الی أين ؟
كانت تلك النسمات تدلف بخفة الفراشة من خلال النافذة المفتوحة يصحَبُها عبق الزهور التي تتراقص طرباً بين الحشائش ، القمر لم يكن موجوداً في سمائهِ المظلمة ولكن رفيقاته النجمات أنتشرت في كَبِدِها في هذهِ الليلة الصيفية المعتدلة الجو نسبياً.
كانت مريم قد أحرزتْ تقدماً خلال أشهر السنة الطويلة التي مرت فباتت تمشي علی قدميها دلالة علی نجاح عمليتها المُعَقَدةْ بأستثناء يدها اليُسری فلقد كانت عائِقَها الوحيد ، فلا زالت تواجه صعوبة في تحريكها . كانت تجلس علی مكتبها تدون ما يجول في ذهنها في دفترها الزهري الجديد تَضَعْ القَلَمْ تارةً لتُريحَ كَفْ يَدَها وتَعُود لمُزاولة ما تكْتُبَهُ ، أرْتَدتْ تيشيرت بدون أكمام ذو فتحة واسعة أبرزت جزءاً من جيدَها الأبيض مع شورت قصير أسود اللون ، كانت قد أزالت الغَرز من رأسها وبدأَ شَعْرَها تواً بالنمو.
--------------
-مَرْيِمَ:
أتَمَنی لو تَنْتَهي هذه الدُنيا لأنال راحة بالي ، أود لو أتحرر من جَسَدي المادي الفاني هذا لأغْدُوَا روحاً أثيرية حرة لا تُقيدها قيود كطائر جامح لا تقف في وَجهَهُ قُضبانْ أي قَفَصْ .
كانت هذه مرتي الثالثة التي أتنهد فيها بقسوة أُحاوِلُ أقتلاع الضيق الذي يحتجز قلبي وكأن قَبضةً قوية تُمسكهُ داخل أضلعي و تعتصِرهُ بأستمتاع ! منذ بداية هذه السنة وأنا لم أتأمل بها خيراً وتحديداً منذ تَفَتَحَتْ عيناي وأنا في المستشفی أخضع لتلك العملية . خلال الفترة التي كنتُ مشلولة بها عانيتُ من حالة نفسية حادة جعلتني أهُربْ الی ذلك العالم الذي أبتَدَعَهُ لي عقلي وكانت أدويتي المُسَكِنَةْ تَدْفَعُني الی ذلك بسبب تأثيرها القوي الذي يجعلني نائمة في أغلب الأيام ، بعد بضعة أسابيع تحديداً بداية الشهر الخامس لم أعُد أفُرق بين الواقع وبين عالم الأحلام خاصتي !
فَكُنتُ أجِدُني مع خليلي الجني الذي لَرُبَما هو الآخر أختَلَقَتْهُ مُخَيِلَتي فَحتی الأن لم أجد بُرهاناً علی حقيقة وُجوده ، وفجأة بلا مُقَدِماتْ أجد السقف يُقابلني وجهاً لوجه كما كان يفعل دائماً.
أراني في عالمي ذاك بشعر طويل يُنافس أمواج البحر بِتَمَوجاتهُ الخلابة وبطوله الجميل وحينما أعودُ الی العالم الواقعي أَظَلُ أبْحَثُ عنه مُتَسائلة (-لما أنا حليقة الرأس ؟ أين ذَهَبَ شعري الجميل ؟)
غَدوتُ مجنونة خلال شهر فقط ! والغريب أن جنوني هذا كان سَبباً رئيسياً في جَعْلي أتحرر من الشلل ، فلِكثرة ما كُنتُ أمارس المشي في أحلامي بدأَ جَسَدي يتحفز في الحياة الواقعية وبَدأَتُ بالنهوض خلال أيام قلائل ثم السقوط علی وجهي كما يفعل الطفل في أيامهُ الأولی حتی عُدت أسير مُجدداً ، أتَذَكَرُ الغَبْطة الشديدة التي ألمت بوالدتي ، أحتضنتني وَقْتَها فَرِحة وهي تُزغرط بأعلی صوتها وكأنني عروس زُفت الی عُشِها الزوجي ! الخالة نجلاء هي الاخری كانت سعيدة وتكللت الفرحة بذبح خروف وتوزيعهُ علی الجيران ، كنتُ أنا أيضاً سعيدة بنفسي وقتها وإنْ كُنتُ بنصف وعي ، و بعد أيام كانت الأكثر هدوءاً وراحة في حياتي أبتدأَ فصل جديد حينما بدأتُ بمجالسة طبيب نفسي .
لم يكن الأمر بذلك السوء حقاً ، كان رجلاً لطيفاً ومُتفَهِماً وكان أيضاً صَديقاً لطبيبي الكَهِل الذي أشرف علی عمليتي ، أخذ الأمر يزداد سوءاً تدريجياً حينما ارغم عقلي علی الخروج من عالمه ذاك ومواجهة الحياة الواقعية ، وهذا بالذات ما كنتُ أرفضهُ بشدة بعد إدراكي جيداً لكل ما حولي .
حيث أفاق وعيي علی شفقة الخالة نجلاء ، تلك الشفقة التي تقتل كبريائي والذي لم يخضع تحت أي ظرف كان ولم يهتز ، تكبر غسق وتمللها مني ، وكانت هذه الضربة الثانية لكبريائي حيث لم أكن يوماً في حياتي كُلها عِبئاً علی أي شخص كان حتی لو كان أمي ، شفقة نساء المنطقة وهسهستُهِن حول سبب ما أصابني ، حيث أن الشائعات والأقاويل الكاذبة والفضول الزائد عن حده أكثر ما يسبب لي ضيقاً وغضباً شديدين وأعني بهذه الكلمة شديدين جداً .
كل هذا جعلني حبيسة تلك الليلة والتي أعيشها كلما خَطِرتْ بذهني بأحاسيسها وتفاصيلها المملة وكأنها حَدَثتْ تواً فتُعيدُ لي خوفاً لا يمكنني السيطرة عليه كوحش تلك الليلة يُهاجمني تاركاً وَجَعاً أليماً في صدري، ثم تُغلِفُني حيرتي من جديد باثةٍ سموم أسئِلَتُها في دماغي ، هل مرجان فعلاً كيان حقيقي ؟ وما عايشته قبل تلك الليلة وما بعدها هل كان حقيقياً ؟ لماذا اذاً لا يظهر لي مُجيباً أسئلتي ، كل هذا التفكير كان يأكل دماغي ببطء كَمَرضْ العُضال حيث لا أنام ليلي ولا نهاري بسبب الأرق المُزمن .
وما كان ولا زال يُزيدُني قَهراً هو تَفَكُك أسرتنا الجميلة الصغيرة ، فبينما تحسنت الأوضاع في تركيا نسبياً ازداد الوضع سوءاً في العراق بسبب جائحة الفيروس ، مما كان يُسبب لي قلقاً علی بقية أفراد أُسرَتُنا . بعد شهر آخر من العلاج النفسي وجدتُ نفسي اكره ذلك العالم الذي خَلَقتُهُ لنفسي وأُحتجزتُ في الحياة التي كنتُ أحاول الهروب منها ، أحاول التأقلم مع الروتين ولم يكن روتيناً عادياً لأنسان طبيعي !بل كانت الوحدة تحوطني حتی باتت تُغلفني كشرنقة ! كان شعور التوجس والخيفة هو ما يمتلك قلوب من حولي حتی غسق كانت منهم فبات الجميع مصدر طاقة سلبية يُغذي مشاعري بالجزع الذي يسبب لي الرهبة والذي بدوره جعلني أكره نفسي ومن حولي ، يتصرف الجميع وكأنني من أختار هذه الحالة ، وكأنني أخترتُ بيدي ما حَصَلَ لي ! هل من عاقلاً يود أن يعيش في معاناة بعد أن كان مُرتاح البال ؟ حتی المجنون يرفض هذا المنطق ! بسبب كل هذا بُتُ أُعاني من الكآبة والحزن الشديد وبسبب كتمي لهذه المشاعر تولدت لي نوبات غضب قوية ، والتي تخرج عن إطار سيطرتي فتخرج علی من حولي بغير قصد سواء كان إنسان أم حيوان أم نبات .
وبهذه الحالة تحطيم كل ما يقع تحت يدي يزيدني غضباً لاسيما وأن يدي الاخری لا تتحرك الأ بصعوبة فيزيد قهري ويزداد تحطيمي للأشياء حتی تتحول أشلاءً . بُتُ أكره النظر الی المرآة بلا سبب محدد كما أمقت رؤية اي بني آدم وإن كان علی بعد عشرة أمتار ، كل هذه الحالة إصبحت في علم الدكتور النفسي خاصتي فعَمِلَ علی زيادة الجلسات وتغيير العلاج . ولكن بالنهاية لم أتعالج بالشكل الكافي ولم أزدد الا سوءاً في كل يوم يمر علي ، ثم مررتُ بمرحلة أُخری من الأستيعاب وجديدة من التغيير كانت الأصعب لربما في سني المُتَمرد هذا ، بدأتُ بتقييم وضع من حولي بدأً بسكان المنزل ، الی وضع الخالة نجلاء والتي باتت تعزني كأبنتها والتي تحملت تكاليف مادية ولربما نفسية بسبب ما مررتُ به وما فعلتهُ من تحطيم العديد من أغراض المنزل وكانت تتقبل كل هذا بصدراً رحب فجعلت شعور الذنب والحياء منها يعتمل بجوفي ثم الی حال والدتي التي تموت كل ليلة بقهرها ، توفر لي ما تستطيعه وأكثر من الرعاية سواء المادية أم المعنوية وحالتي لم تَكُنْ تزيدها الأ كَمداً وكأنها كُتِبَ عليها الشقاء بسبَبي فزاد شعور الذنب بداخلي أضعافاً .
بالنسبة لغسق ومن تعرفت اليهم فلم أكن لهم سوی الكراهية والنفور ، أصبحتُ أكثر حرصاً وتحكماً بنفسي ومجاملة للجميع مدعية للسعادة والراحة لأخفف من الضغط الحاصل في المنزل بسببي .
لم يكن الكتمان بشيء صعب بل التمثيل ، التمثيل بكونك مرتاحاً تقاوم هلاوسكَ وحزنكَ وأفكارك المُلحة أمنع ما بداخلي من مشاعر مُبهمة تبتلعني ببطء ، الشوق لنفسي القديمة ولهمومي التافهة كان هو كل ما يحكم مزاجي الحالي ليزيد الضغط الداخلي علي .
وكل هذا كان لا يُطاق ، من الصعب لكل هذا أن لا يظهر علی وجهي وليس من اليسير البقاء بملامح وجه باردة خالية من الشعور في أغلب الأحيان . بالنهاية رافق هذا كُله تركي للعلاج عند الطبيب وعُدت لمعاقرة الحبوب المنومة ، والتي تُبقيني مُخدرة ليلاً نهاراً غير واعية أو مهتمة لما يجري فأبقی هادئة لا أشعر بشيء مُحدد سوی بالنُعاس والتعب ، بالنهاية تركتُ ذلك العالم الخيالي ونبذته وباتت أحلامي تعكس لي واقعي الممل بأبعاد مُختلفة وأحياناً تختلط بلقطات من الماضي ، بُت أشبه بدُمية خشبية مُقيدة بخيوط وهمية تقوم بتحريكها غصباً للعيش في هذا الروتين القاتل ، أطلقتُ زفيراً حاداً وأنا أتركُ قَلَمي يرتاح علی ورقة الدفتر التي رحتُ أُطالعها بشرود ينتابُني شعور طفيف من الراحة بعد التعبير عن كل ما بداخلي بالنهاية تبقی الكتابة هي لغتي التي أُعبر بها عن معاناة روحي الصامتة وهذا القلم والدفتر هما صديقاي الوحيدان وخزنتا أسراري .
غالباً ما بدأتُ أسهر لحد منتصف الليل بعد أن بدأ جسدي يتشبع من تأثير المنوم وبالتالي صار تأثيره ضعيفاً نسبياً وهذا شيء آخر علي القلق بشأنه فلا مُخدر لا نوم ، لا نوم تساوي تفكير مُستمر حتی طلوع الصباح . طالعت السماء الصافية من خلال النافذة لأعود لكتابة آخر أحاديث نفسي الداخلية :
-{ غَدوتُ أِنسان غَشيَهُ النسيان فَنَسي ذاتهُ و هويتهُ ونسي من كان
غَدوتُ بِفَمْ صامت وَ عَقْلاً ثرثار و غَدتْ روحي جوفاء وجسدي هامد
لم يعد للشعور بداخلي مكان فأصبحَ خاوياً تَلُفَهُ شِباكْ الزمان }
أغلقتُ الدفتر وتوجهتُ نحو السرير أستلقي عليه أحاول تجاهل صداع رأسي ثم أنقَلَبتُ علی الجانب أُغطي عيناي بيدي أستشعرُ ضيقاً في صدري آلفته منذ مدة طويلة ، تجاهلت كل شيء من تراهات عقلي أنتهاءً الی الخواء الذي يأكل روحي مُجبرة نفسي علی النوم ، ثم تناهی الی سمعي صوت فتح باب غرفتي لأفتح عيناي وبقيتُ علی وضعي كما هو أستشعر حركة المجهول الذي أقتحم غرفتي وهو يتجول بخفة في الأنحاء ثم خرج بهدوء كما دخل ، نهضتُ مُستغربة أُطالع الغرفة بتوجس ليقع بصري علی ورقة بيضاء مطوية ! فَتحتُها لأقرأها عاقدة حاجباي
انه جدول الأمتحانات النهائية ! هذا ما كان ينقصني .
يتبع .......
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro