(16)
(بقلم : نهال عبدالواحد)
كان رجال سيف قد عادوا جميعًا لمصر إلا واحدًا ربما كان أقربهم لسيف، كان يجيء إليه يوميًا في المشفى ليحضر إليه الطعام أو الملابس أو أي شيء قد يحتاجه سيف، وأحيانًا للتخفيف عن سيف فهو الآن يحمل الكثير ويود أن يجدد روحه ليستطيع التحمل أكثر و الصبر أكثر و أكثر.
مضي قرابة شهر ولم يجد جديد وصار لندى أنبوب تغذية من أنفها (رايل)، فتحة في عنقها لجهاز التنفس موصلة بأجهزة وأسلاك و بدأت عروقها تجف وتسد.
جاء الطبيب لسيف يخبره بأن لا فائدة من ذلك و الأحسن نزع الأجهزة فلا داعي لوجودها لكن سيف رفض بشدة وفي كل مرة يحدثه الطبيب رفض بشدة بل احتد وانفعل عليه فرغم قلة الأمل إلا أنه سيظل معها دون يأس وإن ترك عمله وكل حياته.
وأكمل هكذا لكنه يعتصر وجعًا و رغم إصراره الشديد هذا إلا أن ثمة شعور بداخله يثبط من عزيمته ويقول له ألا فائدة.
وكلما زاد الوقت بعد الأمل بعد تكرار طلب الطبيب عدة مرات، ومن الممكن أن يفعل الطبيب ذلك عنوة إن احتاج لمكانها.
ولم يكن سيف يفارقها فدائمًا جالسًا جوارها ممسكًا بيدها، يحدثها حينًا وحينًا أخرى يتلو آيات الله فكلام الله فيه الشفاء ولعله تحدث المعجزة.
وذات يوم كان سيف جالسًا ممسكًا بيدها كالعادة و يقرأ القرآن، فجأة شعر بضغطة ضعيفة من طرف أصابعها فوجم قليلًا، رفع عينيه أمامه دون أن يلتفت إليها فقد تكرر ذلك الموقف وقد أخبره الطبيب أنه رد فعل تلقائي.
لكن رغم تكرار ذلك الموقف إلا أنه كلما يحدث يتفاجأ و يظل واجمًا، بعد قليل توقفت تلك الضغطة فاستكمل قراءته ثم عادت تلك الضغطة كأنما هناك حركة خفيفة من أطراف الأصابع فوجم ثانيًا دون أن يلتفت إليها، ظل يشعر بتلك الضغطة حينًا بعد أخرى وهو يخشى الإلتفات نحوها و التعلق بأمل كذاب.
حتى بدأ يسمع صوت أنين فالتفت مسرعًا فوجد عينيها مفتوحة ظل ناظرًا إليها، فرك في عينيه و نظر ثانيًا فوجدها مفتوحة فعلًا، إذن إنه لا يحلم.
فناداها بروح شبه يائسة: ندى، ندى، إنتِ صاحية صح؟ شايفاني هه!
أومأت بجفنيها أن نعم، حاولت التبسم لكن لا تستطيع الكلام، تهللت أساريره وبكى في نفس الوقت، احتضنها بشدة، كانت أول مرة لها تشعر بحضنه و دفئه فأسندت برأسها عليه.
ونادى الطبيب فجاء، فحصها، حوله مساعديه وبدؤا في فك بعض الأجهزة خاصة الأنابيب الخاصة بالتغذية وجهاز التنفس، كان ذلك يؤلمها خاصةً جرح هذه الفتحة في عنقها، كانت لا تستطيع الكلام أو تخشى الكلام، نُقلت بعدها إلى غرفة عادية لكن تحت الملاحظة.
لا زال سيف معها يطعمها وأحيانًا في الأيام المشمسة يفتح لها النافذة، يجلسها جوارها لتتمتع بأشعة الشمس ويسندها لتحاول المشي.
بعد عدة أيام خرجت ندى من المشفى،ذهبت مع سيف إلى المنزل الذي يعيش فيه، كان من غرفة واحدة، تركها تنام في تلك الغرفة، نام بالخارج فليس لديها بيت ورغم أنها معه في نفس البيت إلا إنها لأول مرة ومن زمن طويل تشعر براحة و أمان و تستطيع النوم بعمق.
في اليوم التالي فتحت ندي عينيها على طرق الباب،قامت لتفتح فإذا به سيف و يحمل في يديه أكياس و حقائب كثيرة.
أهدر سيف بابتسامة ساحرة: أحلى بونجور ده ولا إيه! حلوة حتى وانت لسه صاحية!
فابتسمت وقالت بهدوء: صباح الخير، كنت برة ولا إيه!
- اممممممممم، وي مدام، ومن الصبح وأنا بلف وسط المحلات عشان ألاقي حاجة تعجبك وتليق بمعاليك يا باشا.
- بس ده كتير أوي.
- كتييييييير! ده ولا حاجة...
ثم نظر في عينيها بعمق وقال مازحًا: شكلك ناوي يضرب ع الترنج بتاعي، بعد كده ده تي شيرت و ده جاكيت، لا ياماما! بس كلام ف سرك، يا بخت الترنج!
ابتسمت بخحل دون أن تعقب، دخل سيف الحجرة، وضع الحقائب على الأرض ثم قال: بصي بأه أنا جهزتلك باسبور وحجزت التذاكر إن شاء الله كمان أسبوع، ولحد الأسبوع ده ما يخلص عاملك بروجرام صغيور أفسحك شوية، هه إيه رأيك؟!
- شكرًا على كل حاجة، وحتى شكرًا دي قليلة أوي على وقفتك معايا و وجودك جنبي.
- طب يا ندى مش هزعل منك وهعتبر إن الغيبوبة ضربت فيوزين جوه، ممكن تجهزي بأه عشان ننزل نفطر ف أي حتة.
فابتسمت و دخلت، أغلقت الباب، فتحت الحقائب، رأت الملابس، أعجبت بها كثيرًا واختارت أحدها وارتدته ثم نزلا وفعلًا طوال الأسبوع كل يوم في مكان جديد وسيف دائمًا معها يحدثها، يتسامر معها، رغم أنها قد زارت دول كثير مع يوسف لكن الخروج مع سيف مذاق آخر.
لكنها لم تعد هي صارت كائن آخر، بمجرد أن يسكت سيف تشرد كثيرًا وتغوص في آلام و أوجاع لا نهاية لها وهو يرى ذلك، لا يعرف كيف يخرجها من كل ذلك فهي أصعب مهمة في حياته ولم ينجح فيها بعد.
سافرا الاثنان أقصد عادا بعد غياب طويل، كانت زينب على علم بموعد وصولهما، أعدت بيت ندى، أعدت الأطعمة وأصناف الحلويات إحتفالًا بهما فشوقها إليهما طال وطال.
وصلا للبيت، سلمت عليهما بحرارة، رغم تحسن ندى إلا أنها لازالت شاحبة، ذابلة، ناقصة الوزن، تألمت زينب كثيرًا عندما رأتها، ذلك يعكس حجم ألمها ومعاناتها، دخلت ندى مع سيف عند زينب، قد أعدت الطعام لكنها أكلت بضع لقيمات، شردت وكان ذلك ظاهرًا لزينب وسيف حتى استأذنت في دخول شقتها فقاما معها زينب و سيف.
وصلت لباب شقتها أمسكت بالمفتاح، حاولت أن تفتح فارتعشت يدها، سقط المفتاح، أخذه سيف وفتح هو، دخلت، سارت بضع خطوات ثم توقفت ولازالت تشتم رائحة والديها.
فتنظر ناحية المطبخ ستخرج أمها الآن تعاتبها على غيابها أو تطلب منها أي شيء من أعمال المنزل وهي تتهرب منها بأي حجة.
ثم تنظر ناحية الحمام سيخرج والدها الآن لينزل ويلحق صلاة الجماعة في المسجد.
وتنظر ناحية حجرة النوم ، لا، بل سيخرج من هنا ليقول لأمها دعيها وشأنها ولا تكلفها بشيء من أعمال المنزل.
هنا يجلس والدها لمشاهدة النشرة الإخبارية أو إحدى مبارات كرة القدم و في نفس الوقت يحين موعد المسلسل فيتحاور الإثنان في دعابة تنتهي بذهاب أمها لتشاهد المسلسل مع صديقتها زينب وفي يدها طبق من الحلوى قد صنعته اليوم.
على تلك السفرة أكلوا جميعًا وفي شهر رمضان ينقل التلفاز في الوسط ليتمكنوا من المشاهدة وقت الإفطار وبعد ذلك أيضًا، وهنا كان والدها يضع لها فانوسًا جديدًا كل عام، وهنا كان يعطي لها العيدية، وهنا... وهنا...
وكثير من الذكريات و دموعها تتساقط، حتى وصلت ذاكرتها لآخر يوم لها وهي تخرج من ذلك الباب لتذهب لمركز التجميل يوم زفافها في تلك الزيجة المشؤمة وهنا جثت ندى على ركبتيها أرضًا، أجهشت بالبكاء، بكاءً مريًرا، بكاءً هيستيريًا، بكاءً بحرقة، ربما تُضمد الجراح، ربما تنطفيء النيران، ربما يعود من رحل..........................................
NoonaAbdElWahed
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro