بلا هويّة، أحمر كارديناليّ، الطاعون
سكَنَت الأجواء بعد تلك الجلبة أخيرًا، سكونٌ مُريب، من ذاك النوع الباعث على الكآبة والقلق، فبرغم الصمت لم يكن قلبُ أحدَيهما هادئًا. اجلوَّذَت الشُحنات حتى المغيب، بل هي لم تبدأ صبيحةً، كان القصر مشحونًا ويزداد كذلك منذ مباراة الملاكمة بين الملك ومدرّبه، وكان طرفٌ جديد يتدخلُ كُلَّ مرة.
لطالما حثَّ جلالته على تفادي موكبهِ للظهور أمامه ليلًا إلا لحاجةٍ ماسّة، ووضعهُ الحاليّ دعمَ عدم تواجدهم في نطاقهِ لوقتٍ أبكَر؛ لهذا وُجِدَت سيّدةُ البلاط المستجدّة في نواحي الغَيْط، فكم مرةً أطرَيتُ على حديقة القصر حتى الآن؟
استقرَّت على مقعدِ القُبّة، الذي شوهِدَ فيه الأميرُ مع الملاكم بالأمس.
لطالما أشغل تفكيرها موضوع المستقبل، أين ستكون بعد أسبوع وماذا سيحلّ بها؟ إنها تتنقل في الحياة حسب رغبة الآخرين ولا خيار آخر، فكان هذا هو الثمن الذي دفعتهُ لقاءَ اللّجوءِ إلى ملاذٍ لا يظهر في جهاز التتَبُّع.
إنّ فتاتي تعشقُ التميُّزَ والبروزَ سرًا، هي تقضي معظم الوقت في مراجعة أفعالها وسلوكياتها، أسبابها وعلاجها، في النفسِ والجسدِ، إنّ أفكارها تعتنقُ ذاتها غالبًا، سعيًا لاكتشاف كل تفصيل، هذا بالرغم من أنها لم تكن كذلك قبل المجيء إلى هنا، بل كانت بالكاد تفكر، أما الآن فهي لا تفعل شيئًا غير التفكير والتحليل.
هذه الخصلةُ في شخصيتها جعلتها تبغضُ وضعها الحاليّ، إنها تبدو كشخصيةٍ جانبية، هذا ما يبدو عليه الأمر فقط، يبدو وحسب، لكن الحقيقة أنها كانت تحملُ كونًا آخرَ في طَيِّها، إنهُ آخر لعِظَم حجمه ليس إلا، فأما فحواهُ لا يتفرّدُ حقًا عن كوننا؛ لأنهُ إكمالٌ لهُ كذلك.
حين كنا هناك نجاهدُ مع ذِياب، هي كانت في قلعة هدَب الزرقاء، ربما كانت الملكة هدَب لطيفةً جدًا ظاهريًا، لكنها أكنّت شيئًا من الظُلمة لا يراهُ كثيرون، ولسوء حظ أريام فقد ضُمَّت للفئةِ الأقلّ.
رقّةُ فتاتي جعلتها ترأفُ بوضعِ الشهباء، فقد سمعت منها حكايةً مؤلمة حول موت ابنتها، زِد عليه اضطرارها للتحمل لأنها كانت بين يديّ صاحب أكبر سُلطةٍ حيثُ وُجِدَت... كان الأمرُ مُرعِبًا، أُجبِرَت على الجلوس بمشيئةِ هدَب، النوم والأكل والملبس وحتى دورةُ المياه، لم تحظَ بالخصوصية، وعاشت ثلاثةَ أيامٍ مريرة كدميةٍ بلاستيكية، فأما استذكارُ كَون ذلك فقط لإرجاع الأمانة وإراحةِ الضمير جعلَ قلبها يشتعل، أوقِدَ كحَربٍ اندلعت لأجل امرأة.
ها هو ذا، سببُ ذاك الاشتعال.
باغتها بأن ظهر أمامها وسط سرحانها، فالبغتةُ أكبر وقتَ جاءَ يحاذيها بضمادةٍ تلفّ رأسه، ماذا يريد الآن؟
دعاها ثم هدأ، ابتغى قول شيءٍ ما لكنه ولأول مرة يبدو وكأنه يفكر قبل أن يتفوّه.
-أنتِ لستِ حسّاسة.
تجمدت لوهلة، ودّت لو يكرّرها على مسامعها، فما لم تعلمهُ مما أسَرّه لأمرٌ جلَل.
هو كانَ داريًا بأنهُ مسَّ وترًا حسّاسًا في ياقوت، فعلا صوتُ الضميرِ ووقعَ في روحهِ ما أسبغَ مِن نَدْب، وفي تلك اللحظة أخبرَ قلبهُ بأنهُ يفهمُهُ لأنه يعلم، فماذا عن أريام؟ هو لا يُحيط علمًا بأوتارها المُرهفة وهذا لا يعني أنها غيرُ موجودة. ثم استرجعَ كلّ نُطقٍ أطلقهُ تهوُّرًا، أغالِبُها كان مؤذيًا للآخرين لهذا الحد؟
تجاهلت جملته الغريبة وركزت على السبب، فسألت: لمَ غضبَ الملك؟
-لا أعرف ما أقول ولكن... أعتقد أنني توترتُ بسبب ما اكتشفتُ لأنها لم تكن المرة الأولى.
مُبهم، مشوّشٌ جدًا.
همهمَت تتساءل، ليسترسل: أعرف كثيرًا من كبار السنّ تتوفّاهم المنيّة بسبب ذلك، لكن ياقوت لا يزال شابًا، ثم أني لَأعجَبُ من تكرار هذا في حياتي ثانيةً، ربما هذا ما دفعني لأخمّن بأنّ أعداءهُ من داخل القصرِ افتعلوهُ بهِ بطريقةٍ أو بأخرى.
-من قبله؟
-صديق.
-بعمرك؟
-تقريبًا.
سكتَ هُنَيهةً، وجدها مُصغيةً باهتمام فتشجّع على البَوح: كان طالبًا في كليّة الطب، هو من شخّصني بالارتجاع المريئيّ.
-شخّصكَ ولم يشخّص نفسه؟
-بل أخفى ذلك، لم أعرف إلا بعد فواتِ الأوان، وكان هذا قبل حفل تخرجه بعدة أيام.
انتابَت سيدةَ البلاطِ رعشةٌ.
-رحمهُ الله.
أنجزَت شيئًا كبيرًا بردّها ردًا لَبِقًا في الوقت المناسب.
-ومع ذلك...
جذبَ انتباهها، فأكمل: لا أعتقد أنني كنتُ لأساعدَ بشيءٍ لو عرفت.
علّقت: الأخذُ دون القدرةِ على العطاء، أمرٌ مُحزِن.
-فعلًا.
تجاوَبَ وأضاف: ما كنتُ لأنجو في الجُبَيل'¹' بلا هويّة لولاه في العامَين الماضيَين.
مع أنها استمعت بتعاطُف، إلا أنّ هذه الجملةَ استوقفتها لتتوجّهَ نحوهُ ببصرها فتستنكر: بلا هوية؟
انتفضَ قلبُه، نطقَ بمعلومةٍ كادت لِتُرديه، استمرّ بالكلام لأنهُ لم يبُح بشيءٍ عن ماضيه لأحد، فأخذَ راحتهُ معها، ولكن لم يظن أنهُ سيقعُ في فخِّ تسرُّعِهِ مجدّدًا.
-قصدتُ... مجازيًا.
كذّاب.
-
تسبحُ الفرشاةُ في الأحمرُ الكارديناليّ ناقلةً مسحةً منهُ إلى لوحةِ الكانڤِس الصغيرة، فصوّرَت وضوحًا للكبدِ الطائر المتردّي أمام قدمَيّ الراقصِ السَقيم.
هكذا صوّرَ الضخمُ المبيَضّ الطاعونَ الذي غزا جنوبَ البلاد، ثم ختمَ اللوحةَ بتوقيعهِ ظهرَ اللوحة، توقيعِ راقصةِ الباليه عديمةِ الأذرُع، إذ شكّلَ حرفُ العَين رأسها ذا الكعكة، وحرفُ الواو حذاءها المستقيمَ على أصابعها، والصاد حذاءها الآخر في قدمها المرتفعة بزاويةِ ٩٠ درجة، فأما بطنُ الحرفِ الأخير كان فستانها الموازيَ للرياح.
الخبرُ المترسّخ في الرسمة هو ما جعل الكحلاءَ أرجوانيةَ الجِلبابِ ترجعُ أدراجها، مع شُركائها في التجارة إلى العاصمة، إذ باتَ الطاعونُ يجوبُ مملكةَ الأهداب مقاطعةً تلوَ الأخرى، ليجدوا أن الحجْرَ الصحيّ مُطَبّقٌ على هذه المنطقة كذلك.
أحدُ الملتزِمينَ بالحَجْرِ كانَ متعدّدَ الأسماء الذي لا يسعُنا أن نعرفهُ إلا بردائهِ الفسفوريّ المطرّز بالبياض، وربما لكنتهُ المميّزة تدلُّ عليه هيَ الأخرى.
لم يكن كوخهُ الصغير محلًا للخطر، فقد كان في بقعةٍ مرتفعةٍ عن الأرض وبعيدةٍ نوعًا ما عن حيثُ يسكنُ الناس؛ هذا ما ساهمَ في جَعلِ هويّة أهلهِ أو مكان عَيشهِ مجهولًا في أذهان معظم معارفه إن لم يكونوا جميعهم.
يُقطّع البصل بينما يستمع لحديثِ عتيقةِ السنّ، ليقومَ بتبهيرهِ لاحقًا وحَمسهِ على النار ثم أكله هو وهيَ، في الواقع لم تكن الحياةُ سهلةً على عجوزٍ خَرِفة تعيش وحدها مع صبيٍّ يرفضُ كسبَ المالِ بنزاهة؛ وما لم يكُن معروفًا لدى أحد هو أن السبب حول ذلك يكمنُ في خوفهِ من العمل تحتَ إمرةِ أحدهم، يخشى الذُلّ.
-هل عادَ جُدَيس يا عِكرِمة؟!
تساءلت في فزع، فردّ المقصود: أجل، إنهُ يجلسُ بقربك يا جدة، ألا ترَين؟
كانَ يمازحها، فأتبعت: أمعقول؟ هل انتهت الحرب؟!
-كلا، ألا تسمعين صوت القذائف؟
-رُحماكَ يا الله، الْطُف وأعد لنا عِكرِمة وجُدَيس سالمَين!
هذا هو الواقع، الجدةُ المسكينة ما تزالُ عالقةً في عهدِ هدَب الرابع عشَر، حيثُ كانت الحربُ الطاحنة مشتعلةً بحفاوَة بين المملكتَين، فما تزالُ تذكرُ أسماءَ هؤلاء، الذين ماتوا جميعًا في الحرب، أو منهم من عاشَ معتلًّا مُقعدًا حتى أُخِذَت أمانته، ولم يتبقى في حياةِ ذاك الفسفوريّ غيرُ جدّةِ والدته، على نحوٍ غير معهود إذ لستُ أبالغ إن وصفتُها ببلوغها قرنًا.
كانَ يلعبُ بالزمن والأحداث لهوًا حين تسأله، وأحيانًا عندما يعودُ إلى البيتِ يقولُ أنهُ عادَ مشلولًا من القتال لوحده، ومع أنهُ لم يكن ليتمكن من العودة بلا مساعدة من أحد على النحو الذي ادّعاه، فإنها ذاتُ عقلٍ صغير يخوّلها لتصديق ذلك فتهمّ بالبكاء والدعاء على اليواقيت. وأحيانًا يدّعي أن أموالهم سُرِقَت كلّها من قِبَل جامعي الضرائب، مع أن نظام الضرائب قد ماتَ مع موتِ هدَب الرابع عشر بالفِعل.
[١٠٤١.ك]
'¹'
الجُبَيل: مدينة واقعة في شرق المملكة العربية السعودية.
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro