3| وتحدّثت قُدس
أتعرف ما هو أكثر شيءٍ مؤلم في هذه الحياة؟ هو أن تتألم دون أن تجد من يُخففه عنك.
«أخبريني، أكان مؤلمًا؟»
ابتسمت الأخرى بمرارة وقد تلألأت بعض العبرات بمُقلتيها، صمتت لثوانٍ وقد بدا أنها لم تهتم للسؤال أو تجاهلته من الأساس، لكن... أردفت فجأةً وهي تنظُر بشرودٍ عميقٍ أمامها:
«ماديًا... لا!»
«ومعنويًا». باهتمامٍ تسائلت الأولى وقد تقدمت للأمام نحوها حتىٰ تسمعها بـشكلٍ أوضح، فأجابت المعنيةُ وقد ارتسمت نفس الابتسامة المريرة علىٰ شفتيها، لكن.. لم تصل الابتسامة لعينيها وقد لمع فيهما حُزنٌ دفين، مرير، وموجع للغاية، قائلةً:
«نعم، وجدًا!»
«صِفي لي ما شعرتِ به.»
«وهل للشعور أن يوصف في بضع كلمات؟»
«صدقيني سأفهمك!»
لكنها أردفت مومئة نفيًا، كاتمةً دموعها بالقوة وتحبسها بين أهدابها غصبًا، مُرددةً بنبرةٍ مهزوزة:
«لن يفهمني إلا من قاسىٰ هذا الشعور، إن تفهميني أبدًا، أبدًا!»
لكن الأخرى لم تمل ولن تفعل إلا حينما تجعلها تتحدث، يجب عليها أن تُخرج ما في قلبها، وتُشارك مُعاناتها مع أيًا كان، حتىٰ تتخلص من حالتها هذه! وإلا ستبقيٰ هكذا إلى الأبد.
«شاركيني أحزانكِ، علّكِ ترتاحين، من يعرف..»
«وإن لم أرتحْ؟ ماذا سيحدث؟»
فأجابت الأخرى وهي ترفع أكتافها للأعلىٰ بلا مبالاة:
«لن تخسري شيئًا.»
فهمست هي بخفوتٍ وقد بدأت تشرد مرةً أخرى:
«معكِ حق، لن أخسر شيئًا، فكل ما خسرته كان في ذلك اليوم الذي قد انتهت فيه حياتي، وكُتبت نهايتي المأساوية فيه...
كُنتُ طفلة وقتها، طفلة كُل ما ترغب به هو بعض الدمى الجديدة، وتناول الحلوى والسكاكر كل يوم، لم أكن أرغب في أكثر من هذا، طموحي كان بسيطًا للغاية، حتى عائلتي، كانت طموحاتها بسيطة، لم تُفكر أبدًا في الثراء، لم تُفكر في جمع المال، لم تُفكر إلا في المحافظة على أسرتنا الصغيرة، وملابس أخي الذي كان سيُولد وقتها... لكن أتعرفين ماذا؟ -رفعت وجهها بعينيها الدامعتين تنظُر للأخرى وقد تكابد الحُزن وتراكم أكثر في سوداويتيها قائلة بخنقة- لقد إرتاح أخي من هذه الحياة، كان أفضل له الموت على ألا يُنجب في مُجتمعٍ مُدمر، ووطنٍ مسلوبٍ، وحياةٍ بائسةٍ ومريرة، ارتاح الجميع، وتركوني هنا أعاني، أعاني مع حزني، وأتحمّل الهم وحدي.
في بعض الأحيان أفكر ما إن كُنتُ أستحق هذا، أو إن كُنتُ قد فعلتُ شيئًا كي أستحق هذه النهاية البائسة! ولكن كيف أفعل؟ وقد كُنتُ طفلة ولازلت! نعم -نظرت للأسفل وقد أطلقت سراح عبراتها كي تنساب بخفةٍ من بين أهدابها على وجنتيها، تتشنجُ من حينٍ لآخر، وتصمُت من حينٍ لآخر- لازلتُ طفلة سُلِبَت برائتها غصبًا، لم أختر هذه الحياة أبدًا، ولو كان الاختيار على عاتقي لاخترتُ عدم الوجود أبدًا في هذا العالم المُوحِش، حتىٰ لا أعاني ما أعانيه أنا الآن، حتىٰ لا أصبح ما أنا عليه أنا الآن، أكره نفسي، أكره حياتي، وأكره ظروفي القاسية والتي أجبرتني على التحول إلى شخصيتي هذه! لم أكن أريد هذا، ولم أرغب به أبدًا، فلماذا يُجبرني العالم عليه؟ لِمَاذا لم يكُن أحدٌ غيري؟ ويستحق، لكني والله لا أستحق.
إن كان هذا العقاب لأنني طلبت من والدي دميةً جديدةً فلا أريدها، وإن كان لأنني طلبت منه أن يجلب لي الحلوة في عيد الفطر فأنا لم أعُد أحبها، لكني لا أريد حياتي، لا أريد أن تستمر مُعاناتي هذه، رجاءً أعيدوا لي ما سلبتموه مني، أعيدوا لي طفولتي المُغتصبة، أعيدوا لي وطني المهجور والذي استوطنتموه غصبًا، أعيدوا والديَّ والذانِ شاهدتهما وهما يُحرقان بنيرانٍ أنتم من أشعلها، نيران الحرب.... نيران العِداء والكراهية، أعيدوا لي أخي الصغير، والذي كان سيُصبح لي سندًا إن اشتدّت عليّ الأزمات، ودعمًا إن انهرتُ كما أنا الآن، كيف سأعيش الآن ها؟ كيف فقط أخبروني؟ لا تتركوني هنا أتساءل ثُم ترحلون وكأن شيئًا لم يكُن، أخبروني فقط، كيف حال ضميركُم؟ هل لازال حيًا؟ لا! أخبروني كيف تسير حياتكم؟ أتسير بشكلٍ جيد؟ أتنامون دون الحاجة لمُهدئات؟ أتنامون طوال الليل دون الاستيقاظ فزعين بسبب كابوسٍ سيء؟ أو حتى بسبب الوحدة! كيف؟ كيف؟ كيف؟ فعلتم هذا؟»
ظلت تُردد كلماتها وهي لا تعرف ما تقول وقد دخلت في حالة هيستيريا، ولكن الطبيبة ما إن وجدتها هكذا حتىٰ أمسكت بحقنةٍ كانت جهزتها في يدها مُسبقًا إن حدث شيء، لتحقنها بذراعها الأيمن ثُم تحملها وتقوم بإرخاء جسدها على الفراش، فتسترخي الفتاة معها عليه، ثُم تُغمض عينيها باستسلامٍ وهي تُتمتم آخر كلماتها والتي كانت:
«أمي، أبي... فقط عودا لي، لا أريد أكثر من هذا!»
فابتسمت الطبيبة وقد بدأت دموعها تنساب على وجهها، حديث الفتاة أثار بها حُزنًا عميقًا، وأشعرها بمدىٓ ألمها، ومدى ما عانته طوال فترة حياتها السابقة والتي لم تتعدى العشرين عامًا، قد شعرت بها فعليًا، وشعرت بألمها الكبير والذي انبعث من حديثها، لتُغمغم بخفوتٍ وهي تمسح على وجهها تُهدهدها كـ الأطفال:
«نامي يا قُدس، نامي وارتاحي، نامي وكُفِّ عن حُزنك هذا واصمدي، فلن ينفعكِ أحد!»
لا بأس إن تألمت قليلاً وأنت وحدك، حتى لا تجد من يقول لك: «كُنت أتألم ولم تكُن بجانبي!» وحتىٰ لا تُضطر للتنفيث عن ألم أحد والوقوف بجانبه، من الذي ساعدك بالأساس كي تفعل؟
داوي جروحك بنفسك وكُن لنفسك عونًا إن وجدت الحياة قد خلت عليك وصعُب عليك المضيّ وحيدًا، لست وحيدًا كما تعتقد، لأن الله شاهدٌ عليك ويعرف بك، يُربّت على جروحك من حينٍ لآخر ويبعث لك برسائلٍ فتصبر، وما كان الله بتاركك حزينًا وحدك حتى وإن ظننت أنت ذلك.
في ليلةٍ باردةٍ تحدّثت قُدسُ عمّا تُكنّهُ من ألمٍ في جوفها، لكنّها سكتت عن ذلك بعد هذا، تُرى.. أهذا دليلٌ على توقف مُعاناتها؟
تمت~.
815 كلمة.
تصويت🌟.
------
مرحبًا رفاقي💜!
مساءُ/صباحُ الخير بحسب توقيت بلادكم~^
اشتقتُم لي؟
قصةٌ قديمة أيضًا كانت بحاجةٍ لتعديلٍ طفيف، ما رأيكم؟
أي تعديل؟
أي نقد؟
دُمتُم في حفظ الرحمن💜.
وداعًا~
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro