الفصل الرابع عشر: كالمغناطيس
Playlist:
Machine Gun Kelly ft. Camila Cabello: Bad Things
Elliot James Reay: I Think They Call This Love
Little Mix: Touch
KAI: Ride or Die
...
-قراءة ممتعة-
و ما كنتُ إمرِئ عبثٍ أو لهوٍ
و تركتُ أُنسي بالحياةِ يومَ هجرتْ سقفي
إنّي أضناني الوَجْدُ و التوجُّدُ
و توجُّدي بها لهوٌ و تلفٌ
لا أخلو من النظر كلّما
أشرقتْ في الفؤادِ
و ثغرها بالأنغامِ ترنّمَ
هدهدي الوجدان هدهدي
و خذي ما بقي لي من تعقّل و سِوَاهُ
رأفةً بي و تلطّفا، هدهدي
ربُكَِ من قذف في القلبِ حبّكِ و سوّاهُ
تراها العين و العقل أظلم
حتّى و إن غابت عن بصري، في القلبِ تُرتجى
عاهدتني على اللُّقيا متجردة
فخانت العهد و باغتتني بالسلاح
عيناها، شفتاها، و خصل شعرها الطليقة ينهون عن الفلاحِ.
«من يكون حبّك الأوّل؟»
حدّقت بعينيه طويلا ملتزمة الصمت مدركة في قرارة نفسها أن عليها قول شيء يسدُّ رمق سؤاله في نهاية المطاف، و بما أنها تعلم بأن الأكاذيب لا تنطلي عليه غالبا، كان خيارها واضحا صريحا فقالت:
«أحبّذ الإحتفاظ بذلك لنفسي»
«قلتُ من الوغدُ الذي أحببتِ سرّا؟»
أعلن سيونغ وون رفضه التام للتحفظ الذي أبدته، فكان مستغربا من نفسه بدوره لغزوه مساحتها الخاصة دون خجل. و لكن لم يبدو بأنها جاهزة لتغيير موقفها.
«أعتقد أن الحبّ ليس جرما، و أنّي لستُ مضطرة على الجهر بما لا أريد الإفصاح عنه»
رمقها باستخفاف زامّا شفتاه ثم سرعان ما مالتا ببسمة عابثة و قال متهكّما متعمّدا إستفزازها:
«هل سُمعته سيئة إلى هذه الدرجة حتى تحتفظي بهويته سرّا؟»
أصدرت أون هي ضحكة رنانة و ردّت:
«كلا، على العكس تماما فهو شخص جيّد جدّا!»
ضمّت المرأة شفتاها لبرهة متأملة وجهه بولع ثم أرفقت تعليقا إضافيا بعفوية:
«ستندم على هذا الكلام بكل تأكيد إن علمتَ عمّن تتكلم!»
«إذن هو شخص أعرفه!»
وضعت كلتا يداها على فمها عندما واتاها الإدراك بأنها وقعت في فخّه بسهولة و لعنت نفسها في سرّها. رفع سيونغ وون حاجبه و قال بغرور:
«إذن أعرفه!»
«إنها قصّة قديمة ولّت و إنتهى أمرها، و لا طائل من السؤال، و لن يشكّل ما إذا كنتَ تعرفه أم لا فرقا»
حاولت أون هي تدارك الموقف بتلك الكلمات ذات النبرة الجدية التي حاكتها ملامح وجه حازمة.
«حتى المعني بالأمر لا يعلم أنني أحببته»
إحتشد حاجباه إستغرابا فأطرقت لوهلة و إجتاحتها مشاعر مبعثرة بين الحنين إلى تلك المشاعر الدافئة و الأسف على كونها كانت عابرة و غير مرئية. أصاب وخز قوي قلبها فجأة عندما مرت أمام عيناها ومضات سريعة لمختلف الأوقات التي ذرفت فيها الدموع و تألمت بسبب ذلك الحب، و اللحظات التي كان من الصعب التنفس فيها، و الأيام الطوال التي حاربت فؤادها فيها هباءً، و حتى المرّات المريرة التي جلست فيها على أرضية غرفة نومها في غياب زوجها مسندة ظهرها على هيكل السرير متأملة الصور البهيجة التي جمعتها به في مختلف المناسبات بقهر و غلبة إثر فشل جميع محاولاتها لنسيانه. فكلما ظنت أنها نجحت، أدركت أنها أخفقت مجددا لا إلا.
«إنه رجل متزوج الآن و لن أذكر اسمه لأي سبب»
كان الوقت الذي أمضته مع يون هو كفيلا بتهدئة خافقها قليلا فأكسبها بعض المناعة لئلا تنهار دواخلها إذا وقفت أمام عريض الكتفين وجها لوجه. أما الآن فليست تعلم ما إذا بدأت بخسارة تلك المناعة شيئا فشيئا. هذا القلب لا يتوقّف عن الخفقان بجنون، و ذلك يدفعها إلى غض النظر و عدم الإصغاء إلى الإحتمالات المخيفة التي يتلوها رأسها؛ حبه أمر إنتهى و إندثر مع إندثار الماضي بسذاجته و تهوره و لاعقلانيته. و الآن قد عقدت العزم على عدم السماح له بفتح جروح لا يجب أن تُفتح من جديد...جروح كان غافلا عنها، بل أعمى.
«لا يعلم!»
أفلت ذلك السؤال من شفتيْ سيونغ وون عجولا و الدهشة جلية على وجهه النير تحت ضوء القمر.
«هناك أشياء في هذه الحياة يجب أن تبقى مكتومة إلى الأبد»
«أحترم رغبتكِ إذا»
بدا أن الحديث عن الأمر أرهقها، حتى أنه جعل الدموع تتجمع في مقلتيها، فآثر سيونغ وون التراجع عن الخوض في المزيد بتفهم، على الرغم من أن فضوله كان يكاد أن يقتله.
رفعت أون هي يداها في الفضاء نحوه باسمة الثغر محاولة بتلك الإبتسامة البالية إخفاء عبوسها و تدارك السقم الذي أصاب روحها و قالت بنبرة منكسرة:
«هلاّ أنزلتني؟»
«تعالي إلى هنا صغيرتي»
حملها كطفلة لا تتجاوز الخامسة من عمرها و ضمها إلى صدره و همس في أذنها بصوتٍ هادئ مهدهدٍ:
«إني أشهد أنها لخسارة كبيرة لذلك الرجل الذي حرمته الحياة حُبكِ الفياض هذا!»
⋆
⋆
⋆
⋆
أخذت قدما سيونغ وون ذو الفكر المشغول جثته إلى الحديقة لإستنشاق الهواء فوجد وونيونغ جالسة على الأريكة قربَ المسبحِ ممدّدة الساقين و كانت تقرأ كتابا تملّك لون غلافهِ إهتمامه من بعيد، و تبيّن عنوانه لمّا أخذ يقترب قليلا.
«أمهتمة بالأدب الإنجليزي أيضا؟»
رفعت الفتاة عيناها نحو صاحب الصوت فارتفع حاجباها لمّا تبيّنت أن الواقف أمامها حقيقي و ليس مجرد خيال من خيالاتها العاطفية السخيفة.
كان بديعا يأخذ مرآه بمجامع القلوب على الغبطة؛ يكتسي وجهه الجدية كعادته، له وقفة مستقيمة يميزها وضعه ليديه في جيبيْ بنطاله، و هيبة لا يمحوها هجره لبذلاته الرسمية و إستبداله إياها بملابس منزلية بسيطة و مريحة أثناء تواجده في البيت.
جعلت «أيضا» التي أنهى بها سؤاله عقلها يقفز إلى الإستنتاج بأنه مهتم بقراءة هذا النوع من الكتب بدوره و هذا ما جعل أساريرها تتهلل؛ فها هي ذي تجد وجه تشابه بينهما أخيرا. لمعت عينا وونيونغ كثعلب سعيد و إعتدلت في جلستها مغلقة الكتاب و خاطبته كآنسة نبيلة قائلة:
«أحب الروايات الإنجليزية الكلاسيكية بالذّات و أجواءها الزمنية»
أومأ سيونغ وون و حدّق بالكتاب الموضوع فوق فخذاها معلّقا بهدوء:
«لقد قرأتُ تلك الرواية قبل بضع سنوات»
أمالت وونيونغ رأسها و هتفت بتفاجئ:
«قرأتَ "باميلا"!»
رفع عيناه لتقابلا عيناها فلاحظ تورّد وجنتاها و عجزها عن الحفاظ على ذلك التواصل البصري طويلا فأدرك ما يشغلها باطنا.
«بلى، إنها ممتعة جدّا إذا لم تقرئيها بطريقة نسوية، و لكنَّ قلبكِ سيُرهق كثيرا، و سيصيبكِ الغثيان، في حالِ فعلتِ العكس»
تجعّد جبين وونيونغ في تفاعل مع ما يرمز إليه كلام سيد البيت و هتفت بتأييد:
«قد بلغتُ منتصفها بالفعل، و ذلك المدعو «السيدَ بي» يثير حفيظتي و جنوني...إنه وغد حقيقي، بل منحرف وجبت معاقبته!»
أومأ سيونغ وون ثانية و ردّ:
«أوافقكِ الرأي، إنه ذئب أناني يعلم تماما ما يريده في مجتمع زيّن له أفعاله لمجرّدِ أنه رجل!»
نما الإنبهار في داخل وونيونغ تأثرا برأي الرجل الذي لم يكن متحيّزا لجنسه قط عندما طُرحت أمامه شخصية روائية ذكورية تحمل قوة عظيمة في قبضتها. كان ذلك الرجل المدعو بـ «السيد بي» سيدا غنيا-مثله-أيضا، و لكنه-على عكسه-إستغلّ سلطته لمحاولة إستدراج خادمته «باميلا» التي يرغب بشدة، و التحرش بها مرارا سعيا لإغوائها و إتخاذها عشيقة لا ترقى مكانتها عن كونها مكبا لشهواته.
لم تستطع الشابّة منع الإبتسامة عن الإشراق على ثغرها المنحوت كشمس وهّاجة في عزِّ الليل فلاحظ سيونغ وون أن للفتاة جمالا يستحقُّ الثناء، و لكنه لا يستطيع إلاّ أن يراها كأختٍ صغيرة متهورة تستحق التغاضي عن زلاّتها، و بعض النصح و الإرشاد في بداية مشوارها المهني، على خلافِ المشاعر الوردية التي نمت في خافقها و الأحلام الجامحة التي رسمتها في خيالها. لم يكن بغافل عن إضاءة عينيها لدى رؤيتها له بيد أنه تعمّد آداء دور الجاهل الصادِّ. و لطالما بدت تلك النظرات المعجبة في مقلتيها مألوفة مذ وطأت قدماها عتبة منزله و كذلك ما يبعثه جسدها من علامات ملفتة فهي تذكّره بأون هي في منتصفِ عشريناتها لامحالة؛ تجتمع تلك اللهفة و ذاك السرور و كذلك التوتر نفسه حين تقابله وجها لوجه في حديث إنفرادي بين الحين و الآخر. و لولا أنّه مقتنع تمام الإقتناع بأن سبب جميع تلك الذبذبات المنبعثة من أون هي هو إحترامها الشديد له و إعتبارها إيّاه في مقام الأب الراعي و الأخ الأكبر و القدوة و المثال لآمن إيمان الغرباء أنها تعشقه عشق المجانين...و لعلّ الزّمن جعل من إضاءة عينيها أقوى حتى.
بدا له مؤخرا أن من مسبّبات الضغط و عدم الإرتياح هو رؤيته لحوريته التي لا تكبر أينما ولّى وجهه؛ و الآن ها هو ذا بات يقرأها على وجوه الغرباء، و يشتاقها حتى من بعد لقياها بدقائق معدودة.
مجرّد فرضية عشقها له الخيالية جعلت قلبه ينبض بشدّة و أفكاره تتشابك.
«في الواقع، كلما توغّلتُ في القراءة علمتُ أنه لا يمكنني العودة إلى الوراء أو التوقّف فجأة، فالفضول يقتلني لمعرفة النهاية!»
أصدر سيونغ وون ضحكة صاخبة قائلا:
«النهاية؟»
«لماذا تضحك؟»
سألت وونيونغ بحيرة و توسّعت الإبتسامة على شفتيها فرفع سيونغ وون رأسه بعفوية فإذا بأون هي تشاهدهما من الشرفة بنظرات حادة كالنسر. شرد بها لوهلة و قد علقت الإبتسامة على ثغره خافتةً قُبيْل إنمحائها، فكأنّما قام باستدعائها تخاطرًا دون قصدٍ، ثم أعاد بصره إلى وونيونغ مجيبا:
«يمكن تقبّل النهاية إذا أخذنا بعين الإعتبار الإطارين المكاني و الزماني و راعيْنا المعتقدات المجتمعيّة السّائدة في تلك الفترة، و لكنّكِ ستشعرين بالسّوء كثيرا إذا نظرتِ إليها من منظور المرأة المعاصرة»
«شوّقتني لبلوغ الصفحة الأخيرة، سيدي!»
خلّل أصابعه الرشيقة بين خصل شعره السوداء و قال:
«أتمنى لكِ قراءة طيبة إذا»
همّ بالذهاب فنهضت عن مضجعها و إستوقفته سائلة بلهفة:
«و لكن ينتابني الفضول سيّد تشا...»
رتّبت هيئتها و إستقامت أمام طوله الفارع مواصلة حديثها:
«هل تؤمن بأن للمرأة سلطة لا تعلوها سلطة على جسدها؟»
لم يستغرق الرجل في التفكير طويلا و أومأ دون تردّد و كأنه مُعْتَقَدٌ مسلّمٌ به بالنسبة إليه.
«لا شكّ في ذلك!»
«أدهشتني إجابتكَ، حتّى أكون صادقة!»
«و لمَ ذلك؟»
عقدت وونيونغ خصلة خلف أذنها مطرقة بنظرة جانبية بتفكير ثم نظرت في عينيه بشجاعة و قالت:
«لا أريد منكَ أن تفهمني خطأ و لكن أذكر أنّ لك تدخّلا غير مفهوما في ملابس السيّدة يون أون هي على سبيل المثال! أليس في ذلك تناقضا؟»
حدجها بنظرة مؤنبة و علّق:
«يالدقّة ملاحظتكِ، آنسة كيم!»
إضطربت وونيونغ قليلا ففركت عنقها في حرجٍ عاضّة شفتها السفلى بندم لسؤاله ما جال في خاطرها بصراحة مطلقة. همّت بالإعتذار و لكنّه قاطعها بالقول:
«لا أُحبّ الأناس الفضوليين كثيرا حولي، و لكن بما أنّكِ سألتِ دعيني أجيبكِ و أوضح هذا لمرّة واحدة و أخيرة حتّى لا تأخذكِ الإفتراضات العرجاء بعيدا، فأنا لا أسمح بهذا و أنتِ تعيشين بين جدران بيتي»
إحمرّ وجهها و تباطأت أنفاسها على إثر كلّ كلمة كان يلفظها بصرامة و الراحة لا تفارق صوته و نسق تنفسه. إرتسمت إبتسامة جانبية واثقة على ثغره و أفصح بحزم:
«أون هي إمرأة تخصُّني، فهي فرد عزيز من عائلتي، و كربٍّ لهذه العائلة فإن السهر على صلاحها واجب مقدّسٌ يقع على عاتقي»
رفع عيناه إلى الشرفة فإذا بها لاتزال واقفة هناك. ينعكس على بشرتها البيضاء الناصعة و شعرها الحالك الطويل و منامتها الحريرية البيضاء ضوء القمر. إتكأت أون هي بكلتا ذراعيها على الحافة شاعرة بالفضول حول ما يتحدثان عنه و لم ترقها إبتسامته المستمتعة بينما يتحدّث إلى الجليسة التي تبدو مهتمّة به غير مدركة أنها السبب خلفها في واقع الأمر. واصل سيونغ وون حديثه دون إشاحة النظر عنها قائلا:
«لطالما كان أسلوب ملابسها أعرجا منذ الصّغر. رابطتنا القويّة تخوّل لي إرشادها إلى الصواب، و تصويب أفعالها-إن أخطأت-و لكنّ لا نيّة لي بقمعها...»
بلّل شفتاه و نقل حدقتاه إلى العشرينية التي إلتفتت فضولا لرؤية ما كان مركزا عيناه عليه خلفها فلم تجد أحدا حيث إنسحبت أون هي إلى الداخل شاعرة بضيقٍ غريب في صدرها. و لكن ذات الفؤاد المرتاب خمّنت أن صاحبة الشرفة كانت هناك لامحالة.
أعادت وونيونغ بصرها إلى عريض المنكبين المقابل لها على إثر إتمامه قوله و هو يرمق وجهها بملامح صارمة:
«رغم أنها تدفعني إلى ذلك أحيانا»
ساد بعض الصمتُ بينهما و كأنها إستغرقت بعض الوقت للتفكير في كلامه، في حين كان هو غارقا في التفكير في رفيقة القمر. كانت إمرأة كقطعة من الحلوى اللذيذةِ، تُسيل اللّعاب.
«هل لازلتَ تشعر بالغضب تجاهي بسبب ما بدر منّي في وقتٍ سابقٍ، سيدي؟»
أيقظته من تفكيره العميق بسؤالها ذاك فحدّق بها بصمت لبعض الوقت ثم نفى برأسه و رحل تاركا إياها خلفه متخبطة في مشاعر الغبطة و الراحة التي لم تخلو من الغيرة و الحرج.
لم يكن الرجل بمن يحبُّ الحكم على الكتاب من غلافه ما لم يقرأه و يفسره جيدا حتى لو كانت بعض أفعال البشر تثير أعصابه في هذه الحياة التي لا يتعدّى معناها كونها قصة في حدّ ذاتها.
⋆
⋆
⋆
⋆
«إتّصلتُ به عديد المرّاتِ و لكنّه لا يجيب!»
صدح صوتُ دارا المنكسر في أذن أون هي عبر الهاتف فكوّرت الأخيرة قبضتاها آنذاك و شعرت بانزعاج-لم تستطع تداركه منذ أغلقت باب شرفتها هاجرة ذلك المشهد الذي عكّر مزاجها في الأسفل-لمّا تذكرت دردشته مع وونيونغ و تبادلهما الضحكات معا، فعضّت شفتها السفلى محاولة إنتخاب أسلم العبارات للإجابة على أختها و قالت:
«إنه يعمل في المكتب مذ عاد إلى البيت، يبدو مشغولا جدا و على الأرجح أنه لم ينتبه لهاتفه»
أغمضت أون هي عيناها بقوة إثر قولها لذلك شاكرة الربّ أنّها إستطاعت إخفاء الأفكار التي باتت تراودها بخصوص جليسة سيهون عن دارا فالوضع بينها و بين زوجها سيّئ بما يكفي و يحتاج صبّ البنزين على النار.
«فهمت! سأتصل به في وقتٍ لاحقٍ إذا»
«بلى، لا تتوقفي عن المحاولة دارا»
فتحت باب غرفتها قصد الذهاب إلى غرفة الجلوس و لكنها تفاجأت بسيونغ وون واقفا عنده هامّا بالطرق عليه تزامنا مع لفظها إسم دارا. لمعت عيناها بحماس فاغرة الفاه و كادت تُعلم أختها بأنه موجود حذوها و كلّها إستعداد لتحويل جوالها إلى أذنه، و لكنها ابتلعت لسانها عندما إعتلى التجهّم وجه الرجل و وضع سبّابته فوق فمه و أنفه بحزم داعيا إيّاها إلى آلتزام الصمت.
«و لكن...ألا تعتقدين أن سيونغ وون يتعمّد تجاهلي كعقاب، أختي؟»
كانت عالقة و إيّاه في تواصل بصري مربك و لم تكن تعلم بماذا يجب أن تجيب على السؤال الذي طرحته دارا؛ أتكذب عليها و هذا ما تيقّنت منه توّا؟
«لا أخفيكِ أنه غاضب منكِ و لكن...»
ضيّقت المرأة عيناها و عبست لائمة بذلك ذا الطول الشامخ الواقف أمامها الذي أمسكت يده بفردة الباب، و ترنّح رامقا إياها برضا لإطاعتها أمره دون نقاش. أخذ سيونغ وون يتأمّل إرتباكها اللطيف فأحسّ بشعور غريب يسحبه نحوها، و دغدغت المتعة أوتار قلبه. أجلت أون هي، صاحبة الموقف المستاء، صوتها و إستأنفت الحوار الهاتفي مع أختها رادفة:
«لا أظنّه يعاقبكِ بتجاهل إتصالاتكِ فهو...»
إقترب منها فاتحا الباب أكثر حتى تقدم دالفا غرفتها دافعا بذلك جسدها على التراجع إلى الخلف و إفساح المجال لبدنه الضخم للعبور، و عندما إنحنى صوبها و عانقها بشغف منتصف الغرفة توقفت عن الحديث و التنفس لوهلة.
«هو يشتاق إليكِ كثيرا لامحالة!»
كان ذلك كل ما كانت قادرة على التلفّظ به إستكمالا لجملتها الناقصة وسط الدوّامة التي داهمت وعيها و تركيزها. بدا الأمر كما لو أنّ الدنيا إهتزّت حولها فجأة، و سطى حضوره على عقلها و حواسها، و إستفحلت رائحته الزكية في أنفها و كيانها و لم تعد قادرة على التفكير في غيره في تلك اللحظات الثمينة الثقيلة كجسده الشديد المترنّح فوق جسدها الخفيف كغصن البان.
كان رجلا إستثنائيا قلبا و قالبا و يجيد حساب خطواته؛ فوجهه من الوجوه التي تستأثر بالتميز، وجهٌ أودعته الطبيعة الجلال و الهيبة. و قلبه قلبُ سبعٍ من الفولاذ صُنع، بيد أنه بين يداها يلينُ.
هو رجلٌ محنّك، ذو مقاومة قوية لصفعات الحياة و أزماتها منذ كان طفلا صغيرا، و منذ أضحى يتيما و فقد والداه أمام عيناه.
لم يتغلّب عليه الزمان حتى عندما أصبح رجلا بالغا اليوم، كان متديّنا صاحب مبادئ ثابتة و لم ينثني أو يستسلم أمام مغريات الدنيا. و لم يصنع تشا سيونغ وون إسمه ذاك بسهولة بل بالعرق و الدم و الدموع، و لم ينحنِ مهما حدث. و لكنه اليوم يهوي بين ذراعيها و يبدو مهزوما بشكل لا يصدّق. فهل إتّخذ قراره بأن يرفع الراية البيضاء و يهرب من الحياة إلى حضنها بهذا الإصرار اليوم؟
ضغط سيونغ وون على جسدها كثيرا حتى شعرت أون هي أن عليها إنهاء المكالمة مع أختها سريعا فازدردت ريقها بعسر ثم هتفت:
«علي إرضاع سيهون، تصبحين على خير أختي»
أنهت المكالمة بهدوء ضاغطة على هيكل الجهاز الخلوي في يدها غير متنبّهة في البداية إلى الإبتسامة الشقية التي مرّت على ثغره إثر إلقائها لذلك العذر على مسامعه و لكن سرعان ما أحست بها عندما لامستا جلد عنقها في الخلف.
«ظننتكِ أنهيتِ إرضاعه!»
همس ساخرا فلطمت ذراعه زاجرة إيّاه:
«كُفّ عن العبث و أجبني...»
همّت بدفع جسده عنها سائلة باستغراب:
«ما الذي يجري سيونغ وون؟...هلا إبتعدتَ قليلا؟»
أصرّ سيونغ وون على عدم إفلاتها و همس في أذنها بإنهاك روحي:
«هلاّ عانقتني لبعض الوقت؟...أحتاج ذلك كثيرا»
بدا صوته مُجهدا بشكل واضح و لم يُبْدِ أي مقاومة جسدية لإحباط محاولتها-التي بدت ناجحة-من أجل إبعاده فأحسّت أنّ من القسوة دفعه بعيدا و كأنّها بنابذة إياه و هي التي تشعر بأنها مباركة من السّماء كلّما منّ عليها بحضن يتيم من حين إلى آخر، و لذلك إلتزمت الصمت و توقّفت عن بذل أيّ مجهودٍ لمقاومة إلتحامه العنيد بها فأنزلت يداها إلى مستوى فخذيها كالجماد و حدّقت بالفراغ في ضيق.
و مهما أحبّت فكرة إحتضانه و تاقت لها، لم تكن أون هي تملك الجرأة الكافية لمواجهة ضميرها عندما يأتي لتأنيبها لاحقا-قبل النوم-إذا رفعتهما إلى جسده و تحسّسته بكفّيها بأنانية. و على الرغم من أنها قد نجحت في إقناع نفسها بأنّها تداركت الحبّ العظيم الذي كنّته له لسنوات طوال، لم يكن عقلها قادرا على تجنّب حقيقة أن ذلك الرجل ليس أي رجل، و تجاهل أنه كان حبّها الأول.
إن وعيها بتلك الحقيقة ليثير في نفسها الشعور بعدم الراحة و ضرورة الإنتباه و الحذر في التعامل معه، خاصة بعد الإنفلات الذي مارساه في الأيام الأخيرة القليلة؛ لم تكن المرأة مغفلة ولا غافلة لئلا تدرك تلك المشاعر المنذرة التي فاحت من كلا الجسدين، تلك اللمسات العابرة و لكنها باقية في النفس صامدة، تلك المرّاتُ المخجلة التي كادا يتبادلان فيها القبل، تذوقها لإصبعه و غرقهما في تلك الخيالات الفاسقة، و صعودها الغبي لصهوته الشامخة، و الآن هذا الحضن الآثم الذي يعتصر جسدها إعتصارا و الأدهى بأنّها لا تدري ما إذا كانت ستكون قادرة على السيطرة على الأمور لكي لا ينجرفا إلى ما يمكن أن يثير في نفسها الندم لاحقا، مجدّدا.
«لماذا لا تعانقينني أيضا؟»
إبتعد عنها فألفى ذلك التعبير المستاء على محيّاها فأمسك ذقنها بلطف و سأل:
«ما هذا التعبير على وجهكِ؟»
رفعت عيناها إلى عينيه بلوم و أجابت:
«إنّك تُلهيني عن موعد نومي، هل نسيتَ بأنني إمرأة عاملة أيضا و عليّ الإستيقاظ باكرا؟»
أبعدت يده عن ذقنها بلطف ثم قاطعت ساعداها عند صدرها و أردفت بنبرة ساخرة:
«لربّما تَقبل صديقتك الجديدة بمنحك حضنا، لمَ لا تذهب إليها بدلا عني؟»
إرتفع حاجباه ببسمة عابثة و مدّ يده فداعب وجنتها متأملا تعابير وجهها الغضوب بمتعة، و إستفهم متقنّعا البراءة خلف نبرته المتعجّبة:
«صديقتي الجديدة؟!»
إحتدّت نظراتها حين تبيّن لها بأنه يدّعي السذاجة بشكل جلي و رفعت كتفا متهكّمة:
«ظننتك تقضي وقتا ممتعا في الأسفل...»
عضّت شفتها السُّفلى متريثة لبرهة من الزمن إمتناعا عن قول المزيد من الكلام الذي يمكن أن يجرح كبرياءها أمامه و لكنها لم تستطع حفظ لسانها أكثر و أضافت مباشرة بنفاد صبر:
«مع جليسة الأطفال!»
رفع حاجبه فطغت على تقاسيمه الوسيمة ملامح لعوبٌ و نظر إليها من طرف عينه باستخفاف باسما دون الإجابة حتى تلقّى منها سؤالا أكثر جدية:
«لماذا لا تردُّ على إتصالات زوجتك؟»
«لم أشعر برغبة في ذلك»
كاد يسترجع جسمها المتصلّب إلى حضنه إثر منحها تلك الإجابة الصريحة فابتعدت عنه مستعدة لتوبيخه قائلة:
«ما الذي يعنيه هذا؟»
حدق بها بنظرات باردة لفترة ملتزما الصمت ثم رفع كتفاه دون مبالاة و ردّ:
«لقد أرادت فترة تختلي فيها مع نفسها، أعتقد أنّه دوري الآن، و لن أسمح لأحدٍ بالتدخل في هذا»
أمسك بكلتا ساعديها، فاتحا إياهما، فاكّا إلتحامهما، و ثبّتهما في الهواء قائلا بصرامة:
«ثم كيف يمكنكِ أن تكوني متأكدة جدّا من مشاعري حتّى تخبري أختكِ بأني أشتاق إليها كثيرا، صغيرتي؟»
أصدر سيونغ وون همهمة إستفهام تنم عن الإنزعاج في نهاية كلامه فهذت برهبة:
«ماذا؟»
إستغربت أون هي من سؤاله و إنتابها حياء مشوبٌ بالرهبة، و سرعان ما تورّد خدّاها خجلا و توتّرت، و لكنها حاولت إيضاح موقفها بعُجالة متلعثمة اللسان:
«لمْ...قصدتُ...لقد أردتُ تلطيف الجو بينكما لا غير! لماذا تتحدّث و كأنّ كلامي غير صحيح أو أنّني قلتُ شيئا شنيعا؟»
هزّها بعض الشيء و ساءلها و قد علت نبرة صوته:
«أنظري إليّ مليّا و أخبريني؛ من قال بأنني أكاد أموت حزنا لغيابها؟»
صرّ الرّجل على أسنانه و إكفهرّ وجهه فجحظت عيناه، و زمجر ضاغطا على كلّ كلمة يلفظها:
«لمَ عساي أكون الوحيد الذي يتعذّبُ في حين أنها لا تبالي؟»
شخصت المرأة في وجهه الذي تعكّر صفوهُ و كأنّ عاصفة داهمته بغتة و شحرت حيث لم تكن تعلم بأن مجرّد ذكر أختها بات يدفعه إلى الغضب إلى هذا الحد. من الصحيح أنها كانت تدري بأنهما على خلافٍ ثقيل الوزن، و لكنّ موقف سيونغ وون الصارم الذي كان يحتدُّ و يشتدُّ يوما بعد يوم أضحى يخيفها و يبعث إلى عقلها هواجس بخصوص نواياه تجاه نهاية رابطته بدارا. رمشت بسرعة متداركة حزنها للسوء الذي إنحدرت نحوه علاقتهما الجميلة و حاولت تشرّب غضبه باستطرادٍ تلاهُ صوتها الحنون:
«كلاّ، هي قلقة عليك صدّقني! حتّام دارا تحبّك كثيرا»
أطلق سيونغ وون سراح ذراعاها و دسّ يداه في جنبيه في حين تراجع كتفاه إلى الخلف بشموخ و كبرياء.
«بل هي تُرضي ضميرها لا أكثر لأنها تعلم بأنها مخطئة بحقّي و أنّه قد طفح كيلي»
لمست أون هي وجهه العبوس المنتفض فلان للمسة كفّها المواسية كالسحر ثمّ أتاهُ سؤالها مشبعا بالحيرة فقالت:
«و لكن...إذا لم يكن هذا حزنا على زوجتك فماذا يكون؟»
«فكّرتُ كثيرا في ذلك أيضا...»
تحرّكت حدقتاه صوب أسفل يمينه في تفكّرٍ و سار في الغرفة مستنبطا المعرفة من هدوء أركانها الذي يبعث الراحة إلى القلوب كقاطنتها و أفصح في ضيقٍ:
«هو غضبٌ صرفٌ»
ثنى يداه خلف ظهره و توقّف عن التمشية على أوتار قلبها و رموشها المترقّبة ثمّ إلتفت إليها مقتنصا من جمال وجهها نظراتٍ صامتة، ثم تفرّقت شفتاه بقدر صغير و أطلق تنهيدة طويلة و إستدرك:
«و لعلّي آسف على ما آلت إليه الأمور رغم المجهودات الصادقة التي بذلتها طوال هذه السنوات لإنجاح هذا الزواج و بناء عائلة صامدة بين جدران الحب و التفاهم...»
لفح صدأ المرارة حلقه فتوقف عن الحديث فجأة و تريث قليلا في سكون مهيب، و لمع الحزن في عينيه كالبرق جليا، ثمّ حرّك رأسه بنفي، متقاسما و إياها ذلك الجبل من الأسى الذي كان يرسو على كتفيه طوال هذا الوقت عبر جسر النظرات الناطقة، و واصل خطابه بنبرة مرهقة:
«إنه لمن المهلك رؤية كل ذلك يتهالك أمام عيناي و ينهار و لم يعد في وسعي فعل شيء إضافي من طرفي يا صغيرتي»
استنشق سيونغ وون قدرا وفيرا من الهواء حابسا إياه في صدره بتفكير لوهلة، و رفع كتفاه باستسلام، ثم زفر طارحا إياه مع الإجهاد و الطاقة السلبية التي إكتسحت دواخله دفعة واحدة، لاطما فخذاه بكفّيه بخفّة، و أردف مع بسمة ساخرة على شفتيه:
«أعتقد بأنّي جرحتُ كبريائي بما يكفي حتى الآن»
إقترن حاجبا أون هي و إلتوى طرفا فمها نحو الأسفل كدرًا و إبتئاسًا.
«و لكن إلى متى ستتهربان من بعضكما البعض؟ إنّ اللقاء و المواجهة لا مندوحة عنهما، سيونغ وون!»
سلك الرجل خطاه عودة إليها مبتغيا قربها الدافئ فهي الملجأ الذي يمكنه العودة إليه مرّاتٍ لا تحصى و لا تعد بلا كللٍ أو ملل.
«أدري ذلك و لستُ بهاربٍ إنّما أصون لساني حتّى لا أتفوه بكلامٍ من شأنه خدش فؤادها أو كبريائي أكثر من ذلك»
«أتفهّم الحكمة من ذلك، و لكنّك تعلم بأنّ دوام العلاقات يستوجب بعض التضحيات أحيانا، إذا أجبتَ على إتصالها-تنازلا-أو هاتفتها بنفسكَ لمرة واحدة-كبادرة نبيلة منكَ-فلن تخسر شيئا بل أنا متأكدة من أنكما ستربحان بعضكما من جديد»
صدحت من حلقه ضحكة قصيرة و ردّ:
«كلتاكما أدرى بأنني لم أكن شخصا ملولا في علاقتي بعائلتي يوما و أنني أغفر الزلاّت و أمنح الفرص و أصبر صبرا عظيما، و لكن لقد بلغ صبري عنان السماء، أون هي، و تأكّدي بأنني لن أكون من سيتغاضى و يُضَحِّي وحيدا هذه المرّة»
أحاط سيونغ وون وجه أون هي الحزين بين كفّيه مأخوذا باهتمامها و قلقها الصادقين و أضاف:
«هل تعلمين؟ لقد إعتقدتُ بأنني لن أحتمل غيابها و سأشتاق إليها كثيرا حقّا، و لكنّ لامبالاتها و تجاهلها لي و لإتصالاتي، و عدم إعتذارها لكسرها كلمتي، و دوسها على مصير هذه العائلة دون ندم-منذ سافرت إلى كندا-كانت أسبابا جعلتني أستيقظ و أدرك أخيرا بأن يون دارا لا تستحقُّ حزني العميق!»
أرجع صاحب العينين الداكنتين رأسه إلى الخلف مسندا راحة يده اليمنى على وجهه لافظا ما تبقّى من جملته الكئيبة المتخّمة بالشجن:
«على أختكِ أن تفهم الآن بأنّ إقتطاع تذكرة راحة من أجل النظر في النهاية المؤسفة التي يؤول إليها زواجنا بات أولوية...لذلك أعلميها بحقيقة موقفي في المرة القادمة التي تتصل فيها بكِ و لا تزيّفي شيئا»
تنهّدت أون هي بغلبة مسترعية إنتباهه بكلماتها ذات النبرة المنكسرة فقالت:
«لا أستطيع إحتمال رؤية هذا يحدث بينكما أمام عيناي، صدّقني...إنك لا تملك أدنى فكرة كم أشعر بأنني عديمة نفع الآن!»
خلّل أصابع يداه في شعر الواقفة أمامه التي كانت تحدّق بوجهه بعنق متصلّب لطوله الفارع و أجاب و قد لانت ملامحه قليلا:
«هراء! إنّ وجودكِ إلى جانبي هو ما هوّن عليّ الأمر كثيرا، لذلك لا أسمح لكِ بالقول بأنّكِ عديمة نفع!»
قبّل جبينها فأغمضت عيناها و كأنما تذوب لوقع تلك القبلة العميقة على بشرتها. ظنّت أنّه إنتهى حتّى أَلْفَتْ شفتاه تقفزان فوق عينها، فأسفل خدّها، و تمسّكت دونما وعي بيديه اللتين تُحكمان الإمساك برأسها من خلال شعرها من كلا الجانبين عندما داهمت القشعريرة جسدها.
و سرعان ما شعرت أون هي بأنفاسه الحارّة ترتطم على شفتيها ففتحت عيناها سريعا و الهلع يهزّ روحها هزّا فتفاجأت بتحديقاته المفتونة المرسلة نحو فاهها ففغرته دهشة، و برز صفّان من اللؤلؤ الأبيض المرصّفين باستواء، و خلف الجدار العلوي لأحدهما إحتمى لسانها خجولا مذهولا.
رفع سيونغ وون حدقتاه إلى عينيها التّائهتين في سحنته الفاتنة حينئذٍ، و داعب طرف شفتاها الرّطبتين رادفا:
«لولاكِ لكان عيش هذه الأوقاتِ صعبا...»
مرّر الرجل لسانه بين شفتاه بجوع مدلّكا بلمساته الجامحة زنداها و أردف:
لولاكِ لكانت أيّامي لا تُحتمل!»
سلّط شفتاه على خطّ فكّها فاقتات عليه بقبلة جارفة تذيب الجبال حتّى أنها إستطاعت الشعور بتمريره لسانه بحذرٍ على بعضه فمال رأسها متنهّدة تنهيدة مثقلة و شخصت بالفراغ. تمسّكت أون هي بكُمّيْ قميصه بقوة و دواخلها أمواجٌ هائجة و كأنما تسأله الحذر، و إشتدّت قبضتاه حول زنداها أكثر لمّا حلّ الربيع في قلبه.
كان ربيعا كاملا بفضل قبلةٍ واحدة على ذاك الخطّ المنحوتِ الذي يحدُّ وجهها فيزيده ألقا جبّارا، قبلةٌ واحدةٌ عكرة النوايا، ملطّخة بمشاعر الرغبة و النشوة تجبّرت على غمّه و حوّلته إلى فرحٍ، و بهجة، و أزهارٍ، و فراشات، فكيف الذي يلتهم كُلّها، و يقحم جسده في جسدها بلا قيود؟ كيف تكون حياة من يقبّل فاهها، و نهدها، و يقتات الحبّ بين فخذاها كلما إبتغى؟
ذلك التفكير الذي راود ذهنه المذهول حمله على الإفتراض بأنّ أيّام يون هو التي قضّاها في كنف حُبّها و عطائها كانت جميعها ربيعا ملونا يُحسدُ عليه. و إنّ مجرّد تخيّله يلمسُ شعرة من رأسها ليوقظ سخطه و يجعل دمه يغلي إلى الآن، فمنذ اليوم الذي علم فيه بأنّها نامت معه سرّا، لازمته الخيالات المزعجة و السيناريوهات المتنوعة حول الأمر من حين إلى آخر. لم يكن قادرا على تقبّل أنّ رجلا ما قام بخلع ثيابها و إعتدى على جسدها النقي العاري بنظراتٍ فاحشة، و تذوّق كلّ إنشٍ منها دون أن يُردع، و جلس بين قدميها براحة، و تَلَذَّذَ بسلبها طهارتها. لطالما كانت تلك حسرة مكتومة كالعبرات في حلقه، حسرة لا يدركُ سببها حتى اللحظة.
إبتعد سيونغ وون ببطئ و همس في وجهها في حين غاص إبهامه في ذلك الملمس الزيتي الدبق لمرطّب الشفاه على شفتيها:
«و لكن لمَ لا أخلو من الإشتياق إليكِ و أنتِ التي إلى جانبي على الدوام؟»
«تشـ- تشتاق إلي!»
أشارت إلى نفسها بسبّابتها بعينين متوسّعتين دهشةً فأومأ مداعبا خصل شعرها الأمامية بنعومة و أجاب:
«الآن أيضا...عدتُ لأنني إشتقتُ إليكِ رغم أنّني حظيتُ معكِ بمحادثة منذ وقتٍ قصير. هل هذا معقول حتّى؟»
أضاءت عيناها كما يُحبُّ فهتف بينما رأسه يتقدّم صوب وجهها تدريجيا:
«أجل، هكذا...عدتُ لأراهما تضيئان بهذا الشّكل!»
داعب أنفها بأنفه باندفاع محموم، مُختلِج الفؤاد، متفاديا بذلك هجوما وشيكا كاد يشنّه على شفاهها بكلّ تعسُّفٍ، فازدرد و إياها ريقاهما بعسر عندئذٍ و تسارعت الأنفاس، و بدأ جسدها يرتعد لعدم قدرتها على التصديق بأنهما نجيا من قبلة كادت تكون حتمية. فحتّى إصطدام أنفه بأنفها كان مرعبا و عنيفا، و دالاًّ على الشراسة التي كاد فمه أن يمارسها على فمها في حال أنّه لم يتراجع عن الفتك به. تنهّد سيونغ وون تنهيدة طويلة في حين كانت خاصتها متقطّعة مرتعشة و قال:
«ما خطب عيناكِ، أخبريني؟»
إرتفع حاجباها و بقي فمها مفغورا في حين تواصل تعلق الأعين ببعضها بعضا و كأنها معالم أثرية ثمينة.
«ما خطبهما؟»
هذت أون هي في حيرة من أمرهِ فتعبّدتها عيناه إيمانا بتفرّدها بذاك الحسن بين جميع الخلق و أجابها بنبرة حالمة باسما بهيام:
«تضيئان!»
إبتسمت المرأة في المقابل إبتسامة واسعة، فلئن أخجلتها دقّة ملاحظته، أسعدها إهتمامه اللذيذ بتفاصيلها، و علّقت بخفوت متورّدة الخدّين:
«إنها المرّة الأولى التي أسمع فيها هذا!»
«إذن أخبريني أقلّه كيف تجعلينني أشتاق إليكِ حتّى و أنتِ معي و بقربي؟»
وضعت أون هي يدها على قلبه فكان يخفق بتسارعٍ، فبدا و كأنه جزء من جسدها و روحها، و مال رأسها هاجرا أنفه بحياء و سألت:
«أيعقل أن سنواتٍ إنفصالي عن هذا البيتِ قد كانت ثقيلة إلى هذا الحدِّ عليك؟»
مازحته باسمة بخجل فتلقت إجابة مفاجئة منه:
«أيُرضي غروركِ إن قلتُ بأنّي كنتُ أعود من العمل مناديا اسمكِ في المنزل ناسيا أنكِ رحلتِ إلى بيتِ شخص آخر، و لا أحظى بجواب مرة تلو الأخرى؟»
تلألأت عيناها و شعرت بوخز في قلبها لدى قوله ذلك فتشبثت دمعة بأهدابها و ردّت:
«و لكنّكَ كنتَ تعاملني بقسوة و قلّة اهتمام كلما زرتكَ و دارا حتّى إعتقدتُ بأنّ تلك الرابطة القوية بيننا قد زالت من قلبك إلى الأبد! لماذا فعلتَ ذلك؟»
لطمت أون هي صدره لطمتين خفيفتين تنفيسا عن كمدها و حسرتها الدفينين طوال تلك السنوات، فصمت سيونغ وون و أشاح عيناه بعيدا عن عينيها و لكنها أمسكت وجهه بكلتا يديها و أدارته نحوها مجددا ملحّة في القول:
«أخبرني لماذا فعلتَ هذا بي، سيونغ وون!»
مسح الدمعة عن أهدابها برقّة و فغر فاهُ لوهلة من الزّمن دون التلفظ بحرف غير دارٍ إذا كان عليه مصارحتها بالحقيقة أم لا ثم سرعان ما إبتسم لها بودّ و صرّح:
«كنتُ غاضبا...حاولتُ التأقلم و لكن دون جدوى!»
«و لذلك، أكنتَ تعاقبني؟»
أمسك بالجانب الأيسر من عنقها و جعل يتتبّع العروق الأمّارة بالرذيلة و الفحشاء بعينيه و أنامله الرشيقة متفرّسا إيّاها بإبهامه الطّاغي بين الحين و الآخر، و فتح فاهُ مادًّا إياها بالإجابة موضّحا:
«بل أعاقب نفسي لأنني سمحتُ لكِ بالذهاب بعيدا باكرا!»
لكمت الشقّ الأيسر من صدره بقبضتها بلطف و العبرات تقف منتصف حلقها و نبست بنبرة مهتزّة:
«ما أقسى قلبك!»
«أوليس؟»
عاد إلى سحبها إلى حضنه بتملّكٍ و قال:
«تعاليْ عوّضيني عن سنين الفراقِ بهذا العناق»
غاص في جسدها بحضنه المتلهّف ذاك الذي فاحت منه رائحة الجشعِ فأحاطت ظهره بكلتا يداها بقوة و مرّغت وجهها و أنفها في صدره عابّة من رائحة عبيره الرجولي الآسرة بكلّ توق. كان السكون حولهما نعمة لا تُعوّض فوكأنّ الزّمن قد توقّف و لم يعد يوجد في هذا العالم مخلوقات سواهما.
رنّ هاتف سيونغ وون فجأة فلم يحرّك إنشا من أجل الرد، أو في سبيل التعرّف إلى هوية المتّصل، و لم يكن مستعدّا لتضييع ثانية من تلك اللحظات القيمة التي كان يضع فيها يداه على جسمها، و لكن كان لكليهما تكهّنات مشتركة بالفعل.
«لابد أنها دارا، أجب مرة واحدة من فضلك!»
«صه»
لم تكن أمارات الإستجابة بادية عليه فنال التوتّر مناله من أون هي.
«أواثق ممّا تفعله؟»
«صغيرتي»
هذى متحسّسا كتفها بشفتيه و طبع على جلدها قبلة خفيفة مثيرة.
«وون هيا أجب!»
ردّدت أون هي- دون إستسلام-و الإحساس بتأنيب الضمير يكاد يخنقها.
«تعلمين ألاّ شيء يمكنه تغيير قراري إذا قررتُ أمرا و حسمته، أوليس كذلك؟»
تجاهلت أمر الردّ عليه و حاولت سحب هاتفه من جيب بنطاله فالتقطه من يدها قبل أن تكمل إخراجه و أقفل الخط ثم رماه على سريرها دون إكتراث، و همس في منتصف أذنها بنبرة حسية:
«نحن معا الآن، أحضنيني جيّدا و ركّزي عليّ فحسب»
كانت كلماته كفيلة بجعلها تحلّق و تنتشي و لكنه لم يكتفي بذلك فقط بل طوّق خصراها و ظهرها بساعديه بقوة ناسفة حتى بات إلتحام جسديهما حميميا فعلِقت شهقة في حلقها عندما أحسّت باحتكاك ثدياها بصدره ما جعلها تستثار لاإراديا و دفع حلمتاها إلى الإنتصاب في حضرته بشكل مخزٍ. كان كلاهما عالما بذلك، بيد أنّها أغمضت عيناها في قلقٍ و دعت ألاّ يعلم بأمرها حتّى صُبّت كلماته المتهكّمة في أذنها كالحميم:
«منذ متى أصبح جسدكِ بهذه الحساسية تجاهي؟»
دورّرت عيناها و هتفت بإدانة:
«هذا ردّ فعلٍ طبيعي فأنتَ تضغط على جسدي كثيرا»
توقعت المرأة بأنّه سيبتعد إلاّ أنه خالف توقّعاتها و لم يحرّك ساكنا، بل و أغمض عيناه متنعّما بتلك اللّحظات التي لا تُعوّض بثمن.
«سيونغ وون...نحن بحاجة إلى الإبتعاد فورا!»
غمغمت بصوتٍ هادئ محرجةً فأتاها سؤاله المستنكر ردًّا سريعا:
«لماذا؟»
عاد الهاتف إلى الرنين من جديد فشعرت بالسوء لأنّها بين أحضانه بهذا الشكل المخجل عوضا عن زوجته و حاولت إستمالة عواطفه للإجابة على المكالمة الواردة دون يأس:
«إنه لا يتوقّف عن الرّنين، لابدّ أنها قلقة!»
«دعيها تقلق قليلا، لابأس بذلك»
وضعت أون هي رأسها على صدره و تمسّكت بقميصه خلفيا و نبست بعد بعض الصمت:
«و لكن هذا خطأ!»
وقعت عيناه على شعرها من إرتفاعه الذي يدعو إلى الثناء و سأل بهدوء مثير:
«ما الخطأ؟»
إلتزمت الصمت ثانية فانحنى نحوها و جعل يستنشق شعرها كالمدمن و غمغم بتسليم و تيه:
«خطأ، أليس كذلك؟»
كان كلاهما يعلم أنّ ما يتكلّمان عنه ليس دارا أو الهاتف الذي لم ينفكّ عن الرّنين و إنما إتخذاهما ذريعة بالية لئلا يتعرّى الشغف الأعرج الذي كان يتدفّق في عروقهما و يجري مع جريان الدماء في الجسدين بكل إنسيابية باسم بعضهما البعض.
أحيانا يكون الجهر بالأحاسيس مكلفا للغاية خاصّة إذا كانت هذه الأحاسيس خارجة عن المألوف، متمردة، و ممنوعة و غير مباحة.
قطّب حاجباه محملقا إلى الفضاء الفارغ أمامه و أخذ يتساءل في نفسه:
«ما هذا الشعور الغريب؟ أظل أنجذب نحوكِ في كل مرّة أكثر، إنكِ كالمغناطيس!»
سحب سيونغ وون يداهُ عن جسد أون هي دون مقدمات متراجعا عن حضنها الدافئ ثمّ إلتقفت يده خدّها، و طبع قبلة بجانب طرف شفتيها بشكل حميم موقدا النيران في بشرتها، ثم سحب شفتاه ببطئ مبعثرا مشاعرها و تبادل و إيّاها نظراتٍ غامضة بسكون.
«تصبحين على خير، صغيرتي»
لفظ الرجل تلك الكلمات بهمسٍ أثار في جسدها القشعريرة ثمّ إنصرف بهدوء مغلقا الغرفة خلفه.
سرعان ما تنفست أون هي الصعداء عندما غادر المكان أخيرا و قلّ الإرتباك الذي داهم وجدانها، فأخفضت رأسها على الفور شاخصة البصر في السائل المخاطي الذي إنساب رويدا من بين فخذيها منزلقا على مستوى قدميها متجاوزا طرف ثوب نومها السفلي الذي كان يلامس ركبتاها.
«كيف تسمحين له بفعل هذا بكِ بمجرّد حضن عابر، و قبلاتٍ خفيفة يا عديمة الحياء؟»
لمست المرأة صاحبة الوجه المحمر ذلك السائل بيدها المرتعشة بعدم تصديق، و حدّقت به بفاه مفغور بينما كان يربط بين أناملها المتفرقة الملطّخة على شاكلة خيوط رقيقة و قد تأكّد لها أنّ ما تراه ليس وهمًا، فكتمت شهقتها الحرجة بكفها و خالجها شعور فظيع بالعار.
⋆
⋆
⋆
⋆
كانت دارا تلاعب هاتفها بتوتّرٍ و قد كانت الساعة على شاشته تشير إلى التاسعة و النّصف صباحا. لكم كان حارقا للأعصاب، مثيرا للكدر أن باءت جميع محاولاتها السابقة للتواصل مع سيونغ وون بالفشل؛ و إنّ عدم إستجابته لإتصالاتها المتكررة طوال الساعة الفارطة أيضا جعلها تشكّ في تعمّده تفاديها، و إن دلّ ذلك على شيء فهو غضبه الشديد منها.
رفعت بصرها للنائم على الجهة المقابلة من السرير تحت ألحفة بيضاء وثيرة، في حين كانت هي جالسة على الحافّة بشعرٍ رطبٍ، تحتشد علاماتِ معاشرة عنيفة على جسدها الذي يكتسي قميصا فضفاضا أحمر اللون، و بنطالا مريحا أبيض اللون، فإحتدّت نظرتها حقدا لمّا تبادر إلى ذهنها تعسّفه الذي أبداه تجاه مناطق مختلفة من جسمها دون أن يرفَّ له جفن.
فتحت المرأة معرض صورها على جوالها و كأنّها بذلك تقفز من الواقع إليه بحثا عن عالم خيالي خاص بها، مليء بالبهجة، و الذكريات العزيزة، و إنتقت ملفا عنوانه "بمعية زوجي الحبيب" حيث تجوّلت بين صور كثيرةٍ جمعتهما في مناسبات عديدة توّجتها الإبتسامات و الحب ما جعل دمعة تسقط من عينها فوق الشاشة.
«لنرى ماذا لديكِ هنا حتى تذرفي الدموع بهذا الشكل المخزي، و منذ الصباح!»
إختطفت يدٌ غليظة الهاتف من يدها فرفعت رأسها محدّقة بصاحبها المتثائب كقط كسول.
«أعده إلي، دونغ ووك...من فضلك سيدي!»
«ماذا لدينا هنا؟»
هتف دونغ ووك صاحب الصوت الساخر مقلّبا بين الصور المعروضة أمامه بتعسّفٍ، و سرعان ما تجهْم وجهه حقدا و سخطا للسعادة التي تكاد تقفز من الصور فطأطأت دارا رأسها مصغية إلى تذمره ذا النبرة الهادئة التي تبعث الرهبة في القلوب.
«أتجرئين على الإشتياق إليه و أنتِ معي؟»
إلتزمت الصمت فضجّ غضبا و أمسك ذقنها بيدٍ واحدة مزمجرا بنفاد صبر:
«أنظري إليّ عندما أتحدّثُ معكِ»
رفعت عيناها إليه بطاعة محدّقة بعينيه الغاضبتين بجمود و أجابت:
«ما الغريب في الأمر؟ ذلك الرجل زوجي و حبيبي، و لقد أخبرتك بالفعل بأنّني لا أريد أن أكون معكَ بعد الآن»
ضغط على وجهها و إستدرك قولها مهسهسا:
«أحببتكِ أوّلا...و لكنّكِ كنتِ غبية و عمياء أيضا!»
صرّ على أسنانه متذكّرا تلك الأيّام المضنية التي عانى فيها نبذ أبيه و حبّه الوحيد له...لقد كانت تلك الأيام ما صنع منه ذلك الوحش الذي لا يرحم بجدارة.
«في حين لم يكن هو مباليا بأمركِ، كنتُ أهيمُ بكِ دارا»
«إن القلب يريدُ ما يريده...لا سلطة لي عليه عندما يتعلّق الأمر بسيونغ وون!»
أطلق دونغ ووك هتافا مستهزئا و علّق:
«يا لكِ من مثيرة للشفقة!»
أخفض حدقتاه البنيتان إلى شاشة الهاتف مرة أخرى و قال بحزن:
«تبدو ذكرياتٍ عزيزة عليكِ!»
أومأت فمالت شفتاه بابتسامة جانبية مستهزئة في حين كانت المرارة قابعة منتصف حلقه. تجعّد جبينه و نبس:
«أكره ذلك!»
حدّد دونغ ووك الملف بأكمله رادفا:
«هل يمكن محو حقيقة زواجكِ منه كهذا الملفّ يا تُرى؟»
إتّسعت عينا دارا خوفا آنذاك و صاحت:
«لا تفعل ذلك أرجوك...هذه الصور تعني لي الكثير!»
ضغط دونغ ووك خيار الحذف دون أن تطرف عينه و إرتسمت إبتسامة راضية واسعة على ثغره فبرزت غمّازتاه العميقتان الفاتنتان إحتفاءً بذلك المشهد الذي يعرض على الشاشة مراحل حذف الصور بالتّتالي، دون رحمة، حتى إختفت جميعها فألقى الهاتف على السرير حيث تهاوى جسد دارا المصدومة بلا روح.
«ليس لديكِ أدنى فكرة كم أرغب في محو تشا سيونغ وون شخصيا عن الوجود...كهذه الصور تماما»
«كيف لا يكون في قلبكَ رحمة بهذا الشكل؟»
بدأت دارا بالإرتعاش تدريجيا و انقضّت عليه محاولة خنقه صارخة بهستيريا:
«لقد أطعتكَ طوال الوقت و لم أرفض لكَ طلبا قط...حتّى أنني جعلتُ زوجي يكرهني لكي أُرضي غرورك...و لكن ماذا فعلتَ في المقابل لقاء مصلحتك؟»
إرتجفت شفتاها و تقوّس حاجباها إبتئاسا و تمنّت هاذية:
«أتمنّى لو أنّ شرّك طال الصور فحسب، و لكنّ ما فعلته في الحقيقة لا يُغتفر!»
توسّعت عينا دارا غضبا و ضغطت على عنقه أكثر صائحة بأعلى صوتها:
«قتلتَ صهري و سعادة أختي و تسبّبتَ في يُتم طفل بريء، و جعلتني بائسة أحمل هذا الذنب الثقيل على عاتقي طالما حييت!»
لم يبدُ دونغ ووك متأثرا بمحاولتها تلك لخنقه و لومه فحدّق بها ببرود و خاطبها متهكّما:
«أوه! هل باتَ الأمرُ مؤسفا و يحرّكُ مشاعركِ لأنه يعني عائلتكِ الآن؟»
ضعفت قوة ضغط قبضتيها حول رقبته عندئذٍ و بدأت دموعها بالإنهمار.
«وعدتني منذ البداية أنّكَ لن تمسّ عائلتي بسوء مهما حدث، و لكنّكَ كنتَ أوّل من أخلف بالعهد، فكيف تلومني؟»
عبس عبوسا قمطريرًا إثر توصّله لإستنتاجٍ جعل الأمور تبدو أكثر وضوحا أمام عينيه و أمسك ذراعاها بقسوة قائلا:
«مهلا! لا تخبريني أن ذلك التافه زوج أختكِ هو السببُ خلف حالكِ التي يرثى لها؟»
إختنقت العبارات في حلقها هنيهةً ثمّ أفصحت بقهرٍ:
«و كيف يكون هذا أمرا تافها و أنا أعجز عن النوم ليلا لأنني أعلم بأنّني كنتُ سببا في موتِ زوجِ صغيرتي أون هي؟»
«أون هي لن تمانع إذا عوّضتها بصيدكِ الثمين، حسب رأيي»
تجعّد جبينها و ثارت به سائلة:
«إلامَ تلمّح بحق الجحيم؟»
سيّر شفتاه حول أذنها ثم فحّ في سمعها كالثعبان:
«هي مقرّبة من سيونغ وون بما يكفي، تخلّي عنه لصالحها و لتريحي ضميركِ إذا، تعلمين بأنني لن ألقي بكِ بعد أن تصبحي إمرأة مطلّقة»
إقشعرّ جسد المرأة لدى قوله ذلك في وجهها دون خجلٍ و إنتابها السخط فصرّت على أسنانها و نهرته قائلة:
«إيّاك و المزاحَ بشأن ذلك ثانية!»
«لمَ؟ ألن يكون من العادل منحها زوجكِ كتعويض صغير؟ يالكِ من أنانية يون دارا!»
همّت بترك المكان متجاهلة أمر الرد فأمسك كوعها و أعادها للمثول أمامه مجددا قائلا بنبرة صارمة:
«الآن بعد أن فهمتُ أسبابكِ، أعلمكِ بأنها أتفه مما كنتُ أتخيّل و لا تستحقّ النظر فيها حتى. فلتلملمي شتات نفسكِ فلازال هناك أناس آخرون كثيرون لتفجير رؤوسهم...إلا إذا أردتِ أن أفجّر رأسكِ و رؤوس عائلتكِ قبل الجميع!»
أمسكت رأسها بكلتا يديها شاعرة بالعجز في حين بللت الدموع وجهها كالأمطار مغمغمة بمرارة بين الشهقة و الأخرى:
«كفّ عن فعل هذا بي، أتوسّل إليك، فأنا أهوي إلى القاع و لا أريد المواصلة في هذا بعد الآن»
أحاط وجهها بكلتا يديه و ألقى أمره باستياء واضح:
«بل كفّي عن التصرف بهذا الشكل المستفزّ و إلاّ سترين منّي الأسوأ، دارا...المرأة التي همتُ بها لم تعتد توسّل أحدٍ حتّى و فوهة المسدّس موجهة إلى رأسها»
حدّق دونغ ووك بوجهها الباكي بإمعان فانتابه وخز في قلبه، فعلى الرغم من أن بكاءها أمرٌ نادر، إلاّ أنها بكت كثيرا في الآونة الأخيرة و هو لا يحبُّ رؤية نزول الدموع من مقلتيها أبدا و يكره أن ذلك يصيبه بضعف لا يمكنه التحكّم به. همّ بتقبيلها فأشاحت وجهها و زمجرت بنفور:
«لمَ لا تفهم؟ لقد سئمت»
«إنكِ تصيبينني بالصداع...فلتخرسي!»
أخرج دونغ ووك مسدّسه من الدّرج الذي بجانبه و أقحمه في فمِ دارا مثبّتا رأسها على الفراش و حدّق بمنتصف عينيها حانقا.
«سئمتِ!...ليس أكثر منّي»
بلّل شفتاه و أضاف ببسمة شيطانية مستمتعة:
«لقد علمتُ بأنّكِ تنوين إزعاجي كثيرا و لهذا حضّرتُ لكِ مفاجأة صغيرة لكي نتسلّى»
كان من شأن معرفة دارا الوثيقة به التنبؤ بالشر الكامن خلف كلماته، فوجف قلبها و شخصت في وجهه سائلة بنبرة مهتزّةٍ:
«أيّ مفاجأة؟!»
⋆
⋆
⋆
⋆
حلّ الصباح بنسائمه العليلة الباردة على مدينة سيؤول فاتّخذ سيونغ وون مكان السائق في سيارته السوداء كالعادة بينما كانت أون هي جالسة إلى جانبه، هادئة، مستلذّة بأنغام نشيد الشتاء المفضل في كوريا الجنوبية لفصليْ الخريف و الشتاء، أغنية First Snow لفريق البوب الكوري EXO.
«هذه الأغنية لا تموت أبدا!»
أومأ سيونغ وون ذو اليدين المتعلقتين بالمقودِ معلّقا بتأييد:
«أجل، فعلا!»
«ما هذا؟»
هتفت أون هي في استغراب لمّا لمحت دعوةً ذات تصميم فاخر مرمية على رف السيارة بتهميش، فالتقطتها و بدأت بقراءة فحواها بنبرة متعجّبة:
«دعوة لحضور حفل بحري في بالي!»
إلتفتت إليه و سألت:
«لماذا لم تذكر شيئا عن سفرك إلى إندونيسيا؟»
«لأنني لستُ ذاهبا»
حدّقت أون هي به دَهِشَةً لأمره حتّى ظنّت أنه يمزح.
«هل تتحدّث بجدية، أم أنك تمزح؟»
بلّلت المرأة شفتاها بعجالة و أردفت:
«لقد سمعتُ الكثير عن المنتجع المذكور؛ يُقال أنه ممتاز، و أعتقد بأنها فرصتكَ لكي تخلع عنك ثوب الأعباء و المسؤوليات لفترة وجيزة و تستمتع بوقتك قليلا»
منحها سيونغ وون نظرة خاطفة قبل أن يعيد عيناه إلى الطريق مجيبا بذات البرود:
«و أترككِ وحدكِ بدوري؟...لستُ أنانيا كدارا»
عادت أون هي إلى النظر إلى الدعوة و كأنها تتأكد من معلوماتها ثم ردّت:
«و لمَ عساك تتركني وحدي؟ لنذهب معا»
«ماذا؟»
أدار رأسه إليها مقطّب الحاجبين في استغراب فعرضت البطاقة أمامه موضّحة:
«أجل، تقول البطاقة أن الدعوة مفتوحة لمن هم من طرفك»
إرتفع حاجبا سيونغ وون دهشةً حيث لم يخطر على باله بأنّها قد ترغبُ في مرافقته، خصوصا و أنّها منشغلة بالتحضير لمعرضها.
«هل تعنين ذلك، أون هي؟ تريدين الذهاب حقّا؟!»
«بكل تأكيد! و سأعتبر أن هذه مهمتي لإنقاذك من كل هذا الضغط الذي تمرّ به. و علاوة على ذلك، فإنك عليم بمدى حبّي لهذا النوع من الحفلات: رقص و موسيقى، و سمر، و سباحة و بيكينـ...»
إبتلعت أون هي لسانها قبل إكمال التلفّظ بالكلمة الأخيرة إثر حدجه لها بنظرة حادّة و أشاحت ببصرها بعيدا متنحنحة.
«و المعرض؟»
سأل الرجل باهتمام فنفت بيديها دون تردّد و ردّت باسمة الثغر:
«لسنا في عجلةٍ من أمرنا على الإطلاق إذ لازلنا نملك وقتا كثيرا، و أعتقد بأنني بحاجة لإعادة شحن طاقتي و تعزيز إلهامي بدوري حيثُ أنني لم أذهب في رحلة مذ توفي يون هو!»
«حسنا، سأفكّر في الأمر»
أجاب سيونغ وون بينما كان مركّزا حدقتاه على السيارات التي تسير أمامه في الطريق و ساوره السرور باطنا بمجرّد التفكير في إحتمالية الذهاب معا في رحلة بحرية شيّقة كالأيّام الخوالي، و دون يون هو هذه المرة.
تعلّقت أون هي بذراعه بكلتا يديها كالأخطبوط محملقة في وجهه بأعين لطيفة مستميلة إياه، و خاطبته بصخبٍ ساحبة إيّاه من تفكيره العميق:
«بلى، يجب أن تفكّر جديا في التخفيف من التوتر الذي عانيته مؤخرا و تجديد طاقتك...و خذني معك إلى بالي لطالما أردتُ الذهاب»
إلتفت إليها فابتسم بقلّة حيلة لمّا وقع بصره على الوجه البريء الذي رسمته و أمسك أرنبة أنفها مداعبا.
«دعيني أنظر في شأن العمل أولا ثم سأرى إن كان بإمكاني أخذ إجازة قصيرة»
«إتّفقنا»
ساد الصمت في السيارة لبعض الوقت و لكن سرعان ما عادت أون هي إلى قطعه مجدّدا فهتفت:
«حتّى لا أنسى إخباركَ لاحقا، دعنا نمر على الكنيسة مساء-في طريق العودة إلى المنزل-لمناقشة أمر التعميد، ما رأيك؟»
«موافق بكل تأكيد»
«ممتاز!»
ساور السرور قلب المرأة لمّا أعلن موافقته دون تردّدٍ و شاركها الحماس. لم يكن يصعب على ذلك الرجل شيء في سبيل سعادتها، و عودتُها إلى حياته بعد إنقطاع مُتعمّدٍ منها جعلها تدرك بأنه فعلا لم يتغيّر قط.
عقدت أون هي خصلة من شعرها خلف أذنها غارقة في التفكير في ما حدث البارحة؛ عضّت شفتها السفلى خجلا عندما توصّلت إلى أن رجلا مثله تسيل لأجله جميع سوائل الجسم فداء؛ الدموع، و الدماء، و العرق، و سوائل الحبِّ أيضا.
«فيمَ أنتِ غارقة تفكّرين؟»
سرقها سيونغ وون من شرودها فحدّقت به بسكون لبرهة من الزمن محاولة قراءة ما تفوّهت به شفتاه و لم تسمعه أذناها.
«ليس مهمّا»
لمحت ميلان شفتاه ببسمة ساخرة فأدركت أنّ لديه بجعبته ما يقول.
«وجهكِ أحمر، ينتابني الفضول لكي أعرف ما الذي كان يجول في ذهنكِ صغيرتي!»
دقّقت أون هي النظر في البنايات البعيدة و كأنّها تحاول تذكّر شيء ما و قالت:
«سيونغ وون، هناك محل قريب عند الطرف، هلاّ توقّفت عنده لأنني أودّ شراء قارورة من الماء و بعض البسكويت المفضّل لشين آه، فهي تعمل بجهد كبير!»
كان بودّه عدم مسايرتها في تغيير الموضوع و لكنّه لم يرد إجبارها في نفس الوقت و لذلك طرح الهواء من صدره و أذعن لطلبها:
«حسنا، لكِ ذلك»
و بينما هما كذلك، أدرك سيونغ وون أن من الصعب الإنقاص من السرعة من أجل الإنعطاف، و أن هناك خطبا في فرامل السيارة التي كانت تجري في خطّ مستقيم بين بضعِ سيارات أخرى على الطريق العام.
«ما بال ملامح وجهك مشدودة هكذا؟»
«الفرامل، إنها لا تعمل!»
...يتبع
بلغنا نهاية الفصل الرابع عشر أعزائي.
أتمنى أنه قد نال إعجابكم.
لا تنسوا التصويت للفصل🌟
و إطلاعي برأيكم في خانة التعليقات.
نمر الآن إلى فقرة الأسئلة:
سيونغ وون:
ما الذي يجري مع مشاعر سيونغ وون؟
هل وقع في الحب من جديد أم أنه كبت جنسي وحسب؟
أون هي:
هل تشعر أون هي بالغيرة حقا من إنسجام سيونغ وون و الجليسة، أم أنها تحرس ممتلكات أختها لا إلا؟
وونيونغ:
هل تعتقدون أن هناك صداقة تلوح في الأفق بينها و بين سيونغ وون، أم أن ألاعيبها المستقبلية ستنطلي عليه؟
دارا:
لماذا إتصلت بسيونغ وون بعد هذا الغياب و الجفاء يا ترى؟ هل تخطّط لشيء ما؟
دونغ ووك:
ما الذي قصده دونغ ووك بكلامه عن مقتل زوج أون هي؟
ما خطب السيارة يا ترى؟ و هل سينجو سيونغ وون و أون هي من الخطر المحدق بهما؟
...✨
لا تنسوا التصويت للفصل و ترك تعليق تخبرونني في آراءكم و شكرا. 🥰❤️✨
ألقاكم في الفصل القادم. هل أنتم متحمسون؟
...
-في حفظ الله-
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro