١
كان المطر يتساقط بغزارةٍ شديدة في أحد الليالي الشتوية ، و كان الليلُ في بدايته لم ينقضي منه الكثير والقمر ظاهرٌ من خلف السحب يبعث بضوءهِ على الحديقة المقلمة بعناية مضفيًا جوًا شاعريًّا محاكيًا للأفلام الكلاسيكية
فتح الباب الأمامي للفيلا على مصاريعه فجأةً وبُددَ الصمت في المكان كله جراء صراخ المرأة ، رماها على الأرض بقوة فسقطت فوق بركةٍ ماءٍ صغيرة كانت قد تشكلت من الأمطار
فتبلل ثوبها لدرجة جعلته يلتصق بجسدها مثلما التصق شعرها الأحمر الناري بوجهها
و لهثت بصدمة "بلايك.. ارجوك استمع الي."
"غادري حالًا.." زمجر بشكلٍ واضح وصريح يشي بحقيقة انه سبق وقد اتخذ قراره بالفعل ولا مجال للتراجع ، لكنته الانجليزية التي أحبتها رغم إنها لم تفهمها في بعض الأحيان قد استولت على نصفٍ من الشتائم الخارجة من أسفل انفاسه
رغم الخوف الذي انتابها من عدة نواحٍ ومع تفاقم شعورها بأنها مظلومة وقد خُدعت كما ظُلِم وخُدع هو أيضًا، ارتجفت شفتيها وهتفت تحاول استجماع الكلام ودفعهِ بطريقةٍ يفهمها
"بلايك انا بريئة .. اقسم بأنني بريئة..بلايك ارجوك."
وغلب صوتها وسط شهقاتِها وتمتماتٍ بالفرنسية غير مفهومةٍ البتة ، عِوضًا عن الاستماع اليها او التفكير برويةٍ كافية ليدرك ما تهمهم به تقدم لها و بكل القهر في قلبهِ أمسك بها من شعرها الأحمر المجعد والذي لطالما احب ان يمرر أصابعه فيه وقال "لا اريد ان اسمع كلمة واحدةً منكِ ايتها الخائنة، والآن اريدك ان تعودي من حيث اخذتكِ ، عودي إلى ديارك."
قالت وعيونها حمراء من كثرةِ الدموع المختلطة بالأمطار "أنت لا تفهم ، أقسم لك بأنني لا اعرفه ولم أره مرةً في حياتي ، بلايك ، أرجوك استمع الي ارج..."
فأمسك ذقنها و قال بكل شراسةٍ "يجب ان تشكرني لأنني سوف اعيدك حيةً إلى ديارك لأن امثالكِ يجب ان يكون مصيرهم الموت"
ثم أفلتها وأردف يصيح بصوتٍ عاليٍّ للرجل الواقف يراقب كل شيءٍ بصمت و سكون وملامح الأسى قد تشكلت على محياه "سباستيان ..أعِدها من حيث أتت واحرص على الا تعود الى هنا مجددًا ، أهذا واضح؟"
"أجل سيدي ."
صاحت من خلفه "وماذا عن ابنائي؟."
"انتِ بالنسبة لهم ميتة وهم بالنسبة لكِ موتى."
في ذات اللحظة فتح الباب مجددًا وركض طفلٌ في الثامنةِ من عمره خارجًا بعد أن تملص من أيدي مربيتهِ بإتجاه أمه ، لكن يد والده سحبته بقسوة واعادته الى الداخل ثم ضرب الباب خلف بقوةٍ شديدة جعلت جوليا تجفل من فرطِ الصدمة
تقدم سباستيان منها بأشفاق واضح "سيدتي.." ودون كلمةٍ وضعت يدها في كفةِ يده سامحةً لإياه بقيادة الطريق
كان كل شيءٍ يؤلمها ، بالأخصِ قلبُها الذي كسر وصار قطعًا صغيرة ، وشعرت بلسانِها ثقيل من فرطِ وقع الصدمة
حتى قدميها لم تعد تقويان على حملِها ، وعقلها توقف عن إرسال الإشارات بعد أن قال ما قاله، لمست زجاج السيارة السوداء تستند عليه ، ثم نظرت الى الفيلا النظرة الاخيرة .. نظرة مملؤه بالإنكسار وإحساسٍ موجعٍ بالمهانة ، و وضعت يدها على بطنها تضغط بأناملها برفقٍ عليه ، ثم دخلت الى السيارة واغلقت الباب بنفسها دون ان تنتظر من السائق ان يفعل ولم تنظر خلفها مجددًا أبدًا.
***
مرة الساعتين الأخريين بشكلٍ لا يستطيع احتماله ، احساس بالعجز ينتابه من الصداع الذي داهمة على حينِ غفلةٍ ، ثم هناك قلبه المحطم واحساس الخيانة المر يلتهم روحه وصبره
كان جالسًا بعيدًا عن الموقد المشتعل يحس بالبرد ينخر عظمه ولا تزال ملابسه مبلولةً ولم يتحرك منذ جلوسه حتى ليغيرها ، و بين اصابعه يمسك بكأس ويسكي لم يحتسي منه شيئًا وبقي على حاله لبعض الوقت يجابه الصداع وأفكاره السوداوية
اخيرًا عندما ذاق ذرعًا صوت من البكاء القادم من الاعلى شربه دفعةً واحدة و هب واقفًا بكل الغضب المكبوت في قلبه "اخرسوه حالًا."
هزت الخادمة رأسها وقررت الصعود الى جوناثان ، راقبها بلايك الى ان اختفت تمامًا من امامه
ثم استدار ووقف امام النافذة يراقب الرياح تعصف بالاشجار ، فجأةً رمى بالكأس على الجدار وتناثرت قطع الزُّجاج صغيرة يتخللها السائل الأصغر الذي سال من فوق الأرضيّةِ الخشبية ولطخ السِّجاد
ثم شدّ على شعرهِ بقوةٍ يحاول ان يبدد الأصوات في رأسه ، من جهة بكاء ابنهِ ذي الخمس سنين بالأعلى دون انقطاع ومن جهةٍ اخرى احساسه بعدم الارتياح يقيد حركته وبالكبت يغتاله بشدة ، راح يسير ذهابًا وايابًا بعصبية ويدعس على قطع الزُّجاج أسفل حذاءه دون أن يدرك ذلك ، لطالما كان بلايك اشد ابناء السالفاتور عصبيةً وعنادًا ، و دائمًا ما تنتج عن عصبيته عواقبُ ليست محمودة وهو يدرك ذلك جيدًا ويدرك مخاطر افراطِها جيدًا ، لا عليه وحده بل على الذين يحيطون به خاصةً .. كان من النادر جدًا ان يتراجع عن كلمةٍ قالها او شيئٍ آمن به او أن يشعر بالندم من ذنبٍ قد اقترفه ، مبررًا ذلك بأن الندم لا يعيد شيئًا ..
والأمر جرى سيانًا هذه المرة عندما قام بطرد زوجته وارسالها بعيدًا لديارها واتبعِها بالمحمامي ليقوم بإجراءات الطلاق في نفس الليلة ، وراح يتساءل لحظتها بعد ان توقف عن السير فجأةً
ماذا لو لم يكن ايٌّ من إبنيه إبنيه حقًا؟ ماذا لو كانت جوليا تخونه منذ البداية دون ان يدرك ذلك وتزوجته فقط لتستغله ؟ هي افصحت ليكون عادلًا عن مشاكلها الماليّة ووالدتها وهو ساعدهم بعد زواجهِما -السريع جدًا- وتيسرِ أمورِها ، والآن بعد ان اتضحت رؤيته للحقائق التي كان يجهلها أحس بالنار تتقدُ في قلبه من جديد ولكم الجدار بقبضته لكن ذلك لم يشفي غليله
ودون ان يشعر بذاته راح يحطم الغرفة ويقلبها رأسًا على عقب ، أزبد وارعد كما لم يفعل يومًا، كل ذلك امام عينيِّ إبنه الأكبر جايك ، ذي الشعر الأسود الفاحم كشعره والملامح الحادة والرقيقة في آنٍ كوالدتهِ ، كانت نظرةً ساكنة هادئة ، لا تحمل شيئًا سوى ان الوميض الذي كانت تشع به في كل مرة تقع عينه على والده قد انطفئ الان
عندما أحس بلايك بأحدهم يراقبه توقف عن ركل ما بأسفل قدمه ومسح العرق من على صدغه بظهر يده ، ثم بحث بعينه عن المتطفل بغية ان يصيح به ، ليقف جامدًا امام زوجيِّ الأعينِ الزرقاء اللازوردية تحدقان به بتحدي
"أين أُمي؟."
قطع بلايك المسافة الفاصلة بينهما بخطواتٍ واسعة وأمسك بكتفي الولد جارًا اياه اليه "أنظر إلي .. أنظر إلي ، لم يعد لتلك المرأة اي وجودٍ بعد الآن ، هي لم تعد أمك فلا تسأل عنها مجددًا أبدًا ، أتنصت إلي؟."
انتفض جايك من أسفل كفة يده الثقيلة "لا ، انا اريد أمي ، و أريدها الآن."
حدث الأمر سريعًا جدًا ، او ربما يظهر كذلك .. لكن ما يدركه ان صرخةً في الخلفية انثوية لم تكن سبب توقفه من ضرب الفتى الذي بقي على الارض مضجرًا بدماءه دون حراك ، انما انكباب سكرتيرة عليه يحاول دون جدوى ان يبعده
"سيدي..انت تقتله ، يجب ان تتوقف.."
جوناثان الذي راقب مع مربيته أنفعال والده الوحشي ومحاولته لقتل شقيقه ، تخلص من جبنه ونزل الدرجات متخطيًا الاقدام الطويلة للحراس في محاولتهم لايقاف سيدهم ، وزحف الى جسد شقيقه دون ان يقوى على قول كلمة
قال سباستيان للمربية "اتصلي بالاسعافِ حالًا."
ومسح بلايك العرق من على جبينه بعد ان استفاق من نوبة جنونه غير مصدقٍ ما اقترفتهُ يداه
***
(في المستتشفى)
بعد مكالمةٍ واحدةٍ من سباستيان كان كبار أفراد عائلة سالفاتور يجوبون الرواق القابع أمام غرفة العمليات التي أُدخلَ إليها جايك ، الجدة الأم والدة بلايك ميرديث تنظر له شزرًا غير مصدقةً لما قد اقترفتهُ يداه بعد أن توقفت أخيرًا من تأنيبه لأنها انتبهت لنظرات جون الخائفة ، لكنها و بمجرد ان اخفض نظرهُ
إنفعلت الجدة مجددًا "لماذا لا يوجد أحد ليطمئننا الى الآن ، منذ ان اخذوه لم يعيدهُ لنا. مرت ساعتين بالفعلِ وشقيقك لم يخرج بعد."
فقال الاريك إبن شقيقتها بسرعةٍ يحاول تهدئتها قبل ان تثور مجددًا خصوصًا وأنه اشغل نفسه بالتفكير بطريقة للحيلولة بين الأم وإبنها قبل أن يشب أي شجارٍ لا يحمد عقباه
"يا عمتي لا تقلقي ستسيرُ الأمور على خير ما يرامٍ ، ثم إن ويليام فور أن ينهي العملية سيخرج ويطمئنا."
"اهٍ ، عن أي خيرٍ تتحدث والطفل هُنا بسبب والده.؟"
نظر الاريك الى بلايك الهادئ على الكرسي وملامح وجههِ تدل على التفكيرِ العميق ، بجانبِها يستند على ظهر الكرسي جون يلعب بقدمهِ يحس بالملل
بعد لحظاتٍ وصل شقيق بلايك الأكبر جايمس وخلفه شقيقته اليزابيث وهتف "حسنًا ، ماذا حدث له؟" لم يكن يحتاج لإجابةٍ منطوقةٍ فكل شيءٍ مكتوبٌ على وجوههِم المكهفرة ، فتقدم بكلٍ هدوءٍ الى بلايك وقال
"لماذا فعلت ذلك؟. ايًا كان سببك اللعين فهو لا يبرر لك اتنزعاك الرحمة من قلبك و ضرب طفلٍ بريئٍ لا ذنب له سوى أنه أحب والدته"
"لم أكن مدركًا ماذا أفعل ، عليك ان تصدقني"
"عذرك قبيحٌ أكثر من قبحِ ذنبك."
"تعال يا حبيبي." قالت اليزابيث واحتضنت جون المتصلب الساكن على غير العاده مما أقلقها ، لكنه سرعان ما استرخى في حضنِّها ووضع رأسه على صدرها ، فرفعته من على الأرض وقبلت خده ثم جلست بجانب والدتِها وهو بحضنِها يسترق النظرات لما حوله وينكمش على نفسه عندما تصادف عينه عين أبيه.
بعد دقائق قليلةٍ خرج د. ويليام سالفاتور من غرفة العمليات ونزع الكمامة من على وجهه يتنفس الصعداء ، لكن مع ذلك ملامح الأسى والعبوس كانت تعتليه
قال الاريك فور ان لمحه "طمئنا يا أخي ، ماذا حدث؟."
بحثت عيون ويليام عن شخصٍ محددٍ وفور رؤيتهِ له سار بخطواتٍ غاضبة ناحيته متجاوزًا جايمس ليقف أمامه ، رفع بلايك نظره من على الأرض الى الأعلى ليجد ويليام فوق رأسه ينظر اليه بجمود وبرود وقال له "اتمنى ان تحاسب على فعلتك النكراء بأبشع طريقةٍ ممكنة."
هبت الجدة واقفه و لم تستطع منع الخوف الذي دب في قلبها من التسلل الى صوتِها وَقَالَت "لماذا يا ويليام؟ طمئن قلبي أرجوك."
كان معتادًا على نقل الأخبار السيئة ، لطالما فعل ذلك لما يقارب العشر سنين التي قضاها في مهنته ، لكنه ولأول مرةٍ منذ زمن يقف مبهوتًا محتارًا ، لا يعلم كيف ينقل لهم الخبر ، اخذ نفسًا عميقًا وقال "لا أخفي عليكم بأن الأمور ليست جيدةً بالمرة."
"أتقول ان الطفل ذهب؟" تحدث جايمس
"ليته فعل ، الأمر أسوأ من ذلك بكثير."
تابع غير آبهٍ بنظرتيّ الاريك وبلايك المستنكرة لكلمته
"إن الضربات التي تلقها جايك كانت عشوائية وعنيفة ، سببت له بعض كسورٍ في أماكن مختلفة ، وهذا ليس مهمًا حقًا لأنها ستشفى مع العلاج والوقت لكن ..."
أخذ برهه يعد فيها ما سيقوله جعلت من السيدة ميرديث تفقد أعصابها المستنزفة "ويليام أرجوك اختصر الموضوع! صبري نفذ."
"بعض الضربات التي تلقاها ظهره اصابت وترًا حساسًا في عاموده الفقري ومع المضاعفات .. و بالمختصر كما طلبتي .. إن جايك لن يستطيع السير مجددًا أبدًا ، وأنا اتمنى ان تكون سعيدًا بذلك يا بلايك."
كانت كلمتهُ يرن وقعُها في اذانِهم عنيفًا ، كيف سيُصبح جايك عندما يستفيق ويكتشف بأنه لم يعد يستطيع المشي واللعب مع أخيه في ارجاء القصر بعد اليوم ؟ عندما يدرك بأن من سلبه ذلك هو والده الذي من المفترض أن يكون مصدرَ آمانٍ له ولكنه بات الآن مصدر خوف ومدعاة للشعور بالخطر
ويليام الذي لم ينتهي من نقل الاخبار السيئة مرر يده في شعر رأسه الأسود حيث بدأت شعيراتٌ بيضاء تظهر نفسها "هنالك مشكلةٌ أُخرى."
"لا أظن ان هنالك ما هو اسوأ من هذا بالفعل."
قالت اليزابيث بعد ان افلتت جون وهي تبكي "أخبرني يا ويليام أن هنالك علاج."
"أجل لا بد أن يكون هنالك شيئٌ ما بإمكاننا فعله."
"لن يكون بحاجةٍ لعلاج له ، على الأقل ليس لفترةٍ طويلة" رفع رأسه وقال "لأنه دخل في غيبوبةٍ تامة ، الله وحده يعلم متى سوف يستفيق منها." تهاوت السيدة ميرديث على كرسيِّها من فِرط الصدمة وركضا إليها كلٌ و ويليام وجايمس
بينما بلايك بقي ساكنًا في مكانه وقد
وتلاشى احساسه بالخوف والغضب ليحل محلهما الآلم والحزن وظهر ذلك جليٍّ على وجهه ، رفع رأسه عندما تجاوزه الطفل ذي الخمسةِ أعوامٍ بخطواتٍ مترددة ، وراح يقرع الباب الذي خرج منه ويليام بيديه الصغيرتين
"جايك إنني خائف ، ارجوك أخرج من عِندك."
فنهض بلايك واقفًا يحس بالسوء لأجل طفليه والندم ينهش لحمه ، ونزل ليكون بمستواه ثم أمسك باليد الصغيرةِ التي كانت تقرع الباب ليجفل الطفل بذعر من وجودهِ تمامًا خلفه وعلى مقربةٍ منه لا يظهر على ملامح وجهه شيء مما ينتويه ، هو لا يستطيع نسيان الطريقة التي انقلب فيها والده المحب لوحشٍ شرس سحب والدته من حضنه وضرب أخيه ضربًا مبرحًا ، حدقتيّ عينيه الخضراوين الازورديتين عكس عيني شقيقه الزرقاء اللازوردية توسعت بهلع وتجمد في مكانهِ موشكًا على البُكاء ، لكن اصبع بلايك ارتكز على خده يمسح على أثر دموعهِ السابقة الجافة بينما يده الاخرى تثبت وجهه وهمس بصوتٍ خفيضٍ
"آشش الرجال لا يبكون ، لا تتحرك جوني فتاي الطيب ، دعني أبقى هكذا قليلًا حسنًا"
ثم أرخى برأسه على الكتف الصغير وسكن في مكانهِ دون حراك ، فأحاطت يدي جون كتفي والده بالمقابل كردِّ فعل
ليتحمل ثقل رأسه "أجل."
"جوني أنا آسف.. أنا اسفٌ جدًا ، أ تسامحني؟"
ميرديث بعد أن استعادة قوتِها قالت "جايمس، أخبر الخدم بأن يذهبوا الى منزل بلايك ليحضروا كل حاجيات جوناثان وجايك فهما سوف يعيشان عندي من الآن فصاعِدًا."
نظر جايمس الى بلايك الذي رفع رأسه بتفاجئٍ من فوق كتف جون والتفت لهم ، فقالت ميرديث "لن اعيد كلامي مجددًا ، و أحرص على ان يعِدوا الجناح المقابل لجناحي لأجله. سوف نعود للمنزل الآن فلا فائدة من بقاءنا ، خذي الطفل معنا يا اليزابيث"
قال بلايك محتجًا "لن يحدث ذلك ، جون سوف يبقى معي."
"لماذ؟ لكي تجعله يستلقي على سريرٍ بجانب سرير شقيقه ويصير مصيرهما واحدًا؟ لا .. هذا لن يحدث ، لن اسمح بحدوث ذلك."
سارت اليزابيث وحملت الطفل مرةً اخرى وهمست لشقيقها "لا تقلق سيسِرُ الأمر على خير ، سوف أعتني بجون جيدًا."
اومئ لها واقترب من جون الذي يضع اصبعه في فمه كعادته عندما يكون متوترًا "كم مرةً اخبرتك الا تفعل ذَلِك؟" قبله وهمس "سوف أعود لأجلك أعدك."
"عندما يرجع عقلك له تعرف اين تجدنا." نهضت الجدة وسارت امامهم يتبعهُا كلًا من جايمس واليزابيث ، وراقب بلايك الرأس الأشقر الصغير يستند على كتف اليزابيث ويغمض عينيه ، غادر الجميع بمن فيهم سباستيان بعد ان اخذ الإذن من بلايك ووليام الذي تجاوز بلايك دون ان يوجه له كلمة دخل الى غرفة جايك ، اما الاريك ففضل البقاء على ترك بلايك وحده تحت طنٍ من الاتهامات الموجهة ضده ، استدار الأخير الى الغرفة التي كان يقف مقابلًا لها ودفع الباب المعدني البارد ، كانت الممرضة توشك على اخراجه لكن صوت ويليام منعها "دعيه."
فتقدم بلايك بخطواتٍ مهزوزة لأول مرة في حياه يظهر بمظهرٍ ضعيف مرتعبٍ من المجهول، وهناك وجد جايك قابعًا أمامهُ على السرير دون حراكٍ مغمضًا لعينيه، الاجهزة موصولة به وذلك الصوت المقيت لجهاز القلب كان الدليل الوحيد لكونه حيًا ، وجهه كان متورمًا والضماد يحيط بجسدهِ من كل جانب .. استند بلايك على السرير وأمسك بيد جايك الموضوع بها إبرة المغذي ، وقبل جبينه بقبلة مبللة بالدموع وهو يعد نفسه انه سيفعل اي شيءٍ وكل شيء ليغفر الذنب الذي قد اقترفه ، بما في ذلك انه لن يرفض أي طلبٍ لجون وسيسعى لأن يجعله سعيدًا
كان ويليام ينظر الى الموقف دون ان يخفي التعجب الذي ظهر عليه ، لم يتوقع ابدًا في حياته ان يبكي بلايك امامه او امام اي احدٍ ايًا كان و مهما كانت الأسباب ، لكنه في النهاية سار واغلق الباب خلفه تاركًا اياه وحده يلملم شتاته و يجمع نفسه
***
كانت تسير أمام شقيقتها ذهابًا وايابًا بتوترٍ ظاهر ويدها ممسكةٌ بخصلةٍ من شعرها تلفها من فرط التفكير "حبًا بالله اجلسي انتِ تشعرينني بالدوار ، اذا ما رأكِ أحدهم سيظن بأنك اقترفتي ذنبًا."
"هل تظنين ان الأمر سينجح؟"
"بالطبع سيفعل ، غالبًا سيقتلها انتِ تعرفين كيف هو زوجك وإن لم يفعل .. حسنًا ماذا عسانا نفعل لذلك ، سوف يعيدها من حيث اتت وسوف تنتهي اجراءات الطلاق اسرع مما تتوقعين ، استطيع ان اعدك بذلك" قالت الأخرى بملل وسكبت لنفسها ولشقيقتها كأس نبيذٍ أحمر "لنحتفل بنجاح خطتِنا."
"لا تعلمين كم انا سعيدةٌ لأن بلايك سيتركُها ويعود لي."
احاطت وجه شقيقتها بحب وقبلت وجنتِها المحمرة ، كانت في الآونةِ الأخيرة قد اكتسبت عادةً سيئةً بعدما أكد لها زوجها السابق بأنه لا ينتوي أن يعود لها بعدم المساس بالطعام وهذا خلف اثرًا على خديها وجعل من عينيها غائرتين متعبتين ، لكن في هذه الليلة بالذات كانت مشرقة بحماس من فكرة فوزها من جديد وعادة هالةُ من البهجة تحطيها، قالت "وستكونين أسعد بكثير حبيبتي كاميلي ، أعدكِ بأنني سأجعلك كذلك .. وذلك المغرور العنيد سيعود اليك خانعًا وخاضعًا يطلب السماح."
تلاشت ابتسامة الأخيرة وحل محلها عبوسٌ قبيح ، ثم تركت النبيذ على الطاولة وقالت بكل جدية "لكن يا ميلاني ، ماذا سيحدث لأطفالها .. طفليِهما البائسين ، هل سيعيشان معي؟."
"لنأمل بأن يرمي بهما في أقرب ميتم او يكون رحيمًا بما فيه الكفاية ويرسلهما مع والدتهما."
"لا اظن ان بلايك سيفعل شيئًا كذلك."
"وإن يكن .. انهم محضُ طفلينِ أبلهين تستطيعن بصفعة خلف الرأس تقويمهما لما تبقى من حياتِهما." هزت كتفيها وارتشفت من نبيذها ثم ثبتت عينها على شاشة التلفاز حيث يعرض مسلسلها المفضل ، تسربت اصوات الرعد يهدر في الخارج اليهما لكنهما لم يلقيا لها بالًا ، كل واحدةٍ منهما مشغولةٌ بعالمِها الخاصة
كاميلا تفكر بطفليّ زوجها الشقيين ، لطالما اثارا الحنق فيها خصوصًا الأكبر منهما .. الاخر والذي كان يختلف جذريًا عن شقيقه لا تملك الكثير عنه سوى انه هادئٌ وكئيب ، يثير اشمئزازها في الواقع .. ربما شقيقتها محقة ، بصفعة او اثنتين تستطيع تأديبهما واذا ما نجحت للقيام بأبعد من ذلك قد يتخلص منهما والدهما بارسالهما الى مدرسة داخلية او شيئًا ما
"أمي أنا خائفة." قطع حبل أفكارها صوت إبنها الأصغر يهمس بصوتٍ خافت ، فابتسمت بحبٍ واعتدلت بجلستها لتستقبله في حضنِها "كل شيءٍ سيسيرُ على خيرِ ما يرامٍ يا حبيبي ، بابا سيعود لنا."
"أسيحضر معه جون و جايك.؟" صاح الطفل بحماس مما جعلها تعبس بشدة وتشد على اسنانِها "ليأخذهما الشيطان."
***
(قرية بيروج ، فرنسا)
كانت قرية بيروج القابعة شرق فرنسا متفردةً بطابعِها التاريخي الخاص، وكأنها خارجةٌ من غمارِ قصةٍ خيالية. منازلُها شُيّدت من القرميد الأحمر والبني وتقريبًا جميعها متشابهةٌ لولا إختلافٍ بسيطٍ في الديكورات الخارجية. كانت قريةً هادئةً نسبيًا ، أطفالهُا لا يغادرون منازلهم عندما تدّق الساعة العاشرة .. وفي أعلى تلٍ يوجد فيها تقبع كنيسةٌ كانت هي المدخل للقرية ، وبجانبِها مقبرةٌ مصفوفةٌ أضرحتها الرخامية بصفوفٍ طوليةٍ وأفقية لا يكاد يرى أخر قبرٍ فيها ، لكن من البيّن أن ذلك الجزء المنزوي المهجور
قد تغلغلت فيه أعشابُ لبلابٍ تقاعس الحفار المتسوّف بإفراطٍ ولم ينزعها ، حتى الأشجار التي تحف الطريق تبدو غبرة ، لكن ومع ذلك على نحوٍ غيرِ متوقع .. كانت القرية جميلة وساكنة و لها سحرها الخاص الفريد بورودها الحمراء المنتشرة في الارجاء من النوافذ حتى في شقوق البلاطات الغير مستوية .
و رغم أن هذه اللحظة كانت من أوجه ساعات الصبح الأولى تحديدًا قبيل إنبلاجِ الشمس كانت رائحة الخبز الشهي الطازج بالفعل قد فاحت في الأرجاء وتناثرت مع الريح.
تقدمت سيارة الأجرة على الطريقِ المعبد مارةً بجانب الكنيسة موصدة الأبواب والتي يفصل بينها وبين الطريق باحة صغير مسورة بسياج معدني أسود ذي رسومٍ قوطية على شاكلة نمط الكنائس بالأرجاء ، يلمح بين أشجارها المتشابكة عريشةً تفترش جدار الكنيسة صعودًا حتى زجاجة الملون الذي يرسم صورة المسيح بإتقان
تساءلت جوليا تنظر بإمعانٍ الى السور المعدني الذي تسلقته الأعشاب "أي ديارٍ هذه تغلق فيها أبواب الكنائس في وجوه المتعبين؟." ورغبت بأن تنزل وتقرع بأبها ، لتصلي ..
لا لنفسها فقط بل لإبنيها الوحيدين ، وحتى لبلايك ..
"سيدتي..سيدتي."
ربما كانت المرة العاشرة التي نده فيها السائق مناديًا و لم تكن لتدرك ذَلِك سوى بعد ان استدار لها كليًا بجبين مقطبٍ ، وفرقع بأصابعه أمام وجهها المتعب الشاحبُ كما الأموات ، فإستدارت ببطءٍ اليه بجبينٍ مقطبٍ هي الأخرى لا تدري فيما يثرثر أمامها ، لكنها عندما آمالت برأسها بغية ان تحط في صمتٍ مجددًا متجاهلةً العالم من حولها ، ادركت بأنها تقريبًا في المنزل .. نعم ، هذا منزلها .. لطالما كان ولا يزال منزلها ، اما ذاك الذي اخذها بلايك له كان كذبةً مقيتة ..
دست يدها في جيبها وتمتمت "معذرةً.. كان يومًا مرهقًا." لا تدري لما عساها تقول له هذا ، لكنها فقط ارادت ان تفتح محادثة .. ان تنطق ، ان تقول اي شيءٍ وكل شيء ، فقد بقيت صامتةً بما فيه الكفاية ، وصمتُها بالفعل قد ترك وصمةً داكنةً في حياتِها
أخرجت محفظتها وناولته مبلغًا لم تحصيه ، ثم فتحت باب السيارة وخرجت دون ان تلتفت له وهو يناديها لتأخذ الباقي ، لم تتجاهله كليًا كما يعتقد فقد اشارت له بإيمئةً بسيطة بأن يأخذه ويرحل ، فستانها الأزرق الداكن تحرك تزامنًا مع شعرها أثر نسمةِ هواءٍ غادرة ، فاحتضنت معطفها الأسود دون ان تدري الى اين هي بالفعل متجهة ، صوت خطواتها على قارعة الطريق مع اصوات جانبية لصرصار الليل اندمجا وبددا الصمت
بعد ان رفعت رأسها أخيرًا وجدت نفسها امام منزلِها ، كل شيءٍ كما تركتهُ تمامًا. حتى الازهار التي تزين النافذة لم تغير أمها نوعها منذ ما ياقرب العشر سنين بل هي لم تفعل ذلك اطلاقًا منذُ ولادتِها .. صعدت الدرجات القلال وأستندت على الدرابزين الأسود لثوانٍ استنزفتها بالحملقة في الباب ببلادة ، ثم ضغطت اخيرًا على الجرس و انطلق الصوت في اروقة المنزل الفارغة .. مرة ومرتين حتى سمعت صوت أمها تصيح من خلف الباب "قادمة قادمة."
وكان ذلك تزامنًا مع نزولها للسلالم ثم مرورها بالصالون والآن ها هي ذي خلف الباب تفتح العين السرية لتلقي نظره
ثم فتحت الباب على عجلٍ وهتفت بغير تصديق "جوليا! بُنيتي الحلوة. ماذا تفعلين ها هنا؟ يالها من مفاجئةً رائعة، اين هم زوجك والفتية ؟ أشتقت الى جوني كثيرًا.. اه ، لحسن الحظ قد اعددت البسكويت الذي يحب منذ يومين."
ماتت الحروف في فمها عندما اهتز الجسد القابع امامها واطلق صيحةً خافةً قبل ان يهوي على الارض ويدخل في بكاءٍ مرير
"حبيبتي ما الأمر؟." تلفتت حولها في الشارع المقفر وسحبتها الى الداخل قبل ان توصد الباب
"اين زوجك والأولاد؟ هل حدث شيء لهم؟"
سحبتها مجددًا الى الاريكة قرب المدفئة المطفئة وانحنت نحوها لتجلس عند قدميها بفزع تمسك بيديهت الذين يهتزان في حظنها
"لقد طردني يا أمي .. بلايك طردني وأخذهما مني."
"ماذا؟ كيف يحدث ذلك؟ لماذا؟" اندفعت الأسئلة من فمها بغير استيعاب ، لطالما كان بلايك مغرمًا بإبنتها .. كان شهمًا وطيبًا ورجلًا صالحًا ، ربما لم تعرفه تمام المعرفة نظرًا لزواجهما السريع في البداية لكنها على العلم بمزاجه العكر على الدوام وهذا وحده لا يبرر ان يطرد ابنتها ويسلبها طفليها
"جولي.. ماذا حدث بالضبط؟" بصبرٍ نطقت أمها وبنبرةٍ أكثر هدوءٍ اذ ادركت ان الانفعال الان لن يوصلهما الى شيء ، هداءت جوليا بدورها وسحبت احدى يديها لتتحسس بطنها "بلايك طردني .. يقول انني خنته ، كيف يقول لي .. بل كيف يظن اصلًا شيئًا كهذا؟ انا احببته أكثر من اي شيءٍ في حياتي وهو يعلم ذلك" وسالت الدموع من عينيها أكثر غزارةً
احتظنتها والدتها وهمست بصوت الأمهات الحاني المطمئن "لا تقلقي كل شيءٍ سيمضي ، هو سيدرك فداحة خطئهِ ويعود اليكِ يعض اصابع الندم ليعتذر ويعيد ابنيك .. على الاقل من المستحيل ان يمنعك من رؤيتهما فلا يحق له."
"آهٍ يا أمي لن ارى ابني مجددًا ، لقد جُرح قلبه وكبرياءه جرحًا عميقًا .. لا يمكنك ان تتخيلي كم هو رجلٌ فخورًا بكبرياءهِ ، انه عنيدٌ جدًا وصلبٌ في التمسك في اراءه ، لا تعرفينه جيدًا ولا تدركين الى اي حدٍ من الممكن ان يكون كذلك.. حتى انني وقعت اوراق الطلاق مرغمةً في الطائرة"
فور جملتها الاخيرة حطت في نوبة بكاءٍ مريرةٍ اخرى ولم تدري ماريا بما تفعله لحظتها ، اخذت لحظات تبكي وأمها تعانقها ، وقبلت ماريا رأسها تهمس
"لا ادري ما الذي استطيع فعله لأجلك ، صدقيني ايًا كان سأفعله دون تردد ، سوف اتحدث مع بلايك بنفسي."
وزمت شفتيها تفكر فيما عساها تفعله
لكن عناء التوتر والتفكير انجليا سريعًا بمجرد ان رفعت جوليا رأسها فجأة ومسحت دموعها عنوه واخذت فينةً تراقب فيها المنزل وكأنها تحاولُ أن تحفظ كل زواياه في ذاكرتِها ، فجأةً نهضت الى الموقد المطفئ وسحبت الصورة المتوضعة لإبنيها في عمرٍ أصغر بين العديد من صورها ثم قالت بهمس
"يمكننا الانتقال .. لا نستطيع ان نبقى هنا بعد الآن."
"ماذا؟ لماذا؟"
"انا حامل."
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro