ذكريات نازحة عتيقة
بقلم نهال عبد الواحد
وسط سَيل من البشر النّازحين في اتجاهٍ واحدٍ جارفٍ رغمًا عنه أيّ قادمٍ من اتجاهٍ معاكسٍ وقد غبّر تدفّق ذلك السَّيل الطّريق، بل غبارٌ غاضبٌ مفصحًا بدليلٍ واضحٍ عن جرائمٍ يندَى لها الجبين، قصفٍ، هدمٍ، تقتيلٍ وتحريق...
عادة قومٍ مُذُّ أمدٍ بعيد... إبادة غيرهم مهما كان الفقيد... نساءٌ، شيوخٌ وأطفالٌ حتى ولو كان في المهد وليد!
جلست على جانب الطّريق تلتقط أنفاسها على إحدى مخلّفات الأطلال، عقدت عينَيها المجعدتَين تتفقّد كفَّيها الأكثر تجعيدًا، جميعهم شهداء على سنواتٍ طويلة من الكد والمعاناة، خانتها ذاكرتها في تذكّر أفراد عائلتها، أبنائها وأحفادها، بل وأحفاد أحفادها!
لا تذكر عددهم أو أسماءهم، ما تذكره جيّدًا أنّها نذرت مَن فقد حياته شهيدًا للّه، تذكر شعارها وإصرارها على كثرة الإنجاب ودفع جميع أسرتها للإصرار على نفس النّهج؛ فمهما قُتل منهم لن ينتهوا رغم أنف العدو اللّعين.
لا تذكر الكثير من التّفاصيل والأحداث؛ فكلّ شيءٍ يتكرّر ويعيد التّاريخ نفسه بدل المرّة مرار!
مدّت كفّها المرتعش تتلمّس خيطًا عقدته حول عنقها أسفل خمارها منذ سنواتٍ لا تعرف عددها، ينتهي الخيط بمفتاحٍ كبير، مفتاح بيت عائلتها الأول قبل النّكبة، حملقت به محدّثةً نفسها محاولةً استرجاع شظايا الذّكريات المتناثرة... والمؤلمة أيضًا، بل شديدة الإيلام...
لم أنسى ذلك اليوم بعد تمام عقدي الأول... أصوات ضجيج وصياح وعويل، ظننتُه عراكًا دائرًا بين بعض جيران الحيّ أو ربما تحريش بعض جند الإنجليز ببعض أبناء قومي كعادتهم... لكن اتضح أنّ الأمر أكبر بكثيرٍ من توقّعاتي السّاذجة!
تفاجأتُ بالجميع يجمع ما استطاع حمله من بيته ثمّ خرجنا على بكرة أبينا إلى المجهول! لم تكن دارنا وحدها بل شارعنا والحي بأسرِه... بل المزيد من الأحياء!
الجميع متدفّقًا في نفس الاتجاه لا يمكنه التّقهقهر لأي سببٍ كان، حتى لو نسيَ أحد أبنائه! تلفّتُّ حولي دون فِهمٍ، هل قامت القيامة وسِيق الجميع إلى محشرهم؟!
ولكن كيف؟! إن كان هنا أرض المحشر!
لكنّي أرى الخراب في كلِّ مكانٍ، أشمُّ رائحة دماءٍ وحرائقٍ وبارودٍ، أسمع صوت قذائفٍ مختلطًا بشهقاتٍ مقهورةٍ لم أرى مثلها من قبل!
أسماء تتردد في ذاكرتي البائسة، لم تقوى على المغادرة كغيرها من الذكريات أو غيرها ممّن طُرد منها ظلمًا وعدوانًا... وادي النسناس، شارع الملك فيصل، ساحة الحناطير، الحليصة...
وكلّما تردّدت تلك الأسماء في عقلي تردّد معها أصوات قذائف وصرخات... عويل وأنين يمزّق القلوب، فأختنق بشدّة كأنّه لم يعد هناك هواء أتنفّسه! فقد أتنفّس رائحة بارود، حريق ودماء!
كان الرّعب والفوضى هما سيدا المشهد يومئذ، فهناك قصف من الشّرق وهنالك قذائف تُصبّ داخل الأحياء العربية ورجالٌ مسلّحون متسلّلون من الشّوارع الرّئيسة إلى غيرها الفرعية، كانت تحرّكاتنا تسير خلف مكبّرات الصّوت الموجِّهة، كانت الأزّقة مغلقة بالمتاريس، إطلاق النّار أو الجنود، بين تجمّع جنود الإنجليز وتجمعات السّلاح اليهودي!
لكن بمرور بعض الوقت صِرنا نُساق كالقطيع نحو اتجاهٍ واحد، اشتدّ القصف بينما الجنود البريطانيين يفتحون منافذ ويغلقون أخرى... كنّا نتّجه نحو السّاحل!
اختلطت الأمور في رأسي بشدة، تداخل الماضي مع الحاضر مع عدد من الأحداث الكثيفة... إنّها نفس الطّريقة! القصف المتواصل الدّافع لاتجاهٍ بعينِه!
كنّا نهرب من أصوات الرّصاص والقنابل والقصف، مثلنا مثل غيرنا من المتدفّقين من كلِّ حدبٍ وصَوب، الجميع مساقًا نحو البحر رغمًا ولو حاول تغيير طريقه زُجر من قِبل الجنود، صُوّبت البنادق وحرابها نحوه أو ربما قُتل بدمٍ بارد!
استمرت أمواج البشر المتدفّقة الباكية قهرًا في لحظاتٍ بطيئة قاسية مرّت علينا كسنواتٍ عجافٍ دون أن ندري أنّنا بالفعل مقدمون على سنواتٍ عجاف، لكن بدل السّبع سبعين ويزيدون!
سيق الجميع نحو الميناء، مررنا بالبوّابة الحديدية حيث الجنود البريطانيين يزجروننا بينما أكوام من البشر تتساقط تباعًا داخل زوارق صغيرة في البحر... لا أحد يعرف ماذا عليه أن يفعل!
لا زال صوت الرّصاص يفزع القلوب، هنالك تناثرت أقوال التقطتتها أُذنايّ «لقد اكتسح الإنجليز واليهود حيفا!»
ثمّ تشوّش كبير! لا أذكر رحلة نزوحنا البائسة سوى لقطات متناثرة من البكاء والخوف وسط البحر ونحن مكدّسون داخل تلك القوارب! ثمّ ماذا؟ حقًّا ليس لديّ المزيد من التّفاصيل، تزوّجت وأنجبت الكثير وتزوّج أبنائي وأحفادي أيضًا وأنجبوا الكثير، لا أتذكّر إلّا عدد من أسماء الرّجال والنّساء الّتي لا أدرك أيّها يعود لمَن! وجوهٌ وملامحٌ تمرّ سريعًا في شريط ذكرياتي دون أن أجزم مَن هم أو أيّ تلك الأسماء يخصّ تلك الوجوه! ماذا فعلوا أو ماذا حدث معهم؟!
الإجابة واحدة، لا أدري! لا أتذكّر شيء! كلّ ما أذكره أنّ الأحداث تتكرّر في صورٍ أفظع وأشدّ سوءًا...
وضعت يدَيَها المرتعشتَين على رأسها الّتي آلمتها بشدّةٍ دون سببٍ محدّدٍ، وإن كثُرت الأسباب! عائدة إلى واقعها الأشد مرارة من ماضيها!
أخرجها من شرودها نداء شابَّين على جانبَيها: يا جدّتي يا جدّتي!
نزعت يدَيها المرتعشتَين رافعةً رأسها مُضيّقةً عينَيها المحاط بها كمًّا من التّجاعيد، كانت بالكاد تراهما وتدرك أنّهما شابّان لكن لا تتذكّر مَن يكونا! ثمّ انضمت إليهم فتاة لم تتذكّرها هي الأخرى! صاحت الفتاة بهلعٍ معدّلةً حجابها المبعثَر: هيّا! هيّا! ماذا تنتظرون؟! سنموت يا جَدّة لو تأخّرنا! اليهود على حواف الطّريق والجميع يمرّ رافعًا ذراعَيه مستسلمًا علّهم يتركوننا وشأننا! علّهم يتركوننا أحياءً!
ردّ أحد الشّابّان يزجرها مخفضًا صوته عن الجَدّة ربيحة: ماذا بكِ جهاد؟! الجَدّة طاعنة في السّن وقد أرهقها طول المسير فجلست تستريح.
فتابع الآخر بأسفٍ: ليتنا دبّرنا أي شيءٍ يقلّها، فالسّير على الأقدام لا يناسبها.
-مهلًا خالد! وهل ترانا قصّرنا في العثور على ما يقلّها؟! للّه الأمر!
-أدري يا معتصم، كانت مجرّد أمنية... كالكثير من الأماني، ترانا سننجو!
فصاحت فيهما جهاد: كُفّا عن ثرثرتكما! وهيّا أسندا الجَدّة وساعداها على إكمال المسير!
-اهدئي أختاه! الوضع لا يتحمّل صياحك.
فزفرت بضيقٍ بينما ابتسمت ربيحة قائلة: ممَّ تخافين يا صغيرة؟! من الموت! وهل يحتاج الموت إلى مدفع وقصف وبارود؟! لا وأيم اللّه! الكلّ يموت فقط لأنّ أجله قد حان ولن يؤخّر اللّهُ نفسًا إذا جاء أجلها، ولن يموت أحدنا وقد نقص من عمره ولو نفَسًا! إنّما العمر يُعدّ بالأنفاس.
فتمتمت الفتاة زافرةً: ونعم بالله! لا تؤاخذيني لكنّي تعبتُ بحقّ الإله!
مسّدت ربيحة على عقدة مربوطة حول عنقها متلمّسةً بأصابعها مفتاحٌ كبيرٌ فزفرت براحةٍ والتفتت نحو الشّابَّين تهمّ بسؤالهما فأجابها معتصم قبل أن تسأله: اطمئني يا جدّتي! أحمل مفتاح بيتنا.
أومأت برأسها ثمّ عدّلت الشّال الملفوف حول رأسها وعنقها ثمّ مدّت ذراعَيها المرتعشَين نحو الشّابَّين فأمسكا بها يسنداها حتى وقفت ببطءٍ ثمّ بدأت تخطو خطواتٍ مترنّحةً بعض الشّيء منكفأةً بانحناءةٍ للأمام.
وبعد قليل وقد سُمعت همهمات المارّة في موكب النّازحين وحديثهم المتناثر عن ردود أفعال بعض مشاهير الوطن العربي المخزية فتمتم خالد بغيظٍ: خذلنا العرب والله! خابوا وخابت عروبتهم!
فردّت ربيحة: وما المفاجأة بُنيّ؟!
فابتسم خالد ومعتصم لانتباه جدتهما وسرعة ردّها لكن لم يجيباها ظنًّا أنّها لم تنتبه بما يكفي والدّليل ردّها غير المفهوم!
لكنّها أكملت: هل رأيتم يومًا صريعًا مغشيًّا عليه يستجيب للنداء؟! وحتى إن استجاب فلن ينهض نشيطًا ملبيًّا بل يستغرق المزيد من الوقت حتى يدرك ماذا يجري من حوله!
نظر الشّابّان لبعضهما البعض يفكّران في قولها دون تعقيب، بينما تابعت بحزنٍ: الأمّة في سُباتٍ عميق تجاوز نوم أهل الكهف أو ربما غيبوبة طويلة المدى، لكن أبناء المقاومة سييقظوهم بأفعالهم!
قالت الأخيرة بحماسٍ فتمتما الشّابّان: صدقتِ واللّه يا جَدّة!
فتابعت ربيحة: هل تعتقدون أنّنا مساكين ويُخشى علينا لما يحدث لنا من قصف وقتل؟! بل بقية العرب هم المساكين ومَن يُخشى عليهم...
التفت ثلاثتهم إلى جدّتهم دون أن يعقّبوا ثمّ انتظروا ربما تكمل الجَدّة كلامها أو ربما تكون مجرد خطرفة ستسكت بعدها أو تكمل هذيانها بأحاديث لا علاقة لها ببعضها البعض كما اعتادوا منها في بعض الأحيان!
لكنّها أكملت: تُرى ماذا يتحكّم به العدو ويدّعون أنّهم يسيطرون عليه؟! طعام! ماء! يهددون بقتلنا! بل يحصدوننا حصدًا أليس كذلك؟
فأومأ ثلاثتهم: أجل يا جَدّة.
وزاد خالد قائلًا بحنقٍ: وهل هذا شيءٌ بسيط يا جَدّة؟!
أجابته: بالطّبع لا، لكنّها مجرد أسباب، لا أحد يهرب من رزقه أبدًا وكذلك لا أحد يأخذ شيئًا لم يُرزق به، لو قُدّر لأحدٍ رزقًا سيصله رغم أنف الجميع ولو لم يُقدّر له لن يصله شيءٍ رغم أنفه.
ردّت جهاد بتنهيدةٍ: ونعم بالله، لكن كيف بقية العرب هم المساكين ومَن يُخشى عليهم؟!
أجابتها الجَدّة: يُخشى عليهم لأن العدو يسيطر على عقولهم ويسرق دينهم فلا يربحون دنيا ولا آخرة، أمّا نحن فحتى لو سرقوا أرواحنا فهي دُنيا حقيرة.
فأومأت جهاد متمتمةً بحنقٍ وتهكّمٍ: حسنًا فلنفرح جميعًا بذل وعار الاحتلال لأنّنا نعيش في دُنيا حقيرة!
ثمّ قالت بثباتٍ أكثر: على أية حال صارت لدينا مقاومة -بارك اللّه فيها ووحّد صفّها وسدّد رميها- وستتحرّر أرضنا رغمًا عن الجميع دون الحاجة لأحد!
قالت الجَدّة: إنّما الأرض أرض اللّه يورثها للمؤمنين من عباده، ومثلما تحرّرت سابقًا بجيشٍ موحّدٍ من المسلمين ستتحرّر لاحقًا، فأرضنا تنفث عنها أعداء اللّه مهمّا طال مكثهم، سيرحلون كما رحل غيرهم أذلّةٍ صاغرين.
فتحدّث معتصم: هذا صحيح يا جَدّة، لكن قديمًا عندما قُتل مسلم واحد فقط نفر رسول الله -صلّى اللّه عليه وسلّم- بالمسلمين وطردوا يهود بني قينقاع من المدينة شرّ طردة بلا رجعة، أمّا اليوم فقد قُتل الآلاف ولم نجد إلّا الشّجب والاستنكار والتّنديد، والمزيد من اجتماعاتهم وتصاريحهم الّتي لا تُنفّذ على أرض الواقع من الأساس، إضافةً إلى غير المبالين الّذين يحتفلون ويعيشون حياتهم كأن لم يحدث شيئًا وكأن لم يُقتل الآلاف... ووسط كلّ هذا العدو مستمر في القتل والقصف بشكل جنوني دون أن يلتفت لأحد، إنّه عالم كاذب مُلِئ بالسّراب.
فردّت ربيحة: لقد قُلتها بُني، قد قُلتها، نفر بالمسلمين، وهل يوجد الآن مسلمين كأولئك المسلمين؟!
فأردفت جهاد بخيبةٍ: إذن سننتظر الكثير والكثير...
فأجابتها الجَدّة: الكون يسير بقدر اللّه، وفق إرادته وتدبيره ولو شاء استقامة النّاس بين عشيةٍ وضحاها، لو شاء لاصطفّ المسلمون في جيشٍ مهيب ليس بعدده ولا عتاده كما تظنّون أو تتمنّون، بل بإيمانهم وتوكّلهم على اللّه ولهزموا العدو شر هزيمة! لكن لم يأذن اللّه بعد، ويظلّ الجميع في مرحلة الصّبر والثّبات وتدافع قوى الخير والشّر مع الاستقامة.
حذاري أن تملوا من الصّبر فلو شاء لحقّق لكلّ واحدٍ مراده في طرفة عين، هو لا تخفى عليه دموع رجاء الرّاجين ولا زفرات هموم المهمومين، هو لا يعجزه إصلاح أحوالنا وذواتنا لكنه يحب السّائلين بإلحاح، أليس هو القائل: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا}
نحن رابحون يا ابنتي، ونصر اللّه قادم، لن أقول ما دام الزّعتر والزّيتون، بل ثقةً في وجه اللّه الكريم! رابحون رابحون بالاستقامة والإيمان... ولا نصر بغير استقامة! أدركوها جيّدًا وعلّموها للجميع... لا نصر بغير استقامة!
تمّت حكاية وظلّت آلاف الحكايات الّتي لا تكفيها كلمات ولا تفي بحقّها أفصح العبارات...
نهال عبد الواحد 💔
نوفمبر 2023
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro