(2)
بقلم: نهال عبد الواحد
بالفعل ذهب أحمد وأهله متقدمين لخطب هيام في ترحاب وسعادة من الجميع إلا زوجة أخيه التي لم تعجبها تلك العروس حيث كانت تريده لأختها رغم معرفتها بحب أحمد وهيام منذ أعوام.
أخيرًا قد كُلل الحب العفيف بخطبة وقريبًا بميثاقٍ غليظ.
تمت الخطبة وكان أحمد دائم الزيارة لهيام في منزل أهلها، أحيانًا يحضر لها هدية وحينًا وردة وربما كلماتٍ رقيقة في خطابٍ أو كارت معايدة جميل أو خلف صورةٍ له... أو حتى حديثه المعسول الرائع الذي كان يتفنن في قوله ولا يخرج من قلبه إلا لها.
كان خروجهما معًا قليلًا للغاية كما هي العادات وقتئذ لبعض العائلات، أحيانًا يمر عليها في الكلية ويعودان للمنزل معًا وربما يعودان سيرًا على الأقدام دون شعور بالوقت، يسيران معًا على كورنيش البحر بأيدٍ متشابكة تلمع في أصابعهما خاتم الخطبة ويداعبهما نسيم البحر العليل وحلو عطره.
قد يأكلان الذرة المشوي أو حمص الشام الحار بالشطة( الحلبسة) أو الترمس وأحيانًا آيس كريم وفريسكا، ومثل تلك الأشياء البسيطة لكنها تسعدهما كثيرًا، ولا يزال معها ذلك الراديو الصغير فيجلسان قليلًا على سور البحر وربما يجلسان على الرمال أو يخلعان نعليهما ويسيران في الماء لتبتل أرجلهما بمداعبات خفيفة من أمواج البحر.
وعندما يجلسان تدير هيام جهاز (الراديو) ويسمعان حسب حظهما اليوم من أغاني الإذاعة، ولعل لفيروز نصيبٌ كبير معهما منذ فترة، يستمعان لا بآذانهما بل بقلبيهما وعيونهما اللامعة والمعلقة ببعضهما البعض، كأنها تفهم وتعي الكلام جيدًا، ترسل بحديث آخر فمن العين للعين رسول.
ولا زالت هيام تنتظره في نافذتها يوميًا عند ذهابه وعودته فكيف يمر عليها يومًا دون أن تراه وتطمئن عليه وهو أيضًا يراها وهو قادم فيذهب كل إرهاق العمل يبتسم لها فتبتسم له، فيقف تحت شرفتها قليلًا فتدلّي له الحبل فيربط فيه واحدة من الشيكولاتة وربما من اللديدة لكنه يكون مفتوحًا وداخله خطاب صغير مطويّ فتصعد به وتنتظره حتى يذهب ثم تدخل وتفتحه وتقرأ ماذا كتب إليها اليوم ثم تضعه داخل صندوق مملوءًا بخطاباته لها وصورٍ له أو لهما معًا.
أو كان أحيانًا وهو قادم ينظر للأعلى بابتسامته تلك، يمسح على شعره لكنه كان يبعث لها بسلامٍ خاص.
رغم ذلك فهو لا يمتلك أي صندوق خطابات، فهي لم ترسل إليه أبدًا بخطاب ولا حتى صورة منها وذلك بالطبع بحكم العادات وقتها.
مرت الأيام حتى أنهت هيام دراستها وعملت بإحدى البنوك، اقترب موعد زفافهما وكانت شقتهما في بيت الحاج سيد المهدي حيث بيت العائلة، له شقة ولكل ابنٍ له لديه شقته، لكن الاجتماع في المكان فقط لا الحياة فلكلٍ منهم حياته الخاصة، لكن هناك موعد أسبوعي للتجمع العائلي وهو كل جمعة فيجتمع الجميع في شقة الوالدين وذلك بالإضافة لشهر رمضان والعيدين والمواسم ويوم شم النسيم.
لكن أكثر ما يؤرق عليّة زوجة محمد أخو أحمد أن كيف لمحمد وأبيه الإنفاق على تلك الزيجة والتجهيزات بينما هو لا يعمل معهما في العطارة؟ فهو طبيب وهما من يكدان فلماذا يعطياه أموالًا دون حسابٍ هكذا! لكن محمد كان يسكتها فهذا ليس من شأنها في شيء.
جاء اليوم الموعود يوم زواجهما وكان حفلًا عاديًا غير مبتذل في إحدى النوادي، كان العروسان يجلسان بهدوء وسعادة مع بعض الأغاني الخاصة بالأفراح، الجميع يأتون ويقفون جوارهما لالتقاط الصور.
بينما هما يجلسان تتشابك أيديهما وتلك العروس الرائعة بتاج الورد الأبيض على شعرها وباقة الورد التي في يدها توزِّع ابتسامتها الهادئة على الجميع ممن حولها ثم تعود بابتسامتها لزوجها وحبيب عمرها.
وُزِّع ذلك الشربات الأحمر ثم علب فيها أكل الفرح (سندوتشات وقطعتين من الجاتوه وعلبة عصير) وكان ذلك المعتاد في زمانهم.
وبعد فترة ليست بالطويلة فالساعة لم تصل للحادية عشر بعد لكن قد انتهى الفرح وعاد كلٍ إلى بيته بين سعيدٍ وحقود.
لكن أشدهم سعادة هما العروسان، فأخيرًا صارا معًا بلا قيود ولا خوفٍ من القيل والقال، فليتدللا كما شاءا وليضمها إليه كما شاء وليمسح على شعرها كما شاء، بل وأكثر من ذلك...
فليهنئا بأول ليلة حبٍ وعشقٍ بلا حدودٍ معًا بعد صبرٍ طويل...
وفي صباح اليوم الأول لزواجهما استيقظا لا يصدقان ذلك ، كلًا منهما يفتح عينيه فيرى أمامه وجه الآخر، يشتم رائحة الآخر، ويتلمس جسد الآخر في حضنٍ دافئٍ وسعادةٍ غامرةٍ.
مرت الأيام بينهما والحياة أقل ما يقال عنها أنها رائعة وكان أحمد لا يزال محتفظًا برقته معها فكان يبدع كل يومٍِ كيف يسعدها وكيف يرسم البسمة على شفتيها والفرحة من قلبها وإن إختلفا ذات يومٍ فلا يجئ الليل إلا بالصلح، فكيف لكلٍ منهما أن يبيت ونصفه الآخر غاضبًا أو مهمومًا؟!
كيف يبيت بعيدًا عن حضن الآخر؟!
وقد كُلل زواجهما بخبر سعيد فقد صارت هيام حامل فزادت سعادة أحمد وزادت رقته وحنانه منتظرًا بفارغ الصبر أن يأتي ذلك الضيف الجديد أو الضيفة لا يهم.
وذات يوم وكانت هيام قد صارت في شهرها السابع وقد استيقظت صباحًا متعبة وتتألم قليلًا ثم وقفت تعد الإفطار والشاي لزوجها قبل الذهاب لعملهما لكن التعب قد حلّ عليها فوضعت الطعام وجلست ببطء شديد ممسكة بأسفل بطنها، فخرج إليها أحمد: صباح الخير!
ثم انتبه لملامحها المتألمة وقال بقلق: ماذا بك حبيبتي؟!
قضمت شفتيها بتعب وأردفت: متعبةٌ جدًا يا أحمد بطني تؤلمني وأشعر كأن أسفل بطني مشدود.
رفع نظره إليها فجأة وتسآل بلهفة: لماذا؟! عليكِ أن تستريحي فهذه الأعراض غير صحية تمامًا الآن، هل تريدين ولادة مبكرة قبل موعدك بزمن؟!
قالها بحدة وأكمل بصرامة: لا عمل اليوم ولمدة أيام حتى ترتاحين تمامًا، وأكثري من النوم على ظهرك، تناولي فطورك وسأعطيكِ حقنة مسكنة ثم تنامي، وإن كنتِ لا تزالين متعبة اتصلي بهاتف المشفى وإطلبيني وسأترك لهم خبر وسأحدث طبيب صديق بشأن وضعك.
أومأت بطاعة وبالفعل أكلت بتباطؤ وأعطاها الحقنة، فهمست تحاول إظهار الراحة: سلمت يداك زوجي الحبيب!
ربت على كتفيها برفق قائلًا: اعتني بنفسك حبيبتي، أرجوكِ أود أن أطمئن عليكِ.
رسمت ابتسامة على ثغرها تخفي بها تعبها وهمست: لا عليك يا غالي، بارك الله فيك يا أبو أبنائي!
اقترب منها أحمد وأمسك بيدها وهي مستلقية على ظهرها وقال: بم تشعرين الآن؟
تنهدت قائلة: أشعر بأني أسعد امرأة في الدنيا ولا توجد من أسعد مني قط يا حب عمري.
ثم قالت: ألم تفكر في اسم للمولود الجديد؟!
شرد قليلًا ثم ابتسم وقال: ليلى أو حسين... أتذكرين؟
عقدت حاجبيها وأومأت قائلة: أذكر ماذا؟
أجابها بشرود وكأنما سافر لمكانٍ وزمانٍ آخر مع ابتسامة تزين وجهه: يوم أن بُحت لكِ بمشاعري على شاطئ البحر، يوم قُلتُ لكِ أحبكِ، يوم أن عرضتُ عليكِ الزواج، يا لك من نسّاية!
فضحكت وقالت بإيماءة توحي بتذكرها: ليلى مراد وحسين صدقي!
رفع كتفيه لأعلى وعبث بسبابته أسفل ذقنها بمزاح قائلًا: لا شأن لي، فأنتِ من كنتِ تسمعي وقتها (بحب اتنين سوا)، لكن أنا لا أحب إلا واحدة فقط ألا وهي هيام قلبي.
فتعلقت هيام في رقبته وعانقته بشدة لا تريد أن تتركه، وكلما همت بتركه قليلًا تشعر بقبضةٍ وغصّة في قلبها فتزيد في عناقها له.
فابتسم لها ونزع يدها برفق ثم قال بخبث: ماذا تريدين بالضبط؟ هذا لا يمكن أبدًا في مثل حالتك، وللأسف عليّ الذهاب، سأمر على الدكتور المسؤول عن رسالتي، أتمنى مناقشة الماجستير قبل موعد ولادتك حتى أفتح العيادة عقب تخصصي رسميًا كطبيبٍ باطني، لكني أود عندما أبدأ في الدكتوراه أن أتخصص في أمراض الجهاز الهضمي أم أمراض الكبد والمرارة... ما رأيك؟ هيام!
وكانت قد شردت قليلًا فانتبهت قائلة: ماذا؟ ربي يفتح عليك ويرزقك من فضله!
التفت نحوها وتسآل: كأنك غاضبة! هل تريديني فعلًا لا أتركك؟
كادت أن توافق لكنها تراجعت على مضض قائلة: لا يا حبيبي! اذهب أنت ولا تعطِّل نفسك من أجلي سأنام كما طلبت مني وسأستيقظ وأكون على ما يرام.
أومأ قائلًا: إلى اللقاء حبيبتي، فقد جاء الميعاد.
فعانقته ثانيًا لكن أشد من عناقها الأول فتعجب منها فداعبها بكلماتٍ وغمزاتٍ لطيفة منه ليضحكها ثم انصرف... فقد جاء ميعاده...
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro