17. ديليا تقول: حقيقة مشوّشة.
ابتسمت بينما أنظر لأغسطس وأتشبث بذراعه وهو يجرُّ عربة جويا. مضى أسبوع منذُ أن خرج من المشفى، ولأنه كان بحالة جيدة قررنا المشي وشراء بعض الأشياء لنا. ذهبنا للحديقة ولعبنا بكل شيء، وجدنا حتى محل صغير لالتقاط الصور وأخذنا الكثير من الصور معًا.
أمضيتُ الكثير من الوقت بمنزل أغسطس لكن قررنا الذهاب اليوم لشقتي لتبديل ملابس جويا المليئة بالتراب والطين. كنا بطريقنا حين نظرت أمامي لأتوقف بمكاني وكنتُ سأتعثر لولا قبضتي القوية على عضد حبيبي. هناك، يقفُ كابوسي الأوّل والوحيد، زوجي السّابق بشعره الأشقر المُبعثر وأكتافه العريضة.
أردت أن يختفي، أو أختفي أنا، أي شيء كي لا أراه.
أردتُ أن سأتقيًا. الهلع أمسكني، مخالبه شديدة البرودة تحفر آثارها داخل جلدي المُتعرّق، كالدّم يسيل على جسدي. معدتي بدأت تتحرّك بتناغم مع نبضات قلبي المتسارعة تهدد بإخراج كل ما تناولته قبل قليل، الطعام يتحرّك داخلها مثل سفينة هائجة وسط عرض البحر.
فجأة نظر لي وبقي نظره مُعلّقًا عليّ لأتوقف عن التنفس. ثانية، اثنتان، ثلاثة.
إنه يمشي نحوي.
أربعة، خمسة.
العقدة بحاجباه لا تبشّر بالخير.
ستة، سبعة.
يداي أصبحت ثقيلة لهذا تركتُ قبضتي على جسد أغسطس وتدلّتا على جانباي.
ثمانية، تسعة.
حينما أصبح أمامي تمامًا وفقط بضعة إنشات بيننا وضع يده على ذراعي بخفّة هامسًا: «عُذرًا.» ومشي بجانبي حتى أصبحت الثانية العاشرة وعيناه المُوحشة لم تعد أمامي. حرارة مؤلمة لسعتني حيثُ لمسني وانتفضت بمكاني.
أغمضتُ عينيّ وأردتُ الانهيار هنا والآن، الصرخة بقيت عالقي بحلقي بالإضافة لدموعي وكومة من الأسيد. حتى حينما شعرتُ بيدان أغسطس عليّ لم أخرج من ذكرياتي السيئة معه، حتى حينما سمعتُ صوت جويا يناديني.
في لحظة ما علمتُ أنني كنتُ أمشي، فتحتُ عينيّ ونظرتُ لأقدامي التي تتحرك على وضعية الطيار الآلي، أرى كل شيء من حولي لكنني لا أستطيع الإحساس بأي شيء.
أصبحنا أمام شقتي، أغمضتُ عينيّ وحينما فتحتهما فجأة كنا داخل المصعد. ها هو ذاك الباب، غرفة المعيشة، الأريكة، وفجأة أصبحت الرؤية مشوّشة.
شهقتُ بقوّة لانقطاع النفس عني وحينها فقط علمتُ أنني كنتُ أبكي. ضعيفة، عالّة، مُثيرة للشفقة! كم مرة بكيت بسببه وها أنا ذا أبكي عليه مجددًا. أغسطس يحيطني بجسده ويمسد على شعري وظهري، أعلم أنني بكيتُ كثيرًا بحضنه لكن هذه المرة لا أستطيع التوقف.
«اوه حبيبتي أرجوكِ، لا أعلم ماذا أفعل.» قال وشعرت بالذنب لتعريضه لدراما مثل هذه وهو مريض، وهذا فقط جعلني أبكي أكثر.
لا أعلم كم مضى من الوقت وأنا هكذا، لكنني ابتعدت فقط كي أذهب للحمام وأتقيّأ ما بداخلي. نظرتُ لنفسي بالمرآة ورأيتُ الحالة المزرية التي أنا بها، لم أبكِ هكذا منذ عيد الميلاد الأوّل لجويا.
غسلتُ وجهي وخرجت لأرى جويا نائمًا على السرير بغرفتي وأغسطس ينتظرني بغرفة المعيشة وبيده حبة وكأسًا من الماء، أخذتهم وشكرته لأنه صداع رأسي سيقتلني بأي لحظة. لا أصدق أنه وضع طفلي النائم على السرير دون أن أطلب منه.
«هل أنتِ بخير؟» سأل ونفيتُ برأسي، وجهي عالقٌ بين يداه لأتنفس قليلًا براحة. «لمَ؟ ما الذي حدث؟» نظرت له وقلّبت فكرة إخباره برأسي، ومهما كان الأمر صعبًا إلّا أنني أدين له بتفسير.
«زوجي السّابق حدث.» قلت بصوتٍ ضعيف، كلمة زوجي ثقيلة على لساني حتى بعد الوقت الذي قضيته بعيدًا عنه. عقد حاجباه لكنه لم يقل شيئًا، لهذا أكملت: «رأيته قبل قليل بالسوق، الرجل الذي استأذن أن يمرّ من جانبي.» رأيتُ الارتباك على وجهه ورمش عدّة مرات. «ما...كيف لم يلحظكِ؟ أشعر أن هناك شي مفقود.» أردف لأومئ وقلتُ مستطردة: «هو مُصاب بعمى الوجوه.» الإدراك غسل وجهه لكنه سأل: «لا زلتُ لا أفهم.» سحبته معي وجلسنا على الأريكة، أخذتُ عدّة أنفاس وبدأتُ بشرح علاقتي مع ستيڤن.
«تعرّفتُ على ستيڤن بالجامعة، كان بنفس تخصصي. أحببنا بعضنا وتزوجنا بعد ثلاثة أشهر من تعارفنا. هذا لوحده كافٍ ليوضح مدى غبائي بقبول التزام مدى الحياة بعد مدة قصيرة.» توقفتُ قليلًا وتذكرت أيامي بتلك الفترة، كنتُ حقًا سعيدة، قبل أن تظهر حقيقته.
«بعدما تزوجنا بدأ يتغيّر، أعتقد؟ أو أنه كان هكذا من البداية لكنه لم يظهر الأمر. كنا دائمي العراك، كان يتضمن الأمر فقط الصراخ بيننا، غضبه وتكسيره للأثاث حوله، بعدها ببطء بدأ يتحوّل غضبه هذا نحوي.» همست آخر كلمة وبدأت بالشدّ على يداي لجميع الذكريات التي داهمتني فجأة، شعرتُ بأغسطس يتنشج بجانبي لكنه أمسك يداي برقة وقال: «لا تكملي، أعلم أنه يصعب عليكِ التحدث عن الأمر وأنا يُصعب علي سماعه، انتقلي لما بعده، حسنًا؟» أومأت له بامتنان، امتنان لكلامه ولأنه بجانبي الآن.
«أصبحت إعتداؤته نفسية وجسدية، واستمر الأمر لسنتان، لكنني لم أستطع قول أي شيء خوفًا منه، ولم أملك أحد لأهرب عنده، أبي مات قبل مولدي وأمي...قصة أخرى. جربتُ بيوم التبليغ عنه، اتصلتُ بالشرطة وأخبرتهم بما حدث لكن حينما قدموا للمنزل لم يجدوا شيء، حينها أعطوه تنبيه، وهذا فقط. كان ستيڤن محبوبًا، يملك مكتبة بالبلدة والجميع يعرفه للطافته.» أتذكر حقدي على الشرطة حينها، هل كانوا ينتظرون أن أموت كيف يفعلوا شيء؟
«كيف علمتِ بمصابه؟» سأل أغسطس بينما يلعب بأصابعي.
«كان دائمًا يحرص على جعلي ارتدي شعريّ الطبيعي: لون بني ومجعد، وأضع عدة خصلات خلف أذني كي تظهر الأقراط التي اشتراها لي بنفسه والتي يجعلني ارتديها دائمًا، فقط هي ولا أقراط أخرى. أظافري قصيرة ونظيفة دون أية طلاء. بدأتُ ألاحظ الأمر حينما يعود للمنزل وأوّل شيء يتفقده هي هذه الأشياء، يخبرني كم أن صفاتي هذه مميزة ويمكنه تمييزها من ألف فتاة غيري. في لحظات ضعفي وجدت كلامه رومنسيّ بعض الشيء.» قلت وأغمضتُ عينيّ، ولولا الشعور بأغسطس بجانبي لما أكملت.
«في يوم أردت اختبار هذا الشك، لهذا حينما ذهبتُ لصالون التجميل، حيث يجعلني أذهب مرة كل شهر كي تبقى أظافري على شكلها، طلبتُ منها أن تصفف شعري وتجعله منسدلًا. وركّبت أظافر اصطناعية عليها طلاء باللون الأحمر. حين خرجتُ من الصالون كان يقف أمام سيارته، رفع نظره لي لكنه حدّق بي لثوانٍ قليلة وعاد يتفقد هاتفه.
حينها نبض قلبي بألم وأردتُ الهرب، يا إلهي كم وددتُ أن أركض بالجهة الأخرى بعيدًا عنه، لكن وجدته يفتح تطبيق الاتصالات وعلمت لو أنه اتصل بي وأنا أمامه لأصبح يومي أسوأ بكثير، لهذا تقدمت نحوه، ومع ذلك يومي بالفعل أصبح أسوأ إذ كان غاضبًا كثيرًا لدرجة أنه حينما عدنا للمنزل غسل شعري بقسوة ونزع الأظافر دون تردد رغم صراخي ورجائي أن يتوقف.»
«هذا الوغد.» همس أغسطس لأومئ وامسح دموعي. لهذا أنزعج حينما ينظر أغسطس لأظافري؛ لأنه يذكرني بنظرات ستيڤن نحوها. ولسببٍ ما أشعر أن هذا سبب حُبّي لأشياء مختلفة حول الشخص بدلًا من نفسه لأن زوجي قد أحبّني لمميزات شكلي. أبحث عن ما أفضّله بالشخص وأحاول حبّه من خلالها كي أستطيع تمييزه من روحه وليس فقط جسده.
أغسطس يمكنني تمييزه من هالته، من أكتافه العريضة، صوته وابتسامته. أحببتُ كل ما به حتى أحببته نفسه، وهذا ما لم يحدث سابقًا سوى مع جويا.
«رغم كل الوقت الذي قضيته معه إلا أنني لم أتمنَ يومًا الرحيل عنه أكثر ممّا فعلت في ذلك اليوم. لقد كان قاسيًا جدًا. كان خائفًا، وأعلم أن خوفه هذا تحوّل لرهاب ورعب من عدم تمييزه لي. كان مختلفًا بطريقة سيئة. أردته أن يختفي هو وجميع نسخه. أردتُ أن اختفي أنا، أن أصبح واحدة مع الأريكة بمنزلنا أو مع الطائر الذي دائمًا ما كان يقف عند نافذة الغرفة. كي أحلّق بعيدًا وأتركه، لكنه لم يقبل التخلي عني. تمسّك بي مثل الغراء اللاصق، وكلّما حاولتُ الابتعاد شعرتُ أن جلدي يتمزّق بسبب قوّة لصقه.»
شعرتُ بأصابع أغسطس تمسح الدموع عن وجهي لكنني لم أستطع التحرك لفعل شيء. لم أقل يومًا هذا الكلام لأي أحد. أشعر بالرّاحة لتخفيف الهموم عن أكتافي. لطالما كانت هذه الذكريات مثل صخرة كبيرة على صدري، والآن أشعر أنها أخفُّ وزنًا عن السّابق. لكن بنفس الوقت لا أريد التفكير بكيف ستكون ردة فعل أغسطس على كل هذا. إذا كانت حياتي السابقة صخرة، فإن رحيل أغسطس عني سيكون جبل كبير من الهموم.
«بعدها بأسبوع علمتُ أنني حامل بجويا وهربت، التقيتُ بجاك الذي ساعدني، ومن يومها وأنا اتنقل من مكان لمكان خوفًا من رؤيته، صبغتُ شعري ودائمًا ما أجعله منسدلًا كي لا يميزه، حتى أظافري طليتها كل يوم وتعلمت كيفيّة القتال كي أستطيع الدفاع عن نفسي. لكنني اليوم شعرت بالضعف فقط لمجرد رؤيته. أنا لا أحبّه.»
«هل هذا يعني أنكِ لا زلتِ متزوجة منه؟» سأل لأتجمد بمكاني، أومأت بقلة حيلة ولم أرد سوى الهروب من هنا كي لا أرى نظرة التقزز على وجه أغسطس التي أنا متأكدة أنها ستكون هناك. متزوجة وهاربة من زوجي وقد اعترفت بحبّي له؟ يا للعار ديليا.
«انظري لي، هنا.» رفع ذقني ونظرتُ لعيناه بتردد ليكمل: «أنا لا أبالي بكم التعقيدات التي سوف تحصل، لا زلتُ أريدك، حسنًا؟ سوف نفعل كل ما بوسعنا كي تطلقينه وتعيشي براحة دون التفكير به، ولو أنه حاول التعرض لكِ سوف يلاقي عواقب وخيمة. لن اسمح له بتدمير ما تبقى من حياتك وجويا، يكفي ما فعله.»
كنتُ ممتنة له ولكلامه، لا أعلم لمَ فكرت أن أغسطس قد يتركني بسبب ماضيّ. طيلة الأيام التي أمضيناها معًا خرجت للضوء معلومات كثيرة عني قد تجعل الشخص يفكّر بالبقاء معي، وأوّلها أنني أم عزباء لا أملك الوقت الكافي للخروج والوقوع بعلاقة حبّ.
لكن ها هو أغسطس، ينظر لي بعيناه المليئة بالحب، نظرة تخبرني أنه مستعد لإحضار القمر لي لو أنني طلبت منه فعل ذلك. وأنا أعلم أنه سيفعل. إذ إذا ما كانت أوقاتنا قد علّمتني شيء حوله، لقد علّمتني أن أغسطس لم يحبّ سابقًا لأنه يحبُّ من كل قلبه. وقلبه هو كل ما أريده في هذه اللحظة لي ولجويا.
أردت أن آخذه لحضني بسبب الكلمات التي قالها، لكنني أخذته لعدم تواجد حرف النون بكلامه عندما تحدّث عن المستقبل، إكمال حياتي وجويا من دونه، ستيڤن لن يفسد حياتنا معًا إذ قد لا يكون هناك حياة بيننا.
لطالما وجدت فكرة وجود حرف النون بكلامه جميلة، وأنا اشتقتُ له منذ الآن، إذ أعرف أنني قد لا اسمعها مستقبلًا.
بقينا قريبان لبعضنا لوقت طويل، ولم أتحرك سوى حينما لاحظت تنفس أغسطس المنتظم، نام على الأريكة بتعب. عدلت جلسته واستلقيتُ بجانبه وقررتُ أن أخلد للنوم أيضًا، غير مهتمة أنه من المفترض أن أوقظ جويا الآن كي ينام بالليل، أريد فقط النوم بجانبه.
---
مجموع الكلمات للآن: 25,238.
وظهر ماضي ديليا، هل كنتوا متوقعين يكون هذا سبب هروبها أو إنه حالة زوجها كذا؟
اتذكر كنت بجلي وبحاول ألاقي حل لثغرة زوجها وكيف ما قدر يلاقيها بعد 3 سنين، لكن لما حضرت حلقة من مسلسل وكان في شخصية مصابة بعمى الوجوه قلت طز بوم! وبسرعة خلصت جلي ورحت كتبت هالفصل بحماس. 😭
آهخ ضايل فصلين وبتنتهي الرواية. 😔🤏
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro