رحلة بلا عودة
بقلم نهال عبد الواحد
خُلق الإنسان في كَبَد، يكدّ ويتعب طوال حياته، أحيانًا يلجأ إلى التّسلية والرّاحة أو حتى السّفر، لكن سرعان ما ينتهي هذا الوقت إن لم ينقلب للعكس في بعض الأحيان...
قررتُ اليوم الذّهاب إلى المقهى بعد طول انقطاع؛ فلم أكن بحالة تسمح بذلك، جلستُ منفردًا في أحد الأركان فلمحتُ الشّاشة المرئية، وكانت تعرض أحد برامج المقالب الشّهيرة -موضة العصر- فلتفعل أي شيء من أجل جمع المال، الضّحك والتّسلية، ولا يهم عواقب ذلك!
تحسّستُ خاتم زواجي شاعرًا بغصّةٍ تعتصر قلبي من شدة الحزن والأسى؛ لا زال رحيل زوجتي جرحًا عميقًا لم يلتئم...
كنتُ حديث الزّواج وعقب انتهاء فترة شهر العسل عدتُ إلى مداومة عملي والانغماس فيه مضطرًا لترك عروسي الحبيبة وحدها؛ فهي ابنة عمي الذي يعيش بمحافظة أسيوط مسقط رأسي، بلد آبائي وأجدادي بينما أعيش وحدي بالأسكندرية لمزاولة أعمالي.
تركتها وحدها أسابيعًا عديدة حتى ملّتْ واشتكتْ فعزمتُ أخيرًا لاصطحابها في رحلةٍ إلى وَالِدَينا بأسيوط ثم بعدها نكمل لأقصى الجنوب في رحلةٍ إلى الأقصر وأسوان؛ فنحن بحاجةٍ لإجازة معًا، وهذا أنسب مكان خاصةً في فصل الشّتاء.
فرحتْ بسمة زوجتي بتلك الخبرية وبدأت استعداداتها للسّفر على قدمٍ وساق، والأهم زيّن ملامحها الهادئة أروع ابتسامة كنتُ اشتقتُ لها منذ زمن، بل وتناديني بتدليلٍ بدلًا من يا سامي فقط، يا ذا العينان الزرقاءتان بصوتها المتغنج، لا زلتُ أنبهر بتغزّلاتها لي فأبادلها المزيد من الغزل أنا الآخر.
تحرّكنا مساءً بسيارتي على الطريق السّريع، دائمًا أُفَضّل قيادة الليل فأصِل هناك فجرًا، أنام قليلًا ثم أستيقظُ أجالسهم مع بداية اليوم.
كان الطّقس رائعًا والطريق هادئًا إلا من أصوات ضحكاتنا، لم نتوقف عن الثّرثرات والمزحات، قد أعدَتْ بسمة قدرًا من التّسالي والنّقانق تمدني بها من حينٍ لآخر.
أسلك هذا الطريق دائمًا منذ إنشائه كلّما سافرت إلى أهلي؛ فهو أسرع ويختصر الطريق، لكن يعيبه انعدام تغطية شبكات الاتصالات المحمولة والخدمات بالإضافة لعدم وجود أعمدة إنارة.
وبينما نسير بانسجام إذ تفاجئنا بصوتٍ مفزع اهتزت على أثره السّيارة فاضطررتُ للتّوقف الفجائي، ربّتُّ على بسمة أُهدئ من روعها وصراخها، ثم ترجّلت أتفقّد إطارات سيارتي، فعلى الأغلب قد انفجر إحداها.
أنرتُ كشّاف الهاتف لأتمكن من الرّؤية، لكني تفاجئت بأن الأربع إطارات قد انفجرت فجأة وبشكلٍ مثيرٍ للدّهشة! كأنّها سارت فوق مسامير أو ما شابه ذلك!
تجمدتُ مكاني وتوقّف عقلي عن العمل، خاصةً عندما تفقّدتُ هاتفي فلم أجد فيه أي تغطية وقد صرنا منتصف الليل!
سرتُ بتثاقل نحو السّيارة محاولًا التّفكير في حلًّا مناسبًا لهذه الكارثة، وما أن اقتربتُ من السّيارة حتى بادرتني زوجتي بخوفٍ: ماذا سنفعل يا سامي في هذا الطّريق المقطوع؟
تمتمتُ بخفوتٍ: لا أدري.
فصاحت مرتعبة: كيف سنظل هكذا حتى الصّباح؟
خللتُ أصابعي وسط خصلات شعري محاولًا التّفكير، وفجأة لمحتُ عن بُعدٍ مكانًا مضيئًا، على الأغلب ربما تكون استراحة، لكن لماذا لا تقع على الطّريق مباشرةً؟! كما أنّي لم أراها هنا من قبل، بل لم ألمحها إلّا الآن!
مؤكّد لم أنتبه إليها.
هكذا حدّثتُ نفسي مفكّرًا، استفقتُ من شرودي على صراخ زوجتي: هيا أجب! ماذا سنفعل؟!
أشرتُ نحو ذلك المكان المضئ قائلًا: سأتجه إلى هناك طالبًا المساعدة.
فتحتْ باب السيارة وترجّلتْ على الفور، صحتُ فيها: لأين؟! إلزمي السّيارة حتى أذهب وأعود!
أومأت رافضة وتابعت: إذن سأذهب وأعود معك؛ لن تتركني وحدي على جانب الطّريق المقطوع والمظلم!
زفرتُ بضيقٍ وصحبتها معي على مضض؛ فلا حل سوى هذا.
تشبّثتْ بي بقوةٍ شاعرًا برجفتها واضطراب أنفاسها، كم وددتُ لو أُطمئنها! لكنّي بحقٍ غير مطمئنٍ!
تحرّكنا نحو هذا المكان البعيد، لا أسمع إلا صوت أنفاسنا المرتعدة، مرّت فترة ولم نصل بعد، التفتُّ خلفي فتفاجئتُ بكم ابتعادي عن الطّريق ولا زلنا لم نصل بعد!
لم أقدّر حساب المسافة كما ينبغي، ولم يكن بمقدوري حقًا تركها وحدها.
لا زلنا نسير حتى اقتربنا وصار هذا المبنى على بُعد أمتار، لم تكن إنارته قوية لكنّي استطعتُ رؤية معالمه التي لا تبدو جديدة الإنشاء، مهلًا لقد اتضح لي عندما اقتربت أثر لرماد حريق!
بدأ الأدرينالين يتدفّق داخلي بشدة، ضربات قلبي مبعثرة، أنفاسي لاهثة كأنّي قادمٌ من سباقٍ للعدّائين، بل ربما هي أنفاس ونبضات بسمة التي شددتْ قبضتها على ذراعي مع ارتعاشة جسدها بالكامل.
وفجأة صوت صراخ مهيب رجَّ المكان قادمًا من داخل هذا المبنى فتجمدنا بأرضنا، تخشّبت أجسادنا وتيبّسَت ألسنتنا من شدة الصّدمة والخوف، ومما زاد الطين بلّة أنّي رأيتُ خيالاتٍ تتحرّك من خلف زجاج نوافذ هذا المبنى!
بالطّبع لم يأتي برأسي تفكيرًا سويًا، مؤكّد أنّه مكانٌ مسكون وقد وقعنا في فخّه وعلينا الإسراع في العودة!
حاولت تحريك قدمايّ الشّبه مشلولة جاذبًا بسمة لتتحرك معي على أثر حركتي، لكننا نتحرك للخلف أخشى أن أستدير بظهري لهذا المكان!
تحرّكنا للخلف مبتعدين عن هذا المكان، وبعد الكثير من الجهد لم أشعر أنّنا ابتعدنا وكأنّنا كنّا نسير في مكاننا دون حركة!
وفجأة! لمحتُ قطرات دماء تُنثر على الرّمال أمامنا، فشهقتُ بشدة بينما تحررتْ حنجرة بسمة وصرختْ بشكلٍ هيستيري!
بدأتُ ألمح خيالاتٍ من حولي لكنّي تعمّدتُ ألا ألتفتُ إليها، أشعر بعجزٍ شديد مع قلة حيلتي لطمّأنة زوجتي.
وأخيرًا قررتُ أن أركض بها بعيدًا عن هنا، وبالفعل ركضتُ جاذبًا إياها ولا زالت تصرخ مرتجفة الجسد.
وفجأة!
اشتعلتْ نارٌ من اللاشيء أمامنا فصرخنا معًا بفزعٍ شديد، لكن الغريب أنّنا كلما ركضنا في اتجاه اشتعلتْ نارٌ أمامنا مجددًا مع تضاعف أصوات الصّراخ المختلط بأصوات ضحكاتٍ شريرة!
يا إلهي!
ما هذا الفيلم الذي نحياه؟!
أجل هو مجرد فيلم رعب!
لا لا! بل هو كابوس مزعج وسنستيقظ منه توًا.
لكنّنا ومع كل أسف لا زلنا وسط هذه الأحداث المريبة، نصرخ ملء صوتنا، وبالطبع لم يجيبنا أحد.
لا زلنا نركض بعشوائية والنار تشتعل من تلقاء نفسها أمامنا لنغير وجهتنا، ووجدنا أنفسنا ندور داخل دائرة مغلقة بلا مخرج، نركض، نتعثّر حينًا وننكفئ حينًا أخرى كطفلٍ يتعلم المشي لأولِ مرّة.
كانت بسمة قد بحَّ صوتها من شدة الصّراخ والعويل، بل أنا أيضًا أصرخ بقوة، صحيح أنّني لا أقول كلامًا مفهومًا أنا أو زوجتي، بل لا أتذكر من الأساس ماذا كنا نقول! لكن صوتي قد بحَّ من الصّراخ هو الآخر.
وفجأة!
صوت فرقعة قوية صاحبها دخان كثيف تفجّر أمامنا على بُعد أمتار، قد أيقنت أنها النّهاية؛ فما أعانيه من شدة خوفٍ وفزع الآن أجهد قلبي تمامًا -رغم أنّي الرّجل- لا زلتُ أشعر بأصابع بسمة المغروزة في ذراعي من شدة تشبثها.
سمعنا صوت ضحكٍ مهول وخيال شيءٍ عملاق ينبثق من وسط الدّخان، ألمح خياله بفعل إضاءة النّيران.
أما بسمة فصرخت بقوة كأشد ما يكون الصّراخ ثم خارت قواها فجأة، شعرتُ بانعدام تشبثها بذراعي فجذبتُها إليّ كي لا تسقط أرضًا، خاصةً وأنا أشعر أن قدمَيها صارتا هلاميتَين من شدة ما لاقت.
لكنّي لم أكن بحالٍ أفضل منها، فأنا الآخر بحاجةٍ لمن يسندني، وبينما نحن على هذه الحالة من الارتعاب والانهيار متخيلًا أن خلف هذا الدّخان المهيب جنيّ أتى ليعاقبنا لأنّنا اقتحمنا مكانًا يخصّه هو وآله.
إذ أنار المكان بأنوارٍ ملونة متلألئة مع صوت موسيقى يبدو مألوفًا على أذنيّ لكنّي لستُ بحالة تساعدني على التّذكُّر أو التّخمين.
لكن أكثر ما لفتَ انتباهي صوت تصفيق وبضع أشخاص ظهروا من خلف هذا المبنى.
بالطبع عندما رأيتهم قادمين ظننتُ أنّهم باقي عشيرة الجن السّاكن هذه البقعة، وبالفعل افترشتُ الأرض مكاني وزوجتي بين ذراعيّ لا أشعر بحركتها ولا برجفة جسدها، وتأكدتُ أنها النّهاية فلن أقاوم أو بمعنى أدق فقدتُ أي قدرة على المقاومة.
ولسان حالنا يقول:«هيا انهى حياتنا؛ فنحن هالكون لا محالة!»
لكن ما فاجأني بحق أنّهم عندما اقتربوا رأيتهم أُناس حقيقيون! على أية حال أنا في وضعٍ لا أؤاخذ عليه.
ظلّوا يصفّقون حتى شقَّ أحد جمعهم متجهًا نحونا فارتجفتُ رعبًا، تحدّث بصوتٍ مبتهج: إهدأ يا أخي ولا تخف.
لكنّي ارتجفتُ بشدة ضآمًا إليّ زوجتي بخوفٍ شديد، فأكمل ذلك الشّاب: لا تخف! نحن بشرٌ مثلك، وقد كان هذا مقلبًا، هذا برنامج يوتيوبي للمقالب اسمه (رحلة بلا عودة)...
ثم قهقه ضاحكًا واستطرد: نحن نوقف السّيارات القادمة على الطّريق السّريع ليلًا وذلك بتفجير إطاراتها، فيتوهّمون أن هنا استراحة مثلما فعلتَ بالضّبط، وقبيل الوصول لمقصدهم يكتشفون أنه مكان مسكون فيعانون بعض الوقت ثم نظهر إليهم مثلما حدث معك الآن، ما رأيك في هذا المقلب؟! مؤكد أنّه رائعًا، أليس كذلك؟!
وجمتُ ناظرًا أمامي ولم أعقّب، فأكمل: سأعطيكما مبلغًا وقدره عشرة آلاف جنيه مقابل موافقتكما على بثّ هذه الحلقة ونشرها على قناة اليوتيوب الخاصة بي...
كان يتحدث بسماجةٍ متسعةٍ ابتسامته وسط ضحكاته المستفزة التي لا محل لها من الإعراب! لم ينتبه مثلًا لحالتنا المذرية، لم يحاول الاطمئنان علينا حتى ولو مجاملةً أو حتى تقديم شربة ماء، فقط بدأ ثرثرته اللامتناهية!
لا أتذكر بقية ثرثرته؛ بدأت أشعر بتشوشٍ في الرّؤية ودوار شديد، حاولت التّشبث بزوجتي الفاقدة لوعيها لأحملها وأنصرف، لكنّى فقدتُ وعيي أنا الآخر.
فتحتُ عيناي فوجدتُ نفسي في مشفى يجاورني ضابطًا محقّقًا لم أتذكّر شيئًا من أسئلته؛ فقد توقفت أذناي عن السّمع عقب نطقه بخبر وفاة زوجتي إثر تعرضها لسكتة قلبية من شدة الخوف!
فجأة تركتني وانتهت حياتها! كلّ ما تمنته مجرد رحلة، لكن لم يدري أحدنا أنّها رحلة بلا عودة؛ فلا هي عادت ولا أنا عدتُ لطبيعتي، خضعتُ فترة للعلاج النّفسي...
وقد بدأتُ العودة لمزاولة أعمالي فقط منذ فترة قصيرة، علمتُ أن ذلك السّخيف صاحب المقلب مسجونًا بتهمة القتل الخطأ، لكن ماذا يفيدني حتى ولو تم إعدامه! فما فقدته قد ذهب... بلا عودة!
تمت.💔
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro