اللوحة الأندلسية، رُبّان، كحليٌّ باهت
عاصفةٌ رملية. نصحت التوقعات الجوية بعدم مغادرة المنازل أو قيادة المركبات، حجبَ العجاج أشعة الشمس عن المحاصيل منذ أيام فالسماء مصفرّة.
وقتها
دخلَ غرفتها الخاصة، كانت مليئة بما اشترى لها، إنه هائمٌ على وجهه ولا يبدو سعيدًا، أنزلَ نظارته ورماها على الأرض، نادت باسمه كثيرًا إلا أنه بقي صامتًا، جالسًا بجوارها على السرير وهو يحملق بلوحتها، عيناها وفمها حين كانت تدعوه، كيف كان يتحرك وكيف كان صوتها لطيفًا كما شاء، وكيف كانت تعبّر عن مشاعرها.
تغيّر وجهه فالهمُّ وَفَر، وارتعشَ فزفَر، زفرةً صغيرةً لم تقمَن بإجلاء ما حمل من ثقل، عقدَ حاجبَيه مضيّقًا عينيه مبعدًا إياهما عنها. بعد برهة أعرب: ضاهَيتُ في خلق الله يا أريام.
لم تكن ذكيةً أبدًا لتفقه قوله جيدًا، سكتت راجيةً التفسير، لم ينوِ تلبية رجائها بل قامَ ناسيًا ما رمى مستهدفًا الباب اللاڤندريّ، قبل إغلاقه الباب تركَ جملةً أرعبتها وجعلتها تفهم نوعًا ما.
«أتساءل... أين ستذهبين إن نمتِ إلى الأبد؟»
سمعته يتمتم، يليه صوت المفتاح، أقفلَ عليها.
هل البكاء طوال الليل يجدي في مثل هذه المواقف؟ أن يحمرّ وجهك دون دموع تُلمَس لا يثبت أنك تبكي، وأن تتغير تعابير وجهك لا يثبت أنك تشعر. المشاعر المُخَطَّط لها، هل هي حقيقية؟
٤:٠٠ص
لحسن الحظ وجدت النافذة مفتوحة، أتركها غفلةً أم تعمّد ذلك؟ من يهتم لهذا الآن؟ جمعت كل ما تحتاجه في حقيبتها البرتقالية، مشط وأربطةٌ للشعر، كتاب كلود مونييه وألف ليلة وليلة، أدوات الرسم واللوحة الأندلسية الصغيرة، مجموعة الجوارب بألوان قوس المطر الفاتحة ولا بدّ من ارتداء الحذاء الرياضيّ البرتقاليّ المشرق.
نفثَ الغبار عبر الشبّاك كأنه يدفعها للعدول عن قرارها، قاومته، وقفزت تجابِهُه لتسقطَ في الفناء عن بعد مترَين فقط، أهدتها الأرضيّة خدوشًا شكّلت قلبًا في باطن يدها، ومضت بسرعةٍ نحو البوّابة.
تأمّلت البيت زمنًا قصيرًا، البيت الذي لم تنَم في مكانٍ غيره ولم تعِش. هذا القرار ليس تسرّعًا، ليس قرارًا متهوّرًا بعد قضاء ليلةٍ كاملةٍ حبيسة الحيرة والحزَن، ذاك الرجل لم يكن على سجيّته منذ فترة طويلة، بدا أنه أراد التخلص منها منذ زمنٍ بعيد، هو لا يريدها وهي لا تريد أن تختفي؛ لهذا فالهروب فصلٌ عادل.
لا يجب أن تندم ولا تحزن على الفراق بعد الآن، فالفراق سيتحقّق سواءً بقيت أم ذهبت. أيها المنزل الحبيب، الوداع.
-
تمشي وتمشي بغض النظر عن المكان الذي ستتجه إليه، لم تستطِع الرؤية، ليس بسبب الظلام فالأضواء واللافتات في كل مكان إنما بسبب العجاج. لمحت وسط ذلك الاصفرار لافتةً يطغى عليها اللون الأخضر، هي لا تحتاج جودة وضوحٍ أعلى لتعرف مضمونها، فقد حفظتها جيدًا لكثرة ما تمرّ أمام بصرها عادةً، حين كانت تركب السيارة معه ويتوقفان عند الإشارة، كانت صورة خادم الحرمَين الشريفَين ووليّ العهد مع آية { رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا بَلَدًا آمِنًا }.'¹'
٥:٠٠ص
بدأ الناس يستيقظون، هذا آمنٌ أكثر. طلعت الشمس جزئيًا بعد غيابها طويلًا، أوقفت سيارة أجرة قاصدةً الميناء، سألها السائق إن كانت متأكدة لأنه بعيدٌ وسيكلفها ذلك كثيرًا، أكدّت، آملةً أن لا تضيع جميع نقودها سُدًى.
ها نحن ذا، توقفت في الميناء مع إشراق الصباح، إنها لصدفة غريبة أن تخفّ العاصفة في هذا اليوم تحديدًا.
نوَت التسلّل إلى احدى سفن نقل البضائع، تربّصت لتختار أيّها ستقتحم، لم يكن هذا سهلًا أبدًا فالعمّال في كل مكان.
رسمت خطةً سريعة في مخيّلتها تنص على أن تجري بسرعة نحو السفينة التي يتم إدخال جميع الشاحنات فيها. شعرت أنها ذكية للغاية وانتظرت حتى يقرروا إغلاق أقرب سفينة منها. عندئذٍ انطلقت كالصاروخ عازمةً مداهمة مخزن السفينة قبل إغلاق بابه الآليّ.
استمرّت بالركض حتى استوعبت أنها تركض في مكانها ولم تتزحزح عن نقطة البداية سوى بمقدار خطوتَين على الأكثر، يا للمتحمسة التي لم تدرك تشبّث أحدهم بياقتها الخلفية كالهرّة رادعًا إياها عن المضيّ.
أغمضت عينيها بقوة، ربما يكون هو إذ يستطيع تعقّبها بهاتفه، لم تلتفت بل وقفت في مكانها منكمشةً تسدّ أذنيها. ترك ثيابها بهدوء عندما ثبتت، لم ينبس بحرفٍ أو يصدر أي صوت، لم يحاول طمأنتها أو إخافتها أو أي شيء.
أبعدت اصبعيها عن مسامعها وفتحت ناظِرَيها، التفتت ببطءٍ فظهرت لها اليد التي أمسكتها، كانت رماديّة متصدّعةً ونحيلة، ليست يده ولا تشبهها على الإطلاق. إنه قضيبٌ حديديّ لا أكثر.
«يا أرض انشقّي، يا أرض ابتلعيني طعمي لذيذ للغاية»
على الأقل لم يرَها أحد.
هذا ما كانت تظنه، فقد صعقها انفجارٌ مدوٍّ، ليس انفجار قنبلة نووية ولكن انفجار شخصٍ ما ضاحكًا. لا يا أريام، لستِ محور الكون ليركز عليكِ أنتِ بالذات ويضحك عليكِ، لا بدّ أنه كان يدردش مع أحدهم ويتبادل معه النكات مثلًا. بحثت عن مصدر الضحك الذي كان واضحًا أكثر من الشمس لتجده ينظر إليها، ولا شيء قريبٌ منها غير القضيب الحديديّ وذاتها المغفلة.
يمدحون التفاؤل، ربما هو أحوَل ويبدو أنه ينظر نحوها بينما ينظر لشيء آخر، ولكنه يوجّه كامل جسده نحوها، نحوها فقط.
ولّت جبهتها قِبَلَ الحائط ملتصقةً به، تحسّست خطوات الشخص تتقدّم باتجاهها إذ يعلو خطوُها شيئًا فشيئًا، أيحاول السخرية منها أكثر؟ أم سيختطفها؟
-هل أنتِ سلحفاة؟
أردف. هي أغبى من أن تستوعب مقصده، حرّكت رأسها نحوه بتأنًّ بالغ وأطلّت عليه من وراء غرّتها، أبقت رأسها مُكِبًّا كما هو واختلست النظر بأسقف حدقتَيها. أول ما استطاعت رؤيته بوضوح هي قبضته المشدودة، لم يبذل جهدًا كبيرًا في اختيار ثيابه فهي أقل من عادية، وعندما رفعت بصرها أكثر بقليل وجدته يعلّق بالونَين حمراوَين على رقبته -كما وصفتهما-.
اطمأنّت بعض الشيء، فسألت: ماذا تعني؟
هي تطالبه بالشرح الآن، ولأنه ليس مشغولًا حقًا عرّبَ قوله السابق: تنكمشين بسهولة.
صمتها أفسحَ له المجال ليفصح عما أتى به: أردتِ التسلل؟
لا يبدو من الشرطة ولا عاملًا كذلك، أهو شرطيٌّ سريّ تابع للـFBI؟ مهما كان فالصدق مبدأ أساسيّ لديها، الصدق سينجيها أكثر مما قد يفعله الكذب، لذا ردّت بصراحة: أجل. لمَ؟
-جميل.
قال كأنه يمهّد لبدء حديث مطوّل، أخذ نفسًا واسترسل مشيرًا نحو رجلٍ يراقب الشاحنات الداخلة إلى السفينة: لو أنكِ نفّذتِ ما خططتِ له لرآكِ، كل رُبّان يقوم بذلك حتى يُدبِرَ بسفينته.
-وماذا في ذلك؟
غبيةٌ للغاية.
-اسمعي...
هو صابر. أضاف: سننتظر حتى تظلّ السفينة الأخيرة، حينها سنختبئ في احدى الشاحنات بعد أن يتم تفتيشها.
-لمَ الأخيرة؟
-لأن عدد العمّال يقل ويصبح المكان فارغًا تقريبًا، كما أن رُبانها مسنّ ولا يكثر التدقيق.
انكمشت مجدّدًا.
-لكن لمَ تساعدني؟
-لأنه إن تم اكتشافك ستُشَدّد الحراسة وستقلّ فرصة نجاحي أنا لتهريب نفسي.
-لماذا أنت متأكد من أنه سيتم اكتشافي؟!
ابتسم، ليجلس على الأرض مستندًا إلى الجدار، أما هي فلا تزال متوقّعةً سماع جواب.
شاهدَ إصرارها على التحديق به منفعلةً، فأنهى الأمر بقَوله: لستُ كذلك.
تطلّب الأمر منهما الانتظار لزمنٍ ليس بالقصير، لم تدُر بينهما أية محادثة، كلٌ شردَ في عالمه وخاصةً هو، فقد كان يركّز ناظِرَيه نحو الأفق جامدًا، وهي تتلفّتُ بكثرة متأمّلةً محيطها، وكذلك محيط الكوكب الراكد.
من بين الأشياء التي تأمّلتها حقيبةُ كتف الشاب، تشبّعت باللون الكحليّ الباهت، مُهَلهَلةٌ لأقصى ما يمكن، بدأَ قماشها بالتشقّق باعثًا خيوطًا متفكّكة، تُغلَق بِزِرَّين معدنيَّين فقط وأحدهما مفقود.
-
٦:٠٠ص
علا تغريد أطيار الصُبح، أشهرت الشمس عن أنياب حرّها وتحرّرت.
-أنذهب؟
سألت عندَ فتح السفينة الأخيرة.
-بعد ركوب السائق.
-لمَ؟
-كي نترك قفل الشاحنة مفتوحًا وراءنا، فنتمكّن من مغادرتها داخل السفينة.
وهكذا اضطُرّ لشرح جميع التفاصيل طوال الرحلة، «من طق طق إلى السلام عليكم!»'²'
[١٠٩٥.ك]
_
'¹'
سورة البقرة (١٢٦)
'²'
مثَل شعبي
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro