تَصفيةٌ على حسبِ الأفضلِيّةِ.
°°°
«ابن الفأر حفّارٌ يا عمر.. هل تدري؟»
تحدّث يدخل بغير سماحٍ له، جلس على الكنبة وقد تبعته خدمة الغرف تقدّم له قهوةً سوداء.
«لا أفعل..»
أجبت ليضحك بخفوتٍ متبِعًا قولي:
«لكن لا بدّ أنك تعرف جيّدًا أن إخفاءك لأخٍ كأخيك أمرٌ سيجعلنا نتخاصم.»
نحن متخاصمان منذ سرقة سنواتٍ من عمري حتى أصبح عديم مشاعر بائِسًا مثلك.
«أظنه لا يحتاج أن أخفيه، هو يعلم جيدًا ما يصلحله.»
نبست وجلست أمامه بنفس أريحيته وما إن حاول حارسه تقويم جلستي بالاقتراب حتى رفع آليكس يده موقفًا إياه.
نزع نظاراته الشمسية ورماها حذوه محدّقًا فيّ.
«ما زلت تونسيًّا يا عمر، ما زلت لا تجيد الحديث وجاهلٌ في احترام من هو أكبر منك سنًا.»
«أظنك تخلط في الصفات بين الجنسيات عزيزي آليكس.»
ضحك وأومأ بيده ليرفع الحارس الذي أراد تقويمي سابقًا سلاحه نحوي مقتربًا.
«تمتلك ثقة لا أصل لها، المعلومات في التقرير معلومة للجميع، في ماذا تثق لئلا أقتلك الآن وتُمحى صفحتك وصفحة مارك من الحياة؟»
تمتم ليضغط الحارس على المطرقة يعلن اقتراب النهاية.
«صفحاتنا لست أنت من يمحيها، آليكس، أنت أحمق إن اعتقدت أنك ستسحب أخي إلى صفك، كما أن موتي لن يُغيّر نهايتك، أمثالي في كل مكان، لست طفرة متفرّدةً، والأشخاص الجيدون دائمًا يفوزون في النهاية.»
عكف حاجبيه إثر كلامي، وربّما استرجع كوني دائمًا ما كنت أنفّذُ أوامره في ما يتعلّقُ بالنتيجةِ، أما الطرق فكانت أكثر لطفًا من خاصته، هل سأستطيع دائمًا لوحدي فيعل ذلك؟ سأشكر الله أولًا، أخي لاحقًا، ثم الرفاق من كل مكانٍ على سطح الأرضِ.
«أمثالك؟»
ظللت صامتًا، بنسبة كبيرة هو لن يقتلني، لكن حتى إن فعل فقد أعلمت أربعة رفاقٍ حيال الأمر، كما أخي، لن يُترَك الأمر حتى يُصبح كارثةً بسببهم، سآسف في هذه الحالة فقط لأن مارك سيموت ربّما.
«جد علاجًا وسبب المرض بمساعدتهم إذًا، أو أنني سأجدهم فردًا فردًا.»
وقف ملتفتًا يقول جملته السخيفة ثم رحل كما فعل رجاله ومنهم حامل السلاح الذي شعرت أنه أراد قتلي حقًّا! كنا حرفيا نمزح معًا لساعاتٍ في المهامّ المشتركة..
قال جِد علاجًا.. لم أسأل عن مارك منذ البارحة بعد تلك الحركة التي حدثت، لست متأكّدًا إن كان الترياق الذي حقنته به أدى وظيفة ما، لكنه لم يؤثّر عليه سلبًا لأنّ ذلك كان وصلني قبل أي أحدٍ بأما أنني طبيبه الخاصّ الأوّل.
سأبحث عن العلاج حتى أجده، ليس من أجل آليكس أو من أجل بلدان الاتحاد، بل من أجل مارك وكل الأطفال.
حاسوبي أطلق صوتًا ينذر على وصول رسالة لي، وكنت أتوقّع المرسل وأنتظره، إنه ساركان.
أظن شكك في محلّه، المستشفيات مكتظّةٌ هنا ويُمنع نقل المرضى إلى مكانٍ آخر، جميعهم أطفال كما أن أغلب المرضى من أبوين أو أمٍّ أصيلة للجهة، هناك حالتين فقط غير ذلك وهما يعانيان من ضعف جليٍّ في جهازهما المناعيّ.
ومارك المسكين ثالثهما، قيل أنه في صغره كان يمتلك مناعة ضعيفة، ثم أبوه قد أحسن تغذيته وقد تحسّن نوعًا ما، لكن هناك أمور ربّما سنعيشها رغم كل محاولات النجاة.
شعرت بالتقدّمِ رغم الحزن، فهذه الرسالة التي أنتظرها مذ يومين، وهي بداية جيّدةٍ لحلّ خططهم وسبب المرض الذي هم أيضًا لا يعرفونه.
شكرًا لك ساركان، أرجو أن ترسل المعلومات للبقية حتى يكونوا على علمٍ، وقريبًا جدًّا سنعالج جميعهم معًا يا صديق.
نقرت بسرعة وكنت متحمّسًا حقًّا لأرى ما في الكتاب، ربّما العلاج، أو سبب المرض أو أيًّا كان، لكن ما فيه هو ربّما سبب قتلهم لمحمد بوتييه ذاك، وهذا سبب كافٍ لرغبتي هذه.
إن شاء الله، إن شاء الله سنفعل.
قالها هو وأغلقت الحاسوب بعد ذلك أذهب إلى خزانة ملابسي بعد أنني خبأت الكتاب هناك تحت الأدباش.
«بسم الله الرحمن الرحيم!»
تمتمت متنهّدًا بعمقٍ فاتحًا إياه، يا ربّ اجعل ما فيه مُيَسّرًا لا معسّرًا.
غلاف الكتاب كان أسودًا بغير خطوط حبرٍ ترسم عنوانًا ما.
بعد عدّة صفحاتٍ فارغةٍ وجدت العنوان؛ مرضٌ جديد.
غالبًا ما نستعمل أغلبنا عليه مسمّى المرض لا الوباء، لأن للآن لا نستطيع رؤية الكائن المجهريّ الذي سيجعله وباءً وإن كان غير مُعدٍ.
تصفّحت الصفحات الفارغة حتى وجدت نصًّا قصيرًا.
«بدايةُ المرض كان نقص الشهية، ونهايته كان هيكلًا عضميا تكسوه جلدة مترهّلةُ، ولا يموت إلا بعد عذابٍ أليمٍ. كل هذا حصلفي سنة ونصفٍ، لكن شعرت أن المدة كان من الممكن أن تطول لوقتٍ أكثر بكثيرٍ لو أن الطفل تلقّى معاملةً أفضل وعلاجًا أدقّ، لو أن عائلته كانت حوله، ربّما، كان سيتحسّن.
معاذ الله.»
ابتسمت بصدقٍ، أولًا لأن مارك ذا نفسيّةٍ جيدةً رغم غياب عائلته عنه، ثانيًا لأنّه ختم النص بمعاذ الله لأن عبارة لو كذا غير محببةٍ إطلاقًا،لكنه عنى أنّ نفسية المريض من المهمّ أن تكون جيدةً، هذا كل ما في الأمر.
توقّعت عدّةَ صفحاتٍ فارغةٍ لذا قفزت عددًا منها حتى وصلت إلى عنوان الفصل (المعلومات) التالي؛ نتائج ملموحةٌ؟
هنا في فرنسا لا يوجد مصابون.. لكن في أماكن قريبة _نسبيًّا_ من انفجاراتٍ نوويّةٍ، الصغار فقط يمرضون ويمكن تفسير هذا _مثلًا_ بأن الكبار هناك تعرّضوا للإشعاعات وتناولوا الخضروات والغلال والحيوانات قبل أو أثناء الحمل، وهذا أثّرَ رُبّما على تكوّن جيناتهم لئلا يتقبّلوا تلك المأكولات، في هذه الأثناء فإن هناك من يتأثر كليًّا ويموت بعد بضعة أشهرٍ من ولادته وهناك من تظهر عليه الأعراض بعد سنواتٍ، وهذا متعلّقٌ بالأمراض التي يعانون منها وبمدى قوة مناعاتهم.
لم أفكّر في موضوع أنّ الحيوانات أيضًا قد تتأثّر بهذا.. والحمد لله أن مارك على ما يبدو لم يأكل لحومًا من هناك.
إثر قراءتي لهذا النصّ واتاني سؤال، وتباعًا فإنّ الفصل الآتي يجيب عليه:
لِمَ الكبار لا يُصابون؟
يمكن تفسير هذا _مثلًا_ أن الأسلحة النووية التي كانت تُقذَفُ في بدايات الحرب العالمية الثالثة والرابعة كانت قنابل محكمة الصنع وصغيرة نسبيًّا، لذا فإنّ نتائجها محدودةٌ جدا ويمكنهم التحكّم في توسعها وفي مدى قوّتها ومجالها الجغرافيّ، أمّا في بدايات الحرب الخامسة والفترات السابقة الأخيرة فإن البلدان أصبحت تضيف مكوناتٍ منوعةٍ على سبيل التجربة _محاولين أن يَتحكّموا في تأثيرها_ لكن ولأن لا أحد له أن يتوقّع حركة الإلكترونات داخل قنبلة نوويةٍ غير مجرّبةٍ فإن الإشعاعات غير معلومة التأثير، كما أن هذه الإشعاعات قد تخرج عن النطاق المتاح لها _المتَوَقّعِ فعليًّا_ ومن الممكن ألا يُرصَدَ مع ضُعفه الشديد _مع العلم أن تأثيره غير معلومٍ فليس من المهم حقا ما إن كان الإشعاع كثيفًا أو لا_. تحت هذه المعلومات فإنّ الكبار معتادون وأجسادهم توقّفت على النمو، كما أن أجسادهم قد تستغني على عديد الفيتامينات التي من الممكن أن أجسادهم تعلّمت كيف تحتفظ بحكمةٍ بأكثر الفيتامينات أهميّةً، بينما الأطفال ما زالوا في طور النموّ وهم في حاجةٍ ماسّةٍ لكل الأنواع، ومع ضعفٍ في المناعةٍ أو جيناتٍ متضررةٍ إثر الإشعاعات قد يقعون ضحية لهذا المرض الفتّاك.
أشعر بالصدمة.. ويمكنني الجزم أن هذا ليس سبب إغتيال محمد بوتييه، لأنني متأكّدةٌ أنهم لا يعلمون بهذا القدر.. لأن آليكس أساسًا _وكل العلماء والجنود العاملين على الأسلحة النووية_ يثقون بصناعاتهم السابقة ويرون أنّ هذه الأسلحة إمّا أن تصنع أضرارًا ظاهرةً وفتاكةً أو أنهم أحسنوا التخطيط والهندسة والكيمياء وأجادوا حتى تنميق كلامهم إعلاميًّا لتبدو تجاربهم غايةً في الإنسانية على أراضٍ خاليةٍ، لأنّ البشر هناك خفيوّن ربما.
زفّرت وانتقلت للفصل الآتي، أريد معرفة سبب قتلهم له!
خُطط الخمسة المُبجّلين.
يقصد الاتحاد الحامي.. كان نصًّا أطول من سابقيه بكثيرٍ..
رُبّما يجب أن نقف هنا طويلًا.. لنبدأ منذ البداية:
في العصر الكلاسيكي العذب نعرف أن الدول النامية ظلت مكباتٍ لنفاياتِ المتطوّرين، أصبح العالم كما لو أن إفريقيا وجنوب غرب آسيا عالم في بعدٍ مهمّشٍ وبقية البلدان في بعدٍ آخر يغمره الفرح وتزيّنه النجوم بحبٍّ، الآخرون لم يكن لهم وقتٍ ليروا النجوم فوقهم، وظلوا يحدقُون أمامهم بحقدٍ، أرادوا أن يعيش الظالمون الحياة التي يعيشونها، دون أن يهتمّوا بالأطفال أو الضعفاء في تلك البلدان، أرادوا الانتقام.
لم تكن كغزوات المسلمين التي تحفّها البركة، كانت كهجوم الجرذ الهاربة من السفن التجارية، يحملون الآلام ويتألمون أكثر مما يؤلمون.
لا أحد يُدرِكُ حقيقة من أشعر في صدور أولئك الحزانى شعلة الانتقام تلك بدل شعلةِ إنارة أراضيهم والنهضة لمستقبل أطفالهم المهمشين، استرداد دينهم حتى! ليس كذلك، فضّلوا بأسى الانتقام واستماتوا لأجله.
في ذلك الوقت السلام لم يكن حقًّا أمرًا مرضيًا لكل من يعايشه، هناك أينما تقبع الرؤوس الكبيرة _أصحاب السلطة حينها في بلدان الاتحاد الحامي_، الذين تحيطهم تربة الأرضِ كأيٍّ كان الآن، كان هنالك رغبة دفينة بالتفرّدِ بتلك الصحة التي غمرت الكوكب، بأن تصبح تلك الصحة خاصة أكثر، وأن التعداد السكانية بعد أن وصل لعشرة مليار نسمة بعد الإبادة التي فعلتها الحرب الثالثة وجعلت التعداد يصل للأربعة ملياراتِ نسمةٍ يجب أن يقلّ كثيرًا، وهنا زُرِعت الشعارات السخيفة سكنت رغبات التحسّن في نفوس الشباب، ومع القليل من الإغراءاتِ لأولئك أصحابِ الهمم المنزوعة فإنّ الأصوات صاحت بالانتقام، بدل الاتعاظ ممن سبقوا، والتقدّم، وفعليًّا فإن هذا السيناريو يُعدُّ لنفس الشعوب منذ القرن العشرين ولم يأبوا التعقّل، ثم بدأت تلك الحرب العقيمة واُتّهِمَ الجميع بأنه الفتّانُ، بينما الأصابع التي تتهم كانت المُلامَ الحقيقيّ.
اليوم العشرة ملياراتٍ صارت ستة، وهذا رقمٌ مازال مهوولا لهم، الغاية هي مليارين، يريدون تفجير آخر الاكاشافات التي تُدّعمها الدول القوية في اليابان والقطب الشمالي وجعلها واقعًا يعايشه نخبة النخبة من رؤساء ووزراء وعلماء وأغنياء، ليعيشوا وسط حضارة استثنائية سيخرّبها الفقراء دائمًا، ويدعسها أصحاب الحريّات والنادون بالحياة أبدًا، ليصبح العباقرة المأمورون والمخضرمون في شتى الأعمال آلاتٍ بشريّةٍ في أيدِ سكّان الأرض الجدد المُبجّلين.
يا الله.. هذا الرجل كاد يُشعِلُ ثورة عالميّةً لن تصمت.. كانت الأفكار تتصارع داخل عقلي، لكن الأكثر وضوحًا كان قرارًا سأنفذّه وإن كنت في آخر يومٍ من حياتي.
حاولت تشتيت تلك الأفكار حاليًّا حتى أكمل آخر فصلٍ على الأغلبِ.
قرأتَ ما كُتِبَ؟
أنت الآن مسؤول، ليست مؤامرةً، لا وقت لهذا حتى، كان مشروع نشر الأمراض لتقليل التعداد السكانيّ واردًا، لكنه لن يكون مجديًا جدا إذ أنهم قد يصابون أيضًا، لكن هذا طبيعيٌّ جدًّا، ويصيب الأطفال في أماكِنَ نامِيةً _وغير مهمّةٍ_ لذا فإنهم يبحثون على الأسباب حتى يُعزّزُوها في كلّ مكانٍ يريدونه، مع إضافاتهم الخاصة طبعًا، وإيتاء العلاج لمن يريدون، لذا فإنّ لا انتشار واسعًا له، لأنّ العلاج غير متوفّرٍ بعد.
في أمانِ الله.
كان هذا ما كُتِب في آخر صفحةٍ من الكتاب، وسطها بخطّ اليد وبالعربية عكس كل ما سبق الذي كان بلغته الأم؛ الفرنسية.
لقد كان هذا كثيرًا أن أعرفه.. هل كلّ هذا مُخَططٌ له أم أن الله من ساعدني في كلّ شيء؟
أنا أؤمن أن كل شيء فيه خير، وأن الله يسوق ذلك الخير لكن بأسباب واضحةٍ، وأنا لا أرى في قصة وصولي إلى الكتاب أسبابًا واضحة عدا أنّ محمد هذا دعا كثيرًا لأن يقع كتابه في أيدٍ خيّرةٍ.. وقد حصل.
الدعاء حلّ هذا أيضًا، ليكون _إن شاء الله_ لي حجّةً أنني حاولت ورجيتُ وجعلتُ كُلّ أملي في الله، ربّما أنا مقصّرٌ، لكنني أرجو أن تحفّني بضعة المبادئ التي تمسّكتُ بها، والقليل مما أظنه أعمالًا صالحةً، والكثير الكثير من الغفران والرحمة.
سأنشر الكتاب.
°°°
فيوه °\_/°
آراء يا عباد الرحمن TT
دمتم في وِدٍّ 🧡
واستغفروا 💚
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro