١٢
-فوت قبل الشروع بالقراءة-
سبحان الله
--
بما يشبه الهذيان الإثيليّ استفاق جون ، يشعر بالبرد يتأصل في عظامة و برغبةٍ ملحةٍ لتقيؤ تداهمه و بشدّة ، تلاشى كل اثرٍ باقٍ للنعاس الذي كان هو السبب الرئيسي لجعل اليزابيث تغرق قلقًا وكل نصف ساعةٍ تاتي لتتأكد من النبض لولا انها انشغلت الآن ، كان يرتجف في مكانه و ذهنه يتخبط
دارت عينيه في محجريهما اول الأمر ، عندها استوعب انه في جناحة بغرفته وعلى سريره ، كل شيءٍ يبدوا طبيعيًا كما كان دائمًا ، لكنه ليس طبيعيًا بالمرّة .. يدرك ذلك ، هنالك شيء مختلف في نفسه وليس في المكان ، آلم هادئ في صدره ، ليس جسديًا بقدر ما هو آلم نفسيِّ ساحق ،
الباب مغلق و الرواق القابع خلفه يقبع في السكون والصمت و الغرفة نفسها تغرق في ضوءٍ سماويٍّ يتسرّبُ من مكانٍ ما ، بحث عن جهاز التحكم و اغلق التكييف ، ما تزال الغرفة باردة
كما هي لكن على الاقل توقف تدفق الهواء الذي كان يلفح جسده
تحفزّ قطه السيامي الرمادي عندما تنبه لحركة صاحبه المنهكة على السرير ، و استطاع جون ان يره في الطرف الاخر من الغرفة يقف فوق مجموعةٍ من الكتب ، عينيه خضراوين متقدتين و متوهجتين، في ايامٍ اخرى كان ليتذمر منه لأنه يقف على مجموعة كتبه الغالية
فتح جون فمه ، الذي كان ناشفًا للغاية ، وندّه بصوتٍ تعب "دانتي.. تعال هنا يا فتى."
لم يكن يحتاج القط الى اكثر من هذه الاشارة ليقفز من مكانه ويقطع المسافة بينهما ، صعد السرير و تجاوز الاغطية ليعتلي صدر جون ويستلقي بكسلٍ معتاد منتظرًا اصابع صاحبه ان تعبث به ، فسحبه جون اليه و قربه منه اكثر يحك المنطقة خلف اذنيه ، فغرغر القط بسعادةٍ وهمس الشاب في اذنيه بكلماتٍ عشوائية بالفرّنسية و الانجليزية كعادته دائمًا
عندما اصبح ذهنه صحوًا اخيرًا وقد اعتادت عينيه على الانارة الخافتة بما فيه الكفاية ليستطيع تبيُّن الأشياء ، بحث عن هاتفه وسط العتمة ، كان الوقت يشير الى ساعةٍ من العصر ، وكان الضمأ يجعله حانقًا ، تجاوز مرحلة الغثيان منذ فترةٍ و سار بخطواتٍ متعثِرةٍ عمياء ناحية الإنارة ليضيءَ الغرفة ، و تناول بحركةٍ محمومةٍ قنينةَ ماءٍ لم يلحظ وجودها قبلًا ، فتحها و شرِبها بشراهةٍ حتى آخر قطرة
وعندها استعاد السيطرة على نفسه ، في البداية آلمه بطنه لأنه شرب سائلًا بهذا القدر على معدةٍ فارِّغة .. لكنه تجاوز الأمر ايضًا
ثم توجه ناحية الحمام يقاوم الجوع المقيت ، و خلع ملابسه و ادخل نفسه في كابينة الاستحمام تحت مياهٍ معتدلة، الاستحمام اعاد عقله في رأسه و قلص عضلاته وقبضها في الم هادئ و لذيذ ، جعلته الراحة التي أحس بها يفكر بالمهم ، تذكر ايلا التي لم يرها منذ ليلة أمس ، و اللوم يقع على الادوية التي اكسبته خمولًا وجعلته طريح الفراش برغبةٍ او بدون ، من العدل القول انه كان يفكر بها حتى في المنطقة الرمادية بين الوعي و اللاوعي و اليقين و اللايقين ، في تلك البقعة الغير واضحة المعالم ، يتذكر الطريقة التي يتجعد فيها انفها عندما تبتسم ، او طريقتها في ارتشاف كوب القهوة ، او حتى محادثتهما الاولى و الاخيرة في المقهى الصغير القابع على مقربةٍ من مستشفى آل سالفاتور الخاص ، يتذكر حتى تلك القلادة الذهبيّة التي طبع عليها شكلًا لوردةِ ، يتذكر هذا التفصيل جيدًا دون غيره .. كيف لا و قد كان لأمهما واحدةً مثلها ترتديها على الدوام ، بل انه لا يتذكر يومًا واحدًا لم تكن فيه بدونها
ايلا الحلوة المسكينة لم تكن تعلم في ماذا وقعت ، لو انه فقط علِّم بوجودها ، لو أنه علِّم ان كل ما يعرفه كان محض كذبةٍ مقيتة اخرجها احدهم بأنانيةٍ مطلّقةٍ يجب عليه ان يحاسب عليها ، لما كان ايًا منهما هُنا ، يده حطت على زجاج الكابيّنة المغشي تحت طبقةٍ من البخار ، اصابع يدع المشبعة بالماء حكت الزجاج بقوةٍ بإنفعالٍ خالصٍ و دون قصدٍ منه ، لكن عصبيّته لم تترك اثرًا ملموسًا في الزجاج ..
اطفئ رذاذ الماء ، و لف منشفةً على خصرِّه وهو يتوجه ناحية الدولاب يفتش عن ملابسٍ يضع نفسه فيها ، لم يكن يبالي لحقيقة انه مبلول .. وفي وقت متأخر تأسف على ذلك
خرج من جناحه ، و ترك الباب موارِّبًا ليترك الفرصة لدانتيّ أن يخرج و يذهب اينما يريد الذهاب ..
ساق نفسه ، رغم شعوره بالجوع و الهوان الى غرفة ايلا بحماس وبهجة ، حيث خمن انها ستكون موجودةً ..
قرع الباب مرةً او اثنتين ، وانتظر في صمت .. ولم يتلقى ردًا
فعاد بأدراجهِ يجر اذيال خيبته ، متساءلًا اين عساها تكون..
***
كانت ايلا في الحديقة تتجول بعد اجتماعها بجدتها ميرديث منذ سويعات، مستمتعةً بالهواء النقي المشبع برائحةٍ طيبةٍ و فواحة للأزهار ، حتى صوت هدير الماء القادم من النافورة بعث داخلها على احساسٍ من السكينة ومحى اي اثرٍ من التردد و الحيرة ، جعلها على بينةٍ من امرها وواضحةً تمامًا لما تبغيه ، اولًا المعرفة كبداية .. ، عليها ان تعرِّف كل شيءٍ ، علها بهذا تشفي قلبُها وضميرها
استندت على سور الحديقة المعدني الأسود الذي اخذت نباتات جهنميةٍ صغار على عاتقها مهمة تسلقه ، فبدا له التفصيل كواحدةٍ من المنازل الارستقراطية التي تصوِّرها الافلام
يفرغ عقلها فتحس بصمتٍ عميقٍ في اماكن اخرى ، اخترق الصمت رنين هاتفها في جيب الفستان ، كانت غير مستوعبةٍ لذلك ، تراقب سيارةً تمر من امام المنزِّل ناحية المنزل المجاور .
اتصلت صديقتها فايَّ ، بضجيجٍ معتادٍ اثر عملها في مطبخ والدتها، تخترع شيئًا ما على الارجح ، تزامن مع ردِها على الاتصال صوت وقوع زجاجٍ على ارضٍ صلبة ، ثم بضع شتائم خرجت عن سياق الادب واخيرًا صوت صديقتها المنفعل "ايلا ، قولي لي انني أتوهم انك ذهبتِ الى بلدٍ اخرٍ دون كلمة عن اي شيءٍ اطلاقًا؟."
"طمئني قلبي، واخبريني ان ما كـسر للتو ليس احد اطقم امك البورسلين؟."
"لا لاعليك اعتقد انه شيء جديد و ليس ذو قمية ، لا تغيري الموضوع .. ركزي في حقيقة انك لست في باريس بل في مدينةٍ اخرى خارج فرنسا برمتِها دون ان تخبريني بأي من ذلك."
"كان علي ان اذهب ، لا تعرفين ما الذي حدث .. اه لو انك تعرفين فقط." تنهدّت بصوتٍ خافت ، تنهيدة حاولت كتمانها حتى امام شخصٍ تحبه ويحبها كفايِّ ، بقيت فايِّ صامتةً دون ان تحرك شيئًا من مكانه ، وايلا تحدق في حذاءها الأبيض تتأمل كيف تحرك الريح العشب ليداعبه ، خلعت نعليها لتجرب احساس الدغدغة الذي تخيلته ، ووجدته احساسًا محببًا يبهج القلب لكنه ايضًا ينم عن تراخي حاولت بجد اخفاءه
قالت فايِّ من الطرف الاخر تعاود تحريك الاشياء فيما يبدوا كمهمةٍ صعبة "اعرف ما يحدث.. الجدة ماريَّا اخبرتني بكل ذلك ، اعتذر ما كان يجب علي ان ابدأ محادثةً معكِ كهذه ، اعصابي مشدودةً و اموت معها قلقًا ، المرأة المسكينة شارِّدة الذهن.."
"ارجوكِ يا فايِّ قدمي لي خدمة .. واعتني بجدتي جيدًا."
"اي كلامٍ هذا تقولينه؟ بالطبع سأفعل ، هي جزء من عائلتي ايضًا ، مثلك تمامًا ، على كلٍ اخبريني كيف هي لندن ؟ امل انها لم تخيب ظنّك.. وكيف هي عائلتك الجديدة؟."
"انا لا اعرف عائلةً الا انتِ وجدتي .. و الآن هناك جون ، على الاقل حتى الان." اضافت جملتها الاخيرة باحساس مقيت للذنب ينتباها وهي تتذكر العقد الالماسي الغالي القابع منتظرًا على سريرها برفقة فستان لم تكن لتحلم بارتداء مثله، وهناك ايضًا الطيبة الصادقة التي تطل من عيني المرأتين اللتين يهتمان بأمرِها اكثر مما توقعت ، ظرافة نايت وخفت دمه ، غرابة اطوار العمة اجاثا ، و ذكاء ادوارد الحاد وحديثه حديث العارِّف بأدق التفاصيل ، حتى في اصغر الاشياء
جميعهم كانوا اشخاصًا فريدون من نوعهم و سهلوا المعشّر ، عندما تفكر في لو ان ايًا من هذا لم يحدث .. كانت توقن بأنها ستحبهم دون شروط كحبها لأمها و جدتها ماريّا ، هذا الحب العائلي الغني بالدفء و التنازلات و التضحيات
شاهدت الرجل الذي خرج من السيارة ينظر اليها ، كان شابًا ذي شعرٍ بُني اللون وبشرةٍ شاحبة تغطي عينيه نظارةً سوداء شمسية لا حاجة بها ويتشح بمعطف طويل ، وهي في المقابل ابعدت الهاتف قليلًا عن اذنها عندما احست بنظراته من اسفل النظارة التي تغطي وجهه مصوبةً عليها ، ينظر اليها دون حرّاك ، التقطت حذاءها و سارت مبتعدةً تمشي حافيةً على العشب حتى وصلت الى النافورة و جلست على طرِّفها ، تستمع الى فايَّ القلقة تقول شيئًا لا تدري ما هي هيته ، جل اهتمامها كان على الشاب حسن المظهر الذي لم يشح بنظره عنها ، وقد انتبه الان على انها انتبهت لوجوده ، يده ارتفعت فيما يشبه تحيةً سريعة .. وراقبته ايلا وهو يغلق باب سيارته الرياضية الفضيِّة و يدخل الى الفيلا حديثة الطراز
"عفوًا لقد سرحت .. ماذا كنت تقولين؟."
تنهدت فايِّ بضجر وتمتمت "حسنًا .. هنالك اشياء ابدًا لا تتغير.." وقالت بجديّة "كنت اقول انك لا يجب ان تستوحشي هكذا ، اعرف ايضًا انكِ عنيدة و صاحبة ارادةٍ قوية بطريقتك المتسللة تلك ، عليك توجيه نفسك جيدًا لتفادي الحالة ، لا الغرق فيها ، اخبريني ماذا يحدث عندك؟."
كان لفايَّ اسلوبها النفسي الذي تدرسه في حلقةٍ خاصة تؤهلها لدخول الجامعة ، تمامًا كحال أمها الإخصائية الاجتماعية ، قالت ما قالته بكل ثقة و بدون مجالٍ للتساهل معها او حتى معارضتها ، احدى الاشياء التي تكرهها ايلا فيها وتحبها
"هذا الحوار ينبغي ان تجريه مع شخصٍ اخر ، تعلمين؟ لا اعرف كيف هي هية هذه الحوارات ، كيف اقول كل شيء بطريقة مبسطة .. يظهر ان الرجل الذي يكون ابي لا يرغب حقًا بوجودي ، هو لم يقل هذا او يظهر ردة فعلٍ محسوسة لكن النظرة في عينيه التي لا اعرف كيف اسميها حقًا ، لعلها كانت خيبة امل ، وهنالك ايضًا تجاهله لأمري قال الكثير يا فايَّ ، لكن لا عليك .. لست اهتم حقًا لأمره ، اهتمامي منصب على جون ، افضل ما قد احصل عليه في حياتي كلها .. البقية كانوا جيدين معي ، عدا ذلك لا اعرف ما اقوله."
على ذكر جون ، رأته خارج المنزل يقف للحظةٍ ليتنشق الهواء المنعش .. ضامِرٌ وتعب لدرجة احزنتها واثارت فضولها ، لكنه عندما تنبه لوجودها اضاء وجهه بابتسامةٍ سعيدة وهو يتوجه ناحيتها حثيث الخُطى
وقالت ايلا بلهفةٍ هي الاخرى "جون قادم .. فايَّ سأغلق الان ، احادثك لاحقًا .. حسنًا؟."
"وداعًا حبيبتي ، ياويلتي لن استطيع دفع فاتورة الهاتف لأمي حتى اصل الى القبر .. اعتني بنفسك و احرصي على ان تكوني سعيدة."
انتعلت نعليِّها و دست الهاتف في جيبها و نهضت لتقطع المسافة بينهما ، العناق بينهما كان افضل ما حصل لأثنيهما طيلة اليوم .. جون خاصةً ، مرغت ايلا انفها في صدره وهي تسحبه اليها اكثر ، وقد كان فارِّق الطول بينهما محببًا
"لا تعلمين كم اشتقت لك." همس هو ، يبعدها ليستطيع رؤية تعابير وجهها المليّح
"انا التي اشتقت لك .. طيلة اليوم احوم حول غرفتك انتظر استيقاظك لكنك لم تفعل."
لم تستطع ان تعبس حتى وهي تعاتبه ، احبت ان يكون لها أخ يحادثها وتحادثه ، حتى الطريقة التي يحتفظ بها بيديها الاثنتين بين يديه ادفئت قلبها وجعلتها تبتسم اكثر رغمًا عن انفها
سحبها جون الى النافورة ذاتِها "اعتذر .. ليتك ايقظتني برش الماء المثلج ، انا أامرك ان تفعلي هذا كلما اشتقتِ لي ووجدتني نائمًا."
قهقهت بسعادة من الجدية التي يتحدث بها ، وجلس الاخوين على حافة النافورة في منتصف الحديقة متجاهلين العالم بأكمله
"كيف تشعر الان؟."
"كأن روحي ترفرف من فرط السعادة .. وجودك معي في مكانٍ واحدٍ يفعل كل هذا.."
قالت بقلقٍ امومي ، يعجبها مدى قربه منها "لم اكن اسئل عن هذا جون ، انا اعني كيف هو حالك حقًا؟." لوهلةٍ ظهر تعبير متذمر على محياه ، ونظر الى السماء السماويِّة المشرِّقة يتأملها ، وقال "انا بخيرٍ يا ايلا.. حقًا اشعر انني افضل مما كنت طيلة حياتي كلها ، و الفضل يعود لك .. اعدتي الي الرغبة بالحياة حتى دون ان تدركي هذا ، لا تعلمين كم تعنين لي." اخفض نظره يراها تبادله نفس المشاعر في عينيها ، دون حرفٍ ليُقال ظهر له هذا جليًا .. لكنه لم يعرف ايضًا انه بدون قصدٍ قذف شيئًا لتفكر به الى عقلها ، وجعل ملامحًا من الذهول اخفتها بمهارة ، ماذا يعني انها اعادة اليه الرغبة بالحياة؟ الم يكن يمتلكها؟
"هل انتِ متوترة؟." عنى الليلة ، راح الاثنان ينظران الى الاستعدادات في الطرف الاخر من الحديقة تجرى على قدمٍ وساق ، مسترخيين اسفل السماء النعِسة و الرائحة العبقة للأزهار و هذا الاحساس بالانتماء الذي يلفهما كحُضنٍ أموميِّ يداعبهما و يبهجهما
"الى ابعد درجة."
لم يكن جون يعلم انها تعنيِها حقًا ، لكنه مع ذلك احتضنها اليه يحاول ان يخبرها بطريقته انه هنا معها مهما حدث
"كل شيءٍ سيكون بخير .. هذا ما اؤمن به."
لم تتحرك من مكانها بين احضانه ، اغمضت عينيها تنعم بذالك الدفء الذي مس كيانها كله ، وكم تمنت لحظتها لو انها تستطيع ان تقول له شيئًا يمسح الحزن المجهول عن قلبه ، ان تخبره ان جدتهما ماريا حيةً مثلاً ، لكن كيف له ان يغفر لها كذبها عليه ، وكيف لها ان تغفر لنفسها من الأساس انت حزن قلبًا مغمومًا ونقيًا كقلبه
كانت الدموع متجمعة في عينيها وهي بشدة حاولت كعادتها ان تكبتها ، تجنبت النظر الى الحديقة و حطت نظراتها على الشاب الذي ما يزال يراقبها والان صار يراقبهما معًا بنظرات لم تستطع استساغتها على الاطلاق ، رن هاتفها و عبست للحظة ، مبتعدةً بشكل حرجٍ عن جون الذي ابتسم و نظر الى السماء من جديد يستمتع بمداعبة الهواء العذب لوجهه ، كان رقم جدتها ماريَّا ينير الشاشة فجفلت ، لاحظ جون ذلك وسأل "من المتصل؟."
سؤاله باغتها و حاولت ان تنظر الى اي شيءٍ ليس وجهه وهي تقول "اه، انها صديقتي.. لقد غيرت رقمي منذ فترة لذلك لم اسجل اسمها بعد."
"ما الذي تنتظرينه ، حادثِها...انا سأمشي قليلًا ، ان اردت تعالي ورافقيني بعد ان تنتهي من مكالمتك."
"لا ، اعتقد انني سأحتاج وقتًا لاستعد لليلة ، لا تعرف كم انا مهووسة و ذعِرةً ، احتاج ان اتأكد ان كل شيءٍ سيسير على خير ما يرام."
"افعلي ما يحلو لك..اراك مساءً."
في اللحظة التي التفت فيها يمط جسده ويسير مبتعدًا ، نهضت ايلا بسرعةٍ و هاتفها في يدها ، لا تدري ان كان قد لاحظ توترها بالفعل وهي تحادثه ، لكن انفعالها ما يزال جليًا على محياها وهي تسير مسرعةً الى الداخل ، الى غرفتها لتحادث جدتها.
****
اندفع ذهن إيفان الى وعيٍّ واضح عندما فتح عينيه وراى ظلالًا برتقاليةً متسربةً من الستائر تبشر بقرب حلول المساء أخيرًا ، الغرفة تسبح في الصمت و الظلال الخافتة ، انتظر ان يدق المنبهة فوق رأسه — وبقي دقائقًا غارقًا بين الشراشف ينتظر ويترقب ، لكن شيئًا من هذا لم يحدث ، رفع يده وسحب الساعة و ميز الأرقام المتوهجة بشكلٍ واضح ، استيقظ قبل الموعد المفروض بعشرين دقيقة ، هذا اعطاه احساسًا بالرِضى و السعادة ، افلت الساعة بعد ان اخرسها تمامًا ، وبقي هنالك على السرير شبه عاريٍّ ، يستمتع بالدقائق التي وهِبت له بطريقةٍ ما ، وتلقائيًا عقله قادهُ للشعر الأسود و الفانيليا ، اللهجة الفرنسية الرقيقة وهي تلفظ كلماتٍ انجليزية لم يستطع ان يستوعبها بأي شكلٍ كان ، لكنه استطاع ان يفهم ما قالته بلغتها الفرنسية التي يظهر له انها لغتها الأم
نفض افكاره عندما اخذت منحنًا آخر ، ورفع جسده من على السرير .. ما يزال عليه ان يجري اتصالاتٍ وان يتفقد الأوضاع هنا وهناك
بعد حمامٍ قصير ، ارتدى بنطال بذلته و القميص الأبيض ، بينما بقيت ربطة العنق و السترة السوداء في مكانِها على طرف الأريكة ، خرج من جناحه ، مشغول الذهن بالعديد من الأشياء العشوائية والتي لا تقل أهمية عن بعضها ، لكنه اثناء مسيره ، فكر لوهلة وقرر مرتجلًا ان عليه ان يأخذ استراحة قصيرة من العمل ومن كل هذا، هذه الأشياء مهما بلغت أهميتها ليست باهمية أمه التي اوضحت له بما فيه الكفاية انها تريده هنا حاضرًا وكلُه ، استطاع ان يرى جون بشعره الأشقر ذي اللون الفاتح كجينات الالمان يوليه ظهره ، و يستند على الدرابزين ينظر الى الأسفل دون حراك ، من نظرة واحدة استطاع ان يقدر حجم التغير الذي لحق به بعد انتكاسته الصحية ، من وزنه الى شحوب بشرته المريض ، وضع يده على كتفه ، ليجفل الطرف الاخر ويستفيق من سرحانه ، كان شبه مصدوم و غالبًا مشاعره كانت بسبب استفاقه عنوة من أفكاره هكذا "ايفان - متى عدت؟"
"اليوم صباحًا ، كيف انت؟" الضمور على محياه وهذا الشحوب الغير طبيعي بالمرة اضافة لخسارته لوزنه جعله يزم شفتيه بغير رضىً ، الكتاب واضح من عنوانه كما خطر له، وأضاف مقطب الحاجبين دون ان ينتظر إجابة من الطرف الاخر "لا تبدوا بخيرٍ على الاطلاق...انت مريع يا صاحبي"
"ا يفترض بهذا ان يجعلني مسرورًا؟" تمتم جون عابسًا ، و اضاف "هذا ما تظنه .. انا افضل حالًا صدقًا."
"حسنًا يؤسفني ان أكون من يخبرك بانك لا تبدوا بخير على الاطلاق .. تعال هلُّم يا صاحبي ، الويسكي الاسكوتلندي خيرُ من يعيد اللون الى وجهك."
جره معه دون ان يسمح له بالتفوه بكلمة ، و جون بطبيعة الحال ، قرر سريعًا وتبعه
كان المساء يطل بنفسه بهيجًا بالخارج ، و اخذا الاثنين نفسًا عميقًا اعاد بالنشاط الى جسديهما ، واندفع الويسكي باردًا في حلوقهم وهم متكئون على شجرةٍ مسنّة كانا في عمرٍ اصغرٍ يتمازحان على انها اكبر من عمتهم اجاثا نفسها ، و الزجاجة تقبع بين العشب في المنتصف بينهما ، وهما واقفين يوليان المنزل وجههما ، اغمض جون عينه يستمتع بالهواء الذي يلفح وجنتيه الشاحبتين ، هذا الهواء في وقت سابق كان يجعله ينكمش على نفسه من فرط الكسل والتعب ، لكن ايفان كان محقًا في ما قال ، فالويسكي جعله متوقدًا من جديد و اكثر قابلية لتحمل والثبات ، كان ايفان الان يثبت عينيه الحادتين الفطينتين على الاصغر سنًا منه والذي من الاساس لا يبدوا انه منتبه اليه على اية حال
"اصدقني القول يا اخي." قال ايفان "ما الامر معك حقًا؟ لا اسأل عن صحتك نفسها فهذه مفروغٌ منها — تبدوا شارد الذهن ومهمومًا.."
عينيه بقيت مثبتةً على الجفنين المستترين اسفل رموشٍ ذهبيةٍ كثيفة ، يتجرع صاحبهما الويسكي دون ردود فعلٍ ملموسة بل وان شربه نفسها ناجم عن عواطف مكبوتةٍ و عميّقة ، ما زاد حيرة ايفان اكثر الناس فضولًا وعنادًا ، انتظره بصبر ، الكأس الزجاجي فرغ في جوفه ، واخذ هو الاخر يتجرع كأسه الى اخر رمقٍ دفعةً واحدة و بقي منتظرًا بصبر
كانت عيون جون الان متيقظتين تنظران بإنتباهٍ شديدٍ لنقطة في المنزل ، احدى ابواب الشرف الموصدة ، تتبع ايفان سيل النظرات ووجده يحدق ناحية شرفة الغرفة المجاورة لغرفة البيانو ، هذا جعله يتذكر رائحة الفانيليا و الشعر الاسود كريش الغربان ، كشعر اشخاصٍ يعرفهم ، بل بدت ملامح الفتاة نفسها اشبه ما يكون لملامح شخصٍ يعرفه منذ زمن ، لكن عقله لا يستطيع ان يصور له من هذا الشخص المجهول
"ماذا؟." سأله مجددًا دون ان يطيق صبرًا ، واعاد بنظرة الى الشرفة الموصدة دون اثرٍ للحياة فيما يقبع خلفها
"لا شيء يا ايفان ، هذا ما تتخيله انت." مط جسده ، اجابته لم ترضي محادثة لكنه حقيقةً لم يهتم لذلك، فكر في ان الامور ان بدت له عكس ما تبدوا ستكون مريحة اكثر ، ليس عليه ان يُقلق شخصًا اخر عليه ، في الواقع من السهل عليه دائمًا ان يظهر عكس ما يبدوا عليه بصورةً مثالية اكثر مما يلزم لكنها لم تثر شك احدٍ يومًا ، لذا استند اكثر على جذع الشجرة وتمتم والريح تداعب الشعر على جبينهِ "تتخيل."
كان المساء غنيًا برائحة الجهنمية و المياه و المريمية السوداء التي تماوج بعضها في بعض ، اوشك ايفان معلى ان يفتح فمه وهذه المرة ان يتكلم دون هوادةٍ كحاله على الدوام
لكن امه بشعرها الاسود و فستانها الذي يماثله لونًا اقبلت عليهما ، جون افلت الكأس خلف الشجرة ، لتقع على الارض العشبية الندية دون اي ضجة ، وابتسم ايفان بخفة
"حبيبي، اهلًا بعودتك." عانقت ابنها عناقًا اموميًا غنيًا ، وابتعدت عنه قليلًا تنظر الى وجهه الحليق حديثًا
"اهلًا بكِ انت يا امي." كان ما يزال يحتفظ بها بين ذراعيه ، متألقة وجميلة في فستان السهرة الاسود الذي ترتديه ، و الاقراط الالماسية التي عكست لونًا مثاليًا لعينيها البُنيتين كالقهوة ، نظراتها اختلفت لتستبدل باخرى ممتعضة و عارِّفة
"هل تعلم ان المتوعكين صحيًا خاصةً في العضلة القلبية ، لا يجدر بهم شرب الكحول؟." نظرت الى جون واردفت "رأيتك بالمناسبة."
ابتسم جون ببراءة و قال ايفان مقهقًا "صرتي تتحدثين كخبير."
"عندما يكون للأم ابناء مهملون مثلكم لا خيار اخر امامها ، الن تغيرا ملابسكما الان يا عزيزاي؟. و ليتصل احدكما بنايت قبل ان يغضب جدكما."
"انا هنا يا امي." هتف نايت جاذبًا انتباه الثلاثة ، بملابس رياضية و العرق يتصبب منه و ابتسامة بلهاء تعتلي محياه
"مرحبًا اخي، مرحبًا جوني ، مرحبًا يا جميلة الجميلات .. القمر يخجل من الظهور في حضرتك."
"لا تتملقني حبًا في الله ..كان الله في عوني، اي مظهرٍ هذا؟ اذهب واستحم وغير ملابسك، إن رأك ابي اؤكد لك انني لن اتوسط لك مجددًا."
قهقه بخفة و هرول الى الداخل ، و دعكت امهم جبينها بيأسٍ من حالهم ، ثم نظرت الى جون نظرةً صارِّمة وقالت "لن تشرب." ليرفع الاخير يديه الاثنتين بإستسلام ويهز رأسه
****
يبدوا الغروب لآيلا اشبه بروح هائلة مليئة مثقلة بالحياة تهبط خلف الافق حاملةً معها ذخرًا هائلاً من الاحلام و الخواطر ، و ذلك الإحساس المبهم بالحيرة تجاه كل الاشياء حتى نفسها التي ما كانت معتادة على الا تكون سوى واضحة و شفيفة اكثر من المياه العذبة ، نظرت الى الأسفل بنفس مغمومة و حدثت نفسها ان اليوم هو ما كانت تنتظره كثيرًا ، لاجله تخاصمت مع جدتها ولاجله تخاطر بكل شيء عرفته وبكل ما صدقته ، اليوم بشكل رسمي ستكون ايلا سالفاتور، ليس لنفسها على الاقل ما دام شبح الانتقام الشاحب يطوف حول رأسها يحمل محيّا امها التعِس
استندت على طرف النافذة بوجهٍ خلى من اي تعبير ، كانت جامدةً كتماثيل الجرانيت في الحديقة ، تراقب تدفق السيارات الذي لم يتوقف منذ نصف ساعةٍ ، الحديقة امتلئت برجالٍ و نساء ، تستطيع رؤية عمتِها تتحرك بينهم بإنسيابية ، وكم بدت جميلة و مثيرة للأعجاب لأبد حدٍ ، كانت تمسك بكأس نبيذٍ أحمر تتحدث مع شابٍ ذي شعرٍ اسود داكن لم تميّزه ولم تتعرف عليه ، بحثت بعينها عن جون ، لا لشيءٍ سوى لتطمئن قلبها ، رأته و تنفست الصعداء و عادت لتقف امام المرآة تكمل وضع مساحيق التجميل بروية ، حرصت ان تفعل كل الاشياء التي كانت تخجل ان تفعلها في فرنسا ولكنها كانت ترغب في ذلك سرًا ، ورِّدت وجنتيها الورديتين من الاساس و وضعت طبقةً ثقيلةً من الماسكرا لتبدوا عينيها اوسع و اشد سوادًا ، بقيت تنظر الى وجهه الفاتن ، و اطلقت تنهيدةً مثقلّة ، عادت لتقف قبال النافذة تتلصص لبعض الوقت
استطاعت ان تلّمح محاميها بيير متأنقًا كما هي عادتهُ، يقف بجوارِ عمها جايمس يتبادلانِ اطراف الحديث
ولفت نظرها ان بلايك مجددًا كان هنا لكنه لم يبحث عنها او يسأل ، وقد قررت انها لن تتوقع منه اي شيءٍ من الاساس ، يده مستقرةً حول المرأة داكنة الشعر التي خمنت انها زوجته ، اخذت تتفحص هذه المرأة الجميلة بفضولٍ ينهشها ، كانت مثاليّة ، الصورة التقليدية لأمرأةٍ غنيّة ، تضع يدها حول ذراع زوجها بتملكٍ فاضح وتبتسم لشيءٍ ما قالته المجموعة الواقفان برفقتها
"سنرى بخصوصك عمّا قريب." غمغمت قانطة ، لا تدري لماذا هي كذلك ، وبغضبٍ توجهت ناحية العلبة حيث فستانها ينتظرها و ازاحت الغِطاء ، رفعته فاذا بالقماش الناعم يلمس بشرتها بنعومة ، خلعت قلادة أمها ، و وضعتها بحذرٍ في الدرج ، كان الامر يستحق المخاطرة .. لذلك لم تكن تبالي حقيقةً ، مررت يدها على جلد رقبتها الناعم تتحسس البشرة بعد ان غادرها الملمس البارد لسلسلة الذهبية
عندما ارتدت الفستان استمتعت بالطريقة التي يلف فيها جسدها ويظهر انحناءتها بشكلٍ ممتاز ، ضيق في الاماكن المناسبة تمامًا ، رفعت هاتفها و صورت نفسها تحاول استرضاء جدتها التي كانت في اوقاتٍ سابقةٍ تسخر من حقيقة انها لا تحب ايًا مما ترتديه هي الآن ، و ارسلت الصورة قبل ان تقرر عكس ذلك ،
ثم و جلست على السرير منتظرةً دورها بصبر مفترس ينتظر فريسته ان تطمئن .
***
كانت ميرديث بجوار زوجها المنشغل بالاحاديث الجانبية مع اصدقاءه ، تتلصص على ابناءها وعلى بلايك بشكلٍ خاص ، كانت كاميلا بجواره كما هي دائمًا ، وكان ستيفان في زاويةٍ اخرى مع مجموعةٍ من الرجال و زوجته في مكانٍ ما في الحديقة لا تطالها عين ميرديث الان ، لكنها اخذت تدرس بجدية طريقةً مرتجلةً لأن تريا الاختين ما تعتقد انه سيحرق قلبهما.
اشاحت بعينها ، تبحث عن طيفٍ محددٍ لم تعثر عليه بالارجاء .. وبقيت في مكانها واقفةً تبادل التحيات بايماءةٍ سريعة رزيّنة ، في وقت لاحق كانت قد ارسلت فاتورة العقد الالماسي مع خادمة لتدسه بين حاجيات بلايك ، مع علمها التام ان كاميلا ستجدها و ستترقبها الى أن تسأم ثم ستتسأل لمن اعطاها ، محدثةً بهذا صدمةً لكاميلا التي انتظرت طويلًا قبل بداية الليلة ان يهديها بلايك العقد ، و الذي لم يفعل .
من جهةٍ اخرى في الحديقة ، اخذ ديريك جون في عناقٍ اخوي ، لا يدري ما يقوله ، اذ ان وجه اخوه البشوش صار يشبه اي شيءٍ الا جون نفسه "هل قال لك احدهم انك تبدوا مريعًا؟." بصراحة مطلقة تقريبًا تعتبر قلة ادبٍ منه قال ديريك
"نصف درزينةٍ من معارفي فعل ، لست الأول وغالبًا لن تكون الاخير."
***
امسكت بالعقد الماسيّ المبهر تحاول اغلاقه ، كانت قد ذاقت ذرعًا من الانتظار اولًا ، و ثانيًا عاودة نوبة التوتر تجتاحها ، و لم تكن واعيةً لزوج الاعين السوداء التي ترمقها من الباب المفتوح ، لكن رائحةٍ قويةً داهمتها مع احساس بالنظرات مركزةً على ظهرها ، التفتت بشكلٍ غريزيٍّ لتجد بلايك يقف عند الباب ينظر لها متأملًا ، يقارن كل شبرٍ فيها بجوليا بقصد او بدون "هل انتهيتِ؟." هو قال
ينظر بإهتمامٍ بالغ الى ملامح وجهها المرتبكة ، خروجه من العدم اجفلها و زاد الأمر سوءًا ، فارتجفت يدها من فرط الارتباك وهي تحاول اغلاق العقد بقلةِ صبر "نعم ، احتاجُ للحظةٍ فقط."
فشق المسافة بينهما لمفاجئتها و أمر ببساطةٍ "استديري."
فعلت ذلك طوعًا و احست باصابعه تلمس جلدها وهو يغلقه ، اخفضت نظرها لهوينةٍ وعندما رفعتها وجدته ينظر الى انعكاس وجهها من المرأة ، ادارها بلايك اليه عنوةً و قبل جبينها قبلةً عميّقة ، كان يوشك ان يقول انه اسف ، لا يدري عماذا يعتذر بالضبط ، لكنه اراد الاعتذار ، وارد ايضًا ان يفعل شيئًا ابويًا لم يفعله لجون منذ مدة طويلة.
"هل انتِ متأكدة؟."
عن ماذا يسأل بالضبط ، لا تدري ، فقبلته الغير متوقعه تمامًا صدمتها واربكتها ، لم تجد ما تقله فهزت رأسها ايجابًا ، و تناول حينئذٍ يدها في يده يسحبها الى خارج الغرفة
***
مستندةً على طرف النافذة سارحة في البعيد بعد ان تركتها هايلي مشغولة البال هي الاخرى منذ بداية السهرة ، الحزن ما يزال يعتلي محياها حتى ان الدموع عاودت الترقر في عينيها وهي تتأمله بمحياه المتعب كمحياها ، خسر القليل من وزنه و تشكلت اكياس سوداء اسفل عينيه ، وكعادته لم يلحظ وجودها حتى،اخوه ديريك يحتفظ بيديه الشاحبتين بين كفي يديه و يحادثه بجديةٍ حديثًا اخويًا مهتمًا، تراقبهما من ابعد نقطةٍ ممكنة حتى لا يستطيع احد رؤية دموعها و سماع نحيّبها ، و لم تكن كلوديا واعيةً تمامًا على الحركة الخافتةِ خلفها الى عندما سمعت صوت صرير الكرسي يحك الارض اثر جره ، اعطت نظرةً خاطفة تحاول ان تمسح دموعها قبل ان يشهدها هذا المتطفل، ووجدت العمة اجاثا بعينيها المتيقظتين على الدوام تجلس هناك ، استطاعت السيدة العجوز ان ترى من تراقبه الفتاة التعِسة والتمع شيءٌ بهيج و شغوف في عينيها
"تعلمين .. كل ما قاله ذلك الفتى الابله في تلك الليلة هراءً محض .. انه فتى تعيس و احمق ممتلى بالخيبات ، لكن الاله يعلم كم احبه."
"عمن تتكلمين يا عمتي؟." صوتها خرج متهدرجًا لكن واضح بما فيه الكفاية ، و لم تعرف مالذي قد تقوله ان سألتها عن ذلك
"عن جوناثان الابله بالطبع ، ابن ابيه حقًا ، كلاهما اعميين لا يريان من يهتم بشأنهما و فوق هذا لا يعرفان السبيل لتصرف مع بعضهما من الأساس." جملتها كفيلةً لتلقي على كلوديا خاطرة ان عمتها على علمٍ تامٍ بما يجول خلف ظهرها ، المرأة العجوز كانت مستمتعةً وهي تتحدث وتراقب ملامح الفتاة تجفل و تتوسع
"ميرديث فنت نصف عمرها تهذب كتلة العناد ذاك و ستفني النصف الاخر تفعل المثل مع ابنه ، اي سوءةٍ فعلتها هذه المرأة المسكينة الطيبة لتستحق هذا؟ اتعلمين - عندما احضره بلايك اول الأمر من فرنسا كنت اظنه طفلًا غريب الاطوار يهمس بكلماتٍ عن القصص الخيالية في اذن امه ، او يحاول ان يقنع ابيه انه لم يعد يريد ان يذهب الى الحضانة لأنه يعتقد ان تمضية يومٍ في حديقة منزله يحاول ان يشعل فيها الاوراق المتيبسة خفيةً افضل بكثير من اللعب مع اطفال اناسٍ اخرين لا يشاركونه ايٌّ من اهتماماته ، لكن بالطبع ايًا من هذا لم يحدث.. عندما عاد بلايك من فرنسا بعد خمس او سبع سنين قضاها هناك - لا اتذكر ذاكرتي ضعيفةً اصلًا يا بنية لعلك لا تعلمين انه كان محرومًا من التواصل معنا لسنوات سبع طوال فترة بقاه في فرنسا، ومعه زوجة وابنين اثنين .. فكرت في كم ان هذين الطفلين البريئين يشبهان لحدٍ ما أبوهما ، لا تتذكرين جايك على الاغلب ولا شك انك لم تريه في حياتك ، لكن هو من يمكن القول انه نسخة اخرى من ابوه ، اما جوناثان الذي كان ابن خمس سنين وقتها ، فإنه كما اخبرتني أمه مرةً انه نسخت من جده الأخر."
بقيت كلوديا في مكانها لا تستوعب شيئًا تمامًا مما يقال ، لماذا عسى ان يكون عمها محروم من التواصل معهم؟
في الواقع بادء الامر لم تلقي اي اهتمامٍ لكلام عمتها العجوز التي تنظر اليها الا كما لو انها ترمق اعتم نقطةٍ في روحها وتنتظر ان يترك وقع كلامها اثرًا قويًا ، وقد انتاب كلوديا ذلك الشعور المزعج بأنها مكشوفةٌ تمامًا ، خاصةً اسلوبها في قول جملتها الاولى عن ان جون اعمىً لا يستطيع رؤية من يهتم بشأنه، وخطر لها ان عمتها تعرف ما تخفيه في نفسها وهذا بالفعل ما كان ، لكنها تكذب نفسها خجلًا من ان تكون شفافة كما هي
فأثرت الانسحاب عوضًا عن المواجهة، لكن عينيها توسعتا فجأةً بوميضٍ حماسي ، و أول شيءٍ خطر في عقلها جملةٌ واحدةٌ فقط "جون ليس اخوها." لا تدري من مولد هذه الاشاعات ولماذا قالها جون من الاساس ، لعله نطق بها بفعل المرارة او اي يكن ما يحس به، لكن هذه محض كذبة ، محض هراء ليس حقيقيًا ، بقيت الكلمة تقرع في رأسها كنواقيس كنيسة في ليلة عيد ، وجهها شع بهجةً وابتسامةً لم تستطع كبحها بأي شكلٍ كان اعتلت محياها واستولت عليه كليًا "جون ليس اخوها." لم يكن كذلك يومًا ، سبع سنواتٍ قضاها عمها في فرنسا بزواجه من زوجته الثانية و انجب منها ابنين اثنين ، الاول جايك و الاخر جون ، سبع سنواتٍ كبر في خضم خمسٍ مِنْها جون في شوارع المدن الفرنسية مع اخيه و عائلته الصغيرة ، بعد ان اتم الخامسة جاء الى هنا لأول مرةٍ في حياته ، جون ليس خوها.
هذه الكلمة اخذت تطرق رأسها دون توقف ، ابتسامة سعيدة استولت على وجهه وكادت تقبل وجه عمتها التي تنظر اليها الان بنفسٍ راضية
***
كانت تسير في الرواق الى الاسفل ، لتراه .. لم يعد هنالك سببٌ لأن تنتحب في العتمة ، كل الحكاية صارت احداثها نياط بها ، ان لم تتصرف كما يجب خسرت المعركة ضد نفسها وضد امها و ضد كل شيء يقف عائقًا امام حبها الذي كما وجدت الان واكتشفت لا سبيل لمنعه .. خرجت ، و توقفت في مكانها مدهوشةً وهي ترى فتاةً تنزل برفقةِ عمها بلايك ..
يدها مندسةٌ في يده ، وهو يقودها بحزمٍ لتنزل الدرجات ، المسافة غير المحسوبة بينهما و هذه الشخصية المجهولة ذات النظرة الداكنة جعلتاها تتصنم في مكانها وهي تراقبهم باستغرابٍ شديد ينزلان الدرجات متقاربين بنية الخروج للحديقة
كان صوت جدها منبثقًا يلقي خطابه السنويّ ووجود هذين الشخصين مع بعضهما جعلها تقف في مكانها دون حراك ، سارت خلفهما بخطواتٍ بطيئة تنزل السلالم ، يدها مستندةٌ على الدرابزين ،و شاهدت جدها من حيث يقف يحمل كأس نبيذٍ ايطالي معتق باهظ الثمن رفعه الى الاعلى ، وصاح بصوتٍ عالٍ "نخب! ." رفع الجميع كؤوسهم الحمراء ، مستمتعين ودائخين من بذخ الليلة ، و تابع جدها بصوته الجهوري "نخب البدايات الجديدة ، الاصدقاء الجدد .. و الروابط التي سنعمل جاهدًا على الا تنحل ، هذا العام دون غيره كان حافلًا بالانجازات .. على صعيدٍ شخصيٍّ اولًا لعائلتنا ، ثم على صعيدٍ مهني لشركتنا و ارثنا .. يجب ان نشكر الله جميعًا على نعمه التي من علينا بها ، على صحة أبناءنا ، على شراكاتنا الجيدة و الدم الذي صار بيننا ، و بشكلٍ خاصٍ على التمام عائلتنا ايها السادة الكرام.."
التفت الجميع بانتباهٍ عندما نزل بلايك الدرجات و ايلا تحتضن ذراعه ، في البداية ضيقت ميلاني عينيها ولم تجد ما تقله ، هي و زوجها تبادلا النظرات المستفهمة ، و ايفان بدوره ضيق عينيه ناحية الفتاة المجهولة ، كانت هي ذاتها التي راها صبيحة اليوم ترتدي ملابسها و تتحدث في الهاتف مع فيمن يبدوا والدتها بصوتٍ هامسٍ قانط ، وهنا ادرك بنظرةٍ واحدةٍ وهو يرى الوجهين متجاورين ، انها كانت تذكره بعمه بلايك لحدٍ ما ، ولم يكن على علمٍ انه اصاب الهدف بتخمينه ، التفت الى جون الذي كان ينظر اليهم تمامًا كما الاخرين ، ابتسامته خاصة الفتاة وحدها ثم تلاشت تمامًا عندما راى يديها بين يدي ابيهما ، و استدار منزويًا عندما اقترنت العينين السوداوين بعينيه
"ما الذي يحدث هنا؟ من هذه؟." همس له ايفان ، فاشار نايت بذقنه ناحية جده الذي تابع بعد فينةٍ يؤكد لنفسه فيها من ان الجميع منصتون كما يجبُ
وقفت كلوديا عند طاولةِ هايلي و كاترينا تنظر كما يفعلن الى الفتاة المجهولة التي تعرفت هايلي على هويتها لكنها اثرت الصمت ، اتين لهن في اللحظة ذاتها ليلي المتحمسة ، اليانور ، و جولييت الفضولية تجاه الفتاة مع ابوهما
"من هذه؟."
اليانور التي وقعت عينها اول شيءٍ على العقد الالماسي البهيج ، ابتسمت بإعجاب لاهيةً "ذلك العقد سلب لبي .. اريد مثله لعيد ميلادي ، اين امي لاخبرها؟."
نظرت لها اختها بغير تصديقٍ و قلبت عينيها بيأس عندما ادركت الا فائدة ترجىً منا ، و تمتمت كاترينا تحدِّج الفتاة بنظراتٍ منزعجة "ليس راقيًا بما يكفي."
و نظرت حولها تبحث عن ايفان تتحقق من اذا ما كان يحدق كما يفعل الجميع ، فقالت ليلي لتغيضها وهي تسحب كرسيًا و تراقب بحماس"اجد انه كذلك."
راقب ادوارد الجموع الساكنة في انتظار ان ينهي نخبة
"كما كنت اقول ايها السادة الكرام ، اليوم .. يسعدني و يبهجني ان اعلن ان حتى حفيدتي الجميلة ايلا في هذا العام و لأول مرةٍ ستشاركنا فرحة انجازاتنا ، التمام العائلة كما علمني ابي وكما علمه ابوه من قبله هو اهم من ملذات الدنيا ولو اجتمعت كافةً..لذلك نخب العائلة." رفع كأسه ، مثلما فعلوا جميعًا ، ميلاني لم تكن مستوعبةً ما يحدث امامها ، وبحثت بعينها عن اختها فلم تجدها في الجوار
و همست لزوجها "من هذه؟." الذي بدوره شحب وجهه
من جهةٍ اخرى ، ايفان الفضولي سأل مجددًا في البقعة حوله حيث ابناء عمومته جميعهم تعلو على محياهم الدهشة و الصدمة لا تقل عن دهشته و صدمته
"من هذه؟."
و رد نايت العارِف باستمتاع "انها ابنة خالنا بلايك يا اخي ، تهانينا الحارة جميعًا .. آل سالفاتور سيغزون العالم إن استمروا بالتكاثر هكذا."
اوليفر شدد "نايت كف عن العبث." و عاد بنظره الى الفتاة وعمه يحدق كما البقية ، لكن نايت قال بجدية "اقسم على ذلك..انها اخت جون من امه ايضًا ، منذ اسبوع او حوله اتت الى هنا من فرنسا بما ان جدتها التي كانت تعتني بها ماتت و بما ان جدها عليل ، الوصاية عادة لخالي بلايك."
"لحظة .. الم تكن امها ميتة من الاساس- كيف لم يعرف عمي بلايك عن وجودها؟."
"هي كذلك ، الأم و الجدة ميتتان ، حدث انهما كانا مطلقين وقتها .. و المرأة انجبت ايلا و ماتت كما اعتقد ، لذا بقيت الفتاة مع جدتها."
"ميتتان؟." رد ايفان بغير استيعابٍ تام . و تساءل بداخله "كيف ذلك."
***
*تنهيدة* ٥٢١٧ كلمة يا اصحاب!
ان شاء الله كانت مثالية اقل شيء (:
فوت لطفًا ، ضغطت الزر البسيطة هذي كثير مهمة لي 💘
* سؤال كثير كان يجيني بسبب الشخصيات و فارق العمر بين كل من بلايك وكاميلا و جوليا ، لازم انوه ان جوليا ماتت في عمر صغيرة (:
عمومًا نجي للأسلة اللي ما لها فايدة الا انها تكثر التعليقات،كيف كان البارت؟
*الحيوان اللي ياكل بنتنا بنظراته وهي حافية بالحديقة؟ 🌚 -معندنا الكلام الفاضي هذا-
* محد حن على احد؟
* تصرفات جدة ميرديث؟
*خطاب ادوارد؟
*عمتنا اجاثا؟
*ايلا؟
*الحفلة؟
*جوني؟
*نايت😭😂؟ قراء العهد الاخير تلقائيًا بيتذكرون حبيبنا ريلاي💓💓 _ اللي قد قرأو العهد الأخير قبل ما ادخلها لسرداب اعطوني هاي فايف🖐_
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro