(26)
بقلم :نهال عبد الواحد
وذات يوم جاء أحمد جلس مع ابنته، كان منهكًا؛ فالأحداث الأخيرة مرهقة لأقصى درجة خاصةً بعد مرض أمه، إقامتها في المشفى فمن سيتولى أمورها هنا؟! ربما لو كانت ليلى بصحتها ولا زالت زوجته لتناست كل شيء وأقامت معها لترعاها بصدرٍ رحب... لكن!
زفر أنفاسًا حارة من أعماقه بألمٍ جم، ثم التفت نحو ابنته متساءلًا مع حركة رأسه في محاولة لنسيان الواقع: كيف حالك يا ابنتي؟
أومأت مريم مجيبة: بخيرٍ الحمد لله! كيف حال جدتي اليوم؟
تنهد بضيق مردفًا: لا جديد كما هي، الجلطة قد تجمدت والشلل مع تقدم العمر لن يتركها بخير.
- أعلم جيدًا أن فكرة إقامتها الدائمة بالمشفى تؤلمك، لكني لا أقوى على خدمتها وتحمل مسؤوليتها وحدي خاصةً وأنا على مشارف الدراسة.
-لا عليك ابنتي، لا تلومي نفسك! المهم الآن، لم تخبريني عن رأيك بخصوص إياد.
-إن الوقت غير ملائم تمامًا، ظروف جدتي وظروف أمي.
-إنها ظروف مزمنة، طويلة الأجل، والدراسة ستبدأ وقد تأخرتِ في الرد كثيرًا.
أومأت برأسها موافقة بابتسامة خجولة وحمرة ورّدت وجنتيها فابتسم أبيها وضمها إليه قائلًا: مباركٌ عليكِ ابنتي! ربي يسعدك ويرزقك السعادة دائمًا، ءأتفق على موعد يجئ فيه هو وأهله؟!
أجابت مريم: لقد انتهت أمي من جلساتها ولا زالت في فترة العزل، فالأفضل بعد انتهائها وتحسّن أمي من أثر الجلسات.
- مثلًا خلال أسبوعين من الآن، وعلى حسب حالة أمك فهو أدرى بها.
أومأت مريم قائلة على استحياء:حسنًا أبي، كما تشاء.
-إذن عليكِ تنظيف وترتيب الشقة استعدادًا لذلك اليوم.
-معذرةً أبي، لكني سأرتب شقة جدتي هيام.
-لكن الشقة هنا في الطابق الأول وأمك مريضة، فلا يُشق عليها أثناء صعودها للسلم.
- إن الشقة في الطابق الثاني أبتي، وأمي ستستريح فيها أكثر من هنا.
تنهد بقلة حيلة وأهدر: إفعلي ما يحلو لكِ يا حلوتي.
بالفعل أخبر أحمد إياد بموافقة مريم مع تحديد موعد ملائم لصحة ليلى، وليعدل الموعد إن تعارض مع حالتها أو جدَّ جديد معها.
ذات يوم كانت مريم عند جدتها في المشفي تحاول أن تشرّبها كوب من العصير باستخدام الماصة، فكانت عليّة تنظر إليها دائمًا، تبكي منذ أن أصابها ما أصابها ومريم تتعجب من حالتها محاولة تهدئتها.
تساءلت مريم بدهشة: ماذا بك جدتي؟ إهدئي عزيزتي! إذن سأخبرك بخبر ستسعدين به للغاية... إياد ابن خالتي منى وأهله سيجيؤن في الغد لقراءة فاتحتي.
ما أن قالت مريم هكذا حتى جذبتها جدتها بيدها السليمة وضمتها وربتت عليها ناظرة لأعلى تدعو لها.
أهدرت مريم بسعادة: سألتقط الكثير من الصور وأرسلها إليكِ وربما أتمكن من عمل فيديو مباشر (لايف) لتكوني معنا.
فاحتضنتها ثانيًا، ربتت عليها وهي تنظر لأعلي مجددًا أي تدعو لها.
جاء اليوم التالي، أعدت مريم كل شيء، البيت، نفسها وما سترتديه، كان اشتياقها الأول بحضور أمها ومجيئها أكثر من أي شيءٍ آخر.
استعدت مريم، ارتدت فستانًا هادئًا وبسيطًا، صففت شعرها تاركة له العنان، وضعت القليل من مساحيق التجميل بقدر ما يضئ وجهها، كم بدت جميلة هذا اليوم!
ظلت مريم جالسة تنتظر أمها حتى علمت بقدومها، خرجت لاستقبالها على السلم بعفوية شديدة فقد نسيت كونها عروس اليوم.
كانت ليلى تسير متأبطة حسام بإحدى يديها وبالأخرى إياد، خلفهما منى وهاني، قبل أن تصل للطابق الثاني وجدت مريم أمامها، عانقتها بشدة وشوقٍ كبير لدرجة أن ليلى بدأت تتألم من شدة عناقها، كاد يختل توازنها، أومأ إياد لمريم أن تكف فقد أرهقت أمها.
قالت ليلى مداعبة لابنتها: هل هناك عروس تجري على السلم هكذا؟!
فقال إياد بمزاحٍ وغمزة: كأنها لا تقوى على بعدي!
انتبهت مريم لنفسها، عادت للخلف قليلًا، قد أدركت أنها العروس، بدا وجهها أكثر خجلًا، قد أعجب إياد بذلك كثيرًا، وإذا بصوت أبيها من خلفها: لماذا تقفي هكذا يا مريم؟! إذهبي للداخل!
أسرعت مريم إلى الشقة واختفت عن الأنظار، بينما جاء محمد، سلّم على أمه فعاد إياد للخلف خطوات ليسمح لمحمد الإمساك بيد أمه وحل محله.
وصل الجميع للشقة، جلسوا وبعد التحية والترحاب بدأ الحديث التقليدي في طلب الخطبة، تفاصيل الزواج وتلك الاتفاقيات المتعارف عليها.
ولما انتهوا من الحديث نادى أحمد على ابنته التي كانت بالداخل، عدّلت هيئتها، خرجت تحمل صينية بها أكواب من العصير، ومنذ أن دخلت وعينا إياد معلّقتان عليها، قد شعرت بذلك لدرجة أربكتها، أشارت لها أمها تضع الصينية على المنضدة قبل أن تسقط من يدها فوضعتها، نادى عليها هاني لتجلس بينه وبين منى مربتًا عليها، مقبلًا جبهتها بينما منى احتضنتها وقبّلت خدها فأشعاراها بوالديها الجدد.
جلست ليلى تتوسط حسام ومحمد، بينما إياد جلس جوار أحمد.
كان أحمد يرمق حسام بنظراتٍ حادة إذ أنه كان يسند ليلى وممسكًا بيدها، ها هو الآن جلس بجوارها مقرّبًا هكذا!
قرأ الجميع الفاتحة فزغردت منى، عانقت العروسان وقبّل جبهتها هاني فرمقه إياد فجذبه أبيه، عانقه بشدة هامسًا له في أذنه بشيءٍ ما يبدو أنه قد شتمه، ابتسمت مريم من هيئتهما ثم قامت لتعانقها أمها، وقف حسام وقبّل جبهة مريم، بعدها عانقها أبيها وأخيها ثم عادت لتجلس مكانها.
سلّم إياد أيضًا معانقًا الجميع ثم انحنى إلى ليلى الجالسة وقبّل يدها وجبهتها، ابتسمت له بنظرة توصيه عليها قد أدركها، عانقت منى صديقة عمرها، طمئنتها أن مريم ابنتها، بدّل هاني بينه وبين ابنه ليجلس جوار عروسه التي ازداد خجلها بمجرد جلوس إياد جوارها، شعرت بشدة ضربات قلبها حتى إنها قد استحيت أن يسألها أحدهم عن تلك الطبول التي يدقها ذلك الكائن باليسار.
أخذ إياد من أمه علبة صغيرة ففتحها، أخرج خاتم الخطبة مقدمًا لعروسه داخل إصبعها تبعه بخاتمًا مزيج من الذهب الأبيض والأصفر، قبّل يدها وعيناه تعانق عينيها، تترقرقان من شدة فرحته، بينما أخذت دورها وقدمت له حلقته الفضية وألبستها له، ضغطت ضغطة خفيفة على يده فاحتضن يديها بيديه.
التقط محمد العديد من الصور كما وصته أخته ليرسلها إلى جدته توًا، ورغم بساطة الجلسة إلا أنها كانت رائعة، لا تخلو من الضحك والمزح خاصةً الثنائي إياد ووالده.
كان أحمد سعيد بابنته، وخاصةً لرؤية ليلى جالسة أمامه، تبدو مشرقة نوعًا ما بسبب سعادتها الشديدة، فلم يتوقف وجهها عن الضحك والابتسامة.
حتى وقف حسام فجأة فانتبه إليه الجميع، فاستطرد: لأن السعادة تجلب سعادة دائمًا، وبمناسبة هذا الجمع الرائع أعلن إليكم خطبتي لليلى...
وأمسك بيدها مشبكًا بها وهي تنظر إليه بسعادة كبيرة لم تُرى على وجهها من قبل.
فأكمل قائلًا: وخلال أيامٍ قليلة سنتزوج ونسافر لإجراء الجراحة بالخارج، وذلك عقب ظهور نتيجة الفحوص الأخيرة.
سعد الجميع مباركين باستثناء محمد الذي وجم وأحمد الذي استشاط غضبًا، غير مصدّق أنها قد صارت لغيره.
جلس حسام، ناولته أخته علبة أخرى فأخرج خاتم، ألبسه لها برقة شديدة يخشى أن يؤلمها، عيناه معلّقتين بعينيها، تحكي قصيدة عشقه الهائم، قد وصلت إليها كلها، أعطاها حلقته الفضية لتلبسها إليه ثم احتضن يدها بحبٍ كبير واضحٍ للجميع، هي عشق سنوات مضت حتى وإن لم يكتشفه إلا قريبًا، لكن تدفقت عواطفه وأحاسيسه بأثر رجعي كأنه كان مدخرًا لكل تلك الأشواق وحان إظهارها وقطافها.
ود أحمد لو ترك المكان فورًا لكنه يخشى إفساد فرحة ابنته فظل صامتًا دون تعقيب حتى ينتهي هذا اليوم.
لم يكف إياد ومريم عن الحديث إطلاقًا، فتحت مريم هاتفها وقامت بعمل مقطع فيديو مباشر كما وعدت جدتها لتشاهدها وهي عروس وترى عريسها الذي حتمًا ستحضره إليها قريبًا لتراه، تتعرف عليه.
كانت مريم تمرر الكاميرا على كل الجالسين، تقوم بدور المعلّقة حتى وصلت لأمها فتفاجئت عليّة بهيئتها، لم تراها منذ أشهرٍ طويلة قبل معاناة المرض وجلسات العلاج القاسي، وهي التي لم تكن مصدقة لها، اتهمها بالإدعاء بالمرض فتألمت من أجلها كثيرًا، كذلك عندما رأتها ليلى قد أشفقت عليها للغاية وابتسمت إليها بعينٍ دامعة وقالت: شفاكِ الله وعفاكِ ، وزادكِ شفاءً!
بعد فترة همّ الجميع بالانصراف، أهدرت مريم متأبطة ذراع أمها: كنت أظنك ستبيتين معي اليوم!
أومأت ليلى قائلة: صعبٌ يا ابنتي.
-رجاءً أمي!
تدخل حسام معترضًا بخفة: لا، لقد كان الاتفاق أن نذهب معًا ونعود معًا، لا خروج نهائي إلا معي وإلى بيتي، فأنا لا أطمئن عليها إلا بصحبتي.
وضمها إليه مقبّلًا رأسها.
انصرفوا جميعًا، أسرع أحمد إلى شقته مهمومًا كأنه حمل هموم الدنيا وأحزانها، جلس يتذكر كل ذكرى جمعته بليلى منذ يوم زواجهما الأول وعلى مدار أعوام وأعوام... حتى تذكر كل إهاناته لها وأوجاعها التي تسبب فيها... وها هي قد ضاعت منه بلا عودة.
مش مصدق إن جنبك حد غيري مش انا
وإني ماشي خلاص وسايبك بعد عشرة كام سنة
لكن الغلطة مش إنتِ إني ضيعتك حبيبتي
وهكذا كما يُقال لا يملأ عين ابن آدم إلا التراب، يظل يتمرد ويتبتر حتى يفقد ما في يده، ووقتها فقط يشعر بقيمته... لكن بعد فوات الأوان.
.....................................
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro