1
بقلم نهال عبد الواحد
- حُبُّكَ ليلةٌ شتوية، يعبقُ عطرها من الصبح إلى العشية، أراكَ في مراقبتي لزخّات المطر، و ترتعد أوصالي عند حلول ذكرك، حتى أكثر من فزعتي من صوت الرعد، تلتمع عينايّ عند رؤيتك، بوميضٍ أشدُّ من كل وميض البرق، لو وقفتُ تحت المطر !
تُراني، لو وقفتُ تحت المطر، هل يغتسل قلبي من حبك؟!
تُراني، لو دثّرت نفسي بألف غطاءٍ، هل يغنيني عن دفيء حضنك؟! فما الدفءُ و الحياةُ إلا في حُبّك و قُربك.
هكذا أهدرت إفروديت وهي تتنهد بأنفاسٍ حارقة وقد شردت في زخّات المطر من خلف زجاج النافذة، ترتشف آخر ما تبقى من فنجان قهوتها وقد صارت باردة بلا طعم مثل حياتها بالضبط.
نهضت تضع فنجانها فوق أقرب منضدة ثم توقفت أمام صورة معلّقة لشاب وسيم تتشابه ملامحهما ولون بشرتهما البيضاء وسواد عيونهما إلا إن شعره أسود بينما هي صهباء.
احتضنت نفسها بشالها الصوفي الذي يحيط بكتفيها وهمهمت تخاطب الصورة: آه يا حبيبي ! قد أحرق روحي وآلم قلبي بُعدك، متى ستجييء؟ قد طال غيابك وإشتقت لك بكل كياني.
ثم أغمضت عينيها، زفرت أنفاسها المحترقة مجددًا وهي تضم نفسها بذراعيها، لكن فجأة!
سمعت صوت مفتاح الباب، فتحت عينيها والتفتت مسرعة، فإذا به يفتح الباب ويدخل نفس الشاب الذي كانت تخاطب صورته منذ لحيظات.
وما أن أغلق الباب حتى طوت الردهة المتسعة في مدخل البيت مسرعةٍ إليه فاتحةً ذراعيها وقد تبدّل كل إنشٍ في وجهها؛ متهللة كأنها لم تحزن قط!
- كوكب! حبيبي! وأخيرًا!
هكذا هللت فرِحة وهي متجهة نحوه.
لكن ما أن وصلت أمامه مباشرةً وهمّت لتعانقه قائلة: أقبل حبيبى هيا أُدفئك بين أحضاني.
لكنها تفاجئت بصده ويديه ينزل بها ذراعيها قبل أن تتعلّق برقبته، فكأنما تساقط ماء المطر فوق رأسها مباشرةً فأثلج كل كيانها بعد لهيب الشوق.
فتخطّاها يعلّق مظلته المبللة، يخلع معطفه و يعلقه أيضًا، بينما إفروديت لازالت متجمدة لم تبرح مكانها.
بعد قليل استجمعت نفسها وابتلعت ريقها وهي تلتفت نحوه تقول بصوتٍ متحشرج: لقد طال غيابك هذه المرة! أين كنت؟! كدت أموت قلِقة عليك!
- ليس من شأنك، كنت في أي مكان.
هكذا أهدر بجمودٍ يهشّم روحها المتهالكة.
ثم تابع بإستخفاف: مؤكد قد نفذ المال!
ليصدمها مجددًا في نفس اللحظة، فتجيب بصوتٍ يكاد يتلاشى: المال!
- أجل المال!
فأومأت برأسها تجاهد نفسها ألا تنهار أمامه، فابتلعت ريقها بمرارة حاولت إخفاءها ثم إبتسمت بسخرية قائلة: أجل! قد نفذ منذ بضعة أيام، لكني تدبرت أمري، لا عليك.
ثم قالت: هيا أبدل ملابسك لأعد لك عشاءً خفيفًا؛ فلم أكن أعلم بمجيئك.
- لا داعي، أحتاج فقط للنوم الآن.
قالها وهو متجه للأعلى نحو غرفتهما، تبعته بتردد لتجده قد ذهب لفراشه مسرعًا، فأوقدت مصباحًا صغيرًا وقبل أن تقترب جواره قال بحدة: قلت أريد النوم! أما إن كنتِ ترغبين في السهر فاذهبي في مكانٍ آخر فالبيت كبير.
نهضت إفروديت مسرعة أشبه بالركض خارج الغرفة، قد هطلت دموعها دفعة واحدة فصارت أشبه بهذه الليلة الممطرة بلا توقف.
ظلت تجهش بالبكاء وهي جالسة أمام المدفأة وكأنها لم تبكي طوال عمرها أبدًا، تشعر باحتراق قلبها أكثر مثلما يحترق وقود هذه المدفأة؛ فقد ظنت أن لهيب شوقها سينطفيء بلقاءه ولكن هيهات!
أصبحت ولا تزال في نفس مكانها أمام المدفأة ولا شيء على لسانها سوى كلمة « لماذا ؟!»
سمعت صوت أقدامه تهبط من الدرج فكفكفت دمعها مسرعة، نهضت واقفة فوجدته متهيئًا للخروج، فنادته: كوكب!
فتوقف مكانه دون أن يلتفت إليها قائلًا: ماذا؟!
- صباح الخير.
- صباح الخير، ثم ماذا؟!
- ألم تنتظر لأعد الفطور؟! ثم، ثم فيم جئت ولأين ستذهب مسرعًا؟!
- قلت للمرة الألف لا شأن لك.
فصاحت فيه: انتهى عن جمودك هذا!
- قلت لك لا تتأملي فيّ، لكنك لازلت تتوهمين أشياء من دروب الخيال، المهم الآن قد تركت لكِ مبلغًا من المال رغم أني بِت وحدي بالأمس.
فصاحت مجددًا: قلت انتهى عن هذا! أنا زوجتك ولست مجرد فتاة ليل، لا تعاملني بهذا الرخص، فقط أريد إجابة عن سؤالي، لماذا تزوجتني؟!
قالت الأخيرة وقد إنهمرت دموعها مجددًا!
فأجابها ببرود: لأنك إبنة العم وعليّ الحفاظ عليكِ من الأغراب خاصةً بعد وفاة والديكِ، هكذا طلب مني عمنا المعلم.
- فقط!
- أجل، لا تحاولي إثارة إشمئزازي بأسئلتك المملة ولا باقترابك مني بدون سبب.
- هل يجب أن يكون هناك سبب لأقترب من زوجي؟!
- أجل، عندما أريدك ليس إلا، رغم أني لا أطيق هذا الإقتراب لكن....
فقاطعته تكاد تتماسك من الإنهيار: لا تكمل، ألم تلتفت لأي شيءٍ في أبدًا حتى لتعجب به؟!
- لا أجد فيكِ ما يلفت ولا يعجب لا شكل ولا رائحة ولا حتى روح...
- كفاك! كنت أعلم أنك لم تراني يومًا.
- أكنتِ تريديني أكذبك القول؟!
- ليتك فعلت، كنت شعرت أنك تحرص على جبر خاطري أو تهتم ألا تجرح إحساسي!
قالتها ويكاد صوتها يختفي من شدة البكاء، لكنه بدأ يرتدي معطفه بلا إكتراث فأسرعت نحوه تعصف إليه بغضبٍ جم وتصيح بإنفعال شديد: اسمع، إن كنت لم تراني يومًا ولا تطيق إقترابي ولا حتى رائحتي فلا تأتي مجددًا.
- ماذا؟! هل جننتي؟ كأنك ستمنعيني؟!
قالها بتهكم.
فقاطعته بحزم بعكس ما يعصف بداخلها: أجل! لا تأتي أبدًا، لم أعد أريدك، بل لم أعد أحبك، ومهما آلمني قلبي فسأدهسه بقدمي حتى يموت تمامًا.
- لن أحاسبك الآن على مهاتراتك.
- ولن تحاسبني أبدًا، قلت لا أريدك و سأطردك خارج قلبي بل خارج حياتي كلها، هيا هشّمني أكثر، هيا مزّق كل صوري وكل أثر يذكّرك بي، هيا حطّم قنينة عطري، حطّم حتى فنجاني واحرق كل شيء مثلما أحرقت قلبي وارميه في الرياح رمادًا، لكن أؤكد لك أنك لن تنساني، ستذوق من نفس الكأس المر، ستتعذب في بعدي وتحترق في لوعة عشقي لكن لن تجدني أبدًا و ستندم أشد الندم.... هيا إذهب وارحل لا أريدك ثانيًا.
قالت الأخيرة بصياح هيستيري وهي تدفعه دفعًا خارج باب البيت، لكن رغم ذلك لم يلتفت إليها لم يفكر في الإنتظار ربما لحق ترميم باقيها قبل أن تنهار تمامًا لتصبح مجرد رماد تتقاذفه رياح شتوية عاتية.
نظرت في المرآة تتأمل وجهها وملامحها الرائعة، فهي إفروديت إسمًا على مسمى هكذا مدحها الكثير وأثنوا على جمالها وأدبها ولباقتها، إذن لماذا لم يشعر كوكب بها؟ لماذا لم يراها يومًا؟ لماذا هشّمها بكل قوة ثم رحل دون إكتراث؟!
ألف سؤال و سؤال، لكن مؤكد أن قرارها هو الصائب، فكفاها إهدارًا لكرامتها ونفسها المعذّبة دائمًا، وستنسى حتمًا وإن لم تنسى فنار بعاده أهون بكثير من جنة قربه.
نهضت متجهة لمخدعها بدلّت ملابسها بفستانًا ورديًا تحبه كثيرًا، صففت خصلات شعرها الأحمر المموج، جمعت بعض خصلاته من الجانب، نثرت عطرها واكتحلت، ونظرت لنفسها في مرآتها وابتسمت بإعجاب.
هبطت من الدرج، فتحت باب البيت، قررت التجول في الشوارع، وبعد تجولها بقليل تذكرت أنها لم ترتدي معطفها فابتسمت بلا مبالاة فماذا سيحدث أسوأ مما تعانيه؟!
سارت بالفعل وسط الشوارع وكانت شبه فارغة، فالطقس شديد البرودة والسماء ملبّدة بالغيوم، لكنها لم تكترث وقررت أن تمضي وقتها.
بعد قليل بدأت تهطل أمطارًا وقد تحولت لطفلة فجأة، أخذت تجري تحت الأمطار تلهو، تعبث، تركل برك الماء بقدمها، لكن عيناها أيضًا لازالت تهطل، تمنت أن يغسل ماء المطر قلبها من كل الأوجاع والهموم من عشقٍ ملعون أدمى قلبها بكثرة الطعنات، وأن يغسل ذاكرتها فلا تذكر كوكب بعد اليوم.
وبعد فترة من اللهو والعبث عادت إفروديت للبيت وملابسها مبتلة بشدة، فأسرعت، أبدلتها وأوقدت المدفأة، جلست أمامها بصحبة فنجان قهوتها لتدفأ.
لكن لازال البرد يرجف جسدها فتركت فنجانها واتجهت إلى فراشها ودثّرت نفسها بمزيدٍ من الأغطية.
أما كوكب فذهب بلا إكتراث ومر الوقت لكن الغريب أن هذه المرة ترن كلماتها في أذنه وكلما طردها عاودته مرة أخرى!
ذهب لعمه المعلم ليشكوه حماقة إبنة عمه، فصاح فيه: بل أنت هو الأحمق! أهديت إليك أجمل جوهرة وبدلًا أن تحفظها وتغلق عليها قلبك بألف قفل، أهملتها وألقيتها على طول ذراعك بلا إكتراث.
- لكن عمي...
- اصمت! اذهب، طيّب جراحها، اكنفها بحبك، كفاك إستهتارًا.
- أنا لست مستهترًا عماه، أنا أدير مالي ومالها.
- قلبها أهم من مالها أيها الأحمق! إذهب والحقها قبل فوات الأوان.
شعر كوكب فجأة بغصة تعتصر قلبه فضغط بيده على صدره، ثم فتح أزرار قميصه رغم البرد القارس، وهو يهمهم: ماذا أصابني فجأة؟! لماذا ارتبت من كلمتك هكذا؟!
- فقط لأنك فجأة شعرت بقيمة الجوهرة، أتمنى أن تجدها بخير، هيا إذهب وأصلح ما فعلت.
لم ينطق كوكب بحرف بل أسرع متجهًا للبيت لا يدري ما أصابه ترى قد دعت عليه ليصاب بلعنة عشق بلا أمل؟!
كان يتمنى لو يطير ليسرع إليها فورًا وهو يحدّث نفسه « إهدأ كل شيء سيكون على ما يرام ».
وصل بالفعل للبيت ودلف مسرعًا ودون أن يخلع معطفه صعد الدرج الداخلي وهو يناديء بمليء صوته: إفروديت!
لكن لا إجابة، دخل الغرفة فوجدها مدثرة نائمة فحاول طمأنة نفسه بعكس ما يشعر، ولما إقترب وجدها ترتجف وما أن جلس جوارها حتى شعر بحمم حرارتها تندلع منها، فتحسس جبهتها وصاح: يا إلهي! إنها محمومة!
نهض محضرًا ماء للكمادات لكن استوقفه صوتها الضعيف: لماذا جئت؟ قلت لك لا تأتي.
فأقترب منها وأمسك بيدها قائلًا بخوفٍ وندم: جئت أصلح ما أفسدته.
- فات الوقت.
- لا لم يفت، جئت أضمّك بين ذراعي كما حلمتي.
- جئت تضمّني بعد أن هشّمتني، لم تجد غير الرماد.
- لا، لقد أصبتيني بعدوة عشقك، إفروديت، كنتِ محقة إني فعلًا نادم، سأحضر الطبيب فورًا وستُشفي ونعيش معًا و.....
- ششششششششششش! فات الوقت...
هكذا أهدرت بصوتٍ متحشرج ثم شهقت شهقة شديدة وفاضت روحها، وجم كوكب لوهلة ثم قهقه ضاحكًا وهو يصيح ويهزها بقوة: أعلم أنكِ تمزحين، هيا انهضي وأجيبيني، إفروديت.... أجيبيني والله قد ندمت!
لكن لا إجابة!
لقد صدقت وعدها ورحلت، تركته وحده نادمًا يرى وجهها في كل مكان وفي كل شيء، في كل أنحاء البيت، في ملابسها في قنينة عطرها حتى في فنجان قهوتها، صارت أمامه ومعه لا تتركه في صحوه ولا نومه، يكاد يفقد عقله من لعنة عشقها!
فكما قيل « لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب » فلم يراها ولم يشعر بقيمتها إلا بعد أن فقدها، فصدقت حين قالت: لن تنساني.....
تمت 💔💔
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro