صندوق الخفايا
بقلم نهال عبد الواحد
يا مهجة قلبي قد أدمى
في بعادك كاد يفنى
ولهيب الشوق تلظّى
من دمعي جَفني تقرّح
ليته بكثرة الدمع يُشفى
بل يزيد الجُرح ويُكوى
خطفكِ الموتَ وجرى
ليتني معكِ تحت الثرى
مثلما كنا معًا طوال عمرٍ مضى
هكذا كتبت منى ثم طوت الورقة ووضعتها في صندوقها الخاص، ثم ألقت نظرة على محتوى الصندوق من أوراق مطوية مع بعض الصور الفوتوغرافية التي جمعتها بصديقة دربها مهجة.
فهي ومهجة صديقتان من المرحلة الإبتدائية، كانتا معًا في نفس الصف وتجلسان دائمًا على نفس المقعد، كانتا تتسابقان في الكتابة وتتنافسان في الدراسة، تذهبان وتعودان معًا من وإلى المدرسة.
وقد سعدتا كلًا منهما عندما تقابلتا في نفس المدرسة الإعدادية ثم الثانوية وأيضًا في مجموعات الدروس الخصوصية.
صارت وقتها العلاقة أكثر تطورًا وارتباطًا خاصةً عقب التعارف بين أهليهما، لكن لم يسعدهما الحظ أن تكونا معًا في نفس الكلية، فمهجة التحقت بكلية الآداب ومنى التحقت بكلية التجارة، لكنهما كانتا في نفس المجمع النظري فكثيرًا ما تتقابلان.
كم جمعتهما الأيام والمواقف الرائعة!
وهاهي كل صورة تحكي عن ذكريات سعيدة بأفصح من أي لغة.
لكن دون مقدمات قد جاء الموت وخطفها! الموت الذي لا يعرف وقتًا ولا عمرًا، لا يعرف صغيرًا أو كبيرًا ولا حتى عروس على أعتاب عُرسها.
أجل! قد كانت عروس وقبل زفافها ببضع أيامٍ قليلة أُصيبت بحمى فجائية تُوفيت على أثرها في الحال!
أغلقت منى صندوقها الخاص وأخفته داخل خزانتها ثم جلست على حافة فراشها تائهةً تنظر إلى اللاشيء، تتمنى حتى أن تبكي لتهدأ نار قلبها لكن الدمع قد جفّ واكتفى.
لم يكن الدمع وحده من جفاها بل النوم أيضًا، حتى الطعام بالكاد ومجرد بضع لقيمات حتى أمها قد سأمت ويئست منها ومن حالها.
حاولت أن تستلقي في فراشها ربما يصالحها النوم اليوم ويبيت معها، لكن سمعت صوت طرقاتٍ خفيفة، فأذنت بالدخول.
فأتاها صوتٌ تشتاق له منذ أسابيع!
إنه أباها قد عاد أخيرًا من سفره!
فهبّت من فورها وأسرعت تفتح بنفسها الباب تستقبله، وما أن فتحت الباب حتى ارتمت داخل أحضانه الدافئة في سلامٍ أبوي شديد.
ثم جلسا متجاورَين، فقال الأب بنبرةٍ حنونة: اشتقت إليكِ ابنتي الحبيبة.
– و أنا أيضًا يا أبي.
– مالي أراكِ شاحبة وهزيلة؟!
– إنه فراق مهجة قد أتعبني ونال مِنّي.
– لا يا ابنتي لا تكوني هكذا، احذري الحزن...
فلم يأت الحزن في القرآن إلا منهيًا عنه كقوله تعالى: ﴿ولا تهنو ولاتحزنوا﴾
أو منفيًا كقوله: ﴿فلاخوف عليهم ولا هم يحزنون﴾
وسر ذلك أن الحزن لا مصلحة فيه للقلب، وأحب شىء إلى الشيطان أن يحزن العبد المؤمن ليقطعه عن سيره ويوقفه عن سلوكه.
وقد استعاذ منه النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن».
لذا يقول ابن القيم: الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم ويضر الإرادة، ولا شئ أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن.
لذلك افرحي واستبشري وتفاءلي وأحسني الظن بالله، وثقي بما عند الله وتوكلي عليه وستجدي السعادة والرضا في كل حال.
– أعوذ بالله من الشيطان الرجيم! وأستغفرك ربي وأتوب إليك! لكن يا أبي قلبي لا زال يؤلمني بشدة! لا زال ينزف! حتى أني والله بدأت أشعر بالألم يغمر سائر جسدي.
فربّت عليها وقال: بالطبع يا ابنتي! فالقلب هو مَلك الأعضاء فإن طاب الملك طابت رعاياه وإن صلح الملك صلحت رعاياه، فإن صحَّ صحَّ الجسد كله وإن مرض مرض الجسد كله.
– تقصد أن ألم جسدي بسبب ألم قلبي!
– أجل! فالهمّ والحزن يُمرض بحقٍ يا ابنتي.
و ليس كل مرض القلوب بسبب الحزن فحسب بل هناك نوعٌ آخر من المرض.
– مرضٌ آخر! أيّ مرضٍ هذا؟
– ليست كل أمراض القلب يا ابنتي أمراضًا حسية، بل هناك أمراضٌ معنوية.
– كيف يا أبتي؟
– مثل الحسد والحقد والغل والنفاق والرياء والعُجب والكبر والكراهية.
– أعرف فقط الكراهية أي لا أحب من حولي، أليس كذلك؟
– حقيقةً كلهم متشابهين وأسوأ من بعضهم، فالحسد أن تتمني زوال النعمة من عند غيرك سواء جاءتك أم لا، و الحقد والغل بكره الخير والنجاح للآخرين، أما النفاق أن تظهري ماليس داخلك فيظهر كل خير ويكتم كل سوء، أما عن الرياء فيشبه النفاق وهو أن تفعلي للخير ليُقال عنك أنك خيّرة وليس لوجه الله، والعُجب أن تعجبي بنفسك لصفة فيكِ أو عمل فعلتيه؛ فأما الصفة فلستِ من أودعتيها في نفسك وكل عملٍ تفعليه ما هو إلا بسبب توفيق الله لكِ، والكِبر أي التكبّر والتعالي على خلق الله وهذا لا ينبغي إلا لله؛ فكيف لمن خُلق من تراب وآخره إلى التراب أن يتكبر؟!
– الحمد لله يا أبي أنا لا أفعل مثل هذه الأمور أبدًا!
_ إذن إحمدي ربِك دائمًا؛ فذلك في حد ذاته فضلًا ونعمة من الله قد وُفقتِ لها.
– الحمد لله! تعلم يا أبي أني بدأت أشعر بتحسن!
– الحمد لله، إحمدي الله دائمًا وأبدًا واذكريه كثيرًا سينتهي همك وغمك وإياكِ أن تجعلي الحزن يمتلك صندوق الخفايا هذا.
فتعجبت من قولة أبيها ثم تسآلت: أي صندوق خفايا هذا الذي تعنيه؟
فابتسم الأب ثم أشار ناحية القلب: هذا هو صندوق الخفايا؛ يخفي داخله الكثير ولا يمكن لأحد أن يعلم ما داخل صندوقه غير صاحبه، فلنحسن نياتنا فبحسن النيات نتخلص من أمراض القلوب، فإخلاص النيات لرب الأرض والسموات تُنقّي القلب من كل الآفات.
واحرصي بُنيتي أن يكون صندوقك دائمًا نظيفًا بالاستعانة بالله والتواضع وحب الخير للآخرين.
فتنهدت بحزن وتسآلت: وماذا عن مهجة؟
فابتسم الأب ثم أجابها: مهجة ستظل في قلبك، تسكن صندوقك دائمًا وأبدًا، تذكّريها بالخير وأكثري من الدعاء لها؛ فهذا كل ما ستحتاجه.
وتذكري ألا ترهقي صندوقك بحزنك الدائم هذا.
– إذن فليرزقني ربي بالصبر!
– أحسنتِ! لقد ذكّرتيني بوصية سفيان الثوري للحفاظ على القلوب:
« عليك بعروق الإخلاص وورق الصبر وعصير التواضع، ضع ذلك في إناء التقوى وصب عليه ماء الخشية وأوقد عليه بنار الحزن وصفّه بمصفاة المراقبة وتناوله بكف الصدق واشربه بكأس الإستغفار وتمضمض بالورع والبعد عن الطمع.»
– أشكرك أبي، كنت بحاجة لمثل هذا الكلام؛ كلامك يغسل روحي.
ثم ابتسمت وقالت: ويغسل صندوقي الخفيّ.
فضحك الأب وابنته ثم قبّلها بين عينيها وانصرف، فاتجهت إلى خزانتها، فتحتها وأخرجت صندوق ذكرياتها، عبثت فيه من جديد فأخرجت صورة لها مع مهجتها، كانتا تضحكان بصدق ثم همّت بوضعها داخل الصندوق فقرأت رسالة مكتوبة خلف الصورة:
رسالة إلى صديقتي
أيا صديقتي !
بل أختي وحبيبتي
لِمَ أري الدمع يتلألأ بين جفنيكِ؟!
لِمَ أي الهمَّ يقفز من ناظريك؟!
لِمَ أراكِ تحملين الدنيا فوق كتفيكِ؟!
خذلوكِ! جرحوكِ! أم تركوكِ وأهملوكِ؟!
أيا إقحوانتي الجميلة!
ألم تعلمي أن الحياة ناقصة؟!
ولن نحياها أبدًا كاملة
صدماتٍ شديدة طاحنة
لا تخرجي من إحداها
حتى تتعثري مرة ثانية
لا تصدقي وتنكرين مرة بعد مرة
أو تلومين وتنعزلين عُزلةً مُرّة
تتخبطين وتشكين
تفقدين اتزانك بل كل شيء
ومرة بعد مرة
لكن، ألم يأن لكِ أن تصعدين؟
أجل! تصعدين من إحباطك
ألم يأن لكِ أن تنتصرين؟
أجل! تنتصرين على يأسك
هيا اصبري وانهضي من جديد
و إن كانت حياتنا ناقصة
فلنكمّلها بالرضا ونعم الحل الأكيد
فتنهدت منى قائلة بابتسامة حزينة: حسنًا يا مهجتي، سأصبر وأنهض من جديد وستبقي أنتِ داخل قلبي، داخل صندوق خفاياي.
تمت 🌷✨
ديسمبر 2019
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro