Chào các bạn! Vì nhiều lý do từ nay Truyen2U chính thức đổi tên là Truyen247.Pro. Mong các bạn tiếp tục ủng hộ truy cập tên miền mới này nhé! Mãi yêu... ♥

4| ليلةٌ في ديسبمر +14

«لقد كان جوّكَ المُعذّبُ يا ديسمبر أكثر برودة، أكبر من قدرتي على التحمّل.»

شعور الفقدان، وحدةٌ تقتلُك وتَمحي الحياة فيكَ، ألمٌ يستوطن داخلك مُزحزحًا راحتكَ وسعادتكَ بعيدًا، ندمٌ يعتريك لعدم استغلال ذلك الوقت الذي كان بإمكانك قضائه مع من تحب قبل رحيله، ظلامٌ مُوحِشٌ يُحاوطكَ فيتوارىٰ ذاك النّور الذي لم يُبارحكَ يومًا فيهِ، نومٌ يُجافيكَ وأرقٌ يستكينُ بين جفونك فيستنزفُ من طاقتك طوال الوقتِ بلا أي أسف، موتُ الواقِعِ داخلكَ وتحوّل الألوان في عينيكَ للونٍ موحّد، الرّماديّ.

جميعُنا مررنا بذلك الشعور القاتِل، مررنا بتجربةِ خسارةِ أحدهم.
تختلفُ ظروفنا وقِصصنا لكنّ مشاعِرنا مُوحّدة، الألم واحدٌ والتجربةُ هي ذاتها...

لكن.. هل بفقداننا لشخصٍ ما مهما كانت درجة قرابته منّا ورحيلِهِ فجأةً عن حياتنا ستكون نهايتنا؟ القصص لا تنتهي بموتِ أحدهم، وقصتك لن تنتهِي إلا بانسحابِ أنفاسِك واحتلال سقيعُ الموتِ أطرافك وزوايا جسدك، ذبول جفونكَ وشحوب ملامحك يُثبتُ ذلك.

نظرت للسّاعةِ المُعلّقةِ على الحائِطِ وهي حقًا مُنزعجةٌ من صوتها الذي يدوي أرجاء الغُرفةِ المُعتمة دون وجود من يحجبه، لتجدها أصبحت مُنتصف الليل، لقد مرّ الوقتُ سريعًا، يجبُ عليها النّومُ مُبكرًا اليوم، لكنّ لا تستطيع في هذه الليلة بالذات؛ لقد جافى النومُ جفونها وهربَ بعيدًا تاركًا إيّاها في حقبةِ الذّكرياتِ تُعاني، تلك الدوّامة التي تستنزفُها داخليًا وخارجيًا.

أخذت شهيقًا تزفُره بقوةٍ علّها بذلك تُهدّئ روحها المُرتاعة، لا زالت لم تستِطع التخلّص من ذِكرى ذلك اليوم الملعون، ضعفٌ يحتلّ جسدها النحيلِ، غُصةٌ حارقة تخنقها وتُدميها، وكأنها تشهدُ أحداث تلك الليلة تُعاد من جديد.

عادت لتتنهّد مرّة أخرى، ثم توجّهت للفراش ترتمي بثُقلِ جسدها عليه، محاولةً إغلاق جفونها لتنام، لكن تلك المحاولات فشلت.. وها هي لا زالت مُستيقظة، ذاكَ الدّيسمبر لا يُريد تركها وشأنها، يُريد الانتقام منّها لذنبٍ ليس بذنبها، أو رُبما كان!

«يجبُ أن أنام، يجبُ أن أنام، يجبُ أن أنام.»
تمتمت بصوتٍ خافت تُذَكِّرُ نفسها بهذا، إن لم تستطع النّوم لن تذهب لها غدًا، في ذِكرى وفاتها..

«لِيلِي، أتُمانعين إن جلستُ هنا؟»

«رينا؟!» نهضت جالسةً على الفِراش حين سمعت صوتٌ تتلهّفُ اشتياقًا لسماعه يترددُ بأذنيها فتستيقظُ باحثةً عن صاحب الصوت، لكن لم يكُن هناك أحد.

«اصمُت، اصمُت، اصمُت رجاءً!» ردّدَت بانفعالٍ خافت وهي تضرب رأسها بكفّيها بقوةٍ وكأنّه السّبب، لكن تلك الأصوات لم تكُفّ ولم تصمُت أبدًا.

«لِيلِي، أتمنى أن نُصبح مُقرّبَتين، صديقتين جيّدتين.»

«رجاءً اتركني وشأني واصمُت!» علا صوتها رُغمًا عنّها، لقد أصبحت تشعُر بالضيقِ الشّديد وكأن هُناك من يمنعها من التنفّس، لا تشعُر أنّها بخيرٍ في هذه اللحظةِ أبدًا، أبدًا.

«عليكِ الشّعور بالذنبِ لآخر حياتك، إثمها لن يرحل عنكِ مهما فعلتِ، دمائها ستظلّ مُعلقةٌ بكفوفكِ لقيامِ السّاعة، خطاياكِ الماضية لا تُقارن بخطيئةِ قتلها أبدًا عزيزتي.»

كلا، لم أقتلها، أنا لم أفعل ذلك، كيف أفعل وقد كانت صديقة مُقرّبة مني؟!

صرخت بقوةٍ أكبر وقد تكدّست الدموع في حدقتيها مُتخذةً طريقها لوجهها مُتسللة، نبضاتُ ذلك القلب الغبيّ بداخلها بدأت تُسرع.. ولكن بقوةٍ آلمتها، متى سينتهي ذلك العذاب الذي تعيش فيه منذ رحلت؟

لماذا تلومها تلك الأصوات على موت رينا بالرغمِ من أنها لم تكُن الجانية؟
لماذا هي تقسو على ذاتها وتُلقي عليها اللوم رُغم يقينها بأنها لم تكُن السبب في ذلك؟!

طوال الخمس سنوات الماضية كانت تشعر بالذنبِ لعدم انتباهها لحالة صديقتها، لم تكن تعرف أنها مريضة، لكن.. ذلك ليس عذرًا، كان عذرها أقبح من كون الذنب ذنبها.

كيف طاوعكِ قلبكِ لتتركيني في هذا العذاب وترحلين وأنتِ لا تأبهين لحالي؟ ماذا فعلتُ لكِ؟

صرخت ثانيةً، كانت نبرة صوتها مليئةٌ بالكثيرِ من العتاب، يُخالطه الكثير والكثير من الألم.. والندم.

لقد كُنّا صديقتينِ مُقربتين.. كيف لم أعرف ذلك؟ كيف لم.. ألحظ؟!

همسَت بأسًى لنفسها وهي تستذكرُ أحداث مرّت عليها خمس سنواتٍ مضَت، لقد رأت رينا تقف على ذلك السّور مُجددًا وهي تحاول الموت.. ورأت نفسها وهي تقفُ مشدوهةً ولم تُهرول أبدًا لمنعها.

في الخامسِ من كانون الأول عام ألفينِ وأربعة عشر.

«مرحبًا سيّدة عُلا.» أردفت لِيلِي بابتسامةٍ لتُحيّيها السّيدة بابتسامة هي الأخرى، فتتساءل الأخيرة ببعضِ القلق الذي ظهر جليًا على وجهها:
« هل رينا موجودة؟ لم تأتي للمدرسةِ هذا اليوم، كما أنني حاولتُ مُهاتفتها لكن هاتفها غير مُتاح.»

تنهّدت السيّدة بحُزنٍ كسى ملامحها مما أقلق لِيلِي أكثر على صديقتها، مُردفةً بنبرة مُرهقة قليلًا:
«نعم هي بغرفتها، لكن لا أعرف ما بها حقًا.. بدت شاحبةً جدًا هذا الصباح، تناولت الفطور ومن بعدها لم نرها طوال اليوم، ترفضُ الخروج من غرفتها مهما حاولنا التحدّث معها، وحتى ترفض الحديث مع أي أحد.»

تنهّدت لِيلِي هي الأخرى بقلقٍ ازداد وخوفٌ تلبّش بها، لتُردّد بأدب:
«أيمكنكِ أن تسمحي لي بالذهاب لها؟ سأحاول معرفة ما بها.»

أومأت السيدة وهي تشكُر لِيلِي ثُم أغلقت باب الشّقةِ بعدما دخلت الأخيرة متوجهّةً نحو صديقتها، كانت قلقةً جدًا عليها طوال اليوم وقد عزمت المجئ لها بعد الدوام رُغم بُعد المكان الذي تقطُنُ فيهِ عن بيتها، ستُضطر لتحمّل عقاب والدتها لها كونها ستتأخر عن وقتِ عودتها لكن لا بأس، لا تستطيع البقاء لغدٍ حتى تطمئنّ على صديقتها.

رُغم كون صداقتهما ليست منذ وقتٍ طويلٍ لكنّها أصبحت صداقة عميقة وقويّة جدًا، وأيضًا رغم وجود الكثير من الأسرار والأشياء التي لا تعرفها عن رينا، لكن ربما مع مرورِ الوقتِ ستعرفها أكثر فأكثر.

حين وصلَت لغُرفتها طرقت الباب عدّة مراتٍ بخفةٍ مُنتظرةً إجابتها.. لكن لا أحد يُجيب، نادت بصوتٍ خافت مُردّدةً اسمها علّها تُجيب، لكن أيضًا لم يحدُث، بدأت تقلقُ أكثر ممّا دفعها لفتحِ بابِ الغُرفة مُتجاهلةً تمامًا احترام خصوصيّة صديقتها.

لكن الباب فُتِحَ بالفعلِ حين وضعت يدها على مقبضِ الباب، فتظهر رينا بحالتها المُزرية، ثيابها غير مُرتّبة، شعرها مُبعثرٌ ووجها شاحبٌ جدًا فأصبح شبيهًا لوجوه الأموات، أما عن عينيها فقد ازدادتا ذبولًا على غيرِ العادةِ، فبات السوادُ يُحيط بهما وقد اختفت لمعتهما تمامًا.

ألقت نظرة باردة على لِيلِي دون أن تتحدّث، بَدت باردة الملامح وكأنها لا تُبالي إن كانت صديقتها هنا أم لا، رؤيتها لها لم يُغيّر من حالها كما كانت تعتقد لِيلِي..
لتُردف الأخيرةُ بقلقٍ وهي تفترسُ ملامحها:
«رينا، ماذا بكِ؟ لِمَ أنتِ هكذا؟»

«ارحلي الآن لِيلِي، سنتحدث صباحًا في المدرسة.» ردّت بصوتٍ فاتِر، فاقد للحياة، ولا تزال ملامحها كما هي، جامدة.. شعرت لِيلِي بقليلٍ من الحُزن لأسلوب صديقتها الباردِ معها، لكن.. يبدو بأنها ليست على طبيعتها الآن، هي حقًا مُستاءة جدًا، لسببٍ ما، ويبدو ذلك السبب قويًا.

«لا أستطيع ترككِ وأنتِ في هذه الحالة، أنتِ لستِ بخير.» ردّدَت بانفعالٍ خافت ناظرةً بعينيها مُباشرةً، ليلتوي ثغر رينا مُفرجًا عن ابتسامة بدَت مُكلّفة، قائلةً بذات النبرة الباردة:
«عزيزتي صدّقيني أنا بخير، اذهبي أنتِ الآن ولنتحدث غدًا، لقد تأخرتِ كثيرًا وعليكِ العودة للمنزل، السّيدة حسناء ستقوم بتوبيخك.»

«لكن أنتِ لستِ..» لتُقاطعها رينا قائلةً بمرحٍ مُزيّف:
«إن بقيتِ هنا لأكثر من ذلك لن أراكِ لمدّة أسبوع، أو ربما شهر، هل أنتِ مُتأكدة أنه يُمكنكِ تحمّل عقاب والدتك وتُحبسين في المنزل لكل هذا الوقت؟
لا تقلقي عليّ، سأكون بخيرٍ غدًا وسنتحدث، فقط الآن اذهبي.»

نظرت لِيلِي بتردّدٍ ولا زال القلق مرسومًا على وجهها، لتنظُر لها الأخيرة تُومئ لها أن تذهب وأنه لا داعي للقلق، تنهّدت باستسلامٍ وهي تُردّد:
«حسنًا سأذهب، لكن عليكِ أن تكوني بخيرٍ حتى نلتقي غدًا.»

فتومئ رينا مجددًا بذات الابتسامة المُكلّفة، مُلوّحةً لها حتى اختفت عن الأنظارِ تمامًا حين التفّت وذهبت نحو باب المنزل.

كانت تتمنى لو أخبرتها أنها ليست بخير، أنها يئِسَت من ذلك المرض الذي يأبى تركها، كانت تتمنّى لو استطاعت فقط أن تُخرجَ ما في ثُقلٍ بقلبها لصديقتها المُقرّبة، أن تخبرها بأن كل لحظةٍ تعيشها هي في الواقع تتنفّس الموت، في كل دقيقة تمُرّ عليها هي تواجِهُ الموتَ وتُصارِعُه.

لقد صُدِمَت بشدةٍ حين ذهبت مساء أمس للطبيبِ وحدها تستفسرُ عن حالها، ليُخبرها الطبيب بأن حالتها الصحية تدهورت بشدة، وأنها عليها أن تجري جراحة.. لكن نسبة فشلها أكثر بكثيرٍ من نسبةِ نجاحها، ماذا تفعل؟ هل يجب عليها العيش هكذا مع هذا المرض اللعين؟ أليست تبدو مُطيعة تمامًا وهي تنتظر الموت ليأتي ويأخذها؟!

هي لم تُخبر بعد لِيلِي بمرضها وتعب قلبها، ليس لأن صداقتهما ليست قويّة، بل لأنها لم تملك الشجاعة لإخبارها بالأمر، أو ربما لأنها أرادت الاحتفاظ بهذا فقط لنفسها وعدم إخبار أحد به غير عائلتها.

لكنها رغم ذلك كله لم تُرِد إثقال كاهل صديقتها، يكفيها ما هي فيه وما تعيشه، يكفيها والدها السّكير ومرض شقيقها الأصغر، هل ستأتي هي الأخرى وتُحمّلها أثقالًا زائدة؟

منذ أمسٍ حين عرفت بالخبر لم تخبر والديها، هم بالفعلِ يعيشون في شقة بالإيجار، وبالكاد يملكون النقود، كيف سيُوفّرون تكاليف إجراء الجراحة؟
كان عليها فقط أن تختار تحمّل أثقالها بنفسها، فمن هُم حولها يكتفون، لكن.. لم تعُد تستطيع التحمّل بعد الآن، الأمر أصبح مُرهقًا جدًا، هي بالفعلِ تقتل نفسها كل يوم بحالها هذا.

دخلت الغرفة وأغلقت الباب وقد نَسِيَت هذه المرّة إحكام غلقه، مُتوجهةً نحو مكتبها تُمسك بكُتيّبٍ صغيرٍ بدى وكأنه ألبومٌ للصور، صورها مع لِيلِي، هي في هذه اللحظة تحتاج لاسترجاع ذكرياتِ الماضي القريبِ مع صديقتها المُميّزة لِيلِي.

«ماذا حدث لِيلِي؟» تساءَلت والدةُ رينا وقد ارتسمت اللهفة داخل عينيها، لتبتسم لِيلِي قائلةً:
«لا تقلقي سيدة عُلا، لقد وعدتني رينا بالذهابِ غدًا للمدرسةِ، وسنتحدث عن هذا، أعتقد بأننا حقًا يجبُ أن نتركها وحدها قليلًا.»

أومأت الأخيرة زافرةً أنفاسها براحة، لكن قبل أن تهمّ لِيلِي بالرحيلِ مودّعةً الجميع تذكّرت شيئًا، لقد قامت بصنعِ دمية لـ رينا كالتي معها تمامًا، فلطالما ذكرت رينا أنها لا تستطيع النوم ليلًا وأنها دومًا ما ترى كوابيسًا تُزعج نومها، لذلك صنعت لها دمية مثل دميتها الخاصة، حتى تُعانقها كل يومٍ وهي نائمة.. لطالما فعلت هي ذلك، ولم تُراودها الكوابيس أبدًا.

ابتسمت وهي تضع يدها على حقيبتها مُخبرةً والدة رينا بأنها ستعود لها حتى تُعطيها شيئًا، فأومأت السيدة عُلا بابتسامة، لتتوجّه هي نحو غرفة صديقتها مُجددًا.

«رينا، أين أنتِ؟» تساءَلت بهدوءٍ حين دخلت الغرفة باحثةً عنها لكن لم تجدها فيها، نظرت نحو باب الشّرفةِ لتجدهُ مفتوحًا، هل هي بالخارج في هذه الساعة؟ الجو باردٌ وملابسها كانت خفيفة، ستمرض إن بقيت بالخارجِ لوقتٍ أطول.

دفعت الباب بخفةٍ مُتعجبةً بعد أن ألقت نظرة على المكتب الصّغيرِ ووجدت صورهما معًا موضوعةً عليه، لكنها وجدت ورقة صغيرة بجانب الصور، كُتِبَ عليها شيئًا واحدًا.. آسفة لِيلِي.

«رينا!» همست لِيلِي مشدوهة، توقّفت حيثُ هي بصدمةٍ وقد تصلّبت أطرافها، بالكادِ أخرجت صوتها وهي ترى رينا واقفةً على سورِ الشّرفة.. ماذا تفعل هذه المجنونة هناك؟!

«رينا، عودي!» صرخت بصوتٍ مُزلزل وقد شقّت دموعها طريقها على وجهها بغزارة، بصوتٍ خالطه الخوف.. خوفٌ شديدٌ اقتحم قلبها لتزداد ضرباته بشدة، كان البردُ شديدًا ليلفحَ نسيمه القاتل جسديهما مُسببًا رعشةً فيهما..

التفتت رينا وقد انسابت دموعها أيضًا هامسةً:
«آسفة.. وداعًا.»

«كلا!» صرخت لِيلِي بقوةٍ حتّى تأذّت حبالها الصوتيّة حين تقدّمت رينا للأمامِ، فتسقُط، هكذا، بكل بساطة.. ذهبت ولم تُبالي حتى لصديقتها الباكية خلفها، لم تأبه لمشاعرها وقتلت نفسها، بكل أنانية..

زاد تصلّب أطرافها وهي لا زالت تقف مشدوهة ممّا حدث، وكأنه حُلم.. في لحظةٍ خاطفة خسرت صديقتها الأولى والوحيدة، لن ترى ابتسامتها بعد الآن.. مُجددًا.

لم تعي ما حولها، لم تعرف ما الذي حدث بالظبط، لا تذكُر أيّ تفاصيلٍ أخرى من تلك الليلة غير صراخ عائلتها وصياح إخوتها باسمها، وهي لا تزال تقف، حيثُ كانت.. قبل أن تسحبها دوّامة سوداويّة ثقيلة.. لتسقُط أرضًا، تلك الأصوات التي تهتف باسمها، أصوات بكائهم، وصُراخهم.. اختفت، وحلّ محلها هدوءٌ غريب، وكأنّ شيئًا لم يكُن..

وكم تمنّت لو الموت يأخذها في هذه اللحظة فتلحق بها، لكن للأسف.. كُتِبَ عليها الحياة، وياليتها ما كُتِبَت.

عادت من ذكرياتها لأرضِ الواقِعِ مُطلقة زفير مُرتعش.. رفعت أصابعها تتحسّس خدّيها بعدما بللتهما الدّموع مُجددًا، فتُغمض عينيها مُحاولةً تهدئة ذلك الضجيج داخلها، لكنه ازداد وحسب..
----

صباحًا..
الخامس من كانون الأول عام ألفينِ وعشرين.

وصلت لِيلِي بسُرعةٍ للمقابر حيثُ أنها لم تبعُد عن منزلها سوى مسافة عشر دقائق، كان الطّريق خالٍ تقريبًا لأن الوقت لا زال مُبكرًا، حيثُ بدأت الشمس تتسلّل بخجلٍ فتتوسّط السماء تُلقي بأشعّتها الدافئة على تلك القلوب المليئة بالبرودةِ، والحُزن، وكأنّها تُربّت عليها مُحاولةً تخفيف ما بِها من علّة، لكن.. إن كان لعلّةِ القُلوبِ دواءٌ لاستكانت الكثير من القلوب بين الأضلعِ مُنذ زمن.

لم تبدأ بالذّهابِ لقبرها في ذكرى وفاتها إلا مُنذ سنة.. تقريبًا هذه هي المرة الثانية التي تُقرّر الذّهاب إليها.. جُرحها الذي كان قد التئم يُعاود النزيف مُجددًا بمُجرّد وقوفها أمام ذلك القبر الحامل لاسمها.

شعورها بأنها تقف سليمة مُعافة بينما صديقتها ترقُد أسفل التراب أمامها ولا تفصلهم سوى خُطوة واحدة، كان قاسٍ.. جدًا.

توقّفت حين وجدت أنه هناك من سبقها في الحضور إلى المكان بالفعل، ومن غيرها.. والدتها، استكانت خُطواتها بهدوءٍ خلفها تمامًا، لم تُرد إزعاجها، فيبدو بأنها في رحلة استرجاع لبعضِ ذكرياتها مع ابنتها.

مسحت تلك الأم دمعة فرّت من جفونها بغتةً، ألقت نظرة أخيرة على كومة التراب أمامها بعدما قامت بتنظيفها من أوراق الشجر الذابلة عليها، مُلتفةً عنها تنوي الرّحيل.

«سيّدة عُلاة.» بادرت لِيلِي بالحديثِ مُبتسمة ابتسامة بدَت مُهتزة.. تُحارب على إبقاء دموعها محبوسة بين جفونها على الأقل حتى ترحل هي، لتُجيب الأخيرة بنفسِ الابتسامة المُهتزّة:
«ظننتُكِ لن تتواجدي هذا العام، هل أنتِ بخير؟»

ألا زالت تلك السيّدة تذكر ما حدث في العام الماضي بعدما أتت لهُنا؟
تنهّدت وهي تستذكر ما حدث، حين توقّفت أمام القبر وهلة.. فيُسحب وعيها بذات الدوامة الثقيلة كما حدث في تلك الليلة.

«نعم أنا بخير.. لا تقلقي.» بُهِتَ صوتها بآخر جُملة، تذكّرت ملامح وجه رينا حين أخبرتها في ذلك اليوم أنها بخير، لقد عرفت الآن أنها لم تكُن بخيرٍ أبدًا، مثلها هي الآن..
كان عليها فقط الكذب، حتّى لا تُثقل الأخيرة بحُزنها هي أيضًا، فلديها ما يكفيها في قلبها.

ابتسمت لحظة وهي تُفكّر.. يبدو بأن هذا ما فكّرت به صديقتها بالفعل في ذلك الوقت.

«سأظلّ لجواركِ إلى حين رحيلكِ حتى أطمئن عليكِ سأكون هنا، خُذي راحتكِ.» تمتمت السيّدة بزفرة وهي تبتعد عنها قليلًا، بعدما رمتها بنظرة حنونة، لكنها كانت مُمتلئة بالكثير من الحزن بالفعل.

أومأت لِيلِي شاكرةً لها اهتمامها، أرادت أن تخطو نحو القبر لتقترب منه أكثر.. لكن خانتها خطواتها ولم تستطع تحريك قدمها إنشًا واحدًا، بدَت قدميها رافضة التقدّم.. لسببٍ ما، أو أنها خائفة أن تضعف كما المرة الماضية.

«هذا الضعف الذي أنا فيه الآن سببه أنتِ.» نبست بصوتٍ واهٍ، مُركزةً نظرها على القبر الذي يحتضن جسدها.. صمتٌ عمّ لبضع ثوان، لتأخذ شهيقًا مُسترسلة:
«دومًا ما ألوم نفسي على موتكِ، لكنكِ في الحقيقة السبب في موتي الآن، في حالتنا هذه تبدّل الحال، أصبح الميّت حيًا.. والحيّ ميّت، انطفاءُ روحي.. وندوبُ قلبي سببها أنتِ، لم أملك الجرأة أبدًا لقول هذا لكِ حتى في حديثٍ مع نفسي، لكنني شعرتُ بأنني يجب أن أقول هذا الآن.. سيُريحني قول ذلك قليلًا.»

أشارت على والدة رينا الواقفة في أحد الأركان بعد أن ألقت عليها نظرة خاطفة، مُكملة وهي تعيد بصرها نحو التُربة أمامها:
«انكسار والدتكِ ودموعها تلك بسببكِ، ذلك الألم الذي نعيش فيه جميعًا بسببكِ.. لكننا سنسامحكِ.»

«عليكِ أن تعرفي بأن ما فعلتِه لم يكُن حلًا، لم تفعلي شيئًا سوى تدميرنا، موتكِ هو الشيء الوحيد الذي جعلنا نشعر بأن الحياة داست علينا بكل ما تملك من قوة، لكن في الحقيقة أنتِ من فعلتِ ذلك.»

كان حديثها قاسٍ جدًا، لكن ما تشعر به الآن من ألمٍ أكثر قسوة بكثير مما تقوله، صحيحٌ بأن ما نطقت به من أحاديثٍ لاذع، لكنها الحقيقة، متى لم تكُن الحقيقة لاذعة ومُرّة؟!

التفتت للسيدة علا بعدما انتهت من بوح ما بجوفها من حديث، دار بينها وبين الأخيرة حديثٌ بالأعين دام لثوانٍ، لكنها قطعته وهي تسير باتجاهها مُردفة:
«ما رأيكِ بأن نتناول وجبة الفطور معًا؟»

أشارت لها بالموافقة، فسارت إليها حتى جاورتها لتُمسك الأخيرة بذراعها مُتعلقةً به، لم ترفض لِيلِي ذلك بل تمسّكت أكثر بذراعها، وهي تشعر ببعضِ الراحة بعدما رمت ما في خُلدها لصديقتها، رُبّما ذلك سيُخفّف عنها شعورها بالذنب.
...

الانتحار، جريمةٌ يرتكبها الضحية في حقّ نفسه، وحق من حوله، فتتحوّل الضحية لجاني، قتل نفسه وأنهى حياته، وقتل بوحشيةٍ من حوله ندمًا، وحزنًا على فقيدهم.

قرار إنهاء حياتك لا يخصك أبدًا، حياتك ليست ملكك مع أنك تعتقد بأنها كذلك، لكن الآخرين يُشاركونك فيها أيضًا، إن كُنت فعلًا تُحبهم لن تُقدم أبدًا على ارتكاب تلك الجريمة البشعة فيهم، هكذا أنت تقتلهم بذلك الندم الذي يشعرون به لعدم إنقاذك ومنعك، ذلك يُشعرهم بكم أنهم كانوا مُقصّرين في حقك، بالرغم من أنهم ليسوا كذلك.

ذلك يجعلهم يُفكرون بأنفسهم على أنها هي المُخطئة وأنها هي التي قتلتك، سيظنون بأنهم هُم من ارتكبوا فيك تلك الجريمة البشعة، سيحتقرون أنفسهم ويُعذبونها مرارًا على ذلك، سيقتلونها آلاف المرات على ذنبٍ لم ترتكبه، بالرغم من كونك أنت المخطئ لا هُم.

لكن.. لا أحد سيُلقي اللوم عليك ولن يُفكرون فيك على أنك الجاني، فأنت الضحية التي قتلوها وعليهم دفع ثمن ذلك..

إلى أي حدٍ وصلت حياتك للبؤسِ حتى تُنهيها؟
أنت مُعاق؟ لا ترى؟ لا تسمع؟ لا تتحدث؟ فاشلٌ بلا موهبة؟

كم من مُعاقٍ حقّق ما لم يُحقّقه ذلك الإنسان السويّ.
وكم من نجاحٍ أنجره الأعمى رُغم كونه فاقدٌ لأهم الأشياءِ وأبسطها، لكنه لم يشتكي.
كم من أصمّ لا يسمع أو يتحدث، لا يفهم لُغة البشر ولا يستطيع صُنع تواصل بينهم لكونه مُختلفًا، لكنه حقّق مُعجزة.

كم من فاشلٍ وبلا موهبة حقق المُستحيلِ حين اجتهد وسعى، حين عمل بجدٍ ولم يأخذ الأمور بسلبيةٍ مثلك.

حتى وإن كانت الظروف ضدك، حتى وإن كان كل من حولك كارهون لك، لا زال هناك أحدهم يُحبك، لا زال هناك أحدٌ يهتم لكونك حيًا تتنفس.

حتى وإن لم يُوجد، جسدك ليس ملكك لتحكم عليه، أنفاسك ليست لك، ليس لك أي حقٍّ أبدًا لفعل هذا بها.

حججٌ واهية تتّخذها لتُقنع نفسك بأن قرارك صحيحًا، حتى لا تشعر بالذنب، لكن.. ستكون قاسيًا جدًا إن لم تشعر بالذنب والأسف، على الأقل في حق نفسك وجسدك.

ليس هناك أبدًا ما يستحق الموت، وليس هناك من لا يستحق فرصة ثانية، حتى وإن كنت أسوأ الناس وأشرّهم، لا يحق لك قتل ذاتك لمُجرد اكتشافك ذلك، على الأقل روحك تستحق أن تقوم بإصلاحها، لها كامل الأحقية في أن تُعطيها فُرصة ثانية لتصحيحِ ما أفسدته نفسك وجسدك.

تذكّر دومًا قول الله سُبحانه وتعالى: «ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة.»

وحين يعتريك اليأس وتجد الظلام احتضن روحك ردّد لها قوله تعالى: «لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.»

فما صبرُك يا عزيزي إلا بالله، فهو القادرُ على إخراجك من ظلامك لنور افتقدتهُ طويلًا.

إن الله لم يخلقك أبدًا لتقتل نفسك.

تمّت.
تصويت🌟.

2772 كلمة.

Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro