(1)
بقلم نهال عبد الواحد
- إنت يا بني آدم قوم شوف اللي وراك ، وإنتِ يا هانم خشي ذاكري ، وإنتو بطلوا خناااااق ، إيه المورستان ده ! وإيه البيت اللي زي الزريبة ده !!
هكذا تصيح سلمى ، كلمات أي أم مصرية ! وهي تركض من حجرة لأخرى ، وتجمع من هنا قصاصات ورق ومن هناك دفاتر ملقاة بإهمال ، وقد تزامن ذلك مع فتح باب الشقة....
صوت مفاتيح تحفظه وإيقاع خطوات تعشقها ورائحة عطر أدمنتها منذ عمرٍ آخر.... منذ أعوام وسنوات طويلة ، تعلّقت بذلك العطر قبل أن تعرف صاحبه... قرابة ثلاثين عاماً !
وقف سليم يعبث بسلسلة مفاتيحه حول إصبعه وهو رافعاً حاجبيه ويده الأخرى بداخل جيب سترته ، فإلتفتت إليه سلمى فاقتربت منه كعادتهما يتعانقا ؛ فساعات العمل خارج البيت قد ألهبت حرائق شوقه.
وبعد ذلك العناق ، قبّل جبهتها بعمق ثم رفع حاجبيه بعبث وقال بمزاحٍ ساخر : في واحد في أول الشارع وقفني بالعربية وسألني ، هي المدام صوتها مش واصله إنهاردة ليه ؟!
فاغتاظت سلمى ولكزته في كتفه قائلة : والله ! بتعيب كمان ؟!
وجذبت يديها بسرعة لتبتعد فأمسكهما معاً وثبتها حتى لا تتحرك وهو يقهقه ضاحكاً : إهدي يا هبلة وبطلي شعننة بأه.
- بتتريق عليّ يا سليم ! دي أخرتها !
طلعت زي باقي الرجالة !
- ماهو أنا راجل ، مش باين ولا إيه ؟!
فزفرت مغتاظة ، فتسآل بهدوء : طب فهميني ، في إيه ؟ يا حبيبتي أنا خايف عليكِ ، إنت طول الوقت مشدودة وكل حاجة على أعصابك كده !
- الإمتحانات عل الأبواب ومش بيذاكروا وآجي أسأل ألاقي إستهبال ، مخليين البيت زي الزريبة كل واحد رامي حاجته في ناحية زي ماانت شايف ، والبيت مش باين عليه نضافة ، غير خناقهم ليل ونهار مع بعض ، أنا تعبت بجد يا سليم ومش مستحملة.
فربت عليها بهدوء ثم جلس على أقرب كرسي وجذبها وأجلسها على قدمه ومسّد على ظهرها بلطف ، وأمسك بكفها وقبّل باطنه ، ثم أهدر بهدوء : حبيبتي ، ممكن بالراحة ، كل حاجة بالراحة ، عارف والله إن كل حاجة عليكِ ،وإني سايبك ومشغول في شغلي ، بس بحاول أتابع من بعيد.
- يا حبيبي عارفة الله يعينك ! ومش عايزة أتعبك زيادة بمشاكلهم ، بس تعبت.
- لا إتعبيني يا سلمى ، أنا أبوهم يعني مشارك في المسئولية زيّ زيك ، دوري مش أخلفهم وبس وأرميلك شوية فلوس ، وشغلي ده حاجة أساسية وطبيعية ؛ العادي إني أشتغل وأصرف عليكِ وعلى البيت كله.
ثم قال : فين شغلك إنتِ بأه يا هانم ؟! مش عندك دفليه الشهر الجاي ؟!!
فأومأت برأسها أن نعم مجيبة: مش ملاحقة يا سليم ، هعمل إيه وأنزل أتابع إمتى ؟! أنا يادوب رسمت التصميمات بطلوع الروح....
فقاطعها : ده إنتِ يا سلمى ، شغلك وكيانك اللي لازم تفضلي محافظة عليه وما تفرطيش فيه ، سلمى بصيلي كده.
قالها وهو يدير إليه وجهها بطرف إصبعه ، ثم تابع : أولاً الولاد كبروا ، اتفطموا من زمان يعني ، كل واحد يعرف يعتمد على نفسه كويس ، شغل البيت أم علي موجودة .
- يا سليم ، أم علي كبرت و صحتها ما تصدش عل هلكة البيت دي !
- طب إهدي حبيبتي عشان خاطري ، صحتك يا قلبي إحنا من غيرك ولا نسوى والله !
ثم أسند برأسه على حجرها وتنهد قائلاً : سلمى ، إنتِ بأيتي أمي بعد أمي الله يرحمها ! إنتِ كل حاجة ف حياتي ، أمي وحبيبتي وصحبتي وبنتي اللي مجنناني ، و بزعل أوي لما بشوفك متعصبة كده .
ثم رفع رأسه قبل أن تهمّ بنطق كلمة متابعاً بإبتسامة : ششششششششششش ! إهدي و هتصرف... يا ترى الغدا جاهز ؟!
- لسه شوية ، إنت جيت بدري إنهاردة.
- أنزل تاني يعني ؟!!
- لا طبعاً ، خش إتمدد شوية لحد ما اخلص.
- أمال فين اللي بتزعقيلهم دول ؟!
- إتخفوا ف أوضهم ، عايزين كل علقة و علقة وبالذات الزفت سليم.
- الزفت سليم ؟!!!
فوضعت يدها على فمها بحرج ، ثم قالت : مش قصدي والله ! ده الواد إبنك.
- وإنتِ مرات أبوه ؟!
فضحكت قائلة :طب خلاص ، خش ارتاح دلوقتي عبال ما اخلص.
فتنهد وتركها متجهاً لحجرة النوم بينما أسرعت هي نحو المطبخ تكمل طبخ الغداء ، فقد تأخرت اليوم بحق !
وبينما تقف تقطع خضروات السلطة اقتحمها كعادته بذراعيه تطوقا خصرها يلصقها بصدره ويهبط مقبلاً عنقها وإحدى وجنتيها فتبتسم وهي تستند بظهرها على صدره كما إعتادت وتستمتع بأنفاسه الدافئة تلفح عنقها .
ثم يمد يده يلتقط بأصابعه قطع من الفلفل الملون أو قطع من الخيار ويتناولها ، فتضحك قائلة : وبعدين في القطة اللي هنا دي !
فيجيبها ضاحكاً : عمرك شوفتي قطة بتخطف سلطة ؟! القطة بتخطف حتة لحمة ، سمكة....
فصدع صوتها بضحكاتها العذبة فقبّل وجنتها وسند عليها بلحيته يمسد بها على خدها الرقيق ، وقال بتنهيدة : قلبي يا ناس على ضحكته الحلوة ، ربنا يديمها يا حبيبي !
ثم تسآل : هو إمتحان الولاد إمتى ؟!
فأجابت : سلمى وسليم يوم خمستاشر و رقية يحيى يوم تسعة.
فهمهم : إمممممممم !
- بتفكر في إيه ؟!
- بفكر فيكي طبعاً..
وضحك.
- عليّ برضو ؟!
- سبيها في وقتها يا قلبي.
ثم تابع : المهم أرجوكي ركزي في شغل الدفليه، سلمى يهمني نجاحك إنتِ ، بفرح لما ألاقي إسمك بيكبر ، مش عايزك تحبسي نفسك فينا وبس.
- حاضر يا حبيبي ، ياريت كل راجل يشجع مراته كده و يقف جنبها وما يبآش أناني يعوزها لنفسه و ولاده وخلاص.
وفجأة صدع صوت هاتفها فأردفت : شوف مين كده ؟!
فأمسك سليم بهاتفها وقرأ : مامي رغد...
فتأففت : أووووووووووووف ! إقفل الصوت واقفل التليفون ، دي ست لكاكة وأنا مش فايقالها ، شكاوي شكاوي شكاوي ، من ولادها ، من زمايل الولاد ف الكلاس والمدرسة ، من المدرسين ، من جوزها ، حاجة فراغ ! أستغفر الله العظيم !
- وهي تقول جوزها وإنتِ تقولي جوزك !
- فشر ، هو في زيك إتنين ياقلبي ، عايزة أقولك بسيبها تكلم نفسها ، بحط التليفون لحد ما تخلص لك وأول مااسمعها بتقول ألو كام مرة أعرف إنها خلصت ، يا عم دي عالم فاضية لا عندي ودن ولا خُلق ولا دماغ لكل ده ، وبعدين مامتي الله يرحمها نصحتي نصيحة بعمل بيها لحد إنهاردة ، قالتلي جوزك مفيش زيه إوعي ف يوم تتكلمي عنه أدام أي واحدة ، وإوعي تسمعي كلام الحريم.
- الله يرحمها ! حبيتها ولسه بحبها ، كانت زي الملاك عمر لسانها ما قال غير الحكم والكلام المفيد وبس.
- طب يلا عشان الغدا جاهز.
وضعت سلمى الغداء على طاولة السفرة ، ثم نادت على أبناءها الأربعة سليم ، سلمى ، رقية ، يحيى .
كان سليم الأب يجلس عند رأس الطاولة وسلمى الأم بجانبه والجميع يقترب فيسلم على أبيه ويجلس مكانه اليومي ، ثم بدؤا جميعاً الطعام في صمتٍ لا يُسمع إلا أصوات الملاعق والشوك تعبث بالأطباق .
لكن فجأة صاح سليم الإبن : هي شوربة العدس دي كل يوم ؟!
فأجاب يحيى وهو يتناولها بإنسجام : دي لذيذة أوي ، خدها واتدفا.
فتكمل رقية: على فكرة في حاجات تانية ممكن تاكل منها.
فنظرت أمها لسلمى إبنتها قائلة : ما نفسكيش تقولي حاجة إنتِ كمان ؟!!
فأومأت سلمى الإبنة برأسها أن لا وعلى وجهها إبتسامة عريضة .
فصاح سليم بجدية : الأكل عليه أدب ولو ماما عملت تراب تسفوه من سكات.... فاهمييييين ؟!
فصارت أعينهم جميعاً بداخل أطباقهم بينما عينا سليم تتابعاهم في صمت ، ومؤكد أنهم يشعرون بتلك المراقبة.
إنتهى سليم من طعامه لكنه ظل مكانه ينتظرهم حتى بدؤا يتلكؤن في طعامهم فعلم أنهم قد إنتهوا ، فأهدر بحب مقبلاً يد زوجته : تسلم إيديكي حبيبتي ، تعبينك معانا كل يوم.
- يا حبيبي تعبك راحة ، هتنام شوية ولا هتنزل على طول.
ثم رفعت عينيها إليه فوجدته ينظر نحو أبناءه فصمتت ، فتسآل : هه ، إيه أخباركم يا ولاد ؟!
فأجابوا معاً بصوتٍ مكتوم : الحمد لله !
- الحمد لله على كل حال ، ماشاء الله ! عندي إتنين إعدادية وإتنين أولى إعدادي ، كبار يعني !
فأكملت سلمى الإبنة: يا بابي مااسمهاش إعدادية ، إسمها....
فقاطعها : إسمها عفريت أزرق ، أياً كان إسمها ، سموها ودلعوها زي ماانتو عايزين ، المهم يكون كل واحد بيعمل شغله تمام وبيقوم باللي وراه.
فأجاب سليم الإبن : كله تمام يا حاج.
فتابع سليم بصرامة : ده أساسي ، لام يكون كله تمام ، ماانا ما بصرفش كل المصاريف دي في مدارس و كورسات ودروس ، وبعد كده مش كله تمام.
ثم قال : من إنهاردة ماما مالهاش دعوة بحد فيكم ، مفيش حاجة إسمها ذاكريلي ، سمعيلي ، ولا عايز أسمع كلمة ذاكرت ؟! ولا خش ذاكر ولا قوم شوف اللي وراك ، بتعرفوا تعتمدوا على نفسكم ، يبقى مع نفسكم ، مش هتذاكروا من نفسكم براحتكم ، بيني وبينكم تقديراتكم و درجاتكم وعلى الله أشوف درجات دون المستوى.
ثم تابع : سلمى دي ، مامتكم يعني ، دي روحي ، حبيبتي ، ما احبهاش تزعل ولا تضايق ولا احب حد يزعلها ولا هقبل بده ، يعني السخافات اللي بتحصل مش مسموح بيها ، مش مكسوفين على دمكم وإنتوا شُحُطة كده وبتتخانقوا ؟!
فأردفت رقية : يا بابي هم اللي بيغلسوا علينا وياخدوا حاجاتنا و يضربونا....
فقاطعها رافعاً صوته : يإيه ؟! يضربوكم ؟! بناتي أنا يضربوا ؟!! إوعى تكون فاكر إنت وهو عشان كبرتوا بآيتوا رجالة البيت ، لا ، ولا ليكم أي حق تمدوا إيدكم على إخواتكم البنات ، ولا ليك حق تزعق وتجعر بصوتك اللي فرحان بيه عشان طلعلك شنب إعدادي المعفن ده ؟!
فأجاب سليم الإبن : ماهم كمان بيغلسوا.
فتابع سليم : عيب أوي المهزلة دي و شغل الأطفال ، إنتو بتكبروا ولا بتصغروا ؟!
لا الصبيان يمدوا إيدهم على البنات ولا البنات تقلل من إخواتها الصبيان ، إنتو كلكم إيد واحدة ، إخوات دم واحد ، قلبكم على بعض ، ده آخر إنذار وتحذير ليكم بعد كده هقلب وإنتو ما جربتوش قلبتي شكلها إيه ؟ ما تطلعوش العربجي اللي جوايا !
فهمست سلمى : هتقولي على قلبتك !
لكن يبدو أن سليم قد سمعها فلكزها بقدمه في ساقها من أسفل الطاولة فنظرت له بطرف عينيها بطريقة جعلته كاد ينفجر ضاحكاً لكنه تماسك حفاظاً على هيبة الموقف.
ثم قال : وبما إنكم كبار ، فكل واحد يشيل مكانه ، جيت من برة علّق هدوم ، حط المتوسخ في باسكت الغسيل ، الطبق اللي جنابك بتاكل فيه دخله المطبخ و نضفه من بواقي الأكل في باسكت الزبالة ، قص الورق و أدواتك لمها ، سريرك سويه ، الفوضى اللي شايفها دي لو اتكررت مش هيحصل كويس ، الكلام للبنات و الصبيان ، مفهووووووم !
فأجابوا معاً : حاضر يا بابي.
أخذ نفساً عميقاً ثم إبتسم قائلاً : ودلوقتي ده ميعاد قرار مهم................
...................................
Noonazad 💕❤💕
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro