمق كدت تصيب جدي بنوبةٍ قلبية.."

"ماذا حدث يا نايت؟." بقل صبرٍ قال جون

"أنت اخبرني! انت هو من يأخذ الأدوية الخطأ طوال الوقت."

ترددت الكلمة في رأسه للحظات. و لم يتذكر جون انه أخل بالوصفة بقصد حتى.

دلف ويليام من الباب المفتوح. لأول مرةٍ لم يكن يبتسم في وجهه كما هي عادته. نظرته كانت باردة و قاسية "هلا تركتنا يا ناثانيال لوحدنا؟."
كان هذا امرًا اكثر من كونه طلبًا، و كلاهما فهما ذلك. نظر نايت بطرف عينه الى جون ثم بصمتٍ تجاوز ويليام و اغلق الباب بتلقائيةٍ وراءه.

جلس جون على طرف السرير مشوشًا، غير مستوعبًا الطريقة التي ينظر فيها ويليام اليه

"ماذا كنت تظن نفسك فاعلًا؟ لماذا فعلت هذا يا جوناثان؟." نطقه لإسمه كاملًا اخبره بمدى جدية الأمر ، ما يزال جون مشوشًا ينظر له بلا فهم "ماذا فعلت؟."

"هل تسأل حقًا!". انفجر فجأةً في وجهه "كان من الممكن ان تسد شرايين قلبك مرةً اخرى بكل هذا الأدوية التي تخلطها، كان من الممكن ان تصاب بسرطان الدم حتى.."

رمش جون بلا استيعاب. مصدومًا تقريبًا من ان ويليام دون غيره يصرخ في وجهه هكذا بكل هذا العنفوان والاندفاع. كان غضبه حقيقيًا و صريحًا "كانت الوصفة واضحة بما فيه الكفاية لك، اخبرتني انك ستلتزم بها، لا بل ووعدتني انك ستلتزم بها.."

اندفع جون اخيرًا "وفعلت.. اخذت كل ما اردت مني ان اخذه، مساءً وصباحًا.."

"ماذا عن ادوية الاكتئاب اللعينة؟ نعم اخبروني المستشفى الآن، شميدت اخبرهم. ماذا عن الأدوية المنومة اللعينة يا جوناثان؟ هل كنت تنوي اخباري عنها؟ متى ستفعل؟ هل كنت اصلًا ستفعل؟."

"توقفت عن اخذ ادوية الاكتئاب منذ زمن. هي ليست شيئًا حقيقيًا حتى التزم به. لم اكن بحاجة بها و توقفت عن اخذها اقسم لك.."

"هل تسخر مني؟ ماذا تفعل اذًا بجوارك؟ نعم لا وجود لها بالتحاليل اللعينة لكن مربط الفرس انها كانت موجودةً طوال الوقت وأنت لم تخبرني، و لا لم تخبر طبيبك. أنا المسؤول عنك.. انت مسؤوليتي أنا."

اخفض رأسه
"غاب ذلك عن بالي يا عمي." كان محقًا، فهو توقف عن اخذها منذ ستةِ اشهرٍ او نحوه. حتى ذلك الطبيب حديث التخرج الذي عثر عليه في آخر لندن لم يكن جديًا معه بشأنها. كان الأمر اشبه بتجربةٍ اراد من خلالها ان يجد الراحة التي ينشدها. لكن ما حدث انه منذ ان اخذها صار دائخًا طوال الوقت. نائمًا في احيانٍ كثيرة، ومجددًا يغرق في دوامة النسيان اللعينة. لذلك قاطعها بشهادة طبيبه. لكنها بقيت معه. بين حاجياته. دائمًا فوق رأسه لسببٍ ما. حيث انه لم يستطع التخلص منها رغم عدم حاجته الحقيقية لها. لكن كيف له ان يخبر ويليام هذا دون ان ينظر له كما ينظر له الآن؟ وكأنه انتحاري لعين.

"وعدتني ان تكون صريحًا معي يا جون..لكنك خيبت ظني." هز رأسه مشمئزًا ، و اشار له بذقنه ببرود "ارتدي معطفك. اننا عائدون الى لندن."

***

عندما استيقظت هازال كان ضوء الشمس في وجهها ، فغمغمت بتذمرٍ ورفعت جذعها من السرير. كانت الغرفة قابعةً في صمتٍ مريبٍ لم تعتده. عندما استدارت ورأت ناطحات السحاب حولها استوعبت اين هي وتذكرت ماذا حدث بالأمس، جرت الغطاء وغطت وجهها لا تسمح سوى بعينيها لتحدق بالمدينة المعتمة حتى رغم ضوء الشمس المتسرب من الغيوم.

بقي الوضع هادئًا هكذا لدقائق حتى شعرت بالغضب يحتشد و يضطرم في صدرها، فرفعت رأسها من السرير ورمت الغطاء تهب واقفةً لا تدري الى اين. مشت تغسل وجهها متجاوزة الفستان المهمل ارضًا، نظرت الى انعكاسها في المرآة. ما تزال بقايا الكحل في عينيها جعلتها تقف لدقائق اضافيةً تحاول ان تمسحها برفق. كان النظر الى الغرفة الفارغة عدا من فستانها القابع على ارضًا جعلها اكثر حنقًا، بقيت في فندق بلا ملابس و لا طعام. في اول ليلةٍ لها في لندن منذ اربعة سنوات. سمعت صوت هاتفها يرن فجأةً مخترقًا الصمت، مشت والتقطت السماعة، كان رقم والدها ينير الشاشة ، لم ترد هازال ان تظهر في موضع ضعفٍ أمامه، التقطت انفاسها وردت "ماذا؟."

"هيا تعالي الى القصر وكفي عن التدلل، يمكننا ان نصلح الأمور بيننا كما ترين."

"لست في الجوار الآن."

"جواز سفرك لا يزال على الطاولة، اين انتِ؟."

"لحسن الحظ لدي سيارة يا أبي."

"هيا يا هازال تعالي ها هنا ولنتناول فطورنا معًا كعائلة." كان الأمر كما لو انه يداري طفلة صغيرة و يحاول استرضاءها، نبرة في صوته جعلتها اكثر غضبًا

"اخبرتك، لدي عمل اقوم به."

اسمعت صوت والدها ايضًا يتنهد، ولعله كان وقتها في الاسطبل يأخذ جولته الصباحية على ظهر خيله لأنها سمعت صهيل الحصان في الخلفية "الليلة اذن؟"

"سأنظر الى جدولي ، عندما أجد متسعًا من الوقت تواصلت معك."

ادرك كلارك لعبتها الصغيرة هنا، انها تتهرب منه بسبب غضبها ، طريقتها الصبيانية في معاقبته بنبذه و تجنبه لولا انها لا تفلح في مرات كثيرة، لان شخصية هازال تجعل من الصعب حتى له كوالدها ان يتحملها. مع ذلك سلَته الفكرة، انها مهما كبرت في العمر وتغيرت ستضل دائمًا هازال نفسها ، طفلةُ أبيها الحلوة

"لنكن صريحين ، ان اردت البقاء في منصبك لا خيار اخر امامك، تخلصي من الجدول و ضعي واحدًا جديدًا يكون من حدث واحد وهو عشاء الليلة."

رمشت بغضب مجددًا، كان يلعب معها هو الاخربطريقته اللئيمة المعتادة و لم يكن ردها الوحيد سوى انها اغلقت الخط في وجهه ، رمت الهاتف بقوة ليضرب على الجدار دون ضرر ، ثم سمعت صوت طرق رتيب على الباب "من؟"

"انه انا دينيز."

تنهدت بإحباط و عادة الى الحمام لتأخذ الردء الأبيض لترتديه ، ثم ذهبت و فتحت الباب ، كان يمسك حقيبة ملابسها التي لم تملك الوقت لإفراغها بعد بيد، و باليد الأخرى كان كيسٌ ورقي طبع عليه شعار مخبزها المفضل مع كوبيَّ قهوة  "ارسلت احدهم وراءك البارحة و قالوا انك لا تردين عليهم، ما خطبك؟"

"ربما استغرقت في النوم." تذمرت وافسحت المجال له

"هاه؟ ما هو التالي؟"

"لو اتيتني قبل خمسة دقائق لم أكن لأعلن الحرب ، لكن الآن هذه هي الحرب فعلًا يا دينيز." ناولها كوب القهوة الذي اخذته بسعادة وارتشفت منه، لعله بطريقة ما ساعد على التخفيف من حدة مزاجها ، مع انها لم تبدوا مبتهجة ، لكن على الاقل محياها صار اقل عصبية ، القى دينيز بجسده على الأريكة يتفقد الشقة بناظريه ثم ثبت نظره عليها تجلس امامه برداء الحمام وتفتش بالكيس الورقي "افهم انه بالطبع اتصل بك.."

"لوح بورقة سحب الكرسي مني..ياللسخرية."

"هل اجبرته؟"

"ماذا؟ لماذا عساك تقول هذا؟"

"تعرفين ان الصراحة هي واجبي، انت احيانًا تخرجين المرء من طوره دون بذل جهد."

"هذه احدى مميزاتي الطبيعيى التي ولدت بها. ربما تعمدت قليلًا ان اغيضه، يصعب قراءته هل نجح ذلك أم لا."

"بجدية، ستغضبين مني ان قلت هذا لكن نية ابوك جيدة،هذا ما يفعلونه الأباء، نعم من النذالة ان يهددك بشيء كهذا لكن.... انت تدفعينه و تلعبين بمعياره" تعابير وجهها جعلته يرفع يديه باستسلام و يردف "نعم نعم هو اخطئ لكن كان يمكن احتوى خطئه دون شجار."

"انا سئمة ومتعبة من الرجال الجاحدين في حياتي، انا من ساعدته ليخرج من مأزقة و كان عليه ان يكون ممتنًا و يرد بجميله لي. لا أقل و لا أكثر، الحقيقة الوحيدة الموجودة هنا انني تركت بلا شيء، بما ان كل شيءٍ اعطِتهُ سلب مني الآن. احتاج لأن أقاتل لأعيد ڤال إلي..لا يمكنني ان اتحمل البدء من جديد... أبدًا، حتى وان كان يقول هذا فقط لتلقيني درسًا لا يمكن ان ابقى مكشوفة أمامه الى الأبد، ان اعيش في وهم ان كل ما هو أمامي واعمل لأجله ملكي بينما كل شيء في الحقيقة ملكه هو.. ماذا يضمن لي انني لن اعيش هذا الموقف مجددًأ؟

كان دينيز يعرف جيدًا انها تصعب الأمور على نفسها بعدم الانصياع فقط الى أبيها واسترضاءه، لكنه ايضًا يتفهمها، يتفهم قتالها الدائم لتثبت نفسها أمامه، كان دائمًا هذا النضال المستبيد و العزيمة التي لا تخبو يثيران تسليته لأدراكه التام الاختلاف بينه و بين معارفه الأخرين وبينها، فرقها عنه وعنهم انها لا تتوقف ابدًا ولا تسأم

"ربما يجدر بي ان اقتل مثلك خالي روس هو و العقود التي يدفنني تحتها. ايًا يكن، افعلي ما ترينه مناسبًا.." نهض واقفًا يرتشف اخر ما تبقى من كوب قهوته و تمتم "ذاهب للعمل الآن، تمني لي الحظ."

"حظًا طيبًا" شيعته وهو يخرج يغلق الباب وراءه ، و امسكت بهاتفها المتضرر تضغط على رقم مساعدتها "اتصلي بالفريق و احضري جميع الأوراق القانونية و التصاميم، لدينا عمل نقوم به .. ليس الى القصر بل الى شقتي الجديدة، وأجل.... الفريق القانوني اولًا، ثم انتم..
وتأملت محيطها
"و يا آيلين لا تنسى ان تحضري معك آلة قهوة."
اغلقت الخط و اتصلت بالقصر ، تطلب من المدبرة ان تحزم كل ما في دولابها و ان ترسلهم الى هنا، فكرت في ان هذه افضل اشارةٍ قد يأخذها كلارك منها.

***

عثروا جميعًا على حلٍ مرضٍ لكل الأطراف. الجميع راحل، لكن سيرى ادوارد و ميرديث جون اولًا قبل كل شيء. اما اجاثا فعلى غير العادة كانت راضية و قررت لحسن الحظ انه لا داعٍ لذلك. و لأول مرةٍ يكون جايمس ممتنًا لأوراقها -ايًا كان الشيء الذي تظن انها اخبرتها هذه الأوراق به-

وقف جون بجوار النافذة عبوسًا، ينتظر في صمتٍ دخول ويليام عليه ليتكلم معه مجددًا في محاولةٍ لفهم ما يدور حوله. لكن عوضًا عن ذلك كانت ايلا. عندما دخلت، عانقته اولًا عناقًا حميمًا قويًا ، بادلها العناق بخفةٍ و مسح على شعرها الطويل برقة "انا بخير، لا اعلم ماذا حدث لكنني بخير."

مع ذلك لم يبعدها عنه، شيءٌ ما في تعابيرها اخبرها انها ليست مستعدةً لتنظر الى وجهه لسببٍ او لأخر، هيئتها المرهقة لم تجعله يتجرأ على ابعادها ولو انشًا واحدًا، مستعدًا تمامًا ليقف بالقدر الذي تريده يبادلها العناق. كانت لمساته عكسها خفيفة كيلا يضغط عليها او يؤذيها في مكانٍ ما قد اصايبت به، غير داريٍّ تمامًا في اي مكانٍ هي مصابة، لكنه واعٍ فقط لحقيقة انها مصابة. ولا يريد ان يسبب لها اي اذى ولو بدون قصد، عكسه، كانت تعانقه بقوةٍ غير آخذةٍ للألم الذي قد تسببه له

"اخفتني." همست له بصوتٍ خافت، و دفنت وجهها في قميصه عميقًا لأخر مرةٍ قبل ان تبتعد اخيرًا لتنظر الى وجهه الناعس. مما جعل جون يبتسم اخيرًا منذ ان استيقظ قبل ساعات "اعتذر لهذا."

"هل كان هنالك داعٍ حقًا لتفعل ذلك؟."

تلاشت و قلب شفتيه "لم افعل اي شيء يا ايلا، على الاقل انتِ صدقيني."

"ليس هذا ما يقوله طبيبك." الطريقة التي تحدثت بها جعلت ذكرى مكررةً تلمع في رأسه، شيء ما جعله يكره ذلك كثيرًا، فإبتعد عنها وجلس على طرف السرير.

"انه مخطئ اذن."

في ذات اللحظة فتح الباب مجددًا مقاطعًا النقاش الذي كان يوشك على الاحتدام، و دخل بلايك اولًا، ينظر بعينين حادتين عابستين اليه، لم يكن جون غير معتادٍ عليها، حتى في احيانٍ كثيرة يسخر قائلًا انه نسي تعابير وجهه الحقيقية و لا يتذكر له لحظة مبتسمًا فيها. هذه المرة، كما خمن، كان لديه سبب حقيقي ليستشيط غضبًا ، غالبًا اخبره ويليام بالتحاليل كما يظهر. وما هي الا لحظات لينقض عليه. لكنه ذهب صامتًا يقف قبال النافذة، امه وراءه تنظر اليه تهز رأسها ثم ولت انتباهها الى جون ومشت بخطواتٍ مستعجلةٍ تأخذه في عناقٍ قويٍّ اخر "حبيبي...كيف تشعر الآن يا فتاي؟."

"انا بخير يا جدتي." غمغم جون، لأنها كانت تحتفظ بوجهه بين يديها، تبعها صامتًا دخل ادوارد الى الغرفة. ينظر الى وجه جون بشيءٍ لم تستطع ايلا تمييزه، لكنها ادركت فقط ان الرجل كان ما يزال تحت تأثير الصدمة التي سبق وعاشتها من قبل، الفرق انه لم يعثر عليه ميتًا كما عثرت هي على أمها ميتة، بسرعة سحبت الكرسي القريب منها له "اجلس يا جدي..هل تريد ان احضر لك ماء؟"

تهاوى على الكرسي ممتنًا، لأنه طوال الطريق الى الغرفة لم يكن يشعر بقدميه، وكان يعرف انها مسألة وقتٍ قبل ان يتهاوى اصلًا. اخفى يده المرتجفة في معطفه وأومئ لها ممتنًا. رؤية جده هكذا، جده القوي المهيب، الذي لا يثني كلمةً يقولها عليلًا ، أثر في جون كثيرًا
فنهض من السرير وارتمى عند قدميه "جدي، اعتذر على كل الرعب الذي سببته لك، انا اسف ، هل انت بخير يا جدي؟ ما خطبك؟."

كان اخيرًا دور ادوارد ليلمسه، يضع يده على الوجه الذي رباه واحبه. ربما لم يفصح ادوارد بالكثير عن الحقيقة التي يبقيها لنفسه، لكن ابوته التي لم يستطع ممارستها لبلايك مارسها لجون، مشاعره خرجت حقيقية و قوية من اعماقه، ربما بسبب طبيعة جون المسالمة الطيبة التي من الصعب كرهها، عكس ابيه الذي كان دائمًا صعب المراس في اغلب الاوقات، لكن من غير العدل ان يربط حب ادوارد لجون بسبب طاعته له، ففي جون كل ما يدعوا المرء الى حبه. كان ابنه، من صلب صلبه. هو من كبر هذا الطفل حتى اشتد ساعده وغدى رجلًا يعتمد عليه. هو من علمه كل شيء واهتم به واعتنى به وراقبه بعينين محبتين طوال حياته. رؤيته جامدًا على السرير بلا حراكٍ حرك شيئًا ما في داخله، حطمه و جمد الدم في عروقه.

"لا بأس، أنا بخيرٍ يا فتاي الطيب. اما انت.. هل اصبحت كذلك الآن؟."

و وضع يده على وجنته التي نمت عليها شعيراتٌ قصار، فصارت خشنة الملمس، و شعر جون بيد جده ترتجف ضد بشرته. فنظر له بأسى ، مكررًا مجددًا "انا اسفٌ يا جدي."

"اين اخطئت بالضبط ، يا جوناثان؟" قال ادوارد مغمضًا عينيه ، ناسيًا ان الجميع حوله، و انقبض قلب جون في صدره ، يضع رأسه على ركبته مؤكدًا "انت لم تخطئ ابدًا يا جدي..ابدًا، ليس أنت."

"هل فاتني شيءٌ اذن؟ نعم لا بد ان هذا هو خطئي..لم انتبه لك ولم اوليك الانتباه الكافي.." رفع جون رأسه عن ركبة جده، وهز رأسه مستنكرًا مرةً اخرى
"ابدًا..

فتح الباب فجأةً ودخل ويليام، ينظر الى المشهد المشحون مستغربًا، لكنه فهم ان ادوارد كان يعاتب جون من وجهيهما، لذلك لم يشئ ان يضغط على الفتى اكثر من ذلك، فقال "عمي، بما اننا بالمستشفى تعال لنقس لك ضغطك، وانت يا جون..سنخرج الآن، حتى، يمكنك ان تذهب الى السيارة فنايت عاد."

خرج بلايك من الغرفة وانتظر ويليام ليستفسر منه. كان عليه رغم نوبة اكتئابه المفاجئة و سوء مزاجه ان يتأكد من ان كل شيءٍ على ما يرام، كما وعد نفسه ان سيفعل.

لم يشأ ان يدخل نفسه في مشهدهم، ان يلمسه او يعانقه او يربت عليه كما يفعلون، شعوره بالإشمئزاز كان يتفاقم في كل لحظةٍ من نفسه، لم يكن يستطيع ان يدفع نفسه بالصورة لأنه لم يستحق هذا بعد، وغالبًا يعرف انه لن يستحق هذا، كما اخبره الاريك ان يفعل. نصحه الا يتمسك بالوهم و يبقى نفسه واقعيًا. لا بأس ان لم يظهر حبه كما يفعلون تجاه بعضهم، يكفي انه يفعل و يعمل صامتًا لأجلهم و سيفعل ذلك دائمًا.

لكن مع ذلك مشهد جون وابيه بقي في رأسه عالقًا، اثر به اكثر من تأثر ايلا برؤية اخيها واقفًا، لأنه يعرف في قرارةِ نفسه ان ابيه اخذ مكانه لدى ابنه، يعرف انه كان الأب الذي لم يكنه بلايك، حتى وان انكر بلايك ذلك. لكن فوق كل شيء، اصغر الاشياء التي كان يفعلها بلايك في سبيل اسعاده كان يكف عن فعلها ولا يتذكر لماذا، ربما لأن جون في كل مرةٍ كان يحبطه، لأنه اصلًا وجد بديلًا خيرًا له منه ، بديلًا كان دائمًا واقفًا بجواره عندما يوليه بلايك ظهره بسبب مشاكله مع نفسه وعدم تقبله لرؤية الطفل في احيانٍ كثيرة، بسبب ضعفه الذي يعترف الآن به

***

راقبت اجاثا تحيك في صمت قطعة ما مجهولة، ومشت كاميلا متجاوزةً القط الرمادي و نظرات ليلي الكسولة التي تتبعها. صعدت السلالم عينها مثبتة على شاشة الهاتف تنتظر ردًا من اختها التي اختفت مع زوجها. لكنها ايضًا ولت انتباهها للجميع حولها، قلبها مقبوض قليلًا، ارتاحت بعض الشيء عندما سمعت الا ضرر جسيمًا حدث له، لا تدري كيف فاتها انه اصيب بوعكةٍ صحيةٍ في قلبه قبل اقل من شهرين، لحسن حظها انه لم يترك اثرًا جسيمًا كما يبدوا، لكن كانت تعرف ان ما ارداته قد حدث وانتهى، الان لا مشكلة متوقعة من جون، فأي شيءٍ سيقوله كان سيبقى دائمًا مدعاةً للشك. حيث سيظنون انها نتاج هلوسات ومسكنات. نالت كاميلا ما ارادته بأقل الاضرار المتوقعة. بقي فقط ان تتدبر أمر الفتاة الفرنسية. تلفتت حولها. ثم دلفت الى غرفة جون المظلمة. لم تشعل الانوار لأنها كانت تعرف تمامًا الى اين تذهب. ازاحت الوسادة و سحبت علبة الادوية اسفلها. ثم رمتها بعشوائية وخرجت من الغرفة.

عندما عادة الى الفيلا التي اصبحت فارغةً تقريبًا الآن. صعدت الى غرفتها وغسلت وجهها، كان ضياع قلادتها يشغل حيزًا من عقلها، لكن الأولوية كانت لأخيها الآن، الذي ما يزال ينتظر مع جدهما في المستشفى. نظرت الى انعكاسها في المرأة، انفها محمرٌ قليلًا، وعينيها اسفلهما سوادٌ خفيف، على الاقل كانت افضل حالًا من بلايك الذي سار الى غرفته صامتًا. عينيه كانت تشير الى انه موشك على رمي نفسه في السرير ليأخذ قسط الراحة الذي لم ينله.

جلست على طرف السرير. تحدق في شاشة هاتفها في صمت. من جهةٍ اخرى وقف بلايك في مكانه ينظر بحاجبٍ مرفوعٍ الى زوجته في منتصف الرواق تحدق بعلبة الادوية في يدها بتفكير. مشى اليها وعندما رفعت نظرها اليه جفلت، استطاع ان يرى الرعب في عينيها. لسببٍ او لأخر. لكنه توقع انه ارعبها بإنفعاله السابق عليها. مع ذلك لم يستطع ان يطمئنها او يهدئ من روعها لأنه لم يكن يهتم، اراد فقط ان يستلقي على سريره بلا حراك، لكن عندما انتبه الى ان باب غرفة جون مفتوح نظر لها "ماذا كنتِ تفعلين بالداخل؟."

"لا شيء.."

"ما هذا الذي بيدك؟"

هزت العلبة ببساطة مبقية اياها بعيدةً عن متناول يده ، لا يظهر منها سوى غطاءها الابيض ، لا الشعار "الروكتان، لم اتوقف عن اخذه كما تعلم."

كان دوره ليكذب بلا اهتمامٍ هو الأخر
"انا عندي عمل، سأذهب مع الاريك..جاسبر هو من سيأخذكم."

شيعته يبتعد، وهمست وراءها "احمق."

انتهت ايلا من حزم حقائبها تمامًا متأكدةٌ انها لم تنسى شيئًا، عدا طبعًا قلادتها التي فقدتها. و خرجت من الغرفة تراقب كلوديا التعيسة تمشي امامها وتغطي وجهها بشعرها كي لا يراه احد. والدها نظر لها بإشفاق و افسح المجال لها لتعبر خارج المنزل تنتظر في السيارة، من جهةٍ كان ستيفان الذي عاد للتو من قلب المدينة لأنه كان يتهرب من بلايك بلا تعابير حقيقية تجاه ما حدث. بطبيعة الحال كان آسفًا لذلك. وكان حزن ابنته يمزق قلبه. لكن عيني بلايك الحادتين كانتا ما يبقيانه متصلبًا حتى لو لم يكن بلايك موجودًا. فقد ادرك ستيفان انه لسبب او لأخر قرر التفتيش مجددًا وراءه و التلويح بالاتهامات سرًا و جهرًا. وهو لن يسمح لنفسه ان يضعف امامها. الا ان بلايك الآن ايضًا لم يكن موجودًا على مد البصر. فما جعل ستيفان مسترخيًا قليلًا رغم انه كان ينوي ان يسأله عن حال ابنه وان يظهر له المواساة الصادقة.

حمل حقيبة ابنته ومشى يلحقها الى السيارة.

قال ايفان يقطعها من شرودها "ماذا تنتظرين؟ هاتِ حقيبتك هيا، نحن ذاهبون."

تنهدت ايلا وعادة الى غرفتها الفارغة الآن، نوافذها كانت مفتوحة يدخل منها نسيم ثلجي بارد. جعل منها تنكمش على نفسها وتتقدم لتغلقه. اخدت معطفها ودفنت نفسها به، و جمعت شعرها مرةً اخرى في ذيل حصان. وتناولت حقيبتها الى الاسفل. تهاوت اوراق الشجر في الارض، تتعرى الاشجار قبل دخول الشتاء رسميًا. وهو ما كانت بوادره يحس بها المرء فقط بالوقوف خارجًا والتعرض الى النسيم الهادئ.

قفزت ايلا فوق المستنقعات الصغيرة المتخلفة من المطر. تتجه الى ايفان الواقف يضع الحقائب في السيارة. اخذ حقيبته منها ورمى بها مع البقية ثم اخيرًا اغلق الباب. فتحت ايلا الباب الخلفي لكن ايفان اوقفها "نحن وحدنا."

"و نايت، الن يأتي؟."

"ذهب بالفعل.. و جون مع ويليام."

فأغلقته و سحبت الباب الامامي تركب. اتكئت على النافذة تحدق بالشجرة العجوز حيث كانت تتأرجح قبل يومين او نحوه. و ربما طال الصمت اكثر من اللازم و لم يتحرك ايفان من مكانه. يحدق هو الاخر بالبعيد، اخيرًا ادار المقود و هدرت السيارة ، التفت الى ايلا "بالعادة تثرثرين بلا توقف، ما الأمر معك الآن؟."

نظرت له بإمتعاض "انا اثرثر؟."

"ليس تمامًا ، لكن تعلمين ما اقصد."

"انا لا اثرثر هذا اولًا."

سخر ايفان "واضح."

فتجاهلته وتابعت "ثانيًا، لا مزاج لي في الحديث واخي مريض و ذكرى امي مفقودة. انا لست ببلادتك لأتصرف بلا اهتمام او اخفي حتى اهتمامي. انا خائفة.." وسكتت

صمتها قال الكثير، اكثر مما كان بإمكانها ان تقوله بالكلام. لأن شفتيها مجددًا ارتجفتا ثم سكنتا بعدما عضتهما ايلا.

قال ايفان، يرتدي نظارته الشمسية دون ان ينظر اليها
"اولًا. هذه تسمى ثرثرة..ثانيًا، جون بخير وهذا ما كلنا نعرفه الآن، اخيرًا، ها هي ذي قلادتك في المنديل بحامل الاكواب."

نظرت له بلا استيعابٍ و بحثت عنها. حيث منديل متجعد بداخله الِّفت السلسلة الذهبية الرقيقة، وعندما سحبتها ورأتها توسعت عينيها "اين عثرت عليها؟."

"ليس في الطين طبعًا، اتضح انها في سيارة ديريك بالمقعد الخلفي بين ملابسه. هذه المرة كوني اكثر انتباهًا.." قاطع كلامه ارتماءها عليه تعانقه بقوة و بحماس
"ايفان، شكرًا لك..لا اصدق، شكرًا لك."

رمش ايفان بلا استيعاب. ثم رسم شبح ابتسامةٍ خفيف على شفتيه وهو يضع يده على ظهرها يربت عليه يلطف. استوعبت ايلا ذلك وابتعدت اخيرًا تنظر له بحرج ، مكررة "شكرًا لك لأنك عثرت عليها."

****
٣٠٠ صوت/فوت = بارت جديد، لا تنسوا يا رفاق

سبع الالف وخمسمية كلمة! من طوله الصور ما حملت، واو صدق ما حسيت بنفسي وانا اكتب

حدثكم المفضل؟

اكثر حدث مؤثر؟

بلايك؟

جوني؟

ادوارد؟

ايلا؟

جوليا حلوتنا؟

كاميلا؟

اخرون؟

Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro