مُتلاشي.
ارتخت جفون الصباح ببطء و سكيّنة لتبدأ العيون السوداويّة في الانفتاح، و مع بداية ظهور اللألئ البيضاء فوق تلك السجادة السوداء القاتمة كان يقوم بالإحماء في مكانٍ منعزلٍ عن الأخرين ممن يحيطون به.
يديه تتعرق و جبينه أصبح مشّعًا بسبب فرط العرق الذي تكوّم هناك، فرك يديه على عجلٍ ثم التقط العصا متوسطة الطول سوداء اللون ثم راح يلوّح بها لليمين و الشِمال، الأعلى و الاسفل.
يردد ببطء الألحان التي حفِظها جيدًا لأجل هذا اليوم، إنه يومٌ مميزٌ بالنسبة له كقائد لفرقة موسيقية أولًا و ثانيًا كفنان، فقد اجتمع معظم كبار الشخصيات و المشاهير لأجل إحياء هذا الحفل.
نصف ساعة مرّت ثم حان وقت الانطلاق، تحمحم قليلًا ينظّف حلقه ثم نظر إلى نفسه عبر المرأة متوسطة الطول التي تزيّن الغرفة السوداء و الحمراء التي تحمل الطابع الكلاسيكي الأنيق ثم ابتسم ببهوتٍ.
لاتزال تلك الأيام تؤرقه و لاتزال تلك الأصوات و الأحاديث تحوم داخل عقله و تجعله مضطربًا، لقد عانى كثيرًا حتى وصل إلى هُنا و مع ذلك لاتزال تتملكه رغبة كبيرة بأنه ليس في المكان الذي من المُفترض أن يكون به.
تسأل كثيرًا حول ما هيّة نفسه، ما هي حقيقته وِسط هذا المكان الذي عاشَ به لمدة سبع سنوات، يحاول بجدٍ لجعل نفسه و أخرٌ طوّق عنقه بجنازيرٍ من حديد صدئٍ يصلون نحو السماء و يتلمسون النجوم و الغيوم.
نصف ساعة أخرى حتى قُرع الباب فانتفض بذعرٍ ثم صاح على عجلٍ "قادِم." ليست لديه رغبة كافية في رؤيته أو سماع صوته الآن حتى بعد مرور هذه الليلة التي يأملُ أن تسير بشكلٍ جيدٍ.
نظر للمرة الأخيرة نحو نفسه ثم ابتسم مجددًا ثم غادر الغرفة على عجلٍ، انطفأت الأضواء حالما صعد على المسرح، ثم راح يراقب الجمّع الذي يجلس أو يقف أمامه و ابتسم لهم.
ثم انحنى لهم كتقديرٍ لعملهم الجاد معه ثم قلب جسده كاملًا نحو المتفرجين و المستمعين حينما بهتت الأضواء بخفةٍ و ظهر مع مجموعته الموسيقية خلفها، انحنى للحاضرين ثم عاد للالتفاف نحو فرقته.
و بدأ في عزف مقطوعةٍ موسيقيةٍ غامضة، حزينة؛ كان يغمض عينيه يتفادى رؤية وجهه و ابتسامته التي جعلته يكره الابتسام أو حتى النظر لوجوهٍ مبتسِّمة، لايزال يحاول جاهدًا لأن يكون إنسانًا صالحًا.
لقد كانت لحظاته مُتلاشية دومًا، لا تبدأ فكرة في الظهور داخل عقله حتى تنتهي و تعقبها واحدة أخرى، و منذ أن شاهد الأخرين حوله و هو يعيش في بهوتٍ لا مُتناهي.
تعالت أصوات الموسيقى و توقف صوت العالم و لايزال مُغمضُ المُقلتين السوداوتين، و لاتزال بسّمته الهادئة باهتةً الظهور، التقطت أذنيه صوتُ تصفيقٍ عالٍ و صوتَ أشخاصٍ يطلبون المزيد.
فابتسم قليلًا، ثم تحركت عصاه ذهابًا و إيابًا و تعالى صوت الموسيقى، و انقطعت أنفاس العالم لبرهةٍ من الزمن، شعر بغصّة عالقة في حلقه فحاول منعها، ليس اليوم؛ ليس في هذه اللحظة.
كانت هناك العديد من اللحظات التي فكر بها في إنهاء حياته و الرحيل بعيدًا لمكانٍ يُصعب الوصول إليه لكنه في كل مرةٍ يفشل، إما بسبب والديه أو شخصٌ لا يريده أن ينهي حياته الآن.
الكثير من الأمور، الأشياء التي كرِه القيام أو التفكير بها، لكن عليه ذلك، من المُفترض أن يفعل ذلك لأن حياته بأكملها تعتمد على هذه الأفعال و الأفكار السوداوية.
ساعتان قد مرتا و انتهت هذه الأُمسّية الهادئة، التي من المُفترض أن تكون كذلك، أنحنى للحاضرين بعد أن التفت اتجاههم ثم عاد للنظر نحو فرقته وانحنى لهم أيضًا ثم غادر مع انقطاع الأضواء عن المسرح.
عاد على عجلٍ نحو غرفته و سقط على الارض على الفور يلتقط أنفاسه الضائعة، يحاول التنفس بانتظام و التفكير بأشياء جيدة، لكنه لم يستطع فما تزال فكرة أنه مرغمٌ على تطويق نفسه في حبالٍ صدِئة تجعله عاجزًا عن التعبير.
استند بيده على يدِ كرسي خشبي بلونٍ أسودٍ و أحمرٍ ثم وقف ببطء، و جلس عليها، أخفض رأسه للأسفل ثم تنفس ببطء و رويّة ثم رفع رأسه حالما أصدر الباب صوتًا.
توقف عن الحراك و نظر نحو الشخص الذي دخل ثم ابتلع ما بجوفِ حلقه و قال بتلكؤٍ "سأفعل ذلك لكن دعني من فضلكَ أقوم بتغيير هذه الملابس.." ابتسم نحوه الشخص ثم قال بصوتٍ هادئٍ "لا بأس لكن تأكد من إتمام الأمور بسريّة."
أومأ لكلامه بهدوءٍ ثم تركه يغادر، عاد للتنفس ببطءٍ و التفكير مليًا في طريقة من المُفترض أن يرفُض بها أي شيء يصدر عنه، هو بالتأكيد ليس مجبرًا بقراراةِ نفسه لكن فكرة أن ذلك الشخص لديه شيءٌ ما عنه جعلته سهلَ الانصياع له.
وقف بعد برهةٍ ثم التقط ملابسه السوداء و خلع عنه الملابس الأنيقة التي كان يستر بها جسده ثم وضع الملابس تلك عليه، سترَ فمه بقطعة قماشٍ أسودٍ ثم وضع فوق شعره الأسود قبعة سوداء أيضًا.
وضع الملابس فوق الكُرسي ثم غادر الغرفة بعد أن تأكد من خلو المكان، خرج من بابٍ خلفيٍّ للمسرح ثم استقلَّ سيارة أُجرة و قدم ورقة للعنوان الذي من المُقرر أن يقف به للسائق ثم أراح جسده للخلف.
ساعة كاملة حتى وصل للمكان فنبههُ السائق، شكره و نزل ثم دفع ثمن الإيصال و حدق في المكان لفترةٍ، عمارة نصف مهجورةٍ يعيش بها أحد الأشخاص الذين قيل له أنهم مسؤولون عن إيقاع الأذى بأشخاص فقراء.
نظر نحو يديه المُغلفتين بقفازين سوداوين ثم تنهد بصوتٍ مسموعٍ و مشى حتى وصل إلى منزل الشخص، دقَّ الباب بهدوءٍ و انتظر حتى يُفتح، عدة دقائق حتى فتح له شخصٌ مخمورٌ، تفوح منه رائحة كريهة.
حدق به من الأعلى للأسفل يتفحصه ثم قال بصوته الغليظ "هل أنتَ السيّد بارك؟" أومأ له الرجل فأكمل كلامه ثم دفع الباب "لديَّ ما أخبركَ به." دخل المنزل ثم أغلق الباب و راح يسير أمام الرجل.
تراجع للخلف بحذرٍ و مع كل خطوة يخطوها كان يقوم بدفعه أكثر حتى سقط على الأريكة التي تتموٌضع جانب النافذة في منزله الصغير.
جال بعينه بحثًا عن أي شيءٍ يضعه فوق جسد السيّد بارك أو حتى يغلق به فمه حتى لا يصرُخ فهو لا يرغب في أن يُنكشف أمره بعد، حينما عثر على قطعة قماشٍ التقطها ثم وضعها داخل فمه و أحضر سلكًا كهربائيًا كان على الأرض و لفَّ به جسده.
توقف قليلًا ثم حدق في أفعاله و ابتسم ببهوتٍ ثم قال للذي أمامه "أعتذر على ما سأفعل لكنّي مجبرٌ على القيام بهذه الأفعال، سامحني." ثم أخرج سكينًا من جيب سترته و بدأ في طعن جسد السيّد بارك في أنحاءٍ متفرقة.
ثم بدأ في رسم لوحةٍ فنيّةٍ في جسده و هو مغمضُ العينين، حينما لاحظ سكون الشخص أمامه توقف عمّا يفعل ثم جلس جانبه و راح يبكي بألمٍ، بصوتٍ مسموعٍ..
تَـمَّ...
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro