١٠
سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضى نفسه وزينة عرشة ومداد كلماته
(تعليق بين الفقرات + تصويت + رأيك) لطفًا
***
كانت صبيحة اليوم منعشةً حيّة ، غفى ليّام على الأرض الخشبية قرب المدفئة ، تلفح الحرارة القادمة من الجمرات التي بدأت بالفعل تخبو بشرته الناعمة المتورِّدة ، و الكلب بجواره يسترخي و مسدلًا لجفنيه ، تيقظ عندما اقتربت هايلي منهما واخذ يلهث بصوتٍ عاليٍّ يبتغي مداعبةً منها
فدنت منهما و غطت ليام ببطانيةٍ صغيرة عثرت عليها متكومةً تحتها بطريقةٍ فوضوية و مسحت على الكلب برِّقة ، كانت اليوم تشعر بكسلٍ وخمول عكس الأيام الباقية ، ترغب في ان تقظي الساعات في الاستلقاء على الاريكة تحتسي الشوكولا الساخنة و تتصفح مجلة او تشاهد افلامًا كلاسيكيةً بشكل متسلسل و دون توقف حتى يبلغها النعاس مجددًا فتسقط صريعةً له ، وهذا بالطبع شيءٌ يستحيل حدوثه نظرًا لأن اليوم يصادف أهم يومٍ في السنة كلها بالنسبةِ للعائلة و لجدها بشكلٍ خاص ، و الذي أصرّ على ان يكونوا متواجدين كلهم هذه المرّة بشكلٍ غريبٍ و استثنائي ، عكس السنوات السابقة ، حتى أخويّها بناءً على ذلك عادا من سفرِهما وكل ما تنتظرانه و تتوقعانه هي وأمها هو ان يدفعا الباب في اي لحظةٍ معلنين عن تواجدهما
كريستوفر الطيّار و لوك الذي يكمل دراسة المحاماة في أسكوتلندا ، لكن المنزل رغم ذلك ينعم بالسكون ، خصوصًا ان ليام مصدر الضوضاءِ كلها -في الأيام التي يترك فيها عندهم- نائمٌ بتعب ، ولا يوجد غيرها و أمها في الانحاء ، مشت ناحية الصالون حيث كانت رائحة عبقة و قوية للقهوة تفوح ، ورأت النوافذ مفتوحةٌ وأمها تجلس على الاريكة الواسعة وتتكئ على طرفها
و فنجان القهوة قابعٌ امامها لم يمس ، البُخار المتصاعد منه يشهد بأنه أعِد منذ فترةٍ قصيرة ، كانت امها شارِّدة و ملامحها الجميلة ساكنة ، لكن وميضًا من الفضول كان جليًّا للغاية على محياها
"ليام نام ان كنتِ تتساءلين."
قالت هايلي تتكئ على الجدار ، وضيقت عينيها بإنزعاجٍ من الاشعة الصادرة من النافذة ، وبشدّة ارادت ان تعتم البيت لولا انها لم تفعل وبقيت ساكنةً في مكانها ، تفكر بأشياءٍ عشوائيةٍ كانت الجامعةُ من ضمنها ، فصحت ايزابيلا من شرودها و اخذت بضع ثوانٍ تستوعب ما قالته ابنتها "اوه..حمدًلله انه فعل ، ضل طوال الفجر يركض بالحديقة مع الكلب – اي طفلٍ هذا الذي يستيقظ فجرًا قبل شروق الشمس و يجوب الانحاء؟. حتى ابوك لم يجد ما يقوله."
قهقهت هايلي بخفة ، كان منزلهم ينعم دائمًا بجوٍ هادئ ، حتى جاء ليام الذي قلب الموازين رأسًا على عقب ، والده مشغول على الدوام كجراحٍ في المستشفى ، و والدته تكمل اخر -واصعب- سنةٍ لها في الجامعة ، وكانت المسكينة على شفى حُفرةٍ من انهاء المشوار برمته والبقاء مع طفلها عوضًا ان تضعه بين أيدي المربيات ، لكن ايزابيلا حسمت الأمر و اخبرتها انها ستعتني هي بنفسها بالطفل ، وهكذا طوّال الاسبوعين السابقين الجميع لا يستطيع ان يبقي حاجاته في متناول اليد او ان يحظى بنومٍ جيد في حين قرر ليام انه يريد ان يخبط شيءٍ ويسبب ضجةً لم يشهدها المنزل قبلًا.
جلست هايلي بجانب والدتها عندما اشارت لها الأخيرة ان تفعل وقالت الأم بعتابٍ تحنو على ابنتها "ما الأمر معك ، تبدين مرهقة؟."
"لا شيء بشكلٍ اساسي ، سهرت قليلًا فقط."
"ليتك لم تفعلي .. اليوم مهمٌ لجدك و ابيك كما تعلمين."
"اه يا امي اعلم" تنهدت ونظرت الى النافذة حيث قطراتٍ من الندى تشكلت بالفعل على سطحها ، واخذت رائحة مألوفة للرطوبة و الازهار تدلف مع الهواء الى الحجرة المشمسة بشكلٍ ممتاز ، واضافت هايلي مسدلةً جفنيها وتستمتع بملامسة الهواء لوجنتيها البارزتين "هناك شيء يثير فضولي ، إصرار جدي غريب جدًا ، اعني ان يكون الجميع متواجدًا ، عزائي الوحيد هو معرفة ما القصة."
"في الواقع انا لدي فكرة مسبقة عن ما هية الأمر .. و والدك أراد بشدة ان تعرفي انتِ بشكلٍ خاصٍ بشأنه قبل الجميع."
فتحت عينيها السوداوين بإهتمام و أمالت وجهها لأمها أكثر ، فلفحها الهواء الساخن المشبع برائحة القهوة "ما الأمر؟"
"الأمر هو .. انت تعرفين عن زوجة عمك الثانية ، الستِ؟"
قطبت هايلي حاجبيها تحاول ايجاد المغزى من وراء سؤال امها المفاجئ و الغير متوقع وقالت بتردد "ا تعنين أم جون الميتة؟ لا حقًا .. لا اعرف ما شأنها في الموضوع لكن اكملي."
"هي لم تكن ميتةً من الأساس و كما اخشى هذه كذبة ابتدعها جدك لجون عندما كان طفلًا .. في الواقع كانت وبلايك قد حصل بينهما هذا الانفصال الرهيب ومع حادثة جايك كل شيءٍ كان سيئًا بالنسبة للطفل المسكين وللجميع ..انا لا اعرف كيف اصيغ لك الأمر بشكل جيد حقًا .. لكن اتضح انها كانت حبلى، بطفلتها هي وبلايك ، و انجبت الفتاة و هي توفيت قبل فترة ، والان الفتاة هنا وتحت وصاية ابيها كما يفترض بها ان تكون."
لم تجد هايلي ما يقال ، وبقيت للحظاتٍ صامتة تحاول ترتيب كلامٍ تقوله ، ارادت اختيار كلماتها بحذر رغم كونها تجلس على انفرادٍ مع أمها و ليس هناك ما يدعوا للتكلف بشدّة ، خاصةً ان الموضوع لحدٍ ما لا يحتمل التعامل معه بغير الشفافية، وفكرت أن عمها بلايك كان دائمًا شخصًا رزينًا شريفًا ، الامر سيّان بالنسبة لجدها الصارم على الدوام ، لكن الموضوع برمته شكل صدمةً لها لدرجةٍ اخرستها كليًا ، وابتلعت ريقها بصعوبةٍ بالغة و همست بصوتٍ خافت ، تقريبًا مرتعبةً من ان امكانية ان يسمع ما تقوله احد
"اللهي. هذا يبدوا محزنًا ومروعًا , انى لها الا تخبر عمي بلايك انها كانت حاملًا من الأساس؟ ياللهذا .. ثم كيف لم تأتي وترى جون او حتى جايك؟ .. انا لا افهم حقًا.. ا يعلم شخصٌ اخر بشأن ذلك؟"
"الان هنالك انت .. والدك أراد اخبارك ليسهل الأمر ، وهايلي حبيبتي .. انت فتاةٌ عاقلة ، هذه الأسئلة ليست مهمةً الان وليس من الجيد ان تقومي بطرحها ، خاصةً امام عميك او أي احد اخر، سيغضب منك بلايك او يَحزن جون عندما يسمع هذا ، اتريدين ذلك؟"
"ما هذا الكلام يا امي بالطبع لا اريد .. جون كأخٍ لي ، لكنني فقط لا افهم كيف هو سير الأمور هنا ، ولماذا قلتِ عميّك؟ انتِ تشوشينني."
تحت نظرات هايلي المستنكرة و الغير مستوعبةً تقريبًا ما يقال ، اكتست وجنتي ايزابيلا بحمرةٍ واضحة ، وحتى شفتيها اهتزتا للحظة ، و لا تدري هايلي هل هي تخيلت ذلك ام ان هذا حدث فعلًا ، لكن صوتًا لينًا رقيقًا ولكن حازِم خرج من جوف أمها وهي تبعد خصلةً فرت من شعرها البني و هي تتحاشها ناظرةً الى كوب القهوة تتلقفه ، فبدت رائحة القهوة اقوى مع اقترابها
"سقطت مني سهوًا ، لا اعرف كيف قلتها ... والدك قرر اخبارك انت دون غيرك من الباقيات ، لانك اذكى و اعقل .. وهذه الأسئلة يا حبيبتي لا يأتي من وراءها خير ، اصدقك القول انني انا نفسي لا اعرف ما حدث بين عمك و زوجته وغالبًا لا احد يعرف غيرهما ..وهذا للافضل يا حبيبتي." في نهاية كلامها استعادة ايزابيلا ثقتها التي تتميز بها ، و ارجعت شعرها الى الى الوراء مرةً اخرى بطريقة مثاليّة و حازِّمة
"أتساءل عن ردة فعل جون .. اعني هذا محزن و يثير الحمق يا امي، الا تظنين؟ .. كان يظن ان امهُ ميتة وإذ يتضح انها حية طوال الوقت. عمي بلايك و زوجته .. كيف يفعلان شيئًا كهذا باطفالهما ، لا استطيع فقط التصديق ، ا هي شخصٌ سيءٌ يا امي؟."
"حبيبتي .. انا لا اعلم حقًا ، لم يتسنى لي الوقت لمعرفتها ، عمومًا .. كوني الفتاة العاقلة كما انتِ دائمًا ، ولا تخبري احدًا فيما اخبرتك ، خاصةً الباقيات ، حتى ابوك لا يعلم انني تفوهت بالامر برمته امامك وان علم سيغضب .. كل ما ارده مني ان اخبرك عن وجود ايلا وان تكوني جيدةً معها ، لا شيء اكثر."
"كل ما قلتهِ لي يا امي في بئر ، لا تخشي شيئًا..قلتِ ان اسمها ايلا؟ .كيف تبدوا وكم عمرها؟."
"اصدقك القول الا فكرة لدي عما تبدو عليه ، لكنني افترض تقريبًا انها في عمرك او اصغر قليلًا ، سيتسنى لنا معرفة هذا الليلة."
"الآن افهم ... لهذا اراد جدي من الجميع ان يكونوا هُنا."
"اجل."
***
لم تستطع ايلا طيلة ليلة امس ان تحظى بنوم جيد ، اليوم بالذات كانت وتيرة توترها مرتفعة لحد لم تسبقه يومًا ، صوت البيانو مرهفًا انبثق من الغرفة المجاورة لغرفتها ، بل ان الصوت نفسها اندفع من الباب الشرفة الموارب المشتركة مقتحمًا مساحتها الشخصية الخاصة التي اعتادتها بسهولة ، تمرغت اكثر في الوسائد .. لا تشتهي شيئًا سوى ان يخرس الصوت ويدعها تنعم بالدقائق القلال التي منحتها لنفسها قبل ان تتصل بايًّ من جدتها او فاي او حتى بالمحامي ، كل ما اردته لحظتها هو سماع صوت صديق ليطبطب على عزلتها
رغم ولعها الملموس بالموسيقى لكنها لحظتها مقتت الرفاهية في هذه المعزوفة المرتجلة بشكلٍ فضيع ، ارادت شيئًا قويًا ان امكن ، ارادت ان تُضرب أصابع البيانو بقوة وحزم معزوفة تراجيدية مألوفة سمعتها يومًا بالاوبرا ، لعلها كانت سيمفونية بيتهوفين الخامسة بلا شك ، تلك المعزوفة الغاضبة المتمردة التي تطرح كل شيءٍ تحت وقعٍ رهيب و لذيذ ، لا هذه التي لا تخلو من اللّذة هي الأخرى انما مشكلتها تكمن في انها ناعمة لطيفة ومبتهجة ، لا تناسب و مزاجها في اللحظة الراهنة .
سحبت كتابًا كان بجوار منضدتها قضت المساء تقرأ فيه قليلًا ، غلافه الأحمر النبيذي ذكرها لحد ما بواجهة محل للحلوى اعتادت ان تعرج اليه عندما كانت اصغر سنًا ، الكتاب نفسه ذكرها انها كانت قبل مجيئها الى هنا او حتى ان تعرف عن كل ما يحدث برمته قد التحقت في مسارات أدبية عدة اقترحها عليها بلطفٍ بالغ استاذها في الثانوية ودفعت فيها راتبها القليل الذي تستلمه كلجيسة اطفالٍ لحفيدة جارتهم السيدة موارنييه
كانت قد التحقت في وقتٍ سابق في مساقٍ يبحث في أعمال تولستوي و تشيخوف ، خصوصًا انها كبرت وهي تعتقد نفسها شخصيةً عظيّمة لا تلقي اي لعنةٍ تجاه المجتمع والعادات والأعراف كآنا كارنينا تمامًا
وهناك تلك الحلقة الدراسية حول اساليب المتقدمة في كتابة الشعر ، علاوة انها منهمكة اساسًا عندما كانت ما تزال في الثانوية بدراسة الادب القوطي ، فكرت بإمكانية دراسة ذلك مجددًا هنا ، لقضى الوقت بشكلٍ تحبه ربما ، او لعلها ستكون مشغولةً بالتقصي الذي يظهر انه من الاساس صعبًا
وكانت ايلا على ايةِ حالٍ تفكر بشدة ان تحشد جدولها كي لا يكون لديها اي متسعٍ للتفكير باي شيءٍ يرهقها و لتبدد شعورها الجارف بالوحدة و العزلة ، رغم ان احدًا لم يوحي لها بالعدائية ، بل ان حتى نايت اظهر جانبًا مرحًا يبهجها ، و اليزابيث تهتم بشؤونها بشكلٍ شخصيّ و أمومي ، وميرديث تغدق عليها بالعاطفة و المداعبات الودودة ، و ادوارد يحادثها حديث العارف المحترف عن التاريخ و الادب و الموسيقى و الفن ، هم اشخاص كاملون بحق ، مثاليون ، و لا تقوى على التفكير سوى بكيف كانوا يتعاملون مع أُمها؟
خاصةً ان بلايك ولا اي من عائلته -التي تكون كما تفترض بسخرية عائلتها هي الاخرى- قد اظهر وجهه حتى الآن
وهنالك ايضًا جون ، عائلتها ودمها ، الذي بابتسامةٍ واحدةٍ منه كفيلةً بجعلها تبتهج كثيرًا وتغبط نفسها أكثر ، كلما سألت عمتها عنه تخفض ببصرها بنظرةٍ حزينة و تخبرها انه ما يزال نائمًا بسبب ادويته ، و الادب على ايةِ حالٍ ، مثلما كان دائمًا ، هو ملجئها وملاذها الفردوسيّ ، ضلت طوال صبيحة اليوم تغرق في سوداوية سيلفيا بلاث واشعارها المروعة ، تردد في داخلها شطرًا من قصيدة السيدة ليعارز "أنا سنورة ، بتسع أرواح أواجه الحمام.."
لسببٍ ما كان هذا الشطر دون غيره يذكرها بهدفها الذي قطعت المحيط لأجله ، تردد بصوتٍ خافتًا و المريمية السوداء بشكلٍ غريبٍ كانت تأخذ مكانًا بين ورود المزهرية تتهافت مع الريح ، ومع انبعاث الحانٍ جديدة قادمة من الشرفة "انا سنورة."
و شردت ، لطالما كن النسوة اللواتي يغرقن في القوة او الكآبة يشكلان مرآةً ترى نفسها فيها ، تارةً هي كذا ، وتارةً اخر هي كذا ، لعل السبب كان استقلاليتها التي ظهرت في عمرٍ أبكر من العادة ، رغبتُها في ان تتحامل على ضعفها و تلعق جراحها لوحدها و ان تضل قويةٍ لأطول فترةٍ ممكنة. جدتها تسمي هذا عنادًا و تحاملًا على النفس ، لكن ايلا ترفض هذا رغم كونه يمس الحقيقة بعض الشيء
اسدلت رموشها لهوينةٍ ، ثم نهضت بحزمٍ وهي تتناول الهاتف .. اصابع يدها نقرت بشكلٍ تلقائيًّ على الشاشة تكتب رقم جدتها ، نظرًا ولحذرها الشديد انها قد قامت بحذفهِ من قائمة اسماءها للحيطة. وقد اخبرت جدتها بحزمٍ في وقتٍ سابق انها لا يجدر بها ان تتواصل معها حتى تفعل هي ذلك ، لأن ذلك قد يؤدي بخطتهم برمتها الى الجحيم ويفسد الامر كله ، وهي بدورها نست الاتصال او تناست ذلك خوفًا مما يجب عليها اخبارها به ، والان ومع اللحن الموسيقي المرهف تذكرت ذلك ، رمت بالكتاب جانبًا و وقع على السرير دون ضجةٍ او اذى.
ووضعت اذنُها على سماعة الهاتف تسمع ذلك الصوت الرتيب المعتاد ، لحظتها دُق باب غرفتها بشكلٍ مباغتٍ افزعها، و قفز قلبها و اغلقت الخط من فورِّها قبل ان يتسنى لها ان تسمع ردًا ، واعتدلت بجلستها فوق السرير وهي تنظر حولها بسرعةٍ و بريبة تتأكد من المكان ، تحاول ان تضع نفسها في صورة طبيعية ، ثم قالت بنبرة حاولت بقدر الإمكان ان تكون رتيبة و نعِسة "تفضل."
فتحت الخادمة الباب وقالت "انسة ايلا ، انا هنا لأخذ الغيّار ، و السيدة ميرديث أخبرتنا ان لديها عمل مستعجل لهذا لن تستطيع الإنضمام إليكم لتناول الفطور ، هل من الجيد ان نجهزه الآن؟."
"اه حسنًا .. جيد ، قادمة في الحال ، علي ان اجري اتصالًا اولًا."
"كما تحبين." انشغلت ايلا بتصفحٍ وهميٍّ للكتاب ريثما توضب الخادمة المكان بشكل عشوائي ، أخيرا قبل ان ينفذ صبرها حملت المرأة الملابس و خرجت من الغرفة دون ان تغلق الباب خلفها بشكلٍ كامل ، فتنهدت ايلا بضجر وتركت الكتاب مكانه ثم ذهبت الى الحمام والهاتف بيدها تعبث بالرقم
نظفت اسنانها و غسلت وجهها وقد قررت بعد تفحص ملامحها انها لن تضع أيًا من مساحيق التجميل عليها ، و خرجت من الحمام ناحية الدولاب ، أخرجت لنفسها فستانًا اسودًا من الكتان و قذفت به على السرير وهي تعاود كتابة رقم جدتها بشكلٍ سريع اخيرًا بعد ان اعاد لها الهواء الندي لها شجاعتها ، ثم وضعت اذنها على الهاتف تنصت مجددًا الى ذلك الصوت الرتيب ، أخيرا رد عليها الطرف الاخر بصوتٍ حذرٍ هامس "مرحبًا."
"جدتي .. هذه انا ايلا، حبًا بالله لا تقولي انك مسحتي رقمي او شيئًا ما."
"اه ايلا هذه انت، حمدًا لله .. في الواقع ارتعبت عندما اتصلت وأغلقت الخط قبل ان ارد .. ظننت ان شيئًا حدث."
"اوه لا يا جدتي .. كل شيء على خير ما يرام الا تعرفين كيف هي انا.."
فتحت ازرار القميص تخلع بجامتها بببطءٍ وهي تنصت لاسئلة جدتها المتلهفة
"كيف انت؟ وكيف هما اخويك؟ هل هما بخير؟ هل يعاملنكم بشكل جيد؟."
"اوه بروية يا جدتي ، كل شيء كما قلت على خير ما يرام بالنسبة لي.." صمتت قليلا لا تدري ماذا عساها تقول وكيف تقول ، على الأقل هذه نصف الحقيقة.. ظاهريًا كل شيءٍ على ما يرام لكن في قرارة نفسها تدرك ان ما يحدث باقل تفاصيله اهمية عكس ذلك .
و لا تدري كيف عساها تخبر جدتها ان الطفل المشاغب النشيط على الدوام والذي اعتاد الركض في ساحة بيروج مثيرًا الصخب و السخط لم يعد الى الحياة منذ ما يقارب السبعة عشر سنة ، كيف تخبرها انه نائم لمدة طويلة وقد تطول اكثر او ربما حتى لا يستيقظ على الاطلاق .. فلا هي تعلم ولا احد يعلم
ابطئت من حركتها وهي تدخل يدها في احد اكمام الفستان ونظرت الى باب الشرفة الموارب وقد كتمتها التساؤلات و حطت غمامةٌ من الكآبة على محياها ، وجدتها فى الخط من جهةٍ اخرى خمنت ان صراعًا في خاطرة حفيدتها العنيدة يدور ، و ان هناك اشياءً تخفيها عنها
"ايلا .. انتِ عاهدتني على الصراحة ، لهذا وحده سمحت لك بالمضي في هذه الخطة المجنونة ، ماذا يحدث عندك ولماذا لا تردين على اسئلتي؟."
مجددا حبست ايلا أنفاسها ، و تنهدت بعمق تنهيدة حزين ، لكنها حاولت ان تتحدث بلهجةٍ مبتهجةً مرحة وقد خرج صوتها رغم ذلك اجوفًا كذابًا و فضحها "هل تذكرين ذلك الطفل الأشقر النعِس و غريب الاطوار بعض الشيء .. انه نائم الان في جناحه وقد غدا شابًا وسيمًا ، واستطيع القول انه لحدٍ ما يشبه السيد امانويل ، اعني النسخة اليافعة منه التي اريتني صورها في وقتٍ لاحق .. بل انني اكاد اجزم ان الاثنين يحملان الملامح نفسها ، ليتك ترينه.."
تشتت انتباه ماريّا للحظة وهمست بشوق "اه يا جوناثان حبيبي ، الهذا طلب مني المحامي الصور؟ عثرت عليها بصعوبة وسط الحاجيات اثناء انتقالي"
"لحظة .. انتقالك الى أين؟."
" ذلك المحامي اللطيف ترجاني أن أفعل ، حينها طلب مني الصورة ايضًا... ترأ لي أن اندرييه في أيامه الأخيرة بحاجةٍ لوجهٍ مألوف عله يجد بعض السلام ولو قليلًا"
بقيت ايلا صامتةً للحظة تنصت لصوت انفاس جدتها الهدئة ، يبدوا انها كانت تمشي او تصعد سلالمًا او على الاقل هي في وضعية حركة ، فقالت بصوتٍ هامس خفيض وهي تحدق بإنعكاس وجهها في المرآةِ"عظيم ما تفعلينه يا جدتي رغم كل ما فعله بك."
"احيانًا يا آيلا يكون على المرء النسيان فقط ، ما الفائدة من التمسك بأفعالٍ و بمشاعر قد تجرح احدنا؟."
ادركت محاولة جدتها اليائسة لتلمح لها ان ما تفعله خطاءٌ كبير و سيرتد اثره عليها بشكلٍ أو بأخر ، لكن ايلا عن عمدًا تجاهلت ذلك وتظاهرت بالغباء ، و جل تركيزها الاساسي ان تقول الحقيقة بشأن أخيها الأكبر لجدتها و تفِ بوعدها على الأقل
"لا أعلم..هناك امر جايك الذي لا اعرف كيف سأقوى على اخبارك به."
ردت ماريّا بنبرةٍ تأكيدية حازمة مرةً أخرى "وعدتني بالصراحة المطلقة وستفين بوعدك."
فتنهدت وتململت في مكانها ، كارهةً الموقف الذي وقعت به و كارهةً جبنها نفسه للتفوه بالحقيقة ، لكنها لسببٍ ما ادركت ان الحقيقة الوحيدة الواضحة وسط تساؤلاتها الكثيرة ان اخفاء الحقيقة عن جدتها يعد خطاءً فادحًا بقدر الخطئ الذي ارتكبته امها تجاهها بقرارها بعدم اخبارها عن ابيها و اخويها ، لذلك همست بصوت خافت قبل ان تتلاشى عزيمتها "انه في غيبوبة يا جدتي."
حل الصمت طويلًا ، ولم تقوى على ان تقاطعه ، وفضلت ان تعاود التحديق بالكتاب الجلدي الأحمر على ملاءات السرير وتنصت لصوت التنفس المضطرب لجدتها ، كانت تقف عاجزةً عن مواساتها او عن قول اي شيءٍ يهون عيلها على الاطلاق ، وكم مقتت هذا كثيرًا . هذا العجز الذي كرهته اوقد الغضب في قلبها وجعل منها تشد على الهاتف وتعاود التحديق في نقطةٍ محجوبة تحت ضياء الشمس من خلف الستائر الشفيفة
*****
امال ايفان ميلر برأسه ناحية نقطةٍ مبهمةٍ شكلتها ظلال الأشجار بينما السائق يبطء قيادته حين ظهرت بوابة القصر امامهم ، كان غاضبًا لحدٍ ما بسبب العمل ، لكن مزاجه العكر كان سببه بشكلٍ رئيسي الصداع جراء قلةِ نومه بسبب فارق التوقيت بين هنا و ايطاليا ، من جهةٍ هناك امه التي اصرت عليه كما لم تفعل يومًا بالمجيئ مبكرًا ابكر من المعتاد ، اخرج زفرةً ثقيلة بتململ وهو يرى الحديقة المزينة على اكمل وجهٍ لهذا الاحتفال الذي لعله كان سبب عودته في المقام الأول ،عندما توقفت السيارة سحب حقيبته الجلدية التي تحمل في جوفها عقودًا لم يراجعها بعد و بقلةِ صبرٍ فتح الباب قبل ان يفعل السائق ، وشق طريقه يصعد الدرجات الرخامية ويقرع جرس الباب ، فتحت الخادمة الباب بشكلٍ سريع وقالت "سيد ايفان .. مرحبًا بعودتك."
دخل وسأل مباشرةً "اين امي؟."
"ليست في المنزل الآن ، خرجت قبل نصف ساعة تقريبًا و لم تقل الى اين."
"هل يوجد احدٌ الآن؟."
"السيد جون نائم في غرفته و السيدة اجاثا وهي تحتسي الشاي في غرفة البيانو."
"جيد اذن.. سأذهب لألقي التحية عليها ، اريد شيئًا سريعًا لأتناوله قبل الاستحمام ، ايقظيني عندما يحل المساء."
"حاضرة يا سيدي."
احس بفقرات ظهره متصلبة وبالصداع يضغط على صدغيّه بقسوةٍ بالغة ، حمل حقيبته الجانبية فوق كتفه الأخر وصعد السلالم وعينه مثبتةٌ على هاتِفه ، توقف بشكلٍ غريزي امام باب غرفة جون الموصد ، ولا يدري بالضبط كم بقي واقفًا هناك مستاءً ، يشعر بالغضب من حيرته و الأسى عليه ، ارتفعت يده عدة مراتٍ لتقرع الباب ، لكنها بقيت معلقةً في الهواء بشكلٍ اخرق .. لا يدري ايفعل ذلك ام لا ، لم يستمر هذا طويلًا لأنه تراجع في اللحظة الأخيرة ، وبقي نظرة مثبتًا على خشب الباب الأسود ، ثم تابع طريقه الى غرفة البيانو ..
الموسيقى منبعثة بشكلٍ جارف حماسي ، يعني هذا ان عمته اجاثا مستثارة الى أبعد درجة ، لكن الصوت فجأةً خرس ، وهذا شيء طبيعي ومعتاد بالنسبة لشخصٍ مثلها
لكن صوتًا ناعمًا رقيقًا اوقفه في مكانه ، كان صوتًا غريبًا فلم يميز من هو صاحبته التي كان حديثها يتفاوت بين الإنجليزيةِ والفرنسية ، وما اثار عجبه ان الصوت قادمٌ من الجناح المجاور لغرفة البيانو ، وهو على حسب معرفته كانت حجراته دائمًا فارغه ، كان باب ذلك الجناح شبه مفتوحٍ يهب منه نسماتٌ باردةٌ محببة ورائحةٌ لذيذة للفانيليا داعبت انفه و اوقدت شعور الفضول داخله ، تقدم بروية ليس ولأنه يهتم اصلًا لكنه سمح لنفسه مع ذلك بالتلصص ، لم يستوعب انه يحدق الآن بشكلٍ مفاجئ بظهرٍ انثويٍّ نصفه عاريٍّ ، تحاول صاحبته اغلاق سحاب فستانها بينما تتحدث بغضبٍ وتتحرك في مكانها بعشوائية وعصبية ، و بين كتفها واذنها تحبس الهاتف
"جدتي .. اجل انا ايضًا اعتقد ان فكرة الانتقام قد تكون معقدة ، لكن اخفاء الفكرة نفسها اكثر تشويقًا من اظهارها ، الا تظنين؟"
تعجب من نبرتها الحادّةِ الغاضبة التي يشوبها شيئٌ من السخرية ، حتى حديثها بدا غريبًا للغاية ، وحاول ان يتذكر ان كان قد راءها من قبل ، قد تكون احدى بناتِ عمومته او من اقرباءه البعيدين ، او حتى من المعارف القيمين للعائلة ، لكنها بدت مجهولةً تمامًا وفريدة رغم نوع الألفة التي أحس بها تجاهها ، وكأنه رأها في مكانٍ ما وهو فقط لا يستطيع التذكر أين ، حتى لكنتُها ذات وقعٍ غير مألوفٍ على مسامعه ، وهذا ينفي انها قد تكون من اقاربه ذوي اللكنة الأسكوتلندية / البريطانية الثقيلة
شعرها الأسود استرسل لينساب و يغطي ظهرها المكشوف بعد ان نجحت في اغلاق السحاب واستقامت في وقفتها ، وحينها امسكت بهاتفها بيدها اخيرًا وحولته لأذنها الاخرى ،و عندها رأى بوضوحٍ قدميها العاريتين تسيران ناحية باب الشرفةِ الموارب ، وعندها فاحت رائحة لذيذة للفانيليا أثر التقاها بالهواء المنبعث من الشرفة داعبت أنفه ، وتابعت "ان اضطرني الأمر افعل." ثم اغلقت الباب بحركةٍ حازّمة غير ارادية ، ليتوقف تدفق الموسيقى من الولوج الى الغرفة من ذلك المنفذ ، استطاع ان يشاهد جانب وجهها الأبيض الصغير وهي تسير ناحية التسريحة تلتقط شيئًا منها
استيقظ من شروده واستوعب ما يفعله عندما سمع صوت الموسيقى يخترق مسامعه مجددًا جراء فتح باب غرفة البيانو المجاور ، وراى القط دانتيّ الذي كان سببًا في ذلك يفر من أسفل قدميهِ ، فتوجه ايفان ناحية الصوت ، غير مهتم بالفتاة المجهولة التي تتحدث في الهاتف بلكنتها الغريبة ، ولا حتى اين رأها او من عساها تكون
كانت العمة المسنة اجاثا امام اصابع البيانو تعزف بشكلٍ عشوائي خليطًا ماجنًا من معزوفات تعلمتها في وقتٍ سابقٍ من عمرها "صباح الخير يا عمتي." قال ايفان ولم يجد ردًا ، فتنهد وصاح بصوتٍ أعلى "صباح الخير يا عمتي."
سكتت الموسيقى ورفعت رأسها وكأنها تخرج من حلم يقظةٍ عميق "انت هنا ، ظننتك ميتًا."
"احيانًا أظن ذلك ايضًا يا عمتي." تنهدّ ، الألم ما يزال ينبض في صدغيّه بوتيرةٍ متفاوتة ومزعجة بكل حالٍ من الأحوال ، ارد الا يفعل شيئًا على الإطلاق سوى ان يجد حدًا لهذا العذاب الجهنميّ الذي لم يكن معتادًا عليه اطلاقًا ، توقف لبرهةٍ في مكانه يستجمع نفسه ، و صار وجهه المتغضن آلمًا كتمثالٍ صنع من الجرانيت ، افلت الحقيبة لتزلق الى الأرض بأنسيابية وتسقط دون احداث ضجة ، راقبته العمة اجاثا بعينيها المتيقظتين على الدوام حتى وإن ادعت العكس وقالت
"اتعلم ما الذي يقوله الكبار..."
قاطعها إيفان لا يستطيع ان يبقي فمه مطبقًا عن السخرية
"هل هؤلاء الكبار هم انتِ؟."
"اخرس ، يقولون ان ما يبقي الرجل في بيته يدي امرأةٍ حازِّمة..وانا استطيع رؤية المناسبة الآن ، ابنة خالك ، الفاتنة الصغيرة .. ساحرة كأُمها ، لا عجب ان خالك كان عاشقًا لها في يومٍ من الأيام"
اخرج تنهيدةً ضجرة وتمتم أسفل أنفاسه "اوه و ها قد بدأنا ..حمدًا لله ان امي ليست هنا لتجاريك"
ثم قال بنبرةٍ اعلى لكي تستطيع سماعه ، ومع الآلم الذي بدا يتخافت شيئًا فشيئًا تاركًا نبضًا واضحًا اخف وقعًا ، ادرك جراءهُ ان هذا لا يعني ان عليه تجاهل اخذ قسطٍ وافرٍ من الراحة
"كيف حال جون؟ لم اسمع عنه شيئًا منذ اخر مرة."
"بالأمس عاد من المستشفى ، شاحب الوجه كالموتى . ارى ويليام يدفع بالادوية هنا وهناك ظانًا انه يساعده ، لكنني اعتقد انه يرسله الى قبره دون ان يعرف حتى ، سمعته يتحدث مع ادوارد عن ارساله الى ادنبرة شهرًا او اثنين ليستريح ، هذا جيد لي وله لأنني قررت انني سأذهب معه"
"سنشتاق لك." قهقه رغمًا عن الآلم ذي الذكرى الواضحة تمامًا ، و انحنى ليحمل حقيبته "اراكِ في وقتٍ لاحق."
عينه وقعت تلقائيًا على الباب المغلق الآن ، لم يعد يستطيع سماع الصوت مجددًا ، و مع انبثاق موسيقى عمته المجنونة من جديد ، ارخى سدوله وتوجه ناحية جناحه لا يبتغي شيئًا سوى ان يبتلع اقراصًا مهدئةً للصداع وان يقذف نفسه في السرير .
**
اخيرًا شخصية جديدة ، هاه؟
عندكم فكرة كم بيكون مدى تأثيرها بالأحداث ولأي حد؟
ردة فعل عائلتنا الحبيبة عند معرفتهم بوجود ايلا؟
عندكم فكرة وين ممكن ايفان / ايلا ، قد شافو بعض؟
تقييم البارت ؟
معندي اسئلة صراحة بس ترا فيه ٦٠٠ كلمة اكسترا قدروها ، بارتات الرواية كنت ملتزمة اخليهم ٣٠٠٠ك الا هذا
اخيرًا وليس اخرًا ، رأيكم كالعادة يهمني ، تساؤلاتكم و حتى تخميناتكم تتحكم بشكل لا مباشر في سير القصة ، احرصوا تغدقوني بالكثير منها لأنها تلهمني
مع انها متأخرها لكن : سنة طيّبة جميعًا *kiss*
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro