(21)
بقلم: نهال عبد الواحد
مر يومًا بعد يوم، لم يأتي حسام مثلما اعتادت أو حتى يمر مرورًا، لقد اختفى فجأة وافتقدته بشدة.
لقد كانت تتوقع الفراق والبعد اللذان كُتبا عليها طوال حياتها، فارقتها أمها ثم عمها ومن قبلهما أبيها وجدودها، عندما بدأت حياتها فارقها الحب والسعادة، كاد يفارقها أولادها وهي الآن تفارقها صحتها بل عمرها، وعندما بدأت تشعر بشيءٍ من حلو الحياة هاهي تفتقده، بئست الدنيا الغادرة! وما العجب فهي دنيا؟!
لقد أصابها الجزع أتتحمل أوجاعها وآلام المسمى بالعلاج ولم تجد أي نتيجة حتى الآن أم وجع فراق آخر أمل في نهاية طريقها.
صارت تبكي، تنتحب باستمرار وبدأت تترك الطعام إطلاقًا فهو من كان يطعمها ويمازحها ويحايلها لتقوى على بلع بضع لقيماتٍ بالكاد.
كان حسام منذ يومها مبتعدًا تمامًا حتى إنه يمر على مرضاه لتفقدهم إلا هي، يبقى ما تبقى من يومه شاردًا في الماضي يمر من أمامه شريط حياته وذكرياته.
تلك صديقة أخته الفتاة الرقيقة المهذبة، اللتان كانتا متلازمتان دائمًا أيٍ منهما تكون عند الأخرى، مرت أعوام وهي تكبر وتترعرع أمام عينيه، كان يتصرف بمحض الأخ الأكبر المسؤول عن أختيه الصغيرتين، فكثيرًا ما عمل كسائق لهما من هذا الدرس إلى ذاك الدرس، أو يذهب ليأتي بهما من مكان ما ويوصلهما للبيت، لقد اختار لها اسم (لوليتا) يناديها به، لم يكن أحد يناديها به غيره إلا منى نادرًا.
تذكر كيف اهتم بها كثيرًا، استمع إلى حكاياتها التافهة وضحك عليها، كم مرة اشتد حنقه وغضبه عندما رأى من يضايقها؟
كم مرة عنّفها عندما وجدها تمزح مع أحد زملاءها الشباب؟
تذكر يوم ذهبت إحضارها هي ومنى من إحدى الدروس، كانتا تقفان بين زميلاتها يلتففن حول المدرس، رآه يتحدث إليها ويضع بيده على كتفه وهي تحدثه بحسن نية دون أن ترى تلك النظرة الخبيثة التي قرأها منه فما كان له إلا أن انقض عليه دون أي كلمة ولكّمه بقوة ومنعها هي وأخته من الذهاب لذلك الدنئ بعد ذلك.
ألن تكفيك كل تلك الذكريات للتأكد أنك كنت تحبها من صغرها؟! كيف لم تترجم كل تلك الشواهد لتعرف معناها؟!
للأسف لم يخطر ببالك يومًا دوافع أفعالك تلك، لم يخطر ببالك يومًا أنك قد أحببتها وتغلغل في عروقك حبها.
لكن تشاء الأقدار أن يرى فتاة أخرى ذات يوم في أحد الأفراح ثم يتصادف بها في عدة أماكن بعد ذلك، في المشفى مع أحد أقاربها، مرة في إحدى المحلات، مرة في مطعم، وترجم كل تلك الصدف لموعد، لقاءات ثم خطبة وزواج.
وما لبث أن عادا من رحلة شهر العسل، بدأت ترغمه يجئ معها لزيارة أهلها، حضور حفلات بصورة شبه دائمة، السماح ببعض التجاوزات وإن كانت قد رأت في ذلك تحررًا ومواكبةً للعصر الحديث.
حتى احتد الشجار بينهما ذات يوم وانطلق من أمامها غاضباً وأسرع بسيارته وفجأة... ارتطام... صراخ... تحطّم .....ظلام.
لم يتذكر كم مكث في ظلامه؟
كم قضى في غيبوبته يعاني من ذلك الحادث المروّع؟
كان هناك خيالات لأحاديث، لأشخاص لا يذكر أيهما الحقيقة وأيهما من دنيا الأحلام، وكلما استعاد وعيه للحظات يشعر بآلامٍ مبرحة تفوق أي تحمّل، يسمع صريخٌ وعويل أو أحاديث بين الأطباء تتحدث عن صعوبة الحالة الممتلئة بكسورٍ وجروحٍ، صعوبة السيطرة على النزيف، كلامٌ طبيّ كثير دون أن يدرون أنه زميل.
يتذكر كيف تركته من بادئ الأمر؟!
كيف تململت وتقاعست عن مكوثها جانب زوجها؟!
فحفلاتها ونشاطاتها مع عائلتها كانت أهم، لن تتحمل الاستمرار في تمريضه ورعايته، رعاية من لم يطلب يومًا المساعدة من أي فرد، ولم لا؟ فقد كان أحد أعضاء فريق الجوالة المتميزين، قد اعتاد الاعتماد على نفسه في كل شيء وفعل كل شيء بنفسه لنفسه.
ترى الآن وهو لا يقوى على الحركة، يحتاج لمعاونة في أدق تفاصيل حياته، لكن كان رد فعلها هو طلب الطلاق فليس من المعقول إهدار شبابها بين المشافي وفي تمريضه! خاصةً بعد أن اتضح أنه قد أصبح غير قادر على الإنجاب، وإن كان متأكدًا أن ذلك آخر سبب يعنيها بل كان مجرد سبب ظاهري ليتعاطف معها الآخرون، لكنه لم ينتظر ولبّى طلبها بمجرد طلبه.
ومرت شهور كَلّ من عدّها، بين الجراحات والعلاج الطبيعي، بعدها مرت أعوام كثيرة قد درس، ذهب إلى عدة دول، كبر اسمه، ذاع سيطه ورمى بعيدًا فكرة دخول أي امرأة إلى حياته، صارت حياته بين الدراسة، العمل والمرضى.
حتى تقابل مع ليلى صديقة الطفولة من جديد دون أن يعرف من تكون، هل تحن للقديم أم ماذا؟ فكلما فكّر وقف عند نفس النقطة، ذلك الاعتراف الذي يخشى أن يعترف به بينه وبين نفسه أنه يحبها بل وبجنون.
كان ينظر إلى صورة شخصية رائعة لها على موقع التواصل الاجتماعي.
لم يكن حسام وقتها جالسًا وحده في مكتبه، بل كان على الجانب الآخر يجلس إياد ويعبث بهاتفه، يشرد كثيرًا .
دخلت منى عليهما لترى كلًا منهما شاردًا في صورة معشوقته، اتجهت نحو حسام لتجده شاردًا جدًا في صورة ليلى فوضعت يدها فوق الصورة لتيقظه مما هو فيه.
انتفض حسام بفجأة، ابتلع ريقه وأهدر: مرحبًا منى!
أطالت منى النظر إلى أخيها ثم تنهدت قائلة: إذن اعترف بحبك لها.
ارتبك حسام، حاول تهدئة روعه بالعبث في ياقة قميصه وهتف: ماذا؟!
أغمضت عينيها بقلة حيلة ثم جلست أمامه متنهدة، وقالت: لم تعد تستطيع أن تنكر أو تخفي حقيقة مشاعرك الملتهبة هذه، ارجع واقترب منها من جديد فهي بحاجةٍ إليك، إن ليلى طيبة القلب وما قالته ذلك اليوم لم يكن سوى ذلة لسان.
أومأ حسام وتابع: منى، لا حقيقة لما تقوليه.
-إذن فاذهب لها فورًا!
ثم نظرت نحو ابنها الذي لم يختلف حاله عن حال خاله، قالت بتنهيدة ناظرةً إليه: أنتما كحبة الفول، انقسمت إلى نصفين متطابقين أنت وخالك.
انتبه إياد فجأة وقال: مرحبًا أمي!
عبثت منى بأصابعها وأردفت بتهكم: من الواضح أن الأذكياء في الدراسة هم أشد غباءً في العلاقات.
حك إياد مؤخرة رأسه بعدم فهم متسائلًا: ماذا يجري يا أمي؟ لأي شيءٍ تلمّحين؟
زفرت قائلة بصرامة: هل انتهت مريم بالنسبة لك؟!
تفاجأ إياد من سؤال أمه، اعتدل جالسًا متصنعًا اللامبالاة وقال: مريم! وما شأني بها؟
وضعت يديها على خصرها وصاحت بنفس تهكمها: آلله! لقد كنت متيّمًا في أشد حالة، فلماذا ابتعدت هكذا؟ وإياك قول مستقبلها ودراستها ومثل ذلك الكلام الذي لا محل له!
أردف إياد بارتباك تتسارع أنفاسه: أمي رجاءً! أنا لا أقوى على هذا الكلام.
- ماذا بك إما أن تخر متيّمًا وإما أن تبتعد تمامًا؟!
قالتها مستهزأة، ثم رفعت سبابتها قائلة: اسمع بنيّ! إن مريم قد انتهت من امتحاناتها ونجحت وحصلت على مجموعٍ عالٍ، وإن شاء الله سيؤهلها ذلك المجموع للالتحاق بكلية الطب كما تأمل، إذن قد انتهت الحجج، واعلم جيدًا أن مريم قوية، إن ظللت بعيدًا هكذا سترميك خلفها ولن تنظر إليك أبدًا وكأن شيئًا لم يحدث؛ فدائمًا الأمهات المنكوبات تنجبن فتيات قويات، ستخسرها وتجد نفسك تعيش مع أخرى مضطرًا أن تظلمها معك.
نظر حسام بينهما ثم تنحنح قائلًا: إمسك العصاة من منتصفها يا إياد! فخير الأمور أوسطها.
صفقت منى متهكمة ثم تسآلت: أرى من الذي يتحدث الآن؟! أليس الأولى أن تبدأ بنفسك!
قاطعهم صوت طرقٍ على الباب، دخلت الممرضة تصيح في زعر: النجدة يا دكتور، إن السيدة ليلى المهدي، حالة الورم الدماغي، وجداناها ملقاة على الأرض وفاقدة لوعيها ولا تستجيب لأي شيء!
انتفض حسام من مكانه، أسرع راكضًا، خلفه إياد ومنى نحو غرفتها.
كانت ليلى بعد انتظارها الطويل له وبكاءها المرير قد قررت مواجهته، الذهاب إلى مكتبه والتحدث إليه لكنها بمجرد أن وقفت أصابها دور شديد، سقطت على الأرض مغشيًا عليها.
تحرّك حسام وإياد نحوها يحاولان إسعافها بينما منى تقف جانبًا ناظرة لهما، تبكي في صمت، ومع كل تلك المحاولات لم تستعيد وعيها.
اقترب حسام ممسكًا يدها، هزها، همس إليها عن مقربة بلهفة يخالطها الخوف: ليلى! لوليتا! حبيبتي! لقد أخطأت... لم أعلم أن ابتعادي عنك يفعل بك هكذا، أقسم لك أني أحبك ولم أحب غيرك طوال حياتي، لن أبتعد عنك مجددًا، هيا انهضي وحدثيني! أنت تسمعيني أعلم ذلك، قاومي الموت لوليتا! لن أتركك حبيبتي! قومي واحكي واضحكي وامزحي! أحب سماع قصصك وضحكاتك، حبيبتي أقسم أني أشتاق إليكِ لا تتركيني! هيا انهضي! ليلى! ليلى! لوليتا!
لكن لا إستجابة، مهما كرر محاولاته كل يوم لا تستجيب.
ترى هل وصلت ليلى إلى نهاية الطريق أم لا زال هناك استراحة قبل نهاية الطريق؟!
.....................................
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro