الفصل| 34
أحيانًا يغوينا الاستِسلامُ بالرَّخاء العذبِ الَّذي يغترفه بينَ كفَّيه، ونحنُ ظمأى في بيداء الصَّبر، لا ندري أينَ المفرُّ مِنها، وإلى أيِّ حدبٍ سيؤولُ بِنا المَطاف. يُغوينا بالأفرِشَة الوَثيرة المنبسِطَة على أرضِه، توسوس للأجساد الَّذي ضاقَت ذرعًا مِن قِتال المُستَحيل بالهُمود، فنذوِي مِثل الزُّهور في مرجٍ هجرَه ربيعُ الحياة، ونتساقَط على الثَّرى، لأنَّنا ما عُدنا قادِرين على إعالَة الصُّمود فُرادى، لتضمحلَّ الرَّغبةُ فينا رويدًا رويدا، لن تُنعِشنا قطراتُ الأمل، حتَّى وإن صبَّت علينا مِن جديد. يُغوينا بالغِنى الكامِن في الاستِغناء عمَّا يُؤرِّقُنا ليلًا.
الحبُّ هُو نجل الحَرب الأنيق، مِثلُها لا يشترط فيه طرَفين، يكفي طرفٌ واحد، تلوكُ ألسِنة بعضِه بعضَه الآخر بداخِله، وتكتُب على جسدِه الرَّدى شيئًا فشيئا. الحبُّ يُبيح الخِداع إن كانَت الغنيمة تستحِقّ، مِن ثمَّ يأتِي الضَّمير، إلى مَن كانَ ضميرُه حيًّا، ويفرِض عليه غرامةً مِن النَّدم. الحُبُّ يغسِل الأدمِغَة مِن المَنطق، ويفرِش مكانَه الحمق، ففي مُجتمِعه المَنطِق دنس. مهما تربَّص بنا الخُسر في نِهايتِه نخوضُه. وبينما تتلذَّذ الحرب باحتِساء الدِّماء، يهوى الحبُّ تسوُّكَ الخفقات المُرَّة، الَّتي تندلع مِن الأفئِدة المُدنفَة، لفرطِ ما تجشَّمت!
كثيرًا ما فكَّرت في مُصافحَة الحقيقَة الَّتي مدَّت يدَها لي مُنذ أمَد، والإمضاءِ على الاستِسلام بدمعَة، إذ كُنت الطَّرفَ الوحيدَ في حربٍ عاطِفيَّة، استَهلكت كامِل ذخائِري، دونَ أن أُحدِث في صدرِ غريمي ثُلمًا، مِن شأنِه أن يُمرِّرني إليه خِلسَة.
شعَرت بالوَهن، إذ نذرتُ له كياني، وما لقيت مِنه ثوابًا، يروي تعطُّشِي لامتلاكِه. ذلِك ما راوَدني حينَما أنَّبني، لأنِّي فديتُه بحياتِي، بلا توان. تذكَّرت الأمسيَة الماطِرة الَّتي أطَّرت عقدَنا الحُلو، وكيفَ نهرَني لأنِّي لاحَقته في الأرجاء مُطالبةً بمقعدٍ لي فيه، خِلت أنَّنا تقهقرنا في الزَّمن إليها، وما كُنت لأتمكّن مِن تكبُّد العَناء ذاتِه في استِمالتِه مرَّة أخرى، كأنَّ جُلَّ ما عِشناه سلفًا اندَثر.
أضناني القَهر، وعلى شَفا الانهِيار، لفَّ حِباله حولَ كاحِليَّ مِن جديد، فتأرجَحتُ في هاوِيته، مُنصاعةً لرِياحِ اللَّهفة، كُلَّما هبَّت. أخبَرني أنَّه على أهبةٍ ليَمنحني ما طمَحتُ إليه، مُنذ أن طرَقت بابه بيأس، وهُو رجلٌ لا يقطَع وعودًا لن يلتزِم بها. كانَ نِزالًا خُضتُه لشوطٍ طويل، وحينَما تيقَّنت بأنَّه خاسِر، إذ أفِلت سيوفِي وما خدَشته قطّ، أقنَعتني كلِماتُه بالاستِمرار حتَّى النِّهايَة، ربَّما تنقلب المَوازين، وينزف حُبًّا كما نزَفتُ مِن قبلِه.
ما جنيتُ مِن حُقول هذا الهَوى سِوى الوَهى، لكِنِّي في ساحةِ العِشق امرأةُ وغى!
شيَّعنا عامًا وِنصف إلى مقبرة الماضي، ما خِلت يومًا أنِّي سأقضي كُلَّ هذِه المُدَّة برفقَة بيكهيون، لقد خابَت جميعُ تقديراتي المُتشائِمة للمَدى الَّذي سنصلُ إليه، قبل أن نتشتَّت، لأنَّه لا ينتَمي إليّ. علاقَتنا السَّقيمَة والأنانيَّة نافت توقُّعاتي المَبنيَّة على مكانَتي عِنده، بل واندَملت فيها جُروح جفائِه، كانَت مِثل طيرٍ مكسورِ الجَناح، تخبَّط على الثَّرى مُستغيثًا، قيلَ أنَّه سيَموت، غيرَ أنَّه شُفيّ، ثُمَّ رفرفَ في السَّماء؛ موطِنه الأزليّ بكُلِّ حُريَّة.
طرأ الكَثير بوزنِ الوقت الَّذي تقاسَمناه؛ بعدمَا فرَغ مِن الرَّجل الَّذي كادَ له الهَلاك، دونَ مسوِّغٍ دامِغ، فقَط لأنَّه وقَع ضحيَّة لتدابير عائِليَّة، تنشُد تحقيق المَصلحة، تخلَّص مِن زواجِه التالِف، وصارَ كُلُّه شاغِرًا لأغزوَه. ما أزال لا أصدِّق أنَّه نالَ الطَّلاق بيُسر واحتَفظ بي، أنا الَّتي ظننتُني محض حانة يقصِدها للتَّخفيف عن أعبائِه، مِن المُستحيل أن يتَّخِذ مِنها مستقرًّا، ولعلَّ أكثَر ما أدهشَني في المَوضوع هُو قُبول عائِلته لتحرُّرِه مِن سومين، رغمَ المنافِع الَّتي تربِطها بعائِلتها، لاشكَّ وأنَّهم خسِروا الكثيرَ بسبِب طيشِ الكولونيل.
باحَ لي بأنَّه ما عاشَ يومًا مِن أجلِ نفسِه، إذ فُطِر مُنذ الصِّغر أن يُؤوِّل عائِلته على أهوائِه الشخصيَّة، بحُكم أنَّه الابن البِكر، وفي سبيلِ إرضائِهم، تخلَّى عن رَغباتِه، وعانى آثارًا جانِبيَّة للحُروب الَّتي شارَك فيها، لولا صلابَة عودِه، لانكسَر مُنذ أمدٍ بعيد. والِدُه رجلٌ جافّ يُضاهيه، ووالدته امرأةٌ تقليديَّة، صوتُها غيرُ مسموع.
رغمَ أنَّه ما يزالُ رجل كتمان، لا يُمطِر لِسانُه إلَّا إن دعَته الضَّرورَة، جسَدهُ يتحدَّث بفَصاحَة؛ عيناهُ نافِذتان تُطلَّان على فُؤادِه، أتجسَّس عبرهُما على ما يحلُّ بِه في قُربي، تشعَّان كُلَّما احتكَّ أديمُه بأديمي، وتنبعِث الأنصال مِنها كُلَّما رصَد أحدَهم يُحاوِل التودُّد إليّ. ورغمَ الارتِياب الَّذي ورثَه عن غدرٍ مميت، أُضيفَ إلى حصيلة جُنونِه، أودَع ثِقته بينَ يديّ.
استَقلتُ مِن الثَّكنة بأمرٍ مِنه، لم يلدَغني الضِّيق، لأنَّه اعتَرف بي أخيرًا؛ فرجلٌ مِثله لن يسمَح لامرأتِه بالتجوُّل في وكرٍ للذِّئاب، ثمَّ فاجأني بتسجيلِه لي في معهدٍ للفُنونِ كي أستأنِف حُلمِي مِن حيثُ توقَّفت، كانَت أفضلَ هديَّة عيد ميلاد تلقَّيتُها، سويًّا والكَمان الَّذي اشتَراه لي.
أحيانًا يعمَل حتَّى فترة الغَسق، وأحيانًا يختطِف مِن نصيبِ الثَّكنة بعضَ الوقت، يُخصُّه لموعدٍ غراميّ مُفاجئ. لم يتخلَّف قطُّ عن الحُضور لإقلالِي إلى المَنزل، كُلَّما انتَهى دوامِي في المَعهد. كُنت في عُقر الصفِّ الَّذي تُقت له طوالَ حَياتِي، حيثُ توزَّعت الكَراسِي بشكلٍ مُستَقيم، قُبالَة لوحٍ عُشبيِّ اللَّون، ومِن النَّوافِذ السَّامقة انبَعثت أشعَّة الشَّمس، ووثَّقت الإنارَة.
ما انقَطعت أحتوي أفكارًا عظيمَة عن بيكهيون، لا تسعُها مضايِق الانشِغال، أتخيَّلني متَّكئة على كتفِه نيابةً عن الكَمان، أتلمًّسُ أوتارَه ببناني. مرَّت المُعلِّمة الشابَّة بجانِبي، وأطرَقت برأسِها مستطيبةً النَّغمات الَّتي أنجبَها كماني دونَ أخطاء. لم يمضِ وقتٌ طويل حتَّى انتَهى الدَّرس، حزَمتُ آلتي في حقيبةٍ سَوداء مُوافقةٍ لقوامِها، وغادَرت القاعَة بمُفرَدي.
لستُ جيِّدةً في تَكوين الصَّداقات، ولا في الحِفاظ عليها. هُنالِك شابٌّ وسيمٌ مُعجب بي، لا تنفكُّ عيناهُ تتلوان أشعارَ الغَزل في حضرتي، اسمُه سام، بَشرته سَمراء اللَّون، وخصلات شعرِه حالِكةٌ مُجعَّدة، أمَّا قامَته فليسَت شاهقةً للغايَة، لا أُعانِي لأصبُوَ قمَّته. أحيانًا يفتتح بينَنا حديثًا، ألحَده قبلَ أن يحتلم، عسى أن يلتمِس الرَّفضَ بينَ سُطوري.
لحِق بِي طوالَ الرِّواق، مُحاوِلًا استِدراجِي إلى حِوار وديّ، كانَت يدُه اليُمنَى مُتمسِّكة بحزامِ حقيبتِه، في حين أوكَلت ظهري بحملِ حقيبَتي، كي تتفرَّغ يدايَ لخنقِ فُستانِي الزَّهريّ.
«مهاراتُك في تحسُّن مُستمرّ، مِن الواضِح أنَّك تتدرَّبين بكثرة!»
بصوتٍ خافِت قُلت:
«كُنت أعزِف مِن قبل، لذلِك ما أزال أتذكَّر الأساسيَّات».
عِند البابِ العريض في نِهاية الممرّ، لمَحتُ بيكهيون مُستنِدًا إلى هيكلِ سيَّارته. رغمَ أنَّ الحائِل بيننا درجٌ شاهِق، استَطعتُ رؤيَة ندوب السُّخط الَّتي تشعَّبت في سحنتِه، حينَما ميَّزني. كثيرًا ما حاوَلت التملُّص مِن الفَتى حِمايةً لمُستقبلِه، الكولونيل لم يدَّخر كلمةً في التذمُّر مِن اقتفائه لي، لكنَّه لا يفهَم بالإشارة، ولستُ امرأةً فظَّة لأنفيه لفظيًّا.
احتَضن بيكهيون كتِفي، وما تردَّد في إشاحَة سُترته جانِبًا، مُستعرِضًا مُسدَّسِه الَّذي لا يُفارِق حِزامَه، حتَّى يعلَم الجميع أنِّي أنتَمي إلى رجلٍ عسكريّ، لا أحد يرقى لأن يكونَ نِدًّا له. ربَّما أدرَك الفَتى أنِّي محجوزةٌ بالفِعل، إذ فرَّ بسُرعَة.
«أنتَ تسلِخه بنظراتِك، بيكهيون».
ما تفتأ مُقلتاه متشبِّثتان بقميصِ الفَتى، رغمَ أنَّه تَناءى عن مَدارِنا وكادَ يغورُ عن أنظارِنا، جبينِه مُعكَّر بتجاعيدِ غيظِه، وأصابِعه مثنيَّة حولَ لوحِ كتِفي بدفاعيَّة، لن يدَع القضيَّة تمضِي مِن دون حِساب، حتَّى وإن كانَ افتِراضيًّا.
«إمَّا أنَّ شَباب هذِه الأيَّام طائِشون، لا يزيدهم التَّرهيب إلَّا رغبةً في تجاوز الحُدود، وإمَّا أنَّه بليد، لا يُمكِنه التَّمييز بين المُتاح والمَحجوز».
بدا وأنَّه سيمكُث في ذاتِ الرُّقعَة، يُحدِّق بالأفق الَّذي ابتَلعه إلى العام المُقبل، إن لم أتدخَّل. أنزلتُ كفِّي على خدِّه، وأحلت قِبلتَه إليّ، حاوَلت باستِماتة أن أعضَ على بسماتِي، لئلَّا تقتحِم ثغري، خِشيةَ أن تنضُج إلى ضِحكةٍ مسموعَة.
«ذلِك مِن وحي عقلِك فحَسب، هُو لم يجترِئ على تجاوُز الحُدود معِي، الآن وقد هدَّدته بطريقةٍ مُبتكرة، لن يجرُؤَ على مُحادَثتي حتَّى، أمَّا النَّظر فهُو مجانيّ، لو أنِّي قادرةٌ على أن أفقأ عينيه، كي لا تغضب دونَ أن أُسجَن، لفعلت».
تبخَّرت كلِماتِي في العَدم، دونَ أن تُحدِث بينَ تقاسيمِه تغييرًا يُذكَر، إذ زمَّ شفتيه بضَجر، غير مُبالٍ بكُلِّ ما قُلته، بدا لطيفًا!
«لماذا أنتَ غيور هكذا؟»
أزالَ يدِي عن وجهِه بكِبرياء.
«لستُ غيورًا».
وارَب بابَ السيَّارة مِن أجلِي، مُسلِّطًا بصَره على المارَّة، خشيَة أن تفضَحه عيناه، في حينِ التَزمتُ السُّكونَ لوهلة قائِلة:
«تصفَّى مِن أفكارِك السَّوداء، حتَّى وإن حظيتُ بحشدٍ مِن العيونِ البليغَة تمتَدِحني في أبياتٍ موزونَة، ما أزالُ أقدِّس عيناكَ اللَّتان تنثُران مشاعِرك بعشوائيَّة».
أخَذتُ صمته كإشارةٍ على نفادِ صبرِه، فلم أُماطِل أكثَر مِن ذلِك في الصُّعودِ إلى السيَّارة. ما لبِث وأن حجَز حيِّزَ القِيادَة بجانِبي، دونَ أن ينبِس ببِنت شَفة؛ هُو رجلٌ غريب، مِن الصَّعب توقُّعه، يغضَب مِن المَوقِف بحدِّ ذاتِه، ثُمَّ يغضَب لأنَّه غضِب، وبالَغ في ردَّة فِعله.
«عِندما نصِل إلى البيت سأعزِف لك المقطوعَة الَّتي تعلَّمتُها اليوم».
خاطَبتُه آملةً أن يتخطَّى ما جَرى لكِنِّي لم ألقَ مِنه جوابًا. في غُضونِ رُبعِ ساعةٍ مَحفوفَةٍ بالتوتُّر، صبَونا مَنزل الشَّاطِئ الَّذي ما فكَّرنا يومًا في الارتِحال عنه، كانَ فاصلةً لشحنِ الذَّخيرة، وغدا لنا نُقطةَ نِهاية، لم نتَزحزَح عنها لخطِّ فقراتِ الفُراق مِن جديد.
أدري أنَّه يمُقت تهافُت الذُّكور عليّ، وكُلّ مُجاملةٍ تُحاكُ على شرفِ حُسني، لأنَّه لا يرَاني. في الماضِي، ما كانَ يكترِث لِما يبدو عليه وَجهي، وما حاوَل تلخيصَ لمساتِه على صفحَات خيالِه البيضاء ليُشكِّلني. الوَضع مُختلفٌ الآن، ففي كُلِّ فجوةٍ تسِبق الغَفوة، يدرُس بنياتِه بأنامِله، موصَد الجَفنين. أنا فخورةً بِما أحرزتُه مِن تقدُّم في علاقتِنا، وبما حصدتُه مِن ثِمارِ الحُبّ المُندسَّة في استِيائِه مِن نفسِه، فلولا أنَّه صادقٌ في ولعِه بي، لما انزَعج.
بعدَما ارتَديتُ ثوبًا منزليًّا رماديًّا، اتَّجهتُ إلى المَطبخ بنيَّة إعداد العَشاء. وَضعت المَقادير فوقَ البارِ أمامِي، ثُمَّ رُحت أنبش أدراجَ الخِزانَة الحائِطيَّة، بحثًا عن التَّوابل المَفقودَة، لطالَما صنَّفتُها على الرفِّ الأوّل، فطولي لا يسمَح لي بالوُصول إلى الرفَّين الأعلى مِنه. لا أذكُر أنِّي غيَّرت مضاجِعها، ولا أحدَ في المَنزل يشتَهي رُؤيَتي أتعذَّب في اقتِطافها سِوى بيكهيون. لم أضطرَّ للتَّحقيق في هويَّة المُجرم، فها هُو ذا يرتكِن خلفي. اعتَرف بِما اقتَرفته يداه من وراءِ ظهري، بصوتٍ مغموم، بينَما يمدُّ ذِراعَه لإعانَتي.
«مشهَدي المُفضَّل».
كانَ الالتِفاتُ صوبَه فِكرةً سيِّئةً للغايَة، حيثُ قوبِلت بصدرِه الصَّلب الَّذي يدعو إلى الإثم، وفكِّه الماجِن على ارتِفاع مُعتبرٍ مِنه. انتَهزتُ غفلته عنِّي، وانشِغالَه في استِخراج التَّوابِل مِن ضريحِها في تَنظيمِ أنفاسِي، والاحتِجاج ضدّه بصَرامَة.
«لم أرَك تستخدِم التَّوابِل لأيِّ غرض، فلماذا تواصِل تغيير أماكِنها إذًا؟ كأنَّك تتعمَّد إجهادي؟»
صفَّ القنِّينات الصَّغيرة على السَّفح الواحِدة تِلوى الأُخرى.
«أخبرتُك مِن قبل أنِّي أحبُّ رُؤيَة قصار القامَة يُعانون في الُوصول إلى القِمم».
«أنتَ تتصرَّف بصبيانيَّة هذِه الفَترة».
لسوءِ حظِّي، انتَهى مِن مهمَّته وصارَ مُتفرِّغًا للعَبث معِي. مالَ بجسدِه ناحِيتي دونَ مُراعاةٍ لمَشاعِري الَّتي بعثَرتها أنفاسُه الحميمَة بسهولة، فتقهقَرت إلى الوَراء، وعَقفت يدايَ حولَ حوافِ البار بارتِباك.
«هل تراهنين؟»
اكتشَفت له أكثَر مِن وجه؛ الرَّجُل الغَيور الَّذي لا يرحَم أيَّ بصرٍ يحطُّ رِحالَه على أراضيّ، الطِّفل الَّذي يهوى المَقالِب، واللَّعوب الَّذي يقذفُ مِن حينٍ إلى آخر عبارات إيحائيَّة، تُخلِّف على خديَّ أورامًا جليَّة. هُو لا يبتسِم لي، إلَّا عِندما يُخطِّط لمُنكرٍ ما؛ جُسور الحُبور بينَ فمِه وعينيه ما تزالُ مبتورة، لذلِك لا تبتسِم عيناه، حتَّى وإن ابتَسم فمُه. ملامِحه جامِدَة، وبعدِ انكِساره أمامِي عِند الشَّاطِئ، يوم عاهَدني بأن يمنحني فُرصةً حقيقيَّة لكسب ودّه، لا مُجرَّد رقعٍ لوقتِه، لم أشهَد على اهتِزازٍ آخر له، هُو شامِخٌ كالجُلمود.
حينَما أنجَزت الوَجبة ندَّهت عليه، هُو الَّذي كانَ مُنغمِسًا في مكتبِه، يقرأ أحَد المُؤلَّفات المُفضَّلة لديه. كثيرًا ما اصطَدتُه مِن بِحار السُّطورِ العميقَة، غيرَ أنِّي استَحيتُ سُؤالَه عن النَّوع الَّذي يشدُّ انتِباهَه. أدرَكتُ حديثًا أنَّه يميلُ إلى أدبِ السُّجون.
عجبًا لأشخاصٍ يُقيِّدونَ كواحِلهم بالواقِع، رغمَ أنَّ الخَيال يعرِض عليهم مفاتيح الحُريَّة مجَّانًا. لقد ضاعَ نِصفُ عُمرِه بينَ سرايا الظَّلام، وما تفتأ الثَّكنة تعتقِل وقتَه، فلماذا يملأ فراغَه بقراءة رواياتٍ عاشَ مثيلًا لها، وارتِشاف مشاعِر يعرِف مذاقَها الأصليّ. الإفراطُ في الأحلامِ اللَّذيذَة، يُنفرنا مِن أرغِفة الواقِع اليابِسَة أحيانًا، ربَّما ذلِك ما يمنَعه مِن تصفُّح حكايات أناسٍ غيرِه، أناسٌ حظوا بظروف أهونَ مِن الظُّروف القاسِيَة الَّتي عاشَها!
ومِثلما عاهَدته قبلَ أن نؤوبَ إلى قفصِنا الذهبيّ، برَمتُ أنامِلي حولَ مِعصمِه، ما إن نظَّف شفَتيه بالمِنديل مُعلِنًا عن شبعِه، وسحَبتُه نحوَ البيانو الرَّاقد في البَهو، كي لا يُفلح في الهَرب مِنِّي إلى غُرفتِه. صِرت مُرتاحةً حولَه، وأقلَّ خوفًا مِن خسارتِه، إذ رسوت على برِّ الأمانِ أخيرًا، وجُبت يابِسَة هواهُ برخاء، عقِب ضلالٍ مديد في عرض الانتِظار.
أجلَسته على الكُرسيّ المُخمليّ بحماسَة، ثُمَّ حرَّرتُ كماني مِن حقيبتِه، اتَّكأ ذَقني على صدرِه، ولفَحت أصابِعي أوتارَه لفحاتٍ مدروسَة؛ سيمفونيَّة ضوءِ القَمر. أوصَدتُ جفنيّ، بينَما أغرقُ في صلب الموسيقى بشغف، مِثلَما أغرقُ في النَّشوة كُلَّما عزَف عليّ.
سُرعان ما تخلَّلت هدهَدة البيانو أنينَ الكمان، كما لو أنَّه يبكِي والآخر يُواسيه بحَنان. غصَّت يدايَ بالدَّهشة، فأهدَرت بِضعَة نوتات، لكِنِّي تداركتُ هفوَتي ومعَه فتَلت حُلمًا لطالَما راوَدني. مزيجِهما الخاطِف للأنفاس أطرَبني، وما أعتَق فمي سجينَته الحَسناء.
حينَما لفَظت المَقطوعَة آخر أنفاسِها، أطلَّت مُقلتاي على هيئة بيكهيون الخامِلة، وبإسهابٍ تأمَّلت كتفيه العَريضَين رغمَ تخاذُلهما، وأصابِعه الممدَّدة على مفاتِيح البيانو بخفَّة الرِّيش. قلبتُ الكَمانَ في يدي رأسًا على عِقب ألمُّ شملَه بقوسِه، حيثُ انزَلقَت عَينايَ في جُرفٍ مِن الذِّكريات القَديمَة، كانَت ذاتَ يومٍ علقَمًا، غيرَ أنَّها الآن بلسَم.
«في أحدِ الأيَّام، رأيتُ كمانَ شقيقِك واثِبًا على قمَّة البيانو العَتيق في منزِل عائِلتك، ورغمَ جَميع الأغلالِ الَّتي كانَت تشدُّ أطرافي آنذاك، صوَّرنا خيالِي نعزِف سويًّا هكَذا، كما لو أنَّنا نورٌ وسَط العتمة. آمنتُ أنَّ أمانيَّ لن تتحقَّق، ولكِن ها نحنُ ذا...»
طالَبت كفُّه الَّتي تلفلفت حولَ مِعصَمي مِثل أفعَى بجسَدي. أنَمت الكمان على ناصِيَة البيانو، ثُمَّ ثَويتُ حِجره كما لو أنِّي ورقةٌ ذابلة تساقَطت مِن موطِنها إليه، وفيه تحلَّلت. يعلَم جيِّدًا مَدى تأثيره عليّ، بيدَ أنَّ حفيفَ ثغرِه لا يتَوانى في تشتيتي.
«ظننتُك عفيفَة، ما السِّيناريوهات الَّتي أشرَكتني فيها دونَ عِلمي، همم؟»
نظراتُه حارِقَة رغمَ أنَّ سحنتَه جليديَّة كالأزَل، وبنانه تُشاكِس خصلات شعري المُنهمرة على رقبَتي العارِية مُتعمِّدةً التحرُّش بأديمي. كافَحت الصَّمت الَّذي تواطأ معَ هالتِه الرُّجوليَّة المُستعرةِ لإلجامِي، حتَّى حزت على صوتِي في الأخير، وبرَّأتُ ذِمَّتي مِن ظُنونِه.
«أنا بريئَة، عقلي قذر أحيانًا».
في أُفقِي المُزدانِ بالشَّفق غربت شفتاه على حينِ غرَّة، فعمَّت الفَوضى أصقاع خافِقي، ما أزالُ أتعرَّض لنوبةٍ مِن الذُّهول كُلَّما هبَّ عليَّ دونَ سابِق إنذار مِثل عاصفةٍ خريفيَّة، وأشهَق أنفاسَه المَوبوءَة لأنَّه لا يُتيح لي فُرصةً للاستِعداد.
هُو رجلٌ جارِف، لا يعرِف ما يُدعَى بالاستِئذان، وكالسَّيل يُطيحُ بكلِّ ما يُعيقُه، لطالَما تخطَّى الرَّسميَّات بكِبر، ليصعد قِطار جسدَي، دونَ أن يبتاعَ تذكرة سفر، وليقتَحم وطنِي دونَ تأشيرة إقامَة. ما حاسبتُه يومًا على تفرُّده بالسُّلطَة مِثل ديكتاتور، فأديمي بلمساتِه مُرتشٍ، وكُلِّي بعينيه مُنتشٍ!
لثَّم فمِي باحتِرافيَّة، وثلَم بِقاعَ جسدِي بأنامِله الرَّشيقَة. عندمَا نصَب ديجورُ الرَّغبةِ سُرادِقه حولَنا، اخشَوشَن نَهجُه، مِثلَ قلمٍ جفَّ حِبرُه في لُجَّة قصيدةٍ هامَّة، ما طاوَعه هوسُه على التوقُّف، فخَدش بحُروفُه ورَقة اللَّحظَة حتَّى يُخلِّدها، ليسَ لشيءٍ سِوى ليتلوَها عليَّ بعينيه، حين تنقشِع سحائِب الهَوى، ويستَحوِذ الإنهاكُ عليها، ونستَلقي في حاوِية الوِصال مُتعانِقين.
هُو كتابٌ لا أكلُّ مِن مُطالَعته مِرارًا وتكرارا، إن تشقَّقت فيه كلمة رصدتُها، لذلِك أعي أنَّه قد غيَّر وصفاتِه السَّريريَّة مُنذ أمد، وأضفى بُهارَ الحُبِّ عليها. كُلَّما تخمَّرت اللَّهفة في حواسِه، لما يفوقُ قُدرته على التجشُّم، جرَّعني مِن بينِ كفَّيه مُدامةً شهيَّة، خسَفت الأرضَ بي، وأرَتني نُجومَ اللَّيل ظُهرًا، بينَما نتَهاوى في العَدم بغير رويَّة، سويًّا.
تحرَّرنا من براثِن القُبلَة مثقوبيّ المُهجَة، في أمسِّ الحاجَة لأن نرقَعها بأيدينا. نثَرتُ نظَراتِي في برٍّ لا يشمله، وخلفَ شفتيّ كلمٌ آسن، أبيتُ إلَّا أن أُطلِق سراحَه.
«الحُبُّ العُذريّ الَّذي حُكِم عليه بأن يُكبَت في فُؤادٍ لم يُبشِّره بالنُّور قطّ، هُو أقسَى أنواع الحبّ. لا يُخلَّد بل يُنسى، ولو اقترف جريمةً أخلاقيَّة سرًّا، يُنفى، لا يُعفى، فلماذا نتذرَّع بالأدَب إن كانَ لن يدرَّ علينا سِوى العَذاب؟»
أردَيتُ بصرِي على ثراه، مُستطلعةً ما لحِق بِه جرَّاء غارَتي الشفويَّة. علِم أنِّي أبرِّر لنفسِي خيانَتي للمَبادِئ باسمِ الحبّ، حبٌّ ما كانَ ليشهَق الحياة لوما لوّثته بأنانيَّتي في ليلةٍ عزلاء، خلت مِن الرّقابَة على الإجرام، وحِساب المَنطق.
«لم أُرِد أن أموتَ غرقًا في مَشاعِري الطَّاهِرة، فأبَحتُ لها بالتدفُّق مهما كانَت التَّبعات».
حبَّذت أن أغرقَ في مُقلتيه، وألفظ أنفاسَ الوجدِ بينَ ذِراعيه كُلّما أنجَدني، مِثل هذِه اللَّحظَة. أخفَض يدَه الَّتي رسَّخت آثارَ مُرورِه على عُنقي لتُواكِب نظيرَتها على خصري.
«عادةً ما توهَب السُّلطَة لِمن يُسيء إدارَتها، كذلِك حُبُّك لي».
بسَطت كفِّي على خدَّه الدَّافِئ، بدا لي وأنَّه استَطابَ لمسَتي، إذ أغلقَ عينيه بخُمول.
«لطالما تساءَلت، متَى سننشد الملحمة الَّتي تعاضَدت نوتاتُها على سلالِم العشق بداخِلي، وهل ستظلُّ مجرَّد رغبة قادِحة، تجوب امرأةً جامِحة؟»
عبِثت بذوائِبه المتشعِّبة على ناصيته بفوضويَّة، أهوى هيئته المَنزليَّة الوَديعَة، أكثَر مِن الوجهِ المُتكبِّر الَّذي يلبَسه في الثَّكنة.
«لأنَّ حُبِّي لكَ ليسَ مُجرَّد معزوفَة، بل ملحمة، كُنت بحاجةٍ لأن تُشارِكني فيها».
حطَّ كفَّه على ظهرِ يدِي يشلُّها عن الحَركَة، وامتلأت مُقلتَاه بالفَراغ مِن جديد.
«أنا كنانةٌ بجوفِها سهامٌ نابيَة، حتَّى وإن أطلقتُها فلن تُصيبَ مُبتغاها».
ربَّما يعتقِد أنَّه عِقَمه عن الحديث يُزعِجُني، فكُلُّ امرأةٍ تهَوى الرَّجُل البَليغَ الَّذي يُسرِف في امتِداح أنوثتِها جِهارًا، لكنِّي قنوعة بِما تغزِله لي لُغَة جسدِه. يكفِي أن يُسهِب في تأمُّلي كالآن لأحمرَّ خجلًا، وأودَّ لو أندثِر مِن مدارِه. تنهَّد مُفرجًا عن صدرِه قليلًا مِن الغمِّ المُتكدِّس فيه، لسببٍ أجهلُه، ثُمَّ ما لبِث وأن فحَّ بشرود.
«آن الأوان لتتعرَّف عائِلتي عليك».
كُنت واثقةً أنَّ هذِه اللَّحظة قادمةٌ لا مَحالَة، لكنِّي رجوتُ لو تتأخَّر. سَرى الوَجلُ في عُروقي، وطأطأتُ رأسِي بخيبة.
«لن يرحِّبوا بي».
على متنِ بنانِه حمَل ذقنِي.
«ومَن يهتمّ؟»
جافَى النَّوم عينيَّ أيَّان اللَّيل. تفانَى ذِهني في التَّفكير بلِقائِنا معَ والديه غدًا، وكدَّ الذُّعر فُؤادِي حتَّى رهف. كُنت موقنةً أنَّهُما لن يُبارِكا علاقَتنا بسُهولَة، ربَّما سيعتبان عليه إلى الأبد، إن أصرَّ على التمسُّك بي، ليسَ لأنِّي خادمةٌ اعتادَت العَمل تحتَ سقفِ بيتهم فحَسب، بل لأنِّي الزَّوجة السَّابِقة لسائقهم، وصديقةٌ لكنَّتهم المَخلوعَة.
مهما نجَّمت عن بصيصِ أمل في أنَّ الغَداء سينقَضي على ما يُرام، خانتني نفسِي المُتشائِمة، وعرضَت عليَّ أكثَر مِن نِهاية تراجيديَّة. أخشَى أن نُحرَم مِن بعضِنا البَعض، كأن يُخيِّره والِده بيني وبينَ عائِلته، أو وظيفتِه، ماذا لو هدَّده بأن يُدمِّر مسيرتَه العسكريَّة إن لم يستأصِلني مِن حياتِه؟ حينَها لن أتمكَّن من غضِّ الطَّرف عمَّا سيُنفِقه في سبيلِي، ورغمًا عنِّي سأُطلق سرَاحَه. تحتَ قصفِ غماماتي السَّوداء، آويتُ إلى حُضنِه، وخزَّنت ما وسعني مِن أريجِه، كأنَّها المرَّة الأخيرَة الَّتي سيتسنَّى لي فيها استيطانُه.
في عُنفوان الصُّبح، وعيتُ مُثقلةً بالإعياء لفرطِ السَّهر، لا أعلَم في أيِّ ساعةٍ راوَدني الكَرى. كافَحتُ الحيرَة بشَراسَة، بينَما أصفِّي خِزانَتي مِن الثِّياب، إلى أن استقرَّ خياري على فُستانٍ صيفيّ سماوِيِّ اللَّون، اشتَريتُه حديثًا، حينَما اجتُرِرت إلى التسوُّق قسرًا مِن جديد، آوى قماشُه بُنيَتي بكرم، مدثِّرا ما هُو حلٌّ لبيكهيون فحَسب. لفَفت ربطةً أنيقة حولَ عُنقي، لعلِّي أُحابِي توقُّعاتهم لعشيقتِه، ثُمَّ هبَطت الدَّرج المُؤدِّيَ إلى غُرفةِ الجُلوس مُباشَرة، هُناك حيثُ وجَدتُه مُوثَّقًا ببذلةٍ سوداء فتَّانَة، لم يتذمَّر لأنِّي تأخَّرت، يدري أنَّ التوتُّر يقتُلني.
بينَ المُنعطَف والآخر، كُنت أسرد مخاوِفي عليه، مُتوسِّلةً أن يُؤجِّل اللِّقاء إلى الأبَد، لكنَّه أعدَم صوتِي بنظراتِه الحادَّة، وعقِب ساعَتين مَشدودَتين، وصلنا إلى الحيِّ الرَّاقِي الَّذي يضمُّ مَنزله.
ما خَفيت عنه الرَّعشة الَّتي ضربَت ساقيّ، بينَما نترقَّب تقهقُر الباب، سعيتُ إلى توخِّي البُعد عنه حينَما برَزت آه يونغ مِن ورائِه، أخفي ارتِباطَنا مُؤقَّتًا. عمَّ الذُّهول مُحيَّاها؛ أوَّلًا لأنَّ الطَّارِق يكون الكولونيل، وهُو يمتلِك المِفتاح، فما المَغزى مِن الانتِظار خارِجًا كأنَّه ضيف لا مُقيم؟ وثانِيًا لأنَّ زوجَة سائِقهم المُستقيل مُلتحمةٌ بجانِبه.
صدمتُها بعثَرت الاحتِمالات الَّتي قضيتُ اللَّيل بطولِه أعجِنها، لاشكَّ في أنَّ ردَّة فعل أهله ستَكون أسوأ مِن أيِّ سيناريو يُمكِنني تصوُّره!
أخذتُ نفسًا غفيرًا، قبلَ أن أقتفي خُطوات بيكهيون الوقورَة، والجَزع يَبري وجداني، أشعُر أنِّي سأفقِد الوعي قريبًا. تريَّثتُ على مسافةٍ مُقتضبةٍ مِن غُرفةِ الجُلوس، في حين توغَّل الكولونيل بكُلِّ ثِقَة. دنَوتُ مِن الحاجِز الزُّجاجيّ بحذر، واستَرقت النَّظر إلى الدَّاخل؛ لمحتُ السيِّد بيون مُتربِّعًا على الأريكَة الفرديَّة بِلا حراك، بينَما زوجتُه مُتشبّثَة بذِراع بيكهيون، والشَّوق يتلظَّى في عينيها اللَّتين بحَثتا عن امرأتِه هُنا وهُناك.
«لم أستطِع النَّوم مُنذ أن اتَّصلت، وأخبرتنا أنَّك ستُعرِّفنا على المرأة الَّتي سطَت على اهتِمامك، بالآونة الأخيرة، أينَ هِي؟»
نادَاني بصوتٍ خشِن، حينَما تعذَّرت رُؤيَتي عليه.
«تعالي إلى هُنا».
كُنت واقِفةً على حافَّة الهاوِية، ولا خيارَ أمامي عدا القَفز في أحضانِ الفَراغ، على أملِ أن تَلقفني غيمةٌ مِن الخَلاص. أعتَقت زفرةً سقيمَة، ثمَّ هندَمت مَظهري لمرَّة أخيرة، حِريصةً على سدِّ كُلِّ الثَّغرات، قبلَ أن أطأ أبصارَهم بحَياء. توفِّيت الثَّانِية تِلوى الأُخرى دونَ أن ينطِق أحدُهم بكلِمة، إذ سطَت الدَّهشة عليهم، ما اجتَرأتُ على النَّظر إلى أيٍّ مِنهم. ظنَنتُ أنَّ الصَّمت لن يُفارِق ثغورَهم، لكنَّ والِدته أعتَقت ذِراعَه وبادَرت بالسُّؤال.
«أليسَت زوجة السَّائق؟ أهذا مقلب مِنك؟»
رفَعتُ بصَري شيئًا فشيئًا تزامُنًا وانتِفاضَ السيِّد بيون مِن مَضجَعه مُتجهِّمًا.
«بيون بيكهيون، ما الَّذي تظنُّ أنَّك فاعِله بتَقديمك هذِه الخادِمة لنا على أنَّها عشيقتُك؟ هل تودُّ رُؤيَتي وأنا أموت بسكتةٍ قلبيَّة؟»
مِلتُ نحوَ بيكهيون مُختبِئةً خلفَ جِذعه المَتين، عسى أن يردُّ عنِّي طلقاتهم الفتَّاكَة، لقد نَبذني الجميع مُنذ أوَّل إطلالةٍ لي هُنا. التَهمني الخوفُ حيَّة، في حينِ ظلَّ الكولونيل مُتماسِكًا، ما التَمستُ أيَّ شظيَّة للارتِباك في نبرتِه الثَّابِتة.
«لقد لبَّيتُ طلبَك، وتزوَّجتُ المرأَة الَّتي اقتَرحتها عليَّ لمصلحة العائِلة، بفضلي حقَّقت المَنصب الَّذي لطالَما حلمت بِه. يُمكِنني الانشِقاق عنكَ الآن دونَ أن يؤنِّبني ضميري، لأنِّي تخلَّيت عن عائِلتي، وأرجو ألَّا تُجبِرني على ذلِك».
لوَّح السيِّد بيون بيدِه مُعلِنًا عن قرارِه النِّهائيّ بحزم.
«لن تجلِس هذِه الخادِمة إلى طاولتِنا، وقراري مفروغٌ مِنه».
خِلت أنَّ بيكهيون سيُجادِله، لكنَّه بلامُبالاةٍ قال:
«على أيِّ حال، سنعقِد قِراننا يوم الثُّلاثاء المُقبل في الكنيسَة، وأنتُم مدعوُّون، إن أردتم الحُضور بالطَّبع».
انعَطف بيكهيون عازِمًا على الرَّحيل، مُتجاهِلًا والِده الَّذي غشيته الصَّدمة وكادَت تُرديه طريحَ الإغماء، كانَت ردود أفعالهم متوقَّعة، ما لم أتوقَّعه هُو تصريحُه!
انحَنيتُ لهما بأدب، رغمَ الاحتِقار الَّذي ما انفكَّا يرجمانني به، واقتَفيتُ آثارَه على مضض، بقلبٍ واجِب، ورمقٍ ناضب، وفكرٍ يُرتِّل ما تفوَّه بِه أمامَهم مِرارًا وتكرارًا. لقد سِمعته بشكلٍ واضح وهُو يعلنُ عن زفافِنا الأسبوع المُقبل. تحاشَيت الاحتِكاك بالخادِمتين اللَّتين استَنكرتا عودَتي إلى المنزِل كعشيقةٍ لسيِّدهما، وركَّزتُ على تقليصِ الفارِق بيني وبينَ الكولونيل. تمكَّنت مِن إدراكِه، بعدَ أن لفظَنا البابُ الفَرعيّ لهذا القَصر تحتَ هجير الصَّيف الحارّ، وأفرَجت عن علامة استِفهام ثقيلة، مُغلَّفة بأنفاسِي المُجهَدة مِن الهَروَلة.
«بيكهيون، زفاف مَن الأسبوع المُقبل؟»
استَكانَ عن المَشي واستَدار نحوِي مُواجهًا وجهِي الَّذي شحُب.
«لم أعثُر على الفُرصَة المُناسبة لإخبارك بأنَّنا سنتزوَّج».
الجِديَّة في نبرتِه ألجَمت لِسانِي لوَهلة، لم أستطِع بُلوغَ عرقَ الحُبور المَبتور بداخِلي، ينزِف دهشة مِن أسلوبِه المُتسلِّط، لتضميدِه.
«تُخبِرني؟»
هُناك صوتٌ في عَقلي يدعونِي إلى إنكار كلِماتِه، والبَحث عن معنًى آخر لها، لا يُمكِن لرجلٍ ارتَشف العلقَم مِن زاوجِه السَّابِق أن يرهَن حياتَه لآخر. ببلاهةٍ ابتَسمت له، عسى أن يدلَّني على الحَقيقَة، قبلَ أن أعتنِق كذبةً حُلوة.
«ألا يُفترَض بالزَّواجِ أن يُعرَض على الطَّرفِ الآخر، لا أن يتلقَّاه كأنَّه خبرٌ لا خيار له فيه؟»
كانَ مُحيَّاه خالِيًا على عُروشِه، إلَّا مِن صرامتِه المَعهودَة في الثَّكنة العسكريَّة، حينَما يوجِّه الأوامِر غالبًا.
«لقد أجريتُ حِساباتي بالأمس، درست المَوضوع مِن كافَّة النَّواحِي، وما عثَرتُ على ضيرٍ في الارتِباط، نحنُ نعيشُ كالمُتزوِّجين مُنذ فترة، ومنح علاقتِنا إطارًا رسميًّا لن يتسبَّب لنا في الإزعاج، ألديكِ أيُّ اعتِراض؟»
تدلَّى فكِّي السُّفليّ، فتدفَّقت شُذور الهَواء في نَفقي مِدرارًا، أفكاري تتناحَر بضَراوة على تصنيفِ هذِه اللَّحظَة، بعضُها تُؤمِن بمِصداقيَّتِها، وبعضُها تنسِبها إلى حُلمٍ بحت، فالواقِع ليسَ بجمالِها، في الخِتام هززتُ رأسِي بنفيٍ قاطِع تحسُّبًا. انجَلى الرِّضا على مُحيَّاه، حيثُ رفَع أحدَ حاجِبيه، ودسَّ يديه في جيبيه.
«إذًا فنَحنُ على وفاق».
لقد تعدَّى ذروَة التسلُّط حتمًا!
-
هلاوز خفافيشي 😍
الفصل قبل الاخير وصل 😭😭👌
مو مصدقة اننا رح نودع القصة بهالسرعة 😭😭 ما رح يكون في كولونيل وسايا تاني 😭
بيكهيون مبتكر دائما فعروض الزواج تبعو 😂😂 البنت ما استوعبت كلامو 😂 اللهم رجل بنفس شخصيتو المنافية للتوقعات 😍 هو شبه متملك جدا الاختلاف بينهم أنو ما يعصّب على شغلات تافهة والتعامُل معو أسهل بشوي
شو رأيكم بالفصل!
بيكهيون!
سايا!
السيد والسيدة بيون!
يتقبلو علاقتهم او يظلو متخاصمين!
شو هي توقعاتكم للفصل الاخير!
رح اكشفلكم أشكال الشخصيات الثانوية يلي كنت متخيلتها من البداية وحتى اللحظة 😂😂 طبعا أجلت هالشي للأخير لانو في ناس كتير بتحبهم وأنا بحبهم بتعرفو انو حتى البايس ممكن احطو بدور شرير 😂😂😂
دمتم في رعاية الله وحفظه ❄
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro