توقٌ للمعرفة
لا أحد يُخبرك بالحقيقة وأنت طفل،وعندما تكبر ستكتشف اشياءً لم تخطر على بالك أبداً،ستكتشف إن من عشت معهم سنين طويلة بعيدين كل البعد عما تخيلتهم،وكلما حاولت إشباع رغباتك في معرفة حقيقتهم يخبرونك أن لا جدوى من المعرفة وأن ضررها أكبر من نفعها.
وها أنا أجوب الشوارع باحثاً عن أجوبة تخمد نيران الأسئلة التي تتأجج بداخلي وتحرقني قطعة قطعة..باحثاً عمن يروي ظمأي اللامتناهي للحقيقة الراقدة في سبات شتوي مثلج.
أوهموني بالآكاذيب وهم لايعلمون كم أنا صياد ماهر في صيدها..كل التفاصيل الغريبة الصغيرة التي شهدتها خلال سنوات حياتي البائسة لاتزال مخلدة داخل عقلي..تداهم نومي كل ليلة تذكرني بضرورة مط اللثام عن الأسرار الدفينة التي حاولت عائلتي دفنها بعيداً عني زمناً طويلاً ولا أدري كيف أحصل عليها..ربما يعفو الزمن عن الأشياء كما يُقال إلا أنا عفوها عندي مستحيلاً ..أتمنى لو أحصل على إشارة ترشدني لمسعاي ولكن هيهات.
أنا لا أعلم إلى أين أتجه الآن والعودة لمنزلي سيزيدني سوءاً؛فستقابلني والدتي بتحذيراتها المتواصلة والمبالغة والتي أشك في أنها تحمل لغزاً هي الأخرى!.عدت أدراجي مستسلماً إلى أن إستوقفني منظر رجل عجوز محدودب الظهر،أشعث الشعر،حافي القدمين،قذر الوجه والهندام لا يستر بدنه الضامر سوى خرقة قماش بيضاء بالية تصل أسفل ركبتيه وحوله أطفال مستمتعين برجمه في الحجارة وهو غير مبالي بما يصيبه ومستمر بتمتمة كلمات لم تلتقطها أذناي.أثار الموقف إستيائي وشفقتي وفجر فيّ رغبة قوية في توبيخ هؤلاء الأطفال المشاغبين وردهم على أعقابهم وفعلت.
حثثت خطاي صوبهم وسمحت لنفسي بأن تنهال عليهم بالشتائم والتهديدات حتى أنفضوا جميعاً بلا رجعة.إقتربت منه بغية سؤاله عما إذا كان بإمكاني أخذه إلى المشفى ليفاجأني بأن أمسكني من تلابيبي مقرباً وجهه المخيف المتضرج دماءً ونفخ في وجهي قائلاً
"حذر الجميع منه..إنقذ الطفلة س ..سيقتلها..الشر سيستفحل إن لم يوقفوه..حذرهم..إذهب ..الآن"
أخذ يؤرجح يداي وأنا أحدق فيه متحيراً لا ألوي على شئ..لم أدري إن كانت كلماته صحيحة أو مجرد هذيان لعجوز مجنون.إستوعبتُ موقفي بسرعة وأنتفضت قائماً لفظاعة هيئته المسكينة.كان يرتجفُ بقوة ويسعل دماً فعلمتُ أن نهايته قريبة لا مناص منها.
معلقاً مابين فكرة حمله والذهاب به لأقرب مشفى وما بين فكرة إيصال تحذيراته الغامضة إلى الشرطة!.ماذا لو كان كلامه يحمل بعضاً من الصحة؟ما ألاهم الآن مساعدة رجل على شفا شعرة من الموت أم مساعدة طفلة معرضة للخطر؟إتخذت قراري أخيراً بإعلام الشرطة عما يحدث تاركاً إياه ينازع الموت فالطفلة أهم منه بكثير.
وجدتُني أقتحم مركز الشرطة ثائراً أنادي علّ أحد يسمعني.ألقيتُ نظرة عارضة على المكان الذي تفوح منه رائحة الموت لأجد ضالتي.كان الرجال الثلاث في غيبوبة وقتية أو كأنهم جثثٌ محنطة لا تفقه شيئاً مما أحدثته من ضجة ثورية.هرعتُ لأحدهم أتوسل إليه بكلماتي المتهدجات وقد كان مكتوف الأيدي يحدق في الفراغ شاردا
ً
"هناك رجل يحتضر أوصاني بتحذيركم وإنقاذ طفلة من الموت ..أرجوك فلتنظر في المسألة ..فلتأتي معي لتسأل الرجل بنفسك "
عجباً لفقدان الإنسان إنسانيته!أخبره بموت وشيك لإنسان من بني جلدته ويبادرني بنظراتٍ مجردة من الحياة لا تهتز فيه حاسة تجاملني فيما أنا فيه بل تبسم أخيراً بلا إكتراث وقال
"دعه يمت بسلام ..مالنا وماله ..نحن لا نتدخل في القدر"
ماهذا الهراء!جذبته من تلابيبه واصلاً لأقصى حالات هيجاني وصرختُ فيه مجدداً ليختض جسده و تبرق عيناه محدثة في نفسي أملاً في إستجابته لي إلا إنه دفعني بقوة وزئر قائلاً
"إذهب من هنا وإلا أوقفتك بتهمة التعدي على شرطي..الناس تموت كل يوم ..ليست مشكلتنا فلسنا نحن من يتسبب بموتهم "
"ماكل هذه الفوضى ..لمَ تصرخ في مكان محترم ؟"
سمعتُ خلفي صوتاً أجشاً مهيباً مألوفاً لدي أمد الجثث المحنطة بالحياة وأقتلعها من مكانها مستقبلة الرجل بكل حفاوة وإمتنان وذعر.إستدرتُ ناحيته وتعرفتُ على هويته المألوفة لقد كان الرجل من أكبر المفتشين السريين الذين ذاع صيتهم في البلاد لخبرته وذكاءه وإنسانيته العظيمة.لازلتُ أذكر صديق والدي جيداً مع مرور سنين طويلة..بعد وفاة والدي إنقطعت صلته الوثيقة بنا فجأة ..صدمة سببت لي إنهياراً نفسياً مميتاً فقد كنت شديد التعلق بهذين الإثنين..لقد كانا يلاعباني ويحيطاني برعاية أبوية ليس لها مثيل..كانا كالأخوين لبعضيهما وكالأبوين لي..صعبٌ جداً أن تفقد أعز أشخاصك في يوم واحد ..شعورٌ لا أتمناه لأحد..رؤيته أرجعتني للوراء والإشتياق تفجر عندي لكن لا رجعة لها..بقدر ما أحب هذا الرجل أكرهه فهل محاولتي معه في سماع تبريراته ستجدي نفعاً؟أظنه كالآخرين من حولي يكتمون الحقيقة دائماً عني لسبب أجهله ..أو ربما أنا من يتخيل أن هناك سبباً يقبع خلف كل حركة تصدر عنهم..أو خلف كل كلمة تخرج من أفواههم..ماعدت أعرف ماينبغي فعله ..توقي للمعرفة حتى وإن كانت تافهة تثقل صدري وتنهكه وتزداد يوماً بعد يوم.
تقدم نحوي وعيناه تفحصانني كلياً كأنه يحاول التعرف عليّ ..لم أعلن عن نفسي حتى سأل متشككاً
"فريدل!!"
"نعم سيد هوكنز ..إنه أنا فريدل "
تجنب المقدمات ونظر إلى الشرطي موبخاً يطلب تفسيراً على صراخه في وجهي فقال الشرطي متوتراً
"تردنا بلاغات كاذبة
كل يوم سيدي وعمدنا إلى غض بصرنا عنها "
"سأشكوكم إلى مسؤول المركز وأعلمه بتقاعسكم عن العمل ..أن مهنتكم تقتضي بحراسة الناس والقبض على اللصوص والمجرمين وليس التدخين وقراءة الجرائد كما تفعلون "
ثم وجه كلامه إلي يريد توضيحاً لكل شئ حصل وطلب مني إرشاد رجاله الأربعة من كانوا معه حين أتى إلى مكان العجوز والذي لابد من أنه فارق الحياة الآن.كان ميتاً كما توقعت أما سبب موته فقد أثار دهشتي إذ أني لم أتوقع موته بطعنة سكين في قلبه!..أيعقل بأني لم ألحظها! أخذوا جثته للمركز بإعتبارها جريمة قتل وعدت معهم هناك حيث أدليتُ بكل تفاصيل الحادثة لسيد هوكنز والذي أبدى تعابير حيرتني خاصة حينما أخبرته بقول العجوز
"الشر سيستفحل إن لم يوقفوه".سكت مطولاً حتى قال ما عهدته من الكل
"أترك الأمر وشأنه ولا تفكر به سنتكفل به نحن وأرجع لحياتك الطبيعية"
حياة طبيعية!منذ لحظة وفاة والدي وحياتي إنقلبت لسلسلة من تغييرات غير طبيعية..هجرك لنا وتصرفات أمي غير المستوعبة حين أحرقت كل كتب والدي التي إكتشفتها عنوة عندما دخلتُ مكتبته الخاصة التي لم يُسمح لي بدخولها أبداً إلى جانب إجتماع عائلة والدي بعد خمسة أيام من وفاته في منزلنا وكنت محور حديثٍ لم ألقف منه كلمة واحدة ..هذا بالإضافة إلى تحذيرات والدي الغامضة لحظة موته.ذكريات تدفقت كالسيل وأغرقتني معها فهل من أحد ينتشلني منها قبل غرق وشيك؟
تحركت شفتاي لتسأله عن سبب هجره لنا في محاولة مني لإستدراجه بالكلام لكنه كما لو قرأ عقلي بادرني بسؤالي عن أحوال عائلتي وسبب إنتقالنا لمنطقة"وايت تشابل"فأجبته متبرماً
"إنتقلنا تلبية لرغبة والدتي في أن تظل قريبة لأختي كان هذا قبل خمس سنوات من زواجها "
"إن وايت تشابل أرض ملعونة..إنها تنبع دماً يستحسن بكم مغادرتها بلا عودة "
"هل تشير إلى موجة القتل التي تكتسحها بين الفينة والأخرى ؟"
رغم معرفتي بما يجري من سفك للدماء إلا إنني لم ألقي لها بالاً لإنني في معزل عن الخطر في جهة آمنة من المنطقة
"لا تحسب أنك في مأمن ..العدوى بدأت تنتشر لتحط على الأجسام الآمنة ..أفهمت قصدي سيد فريدل؟"
"أفهمك جيداً إلا إنني لا أنوي المغادرة فقد أنشأت معملي الصغير لصناعة الحرير هنا ولدي طموح بتوسعته "
"أحسنت صنعاً لكن من واجبي تحذيرك والآن فلتعد سالماً لمنزلك أشكرك على مابذلته من جهد "
"ماذا بشأن الطفلة؟أنت تأخذ كلام الرجل بجدية صحيح؟"
"لا تقلق كثيراً سنعثر عليها..سأرافقك للخارج الآن"
خرجنا من مكتبه وقد ضاع أملي في معرفة أسبابه الماضية فهو كما بدا لي وكما أعرفه شديد التحفظ لذا لا فرصة لي لإستجدائه.أوراقٌ تطايرت في الجو وسكنت على الأرض إثر إصطدام شرطي مسرع بي..إصطدام مقدرٌ حدوثه ليعطيني الإجابة عن كل تساؤلاتي..أشارة إنتطرت حدوثها بشغف. إنحنيت لألتقط الأوراق التي ماكانت سوى صور شنيعة لفتيات مقتولات بطريقة مأساوية ومن بين الصور شدت إنتباهي رسوم غريبة شكلت جسراً لإيصالي إلى الماضي..تلك الرسوم أو العلامات أو أياً كان إسمها بالضبط كما رأيتها في كتب والدي التي أحرقتها والدتي..ياترى هل كانت السبب في إقبالها على حرقها؟ليس الكتب وحدها من أرتنيها بل رأيتها على جدران غرفة شقيقتي أيضاً يوم كنت في السابعة ..أذكر بإن والدي حبسني في غرفتي يوماً كاملاً مانعاً إياي من الخروج وكل ماكنت أسمعه صراخٌ يبث الرعب في القلوب ..صراخٌ يجبرك على البكاء خوفاً وإشفاقاً.بدأت الأمور تتضح عندي بعض الشئ ..هناك ربط بين هذه العلامات وماضي والدي والإجابة تكمن عند السيد "هوكنز "الذي إنتفض حال رؤيته لي وأنا أتفقد الصور..جذبهم مني بعنف وهدر
"أتمنى أن تكون هذه زيارتك الأخيرة ..وداعاً "
كلا إنه ليس الوداع بل لقاءٌ سيجمعني بك غداً وشئت أم أبيت فسأسحب منك الكلام بالقوة ..فقد طفح كيلي.
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro