كتب
هذرة جارية بلغة مزعجة للسمع تُفنى وهلةً، مُباغِتةً التلميذ النجيب العاقد لحاجبيه، استصعابًا لتجميع كل ما يلتقطه وتدوينه في مفكرة كبيرة مقسّمة بالألوان، كل لونٍ لمادة، قسم اللون الأصفر مملوء بشخبطات الرَصاص التي لا يفهمها سوى كاتبها، تنبثق الأسهم من الجمل وتُتَوّج الكلمات المفتاحية بدوائر، لا أقلام تخطيط ملونة ولا ملصقات الملحوظات اللطيفة.
مرّ أسبوعان ولم توزع الكتب على طلبة مسار إدارة الأعمال بعد، ولا حتى المواد المشتركة بينهم هم والمسار العام، ما زال رواد الأعمال المستجدّون يعتمدون على أفواه الأساتذة، وعلى أشعة تُسَلّط على السبورة تنبعث مما يسمى «بروجكتر» لرؤية الكتب، بجودة بائسة. وإن كان الأستاذ لا يكتب على اللوح أو لا يستخدم البروجكتر؟ كل دفترٍ يحتوي منهجًا ألفهُ الطالب بناءً على سمعه، سمعه وحسب.
-صالح، اقرأ.
جفل فارتخت تعقيدة حاجبيه، ركّزَ على الأشعة المُسَلّطة ليستبصرَ الحروف كشَيخٍ نسي نظارته، أهذا حرفُ u؟ ختمت الكلمة بحرف d، هكذا خمنَ أنها used مع كونه لا يلمح شبهًا للحرفين المتوسطين حتى، لكنها كانت الطريقة لتكمل القراءة بسرعة دون إحراجِ التوقف للتدقيق.
قطعَ منتصف الجملة، يوشك على النجاة، نصف سطرٍ آخر وتعاود التدوين بسلام... هذا ما اعتقده.
-ارفع صوتك.
هاجمهُ الأستاذ من الوتر الحساس، بدأت أنامله تتأرجح على فخذه، خرجَ صوته مبحوحًا ونصف الحروف مبلوعة، جاهدَ ليدفع الصوت من حنجرته لا معدته، شهقَ خفاءً سارقًا نصف هواء الفصل... فقد السيطرة على نبرته، تسرّبَ الريق من تلقاء نفسه إلى جوفه وكأن جسمه بحد ذاته لا يعترف بأنه يتكلم.
فرغَ من القراءة فأخذ يهدّئ نفسه بالرجوع لما كان يقوم به، يتظاهر بأنه بخير مع أن دمهُ يغلي حرجًا ويداه ترتجفان، دقيقةٌ مضت قبل نخر أذنه بفِعل عقيرة صديقه، يظنّ بأنه اجتزأَ لصخب صوته الجزء الذي انبغى أن يمتلكه هو: أستاذ عصير، أنا سأقرأ!
-اصبر.
ليتهُ قال لصالح اصبر، صالح يتقن الصبر، لو صبر قليلًا لربما استجمع شجاعته خلال بضع ثوان.
طُرقَ باب حجرة الفصل ثلاثًا برزانة جعلت المعلم يستقبل الآتي برحابة صدر، عكس فعلهِ مع التلاميذ الذين يحاولون تهريب رفاقهم. أشرقَت البيضةُ ذات الحواف المثالية فوق جسدٍ سمين قصير، بوِدٍّ ألقى التحيّة واستأذن المدرس لأخذ وشَلٍ من وقت درسه، ثم بدأ الكلام مباشرة: كيف تتأقلمون بلا كتب يا شباب؟
تكلّم عددٌ من أجرأ الطلاب، عبروا عن إنهاكهم بسبب ذلك، مصاريف طباعة الكتب جميعًا تبلغ ٦٠٠ر.س فأكثر، أحبارُ الأقلام تنفد، الأيادي متشنّجة، المعلمون لا يتعاونون، في المدرسة تُكتَب الدروس وفي البيت الواجبات، أصبحت الجوارح مُسَخّرةً للكتابة حِكرًا.
استمعَ للفضفضة حتى كفَّت المداخلات، ثم بثَّ ما هو قادمٌ لأجله بأسفٍ جليّ: إنّي لَأحزنُ لقول هذا بعد سماعكم... لكن تواصلتُ مع مكتب التعليم وأكّدوا بأنه لا توجد أيّةُ كتبٍ لأيّ مسار عدا المسار العام.
تسابقت الاعتراضات والتساؤلات، هُراءٌ ما أصغوا إليه، هذا الحال الذي تحملوهُ لأنه مؤقّت، يؤكّد لهم بأنه مؤبّد.
أضافَ المدير شارِعًا للحل مباشرةً: حسنٌ، وما الواجب عليك يا طالب العلم؟ لا كتب يعني لا دراسة؟ إطلاقًا. لا تفارق المذكرة أثناء الحصص، تأقلموا لأن حالكم سيكون هكذا في الكُليّة...
لم يدعوه يكمل كلامه، فأوّل المُقاطِعين هو عبد الحكيم الذي غسلَ الخواطر من حِملها: نعلم، حضرة المدير. نعلم! أنتم افعلوا بنا ما تشاؤون ونحن يا طالب تأقلَم.
اختلسَ النظر لمعلم اللغة الإنجليزية محمرّ الخدَين -بطبيعته- بمعالمه الحازمة المستفزة، يبدو وكأنه ينوي الإطاحةَ به أمام المدير. عمّت الفوضى النقاشية مجددًا وعصير صامت، وكالعادة التفاهُم لأجل خدمة هذه الشعبة عقيمُ النواتج.
تفضّل المدير خارجًا بعد بثّه الطاقة السلبيّة التي تمنع الشباب من إكمال يومهم بنحوٍ طبيعي، حينها استغلّ مجعّد الشعر تُرابيّ الصبغة الفرصة لاستدعاءِ الفتى الذي يُعتَقد أن بينهما مشاكل شخصية: تعال يا عبد الحكيم لتوقيع مخالفة.
-ماذا فعلت؟!
اتسعت جاحظتاهُ الصُلبَتان، فقد توحيان بأنهما تتحدّيان مَن يعترض طريقهما، ألهذا لديه أعداء كثر؟ بسبب بروز شحمتَيّ عينيه قليلًا؟
-أسلوبك مع المدير لم يكن لائقًا.
-المدير بعرضه لم يمانع، هل أنت أمه؟
قهقهَ زملاؤه، من بينهم مُحاذيه الذي شعر بأنّ المعلم يستحق جرّاءَ دفعهِ للقراءة بذاك الشكل، ولَيتهم لم يضحكوا، فقد أحسّ كبيرهم بأنه تحدٍّ لإثبات الأجدر بإسكات الخصم.
حافظَ على ثباته ممثلًا الوقار وهو طفوليٌ تقودهُ مشاعره، ظنًا منه بأنه يفعل الصواب. أردفَ بحِدّة ملوّحًا بسبّابته تارةً وبإبهامه تارة: بصفتي الموجه الأكاديمي للفصل، يحق لي تطبيق الإجراءات التي أراها تتوافق مع المصالح العامة.
دودةُ حكيم الهَوجاء تلدغهُ للردّ، فأسكتهُ قبل أن يبدأ بنبرةٍ أعلى: هذا ما أنتم عليه، تحبون إثبات أنفسكم، تنشغلون بالتفاهات، بالسخرية واللهو وعشوائيات المراهقين التي تزدادُ مع كل جيل. تطالبون بالكتب؟ المجتهد سيدرس بكتابٍ أو بغيابه!
هنا تم تطبيق الرابط العجيب وصلًا بين المواضيع، والأستاذ عصير يكمل: كم منكم أنجزَ اختبار القدرات؟ أوضعَ أحدكم خطة لمذاكرة الاختبار التحصيلي؟ ماذا فعلتم لتستنزف الوزارة مطبوعات لإعطائكم الكتب؟ أيعرف احدكم أي جامعةٍ يستهدف حتى؟ أم تعتبر المدرسة وجهتك السياحية؟
تفقّد صالح ساعة معصمه خمس مرات خلال تلقّيهم التوبيخ الجماعي، الجانب الإيجابي هو أن وقتًا كبيرًا ضاع من الدرس الممل.
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro