(روح طفل)
بقلم نهال عبد الواحد
اعتادت أسرة فريدة التجمّع كل عطلة صيفية والسّفر معًا إلى إحدى القرى السّياحية وقضاء عدة أيام معًا بين المرح، التّسلية، الطّبخ وقضاء وقتًا ممتعًا.
وقد اتفقوا هذا العام وجاؤا إلى هذه القرية السّياحية، وسكنوا إحدى الفيلات الكبيرة التي تكفي لعددهم الكبير ومطلة على البحر وأيضًا بها حديقة وحمام سباحة.
واليوم هو الأول، وقد قضوه في ترتيب أشياءهم ثم طبخ وتناول وجبة خفيفة وهاهم جالسين يشاهدون فيلمًا من مجموعة أفلام أحضروها معهم في وصلة إلكترونية مع تناول التّسالي والمقرمشات المختلفة.
لكن فريدة ملّت وشعرت بالنّعاس فاستأذنت وصعدت إلى غرفتها وكانت في الطّابق الثّالث، صعدت متأفّفة من ارتفاع السّلم حتى دخلت الغرفة.
بدّلت ملابسها ومسّدت شعرها الطّويل أمام مرآة توجد في باب خزانة الملابس من الدّاخل وهي تسبُّ نفسها أن اختارت غرفة في الطّابق الأخير وكيف ستصعد كل هذا الدّرج كل يوم؟!
ومن ضيقها صفقت باب خزانة الملابس بعنفٍ، فاستوقفها صوت ارتطامٍ ما! بدا عليها الخوف وتملّكها فجأة! لكنّها التفتت بعسليتَيها باحثةً عن مصدر الصّوت باهتمامٍ وزعر، حتى اقتربت من الخزانة ونظرت في الفُرقة الصّغيرة بين الخزانة والحائط فوجدت دفترًا على الأغلب سقوطه هو سبب الصّوت.
التفتت حولها مجددًا باحثةً بعينَيها ثم أحضرت شماعة الملابس، انحنت وأدخلت هذه الشّماعة داخل الفُرقة كي تسحب بها الدّفتر، وبعد قليلٍ نجحت المحاولة!
أخذت عدة محارم ورقية وأمسكت بها هذا الدّفتر، ثم أزالت ذرات الغبار المفحّل عليها فاتضح لونه الأزرق الدّاكن محفورًا عليها كلمة «مفكّرة»، فكّرت قليلًا قبل أن تفتحها؛ ففي هذا انتهاك لخصوصيات الآخرين فتركتها جانبًا ودخلت فراشها لتنام كما أرادت.
لكن كان لفضولها رأيًّا آخر، فنهضت مجددًا وأخذتها وهي تبرر لنفسها أن لو كانت ذا أهمية لما تركها صاحبها هكذا، أو ربما لا يكون بها أمرًا خاصًّا من الأساس!
وبعد صراعٍ قصيرٍ بين فضولها وضميرها اتخذت القرار وفتحتها، خاصةً وقد طار النّوم من عينَيها، وجدتها بالفعل مفكرة ليومياتِ شخصٍ ما.
فأسرعت تغلقها ثم نهضت توصد باب الغرفة حتى لا يقتحمها أحدهم ويراها ويصدر عليها التُّهم والأحكام.
اتكأت في الفراش وتحيّرت من أين تبدأ! فربما كانت مجرد ثرثرة مملة خاصةً وهي ليست هاوية للقراءة، ففتحت صفحةً عشوائية وبدأت تقرأ...
«وصلتُ مع زوجي إلى هذه الفيلا الكبيرة القريبة من البحر، صحيح أنّنا مجرد فردان، لكن ربما يزورنا الأهل والأصدقاء هكذا قال عمر زوجي.
لكن في الحقيقة أنا لا طاقة لي باستقبال أي شخص، بل لا طاقة لي للحديث من الأساس، فسبب مجيئي الأساسي هو البعد عن الجميع، خاصةً وأن عمر له أحد المقاهي هنا في القرية ويقيم هنا أصلًا ليباشر عمله وكنتُ أذهب معه من حينٍ لآخر إن أردتُ ذلك.
فمنذ حادث سقوط ابني من الشّرفة ولم استعيد طبيعتي لدرجة أثّرت على حالتي النّفسية، فكُلّما حملت سقط الحمل...»
فشهقت فريدة واضعة كفها على فمها بتأثّرٍ وأسى على هذه المسكينة، فبالرّغم من أنها لم تتجاوز العشرين من عمرها لكن مزّقتها كلماتها بشدة، ثم تنهّدت وأكملت قراءتها...
«كانت أعمال البيت خفيفة وبعد أن أنتهِي منها أجلس في أي شرفة من شرفات الفيلا أو أجلس في الحديقة أحيانًا وأباشر عملي عبر الإنترنت، فأظلُّ جالسةً لساعاتٍ متواصلة لا أشعر بالوقت مندمجة في عملي وربما أهرب من واقعي.»
انتهت تدوينة ذلك اليوم فقلبت فريدة الصّفحة وتابعت القراءة...
«منذ عدة أيام خرجت مع عمر ولمحتُ امرأة تسكن فيلا قريبة على أغلب ظنّي، بالرّغم من أن المكان هادئٌ وبعيدٌ عن النّاس، وهذه المنطقة المطلّة على البحر مليئة بالصّخور فيقل روّادها، لكن منذ يومئذ وقد زاد حزني متذكّرة حرماني من الأمومة، هكذا صرت دون قصد كلما رأيتُ امرأةً حبلى...»
همست فريدة بحزن: مسكينة يا...
ثم قلّبت الدفتر باحثة عن اسم صاحبته حتى وصلت إلى الصّفحة الأولى فوجدت اسم «نوسة» مزركشًا عليها، فهمست فريدة مجددًا: مكتوب اسم نوسة، إذن اسمها إيناس أو نسرين أم ماذا؟
ثم زفرت بضيقٍ قائلة: وما شأني باسمها الحقيقي؟ فليكن أي اسم!
ثم أكملت...
«كنتُ جالسةً اليوم في الشّرفة العلوية حيث يظهر المكان باتساعٍ من الأعلى، وبعد ساعات من العمل على الحاسوب خلعت عويناتي جانبًا، مددتُ ذراعيّ أفكهما من التّيبس فتناثرت خصلات شعري الفحمية بعشوائيةٍ، فضحكتُ عندما تخيّلتُ نفسي شبه نجمات السّينما وقت تطاير شعرهن في إعلانات غسول الشّعر!
بالرّغم أني كنت جميلة حتى بضع سنواتٍ فقط، لكني أشعر بالشّيب رغم أنّي لا أزال عشرينية، ابتسم من كلمات عمر لي كلما غازلني «أنتِ قمري وشمسي، هوائي ومسكني» لا زال يحبني ويتحمّل كل ما أمُرّ به.
وقفتُ أشاهد من الشّرفة المكان من أعلى، غالبيته ظلام خاصةً في اتجاه البحر، يكاد لا يُرى أي شيءٍ من سواده، أغمضتُ عيني مستمعةً لأصوات الأمواج المتلاحقة ولا زال الهواء يعبث بخصلات شعري.
لكن فجأة! قطع سيمفونية الأمواج صوت صراخ طفل رضيع قادمًا من ناحية البحر يبتعد ويقترب، فالهواء يترنح أثناء نقل الصّوت!
فتحتُ عينيّ فجأة في حالة من الصّدمة والفزع وأنا أحملق في هذا الظلام وكأنّي سأرى شيئًا، لكنّي بالفعل لمحتُ خيال شخصٍ ما يقذف بشيءٍ نحو البحر، انخلع قلبي وألقيتُ بجسدي على الكرسي وقت خارت قواي غير مصدّقةٍ ما رأيت.
ما هذا الشّخص؟ وماذا ألقى في البحر؟!
فنهضتُ واقفةً مرة أخرى أتابع المشاهدة من الشّرفة، لكنّي لم أجد أي شيء واختفى الصّوت تمامًا، لكن قدمايّ صارتا هلامية فجلستُ رغمًا عني أرتعش بشدة...»
تركت فريدة الدّفتر بخوفٍ وهي تتلفّت بنظرها في أرجاء الغرفة، لكن دفعها فضولها مجددًا إلى متابعة القراءة، فأمسكت الدّفتر مرة أخرى وعاودت القراءة...
«منذ ذلك اليوم وأنا أسمع صراخ الطّفل الرّضيع كل ليلة، وقتئذ تأكدتُ أن حالة الهلوسة قد عاودتني بعد أن تعالجتُ منها لفترةٍ طويلة عقب موت ابني، لكنّي لا أريد الذّهاب إلى المستشفى مرة أخرى...»
وجمت فريدة مجددًا وتمتمت: إذن المسكينة كانت مصابة بالهلاوس يا ويلي! تتوهّم رؤية وسماع أمورًا وأشياء غير حقيقية! يا لها من مسكينة بحقٍّ!
ثم تابعت قراءتها...
«انتهزتُ فرصة خروجي لشراء بعض الأشياء واشتريتُ دوائي وبدأت تناوله، لكن حتى الآن لم أجد أي تحسّن أو فارق.
بدأت أعصابي تتلف أكثر وأكثر من صوت صراخ هذا الطّفل، حتى صرت أنهض مفزوعة من نومي أصرخ مرتعبة فينتفض عمر من نومه مزعورًا، لكن أسوأ ما في الأمر هو إصراره على ذهابي إلى المستشفى مرة أخرى وأنا رافضة بشدة، لكن اكتشافه لعودة تناولي دوائي جعله يسعى لعودتي، خاصةً وتلك الهلاوس والتّهيوءات تسببت لي سابقًا في أمورٍ كادت تودي بحياتي!
أعلم أنه تحمّل ولا زال يتحمّل الكثير، لكني مصرّة على نفس رأيي.
حتى تفاجأتُ به ذات يوم وقد اتصل بالطبيب وجاء إلى الفيلا ومعه اثنين ليأخذاني إلى المستشفى، أثار هذا الأمر ثورتي لأقصى درجة، فصرتُ أصرخ كالمجنونة.
لكن حدثت المعجزة، وبينما أنا خارجةٌ معهم عُنوة رأينا الشّرطة تقتحم فيلا مجاورة وأيضًا امتلأ الشاطئ بالعساكر مما جذب الأنظار نحوهم لمعرفة السّبب، وكانت المفاجأة!
إنّها زوجة حديثة الولادة كانت على خلافٍ مع زوجها ولتتخلص من أي رابط جمعها به، أخذت المجرمة رضيعها ابن يومَين وألقت به في البحر على طول يدها!
لا إله إلا الله! وقت قُلتها يا ربِّ لأمِّ موسى أمرتها أن تلقي وليدها في اليم لتردّه إليها وقد فعلت امتثالًا لأمر الله ورغم يقينها بعودته إلّا أنّه تمزّق قلبها ولم يتوقّف حزنها على فراق وليدها، لكن تلك التي تجرّدت من الرّحمة ما الذي حملها على تلك الجريمة الشّنعاء؟
خلاف مع الأب! إنّا لله وإنّا إليه راجعون!»
فتمتمت فريدة بغضبٍ مختلطًا بالحزن: إنّا لله وإنّا إليه راجعون!
ثم أسرعت تقرأ...
«المهم أنّه قد ظهرت برائتي، ولم أعد مريضة، بل كان ما رأيته وسمعته حقيقة!
فعدتُ إلى الفيلا مرة أخرى بعد اعتذاراتٍ عديدة من الجميع وأولهم زوجي، لكنّي ما زلت حزينة على مصير هذا الطّفل الرّضيع، كم تمنيتُ لو كان بإمكانهم إعدام هذه المرأة بدل المرة مرارًا!
وها أنا أكتب مذكراتي بهدوءٍ الآن في فراشي، وزوجي حبيبي الوسيم مجاورني ويقرأ كل كلمة أكتبها ولم يتوقف عن اعتذاره وتقبيل رأسي ويدي...
لكن فجأة صدح صوت صراخ الطّفل مجددًا وهذه المرة لم أسمعه وحدي، بل انتفضتُ أنا وزوجي...»
قلبت فريدة الصّفحة فلم تجد شيئًا فازدادت زمجرتها قائلة: كأن هناك بقية لهذا الكلام! ماذا حدث بعد أن انتفضا مزعورَين بعد سماع صراخ الطّفل؟ بل كيف هناك صراخ للطّفل بعد قتله في البحر؟
اتسعت عينا فريدة بفزعٍ وكررت: في البحر! بالقرب من هنا! كأن روح الطّفل لا زالت ساكنة المكان! هل هذا قصدها؟
لكن قاطعها هي هذه المرّة صوت صراخ طفل يرجُّ المكان، فانتفضت مزعورةً قاذفةً ذلك الدّفتر على طول يدها وركضت مسرعةً هابطةً الدّرج تصرخ بملءِ صوتها فزعًا: المكان مسكون! عاد صوت صراخ الطّفل!
تمت🌷
يناير 2021
Noonazad 💕💗💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro