نيران الموت
"سماء تلبدت بالغيوم،حقل جميل،نساء جميلات راقصات،رجل مخيف بعباءة سوداء يضحك بجنون،ورجل عجوز طيب أتى خلفها وشاهدا سوية خلف شجرة كبيرة طقس غريب من نوع ما ثم أمسكها بيدها وأخرجها من الحقل ليسلمها إلى والديها اللذان قضيا عصراً كاملاً في البحث عنها.."
هذا ما فهمته من صغيرتي "دورثي" حين طلبتُ منها ألاسباب التي جعلتها ترسم لوحة غريبة كهذه،ولكي أفهم أكثر طلبت من شقيقتي وزوجها توضيحاً مفصلاً ولم أخفي عنهما ما تحمله الصورة من إيحاءات إن صحت تحليلاتي عنها فهذا يعني خطر وشيك وقوعهُ
"من المحتمل أن تكون دورثي شاهدة على جرائم القتل التي حدثت مؤخراً وعلينا تكثيف جهودنا لأجل حمايتها..لذا أخبراني عن كل ما حدث في ذلك اليوم؟"
تهاوت على أقرب كرسي في غرفة إبنتها وشرعت تبكي بلا توقف مقرة بذنبها وتولى زوجها عناء الشرح لي.بحسب ماقاله أنهما قررا القيام بنزهة قصيرة عصراً بصحبة طفلتهما وتحولت بعدها إلى كارثة.فقد إلتقيا بصديقة شقيقتي وزوجها وأمضوا الوقت سوية في ثرثرة لا فائدة منها ..أما الأطفال فقد إبتعدوا كثيراً في لعبهم وفقدوا "دورثي".بحثوا عنها في جميع الأرجاء وفقدوا أملهم في العثور عليها،وفي غمرة إستياءهم وحزنهم إنبثق الأمل برؤيتهم لصغيرتهم رفقة رجل عجوز رمى عليهم كلمات غامضات وطفق عائداً لحال سبيله
"أحموها جيداً ..لقد رأت ما لا يتوجب عليها رؤيته"
تيبس في مكانه مصدوماً لرؤيتي،موقفاً أثار إستغرابي إذ كيف تشكل رؤيته لي صدمة وقد تقابلنا من قبل!.تنحنح مسترداً طبيعته الفطرية وجلس على مقعده موجهاً سؤاله المعتاد لي"ماذا تريد هذه المرة؟" وبدوري إستفسرتُ عن صدمته لرؤيتي فأعترف برؤيته لصديقه العزيز والدي في شخصي.لا أحب لنفسي هذه الخاصية التي تذكر الآخرين بأحبائهم وتفتح جراحهم لكن لستُ من خلقني.جلستُ وفاتحته بالموضوع بمشاعر مضطربة..إنه من علي اللجوء إليه طلباً للمساعدة
"أظننا في خطر سيد هوكنز..أقصد عائلتي وبالأخص إبنة شقيقتي دورثي"
"فلتوضح كلامك رجاءً؟"أخرجتُ من جيبي الرسمة وسلمتها إليه غير متحكم برجفان يدي.إستعان بنظارته على الرؤية وتطلع إليها مذهولاً حتى قال مشيراً للنساء الراقصات
"لا بد إن من رسمها فنان ..كما إن هؤلاء النسوة مثيرات للجدل حقاً "
"دورثي من رسمتها إنها بعمر الخامسة ولديها موهبة وقابلية عظيمة في رسم أدق التفاصيل وبسرعة لا يمكن تصديقها ..لكن هذا ليس محور حديثنا فلتتمعن فيها أكثر"
أومأ برأسه عدة مرات،وأستطعتُ بوضوح رؤية كيف ضيق عينيه من خلف نظارته وتطلع إليّ بذات النظرة التي قابلني فيها قبل لحظات..مصدوماً!ثم إنبرى قائلاً
"نحن نعمل على قضية مقتل ست نساء دفعة واحدة وأتدري كيف قتلن وأين وجدن ؟"
"لا علم لي بشئ !!!"
"وجدناهن مقتولات داخل دائرة كبيرة والمثير للفزع إنهن قتلن أنفسهن بأيديهن ..."
قاطعته مذهولاً متحمساً "ولكن كيف قتلن أنفسهن ماذا عن إنتزاع أحشاءهن كيف هذا بالله عليك؟!!!"
"أخبرتك سالفاً أن كل واحدة منهن تملك طلسماً ترتديهن كقلادة هذه الطلاسم هي سبب موتهن ..إنها طلاسم الموت سيد فريدل"
تشوش ذهني غير مستوعب مايجري فطلبتُ مزيداً من التوضيح ولما تأكد بأني صرتُ طرفاً في هذه القضية أقر بضرورة إحاطتي بكل معطيات القضية وتحولت جلستنا إلى جلسة إستجواب
"ماذا أخبرتك دورثي بالضبط عنهن ؟"
"قالت بأنهن كن يرقصن وقد كن جميلات وأن الرجل المخيف كما سمته كان يقوم بحركات غريبة هذا كل ماقالته"ولم أنسى إخباره بكامل القصة ليسأل التالي
"وهل رأى وجهها حين كانت تتلصص عليه؟"
"كلا لم يرها ولكنه رأى العجوز وأعتقد بأنه قد قتله كي لا يفضح أمره"
"أنت محق قتله كي لا يفضحه..دعني أشرح لك إستنتاجاتي عن هذه القضية..أولاً وإستناداً لإفادة معارف الضحايا لقد كن يشتركن بعامل واحد آلا وهو اليأس..لقد كن يائسات لعدم حصولهن على مبتغاهن لذا إستغل الساحر نقاط ضعفهن لأجل مصلحته..زوج إحدى الضحايا قال أن زوجته باعت كل ما تملكه من حلي في سبيل تحقيق مرادها ولم يعرف من المشتري وإني لعلى يقين بأنها لجأت إلى الساحر"
"لقد طلبن مساعدته فلمَ قتلهن؟"
"إن صاحبنا إزدواجي يقتل للمتعة..للسرقة..و للولاء لسيده لوسيفر..إنه خادم له تذكر و ما على الخادم إلا ألانصياع في مقابل العيش الرغيد.. "
ترك كرسيه وجلس قبالتي وقد بعثر صور الضحايا المثيرة للشفقة والقشعريرة وأردف واثقاً من كلامه
"حسناً إليك كيف جرى الأمر.. أعطى لكل واحدة منهن طلسماً على أساس أنه سيلبي لهن كل إحتياجاتهن وما الطلاسم هذه إلا خدعة لإستدراجهن لموتهن..في اليوم المحدد لقتلهن أسرهن عن طريق هذه الطلاسم .."
"وكيف ذلك ؟"قاطعته ليجيب
"إن بداخل كل طلسم شيطاناً متأهباً للإنقضاض على فريسته فبمجرد أن يتمتم الساحر بضعة عبارات على قطع خاصة أخذها من النساء سيأتمر جنده بأمره ويتلبس النسوة ..عندما تعقد عقد ولائك ستزود بجنود يحققون لك مرادك وهذا يشرح كيف إنهن خرجن بنفس الوقت وأجتمعن في مكان واحد بلا وعي منهن وما تحليلاتي هذه إلا عن معرفة وعن شهادة أقرباءهن "
إستغرقتُ وقتاً لإستيعاب هذه الكارثة أي أسلوب دنئ خسيس في القتل هذا..لا يمكنني تخيل فظاعته ولاأزال غير مقتنع حتى أرى بأم عيني وتحليلي الوحيد هو إن هؤلاء النسوة إخترن الموت وقصدنه لتخليصهن من عذابهن،وخلاف هذا غير فهو غير قابل للتصديق،لكني مضطرٌ مشاركته تحليلاته الخاصة لأخرج بنتيجة تحمي عائلتي من هذا القاتل المزعوم بالساحر.
"لا تقلق سنحمي عائلتك سأبعث أفراداً من الشرطة لمنزل أختك وسأكون حاضراً أيضاً إن حدث شئ ودعني أطلب منك هذا وألتمس منك الموافقة"
حملقتُ فيه متخوفاً من طلبه ثم أومأت برأسي مستعداً لسماع طلبه فأفرج عن كلماته الصريحات التي مازادتني إلا رعباً
"إن دورثي هي الشاهدة الأخيرة وسأطلب منها إرشادي لهوية القاتل "
فُزعت وأنتفضت وصرخت معترضاً
"لا يمكنني تعريضها للخطر أكثر..كيف سترشدك وهي لا تعلم أين مسكنه ..لن أدعها تكون لعبة بأيديكم..أرفض هذا قطعاً..ثم إن لديكم شاهدة مهمة فأين هي لتساعدكم"
أخفض جفنيه المترهلين وأمتعق وجهه ليقول بنبرة ملؤها الحزن
"عثرنا عليها مقتولة في أحد الأزقة بطعنة في صدرها تماماً كما قُتل الشاهد الأول العجوز "
"هذا مروع وتطلب مني بعد هذا إستعمال دورثي!"
"لا تتعجل في حكمك سيد فريدل..أنا أعرف من هو القاتل أريدها فقط أن تشير إليه لأباشر تحقيقي الخاص عنه"
فاجأتني معرفته بهوية القاتل ولاحظ علائم الحيرة والذهول على وجهي ليحني ظهره وكذا رأسه ليقابلا الأرض ويشبك أصابعه وشعرتُ في صوته نبرة الإنكسار والندم ليطلق سراح ماحبسه في صدره لسنوات
"أخبرتك إن سلسلة الجرائم بدأت قبل شهر عندما عثرنا على جثتين..أحداهما كانت لفتاة شابة وحين حققنا بغية إيجاد قاتلها إكتشفنا أنها لجأت إلى رجل سعياً لمساعدتها في الحصول على بعض المال وكان هذا الرجل يمتلك ثروة كبيرة..إشتبهت في إنه قاتلها إستناداً إلى ردة فعله المشبوهة التي أظهرها خلال إستجوابه..أردت متابعة التحقيق بشأنه لكني تلقيتُ معارضة مفاجئة من الرئيس الأعلى لشرطة وايت تشابل وأمرني بعدم مس المشتبه به بأي أذى وعلل إعتراضه بإنه برئ ومن المستحيل أن شخصاً نبيلاً مثله يقترف مثل هذه الفعلة"
أبديتُ رأيي المتواضع بإحتمالية وجود علاقة متينة بين رئيس الشرطة والمشتبه به ليؤيدني مستطرداً حديثه
"أنا من النوع الذي لا يستسلم عند أبسط الأمور وعندما أستشعر أمراً غريباً أطارده لاهثاً حتى أقضم قضمتي وكما قال السيد شارلوك هولمز "الإهتمام بالتفاصيل الصغيرة هو السبيل الوحيد لحل أصعب القضايا" فإني قد عملت بنصيحته أمداً طويلاً وأهتممت بأدق التفاصيل.أجريت تحقيقات سرية حول المشتبه به وإليك الآتي..لقد أتى إلى المنطقة فقيراً معدماً وبغضون أشهر قليلة كون ثورة هائلة بعقد صفقات مع رجال أعمال وسياسيين في البلاد وحصل له على لقب سير"بروتيغان"..وتتساءل الآن كيف تم هذا دعني أنورك بالحقيقة ..عن طريق السحر ..بربك كيف له أن يمتلك ثروة تفوق ثروة أمير وهو الفقير المعدم الذي أتى إلينا مجرداً حتى من ملابسه"
"ربما إشتغل كثير من الناس يبدؤون حياتهم من الصفر وهناك عدة طرق ليست هذه واحدة منها برأيي"
"رأيك يخالف أدلتي سيد فريدل..لم أبعد ناظري أبداً عنه ولكي أقطع الشك باليقين عمدت إلى حيلتي بإرسال أحد رجال مجموعتي السرية لإقتحام منزله سراً في الليل ومراقبة أي نشاط مشبوه به وأتاني بدليل يثبت صحة شكوكي..رآى نجمة خماسية كبيرة التي تعتبر رمزاً رئيسياً من رموز السحر الأسود مرسومة على الأرض والتي عن طريقها يُستدعى الشياطين فعرفت فوراً أنه ساحر وقاتل في آن واحد..ولكي أتأكد من كونه قاتل علي ألاستعانة بدورثي..ربما من رأته يكون هو ..فلتتمعن في الأمر"
معقود اللسان،مشوش الذهن،غادرتُ المركز وأتجهت فوراً لمنزل شقيقتي والأفكار السوداء تلطخ عقلي..كأني أعيش قصة خيالية من نوع ما ..أو كابوساً مرعباً يأبى الزوال..لا أصدق أن عالمنا الجميل مدنسٌ بهذه الأفعال الشاذة الناتجة عن أشخاص حمقى يبيعون أرواحهم الغالية في سبيل الثروة والمال!ياله من أمر مقرف يقتضي إدراكه بسرعة.أخبرتهم أن السيد"هوكنز"سيبعث أفراداً من الشرطة لحراستنا وطرحت عليهم فكرة قدومه الشخصي ليستجوب عزيزتي"دورثي"ويطلب منها مرافقته لتأكيد هوية القاتل وهي فكرة تم رفضها بشدة من قبل أفراد العائلة جميعهم خاصة والدتي التي رفضت مجيئه؛فهي لا تزال حاقدة عليه وتضاعف أكثر بنكثه القسم المقطوع لوالدي بعدم إخباري أي شئ ظناً منها أني سأسير على خطاه.أكدت لها بأني لن أحذوا حذوه أبداً وسأحيا حياة طبيعية.
عندما تدق الساعة الثانية عشر هذا المساء ستبدأ سنة ميلادية جديدة 1891 وإني لأدعوا الله أن يتمم سنتنا هذه بالخير فقلبي مضطربٌ خائفٌ متشائمٌ يشكو الهوان.مجرد التفكير في إحتمالية فقدان أحدهم يرهقني ويدمرني لا سيما أنه اليوم الذي ستؤخذ فيه عزيزتي الصغيرة لتحقيق إنجاز عظيم..إنجازٌ إن حققته فسيتصدر إسمها الصحف وتُعرف أبد الدهر بإسم"منقذة وايت تشابل"..بئس الأمر لا أريد لها الشهرة وكذا والديها كل ما نرغب به بإستماتة هو سلامتها وهي كلمة طمأننا بها السيد"هوكنز"بعبارته الواثقة "سلامتها مضمونة إعتمدوا علي".
الخطة المرسومة بعناية من قبله لتنفيذ المهمة الحاسمة وكما تلاها عليّ هي أن يصحب عزيزتي معه لمكان يتواجد القاتل فيه دائماً،ومع إنتباذهم مكاناً قصياً سيؤشر عليه ويطلب منها التعرف ماإن كان هو أو لا وعندها سيقبض عليه إستناداً إلى شاهد سيمتنع عن ذكر إسمه.لم أسلم من ترجيات شقيقتي وزوجها ووالدتي طيلة النهار بإنقاذ طفلتهم كأنهم واثقون بإن شيئاً ما سيحصل..كلام شقيقتي "لا أريدها أن تعاني كما عانيت"أعادني إلى سالف الآوان..إلى صراخها الذي لازمني طيلة حياتي ..صراخٌ سببه لها شيطاناً لعيناً يوم مس جسدها وعُذبت على يدي والدي وصديقه لإخراجه منها..ياتُرى هل ستتكرر العملية مع الصغيرة البريئة؟..هراء لن أشغل عقلي بتوافه الأمور وسأكتفي بملازمة عزيزتي الصغيرة وأحميها من كل شر فهي من لونت حياتي وأشرقتها في لحظات حزني وآلامي.
مذعوراً،نزعتُ جسدي من على الكرسي بعد إن كنتُ غافياً على مابدا لي شجار ينبعث من المطبخ! حثثتُ خطاي لأكتشف مايجري لأرى شقيقتي تصب جام غضبها على خادمتها العجوز وخلفها"دورثي"تبكي بصمت.فضضت النزاع وأخذت شقيقتي وأبنتها لنلحق بزوجها ووالدتي لغرفة المعيشة حيث طلبتُ منها توضيحاً عن سبب فعلتها فأجابت بإنها شاهدت الخادمة تسحب"دورثي"معها كُرهاً إلى الخارج وحين أوقفتها وسألتها بررت الخادمة موقفها بإنها أرادت أن تُري الآنسة الصغيرة قطة بيضاء مع صغارها في الحديقة لعلمها إن الآنسة تعشق القطط كثيراً.مريبة هذه الخادمة! في الوقت الذي طلب السيد"هوكنز"من الجميع ملازمة المنزل وعدم مفارقته حتى إلى الحديقة إمتنعت عن المثول لهذا الأمر!.لن أظلمها ربما كانت نواياها حسنة.
تأخر عن موعده كثيراً!،أهمس لنفسي وأنا احدق في الساعة الجدارية التي تشير الى الرابعة عصراً..من المفترض أن تبدء المهمة في الثالثة..مالذي يؤخره كثيراً؟!.عزمتُ على التوجه إلى المركز وحين هممتُ بالخروج لمحته من النافذة يمشي بإستعجال ففتحتُ له الباب وأستقبلت كلماته المريحات"حصلت تطورات في القضية وجدنا شاهدة أخرى "
تحلقت عائلتي حولنا وأستبشروا خيراً بإنهم لن يستعملوا "دورثي"في القبض عليه ثم أردف "حين كنا نراقب منزل المشتبه به هذا الصباح رأينا إمرأة عجوز تخرج منه وكانت حركاتها مريبة كأنها تخشى أن يُقبض عليها فخطرت لي فكرة القبض عليها وإستجوابها"
"وهل فعلت هذا؟"سألت متحمساً ليجيب خائب الظن
"كلا للأسف إختفت في أحد الأزقة ولم نعثر عليها سنضل نراقب منزله أملاً في القبض عليها أشك في إنها مساعدته علي إستجوابها مهما كلف الثمن ربما أخرج بطائل وعندها سأتمكن من القبض عليه وإن دافع أحدهم عنه كما في السابق سأخبرهم عن دليلي..دورثي ومساعدته أو أياً تكن هويتها..لن أجعلهم يقفوا ضدي هذه المرة"حين نطق بإسم الخادمة الذي عرفه من أحد الأشخاص،شهقت شقيقتي لتماثل إسمها مع إسم خادمتها وتمحورت الشكوك حولها.أسرعنا أنا وزوجها وسيد"هوكنز"إلى المطبخ لإستجوابها لنُصدم بإن الباب الخلفي مفتوح على مصراعيه وقدر الحساء مقلوب على الأرض ..لقد كانت هي!!.
أرسل رجاله بحثاً عنها وأستجوب شقيقتي التي صارحتنا بإن الخادمة طلبت منها أن تذهب لشراء ماينقصها من مكونات طبخ وسمحت لها متجاهلة ألاوامر بعدم مفارقة المنزل لأي كان وأقرت بخطأها. إستغلت الخادمة فترة خروجها لإبلاغ المشتبه به عما يحدث وهذا فسر سبب خروجها من منزله حيث رآها السيد "هوكنز" ورجاله.لقد كان يوماً شاقاً إستنفدت فيه قواي العقلية والجسدية..ولم أحظى بنوم هانئ ..كنت قلقاً على "دورثي"..رباه..من أين سقطت علينا هذه المصيبة ..تذكرتُ تحذيرات العجوز ووصيته في إنقاذ الطفلة من كان يدري إن صغيرتي هي المقصودة،ماذا لو كان القاتل رآها وسيأتي لقتلها.. وإلا لماذا أوصاني العجوز بإنقاذها!ماذا لو أخبرت الخادمة سيدها عن خطتنا مؤكد إن الأمور ستتعقد وسيتفاقم الخطر ..نعم..أنا متأكد ودليلي ما حدث هذا الصباح عندما حاولت الخادمة أخذ "دورثي"بعيداً..أفصحت شكوكي للسيد "هوكنز"وأيدها فقد كانت الخادمة تحاول الهرب بصغيرتي..ربما ننحب موتها الآن لو لم تتدارك شقيقتي الوضع آنذاك.
توشحت السماء بالسواد وتحتها هرعتُ يقتلني الفضول لمركز الشرطة حين بلغني خبر عثورهم على الخادمة.تهسترت المرأة العجوز وحاولت قتل نفسها، وبفضل جهود عدد غير قليل من الشرطة تم كبح رغبتها الدموية بتقييدها وأخضعوها للتفاوض بتخفيف الحكم عليها إن إعترفت بعلاقتها بالمشتبه به،وأنصاعت تحت وطأة إغراءاتهم لتفرج عن حقائق مرعبة أكدت شكوك السيد"هوكنز".من بينها محاولتها مساعدة ست نساء بائسات كن قد إنبهرن بما سمعنه منها عن قدرات خارقة لرجل يستطيع تغيير حياتهن نحو الأفضل وذلك بإرتداءهن قلائد تحوي طلاسم تسحر المقابل وتلبي لهن إحتياجاتهن!
طلاسم موت كانت إستعان بها الساحر لقتل ضحاياه والإستفادة منهن بمقايضة مايمتلكنه من نقود وأشياء خاصة تسهل عليه السيطرة عليهن.طلاسم إحتوت بداخلها شياطين تتلبس أجساد النسوة البائسات حين يتلو بضعة كلمات على أشياءهن وتسير بهن نحو حتفهن ..إلى الحقل الجميل كما وصفته"دورثي" حيث أقيمت هناك مراسيم شيطانية قبل الشروع في العملية.أمر الساحر النسوة الممسوسات بنحر أعناقهن وتكفل ببقية الأعمال من تقطيع وتمثيل بالجثث!.
"الساعة الثانية عشر سيتم التضحية بالطفلة"
بنطقها هذه العبارة إختنقت العجوز بمشهد بث فيَّ الروع وأجفلني..لم يتجرأ أحد على الإقتراب منها.إحمر وجهها وكادت عيناها تخرجان من محجريهما..وصوتها خرج مخنوقاً مثيراً للرثاء..ثم سقطت صريعة يرتجف جسدها على الأرض ويداها مرفوعتان تشيران إلى شئ تراه هي فقط ..فقدت يداها توازنهما وسقطا على جانبيها لتشهق شهقتها الأخيرة وتُنتزع روحها من جسدها العجوز المترهل.خنقها شيطان حسب قول السيد"هوكنز"!.إحتفظت بصدمتي لوقت آخر و عدنا سوية نتخبط كالمجانين لمنزل شقيقتي.كانت كلمات العجوز صادقة وتعني إن الأذى واقع لا محالة وخلال الساعات الآتية ستكون "دورثي"بعهدة الساحر القاتل بطريقة ما إذ لم يتبقى سوى ثلاث ساعات على بدء السنة الجديدة ..ساعات كافية لتنفيذ مخططه السري بخطف الصغيرة..رباه هذا ليس ماتمنيته ..أرجوك ألطف بنا ..ألطف بعزيزتي الصغيرة.
سألتُ شقيقتي عن مكان وجود إبنتها فأجابت مشدوهة أنها في غرفتها فصعدنا جميعاً والقلق يقصف بنا لنصدم بالذي أمامنا!.تكرر الماضي!.غرفة إحتوت جدرانها على رموز شيطانية مرسومة بألوان حمراء وسوداء وعلى السرير،الصغيرة منحنية على دفترها مشغولة بالرسم، وحين أحست وجودنا رفعت رأسها وحدجتنا بنظرة وإبتسامة شريرة متوعدة.حاولت والدتها الإقتراب منها لكن السيد"هوكنز"أمرها بالتوقف مشيراً إلى رقبة "دورثي".
ركزتُ نظري على القلادة التي هي عبارة عن قطعة ورق مطوية بشكل مستطيل متدلية من رقبتها..خمنتُ أنها طلسم موت حصلت عليه من الخادمة حين فشلت بخطفها.حولت نظري إلى السيد "هوكنز"متشككاً وكأنه قرأ تساؤلاتي أومأ برأسه مؤكداً وسأل شقيقتي ما إن لاحظت فقدان شئ ما من أغراض الطفلة وقالت إنها لم تلاحظ شئ حتى وقع بصرها على نضد صغير كانت قد وضعت فوقه مشط الصغيرة حين إنتهت من تمشيط شعرها في الصباح والآن قد إختفى ..إذاً هذا يعني إن "دورثي"ممسوسة هذه اللحظة!
نزلت من على السرير وتوجهت نحو النافذة وفتحتها صرختُ عليها بإن تتوقف مكانها لتستدير نحوي وتميل رقبتها إلى اليمين ونطقت! ".."دورثي"بكماء كيف لها أن تتحدث!!.خرج منها صوت مرعب دوى في أرجاء الغرفة قائلاً
"إن أوقفتموني فسأقتلها " وقفزت من النافذة ليغشى علي.تقهقرت قوتي وما عاد عقلي يستوعب حجم الصدمات التي شهدها لتظهر تبعاتها الآن..قصة أبي وأختي المنافيتان للعقل،تحذيرات عجوز مجنون،ست نساء قتلن بطريقة بشعة،إختناق الخادمة بطريقة غامضة،وآخرها"دورثي"الناطقة وقفزها من النافذة!،وأنا أستعيد وعيي شيئاً فشيئاً تمنيت أن يكون هذا مجرد كابوس وإن "دورثي"لجواري ترسمني وأنا نائم.
أوحت لي تلك الهمسات التي داعبت أذناي أني كنت مخطئاً وأنه لم يكن كابوساً البتة بل كان حقيقياً بيد إن الساعة الآن تشير الى الثانية صباحاً والثلاثة الشاحبة وجوههم يتضرعون لأجل"دورثي ولأجلي".
"ماذا جرى أين السيد هوكنز"
إنتقلت متعثراً في سيري نحو الموقد؛فقد نخر البرد عظامي وتمكن مني..دثرتني والدتي بلحاف صوفي وجلست قربي تحتضن يداي وقالت أن السيد "هوكنز"والشرطة لحقوا ب"دورثي"الممسوسة التي هربت لتلاقي حتفها.."ممسوسة" هذه هي الكلمة المناسبة التي تصف هيئتها..فمن رأيتها لم تكن هي وهذا يفرض علي التصديق بكل ماقيل عن عمل والدي وشقيقتي ..فهمت أخيراً لمَ حذرني ولمَ إختارت والدتي كتمان الحقيقة عني ..الحقيقة المرعبة.
بينما كان الناس يحتفلون بالسنة الجديدة ويشعلون فوانيس الأمل والأمنيات كنت وعائلتي نطفئ فوانيس الأمل.في الثانية والنصف طُرق الباب طرقاً قوياً جمدنا في مكاننا نحملق في بعضنا بغباء..أو ربما كنا خائفين من الآتي..إزدادت الضربات وأفاقتنا من جمودنا وأول المتسابقين إلى الباب كان زوج شقيقتي الذي ما إن فتح الباب حتى صاح صوت عرفناه جميعاً "أحضروا الطبيب حالاً"!.دخل يحمل بين يديه صغيرتي العزيزة المخضب فستانها الأبيض بالدماء ومددها على الأرض بينما غادر والدها لإحضار الطبيب.شرعت شقيقتي ووالدتي بالعويل والصراخ بينما أنا تسمرت في وقفتي متخيلاً الساحر وهو يشق رقبتها..فقدتُ صوابي وصرخت بوجه السيد "هوكنز" والدموع طفرت من عينيّ بغتة"لمَ لم تنقذها..لمَ سمحت له أن يقتلها..أجبني؟".رفع جسده الثقيل من على الأرض وكسر صمته القاتل قائلاً"لا تقلقوا ستنجو الجرح ليس عميقاً كما إن الساحر مات ..لقد مر الوضع بسلام".
عاد زوج شقيقتي برفقة الطبيب وسارع لعلاجها فوراً بينما جلستُ وسيد"هوكنز" نقابل بعضنا البعض قرب الموقد أستمع لقصته عن أحداث الليلة المشؤومة.
"كان ساحراً لعيناً مهووساً..حتى يجدد ولائه في السنة الجديدة فعليه تقديم قربان و لحسن حظه وفرت الطفلة المسكينة عليه مشقة البحث عن ضحية..خاصة بعد إن عرف أنها ستشهد ضده ..ذلك الحقير الملعون"
رشف من فنجان القهوة التي أعدتها والدتي له وتابع بصوت منهك..
"حاول الحصول على قربانه بشتى الطرق ولما فشلت مهمة الخادمة عمد إلى حيلته المقرفة مستغلاً ضعف "دورثي" وبراءتها..المعروف أن الأطفال يأخذون مايقدم إليهم بلا تردد وهذا مافعلته حين قدمت لها الخادمة الطلسم وجعلته حول رقبتها،هكذا أحكم سيطرته عليها وكما رأيت سابقاً تلبسها شيطان و مضى بها نحو هلاكها..تعبنا كثيراً ونحن نبحث عنها..أول مكان لجأنا إليه كان منزله..فتشنا في كل ركن وزاوية ثم أرسلت رجالي للحقل الذي إقترف فيه فعلته السابقة ولم يسفر بحثنا عن شئ حتى خطر في عقلي خاطر كنت قد تناسيته آلا وهو المقبرة "
شرب قهوته دفعة واحدة ووضع الفنجان جانباً ونفخ على راحتي كفيه يبعث فيهما دفئاً مرجواً بشدة وحدق في النار المشتعلة يعيد سرد ماتعرض إليه بطريقته الخاصة المملة
"أوشكت الساعة أن تدق الثانية عشر وهناك عثرنا بفوانيسنا على ضريح ضخم يدل على مكانة صاحبه النبيلة وحين توغلنا داخله لفت إنتباهي تابوت أبيض يكسو سطحه خيوط عنكبوت كثيفة وأثار طين..ركزت بصري عليها وميزتها على إنها طبعة أصابع..أول ماتبادر إلى ذهني وجود قبو سري أسفله وهذا مافعلته دفعته بمساعدة شرطيين وأرتسمت الدهشة على وجوهنا..كان هناك قبو بالفعل ..قبو مكنني من سماع ضوضاء غريبة..سحبت مسدسي وأرتقيت السلم السفلي يتبعني نفس الشرطيان والبقية تمركزوا في مواضعهم "
إنهى جملته الاخيرة محدقاً في وجهي يلحظ آثار الدهشة والترقب المكتسحان وجهي فرجوته أن يتابع حديثه..نوعاً ما بدأت أتصور نفسي هناك في قلب الحدث والله وحده يعلم مايمكن أن يحدث لي ربما سأصاب بنوبة قلبية أموت على إثرها فلست بتلك الشجاعة التي يضرب لها المثل
"فاحت من المكان رائحة عفنة مقززة مصدرها أعضاء بشرية متنوعة مبعثرة في المكان..كان للتو قد أنهى رسم دائرة كبيرة حول الطفلة وكانت بدورها تحوم حول نفسها وتضحك..لم أستغرب عملاً كهذا فقد رأيت ما هو أبشع ..بعدها أخذ يسجد ويتضرع أن تُقبل هديته وأن يحظى بسنة جديدة يعمها الخير والمال..اللعنة على المال الذي يجعلنا ننبذ إنسانيتا لأجله..أعطيت الإشارة لصاحبي فأمتثلا بإن وجها سلاحيهما نحوه..قطع تضرعاته وهتف مذعوراً
"كيف..كيف إستطعتم إيجادي "
بالتأكيد لم يصدق هذه الخطوة فقد كان واثقاً من سرية مكانه ولكنه لم يعرف بإني لست محققاً عادياً.
ردد مابداخل الطفلة كلماته التي أسعرت الساحر
"أقتلها الآن ..لا تتردد وإلا تخلى عنك سيدنا..أقتلها لا تتردد"
لم يتردد وهجم على الطفلة بينما من بداخلها مستمر في ضحكه ويحثه على الإسراع.مس صاحبيّ طائف من الخوف وفر أحدهما تاركاً سلاحه خلفه.. الجبان اللعين..أما الآخر فشُلت حركته وأحجم حتى عن النطق وحتم علي إنهاء المهمة وحدي..الجبناء الحمقى"
شعرت بالإحراج كما لو أنه يعنيني بهذا الصفات..كل من يرى تلك الأشياء الغريبة من المستحيل أن لا
يخاف ويصاب بالجنون ..فهي ليست عملاً إنسانياً..
"صوبت على يده ليترك الطفلة حال سبيلها ولم يتزعزع رغم تأوهه وشق رقبتها شقاً صغيراً وكاد يتم عمله لولا سرعتي في التصويب على ساقه..كنت أريده حياً ليعترف مذلولاً مهزوماً بجرائمه الدنيئة..فقدت الطفلة وعيها و سحبتها إلي أنتزع الطلسم منها..لن تصدق ماحدث بعدها..إهتزت الأرض بنا وأنفجرت جميع الفوانيس المنيرة المكان لتشب النار في أرجاءه.جعلت لحظتها أنبه الشرطي ليفيق من صدمته ليخرج الطفلة وبقيت لأخرج الساحر معي..كان مصراً على البقاء..متعلقاً بفكرة إن جيوشه من الشياطين ستنقذه والحقيقة تجافي إيمانه..كان يدعوهم ويتوسل إليهم وفي النهاية أحرقوه حياً..تهاوى جذاذاً ..كأنه لم يكن يوماً خادمهم المطيع..لقد إنقلبت أعماله السيئة عليه في الأخير"
تنهد ووجه كلامه الأخير لي
"لهذا أنذرك والدك وحذرك من هذا العالم المرعب..كل من يُخدع ويتعامل سواءً مع السحرة أو الشياطين سيتعرض للخيانة ولأذى كبير..لا تعتقد إن أعمالاً كتقديم الخير للناس بواسطة السحر تفلح..كلا ..إن ضررها أكبر من نفعها..أتصدق الآن بعد ما رأيت و سمعت ؟"
أحجمتُ عن الأجابة وسألته في المقابل
"إذاً هل كان الساحر جاك السفاح الذي تبحثون عنه منذ سنوات؟"
"لا يمكنني الجزم بهذا ..قد يكون أو لا يكون ..مايهم هو أننا تخلصنا منه..ولا يعني هذا إن القتل سيتوقف ..كلا بل سيتكرر أضعافاً مضاعفة ..والتغيير الوحيد يكمن في شخوص القتلة وأساليبهم وسأقف لهم بالمرصاد"
غشاوة كبيرة جثمت على عقلي وقلبي وأفقدتني بصيرتي عن كل مايجري من حولي..ربما يكون أمراً منافياً للعقل ويصعب تصديقه والإيمان به لكني بت أؤمن بإن كل شئ محال،وأن علي توعية الناس وإنذارهم وتحذيرهم من مغبة التعامل مع هؤلاء من يدعون أنهم يملكون مفاتيح الخير ويبسطون الرزق لمن يشاء بآلاعيبهم الشيطانية.لقد أخطأت عائلتي حين كتمت عني الحقيقة ..ربما كنت سأخسر كل ما أملك وسألجأ إلى أي شخص يدلني عمن ينقذني ..ربما كنت سأودي بنفسي إلى التهلكة وإلى الجحيم ألابدي،ربما سينعتوني بالمجنون..أولئك اللذين لا يصدقون ولا يؤمنون بوجود مثل هؤلاء..أو ربما يؤمنون بإنهم أناس وجدوا لأجل الخير..دعوني أقول لكم إن الجنون الأكبر هو أن تضحوا بكل ممتلكاتكم وأرواحكم لأجل شئ سينقلب عليكم في النهاية..أنتم لا تختلفون عن السحرة بشئ ..بل تساندونهم في الشر..صدقوني لن تستفيدوا شيئاً سوى الخزي والعار ومصيركم في النهاية الجحيم .
تمت بحمد الله..
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro