الفصل| 21
الانطِفاء في مُقلتيه، عاصِمة الخراب الكامِن بين أضلعه!
لم يسبِق وأن رأيتُ عينين مِثل عينيه، كأنَّهما رأتا في هذِه الدُّنيا مِن الأهوال ما خسف بوهجِهما، منظرُهما حُلو، وطعمُهما مرّ، كأنَّهُما نسيتا السُّبل إلى العيش، فصارَتا تُشبِهان مدينَة أشباح، هجرتها جميعُ العواطِف حينَما أقفَرت، وربَّما قتِلت بطلقات الحياة... بُؤبؤاه رحبان مِثل المَجرَّة، ولكنَّهما يختنِقان، هل أدركته بعدَ فوات الأوان؟
في معزوفات جفنيه الآسِرة، ورقصاتِ أهدابِه السَّكرة، رسائِل مُضمَرة، كُتِب فيها أنَّه رجلٌ غيرُ قابلٍ للإنقاذ، إذ وقَع في حُطَمة الفراغ، تحثُّني ألَّا أُحاول نفخ الرُّوح في ميِّت، فالإحياءُ ليس مِن مواهِبي؛ والمُعجِزات لا تقطُن أنامِلي. أنا أيضًا ميِّتَة، الفرقُ الوحيد أنَّه الجَنّة الَّتي قد أُبعثُ فيها إن بُشِّرت بِها ذات يوم، وذلِك مُحال!
قد يبدو للوهلةِ الأولى موزونًا مِثل أبياتِ القصيد، ذلِك لأنَّها محكومةٌ بمقام وقافِيَة، لو انتَهكتهُما فقدَت ماهيتَها، وغدَت مُجرَّد نصٍّ، لا يندرِج ضِمن أيِّ صنف. قافياته محبوكَة بعِنايَة، وجميعُ سُطورِه تنتَهي بياءِ المُتكلِّم المبنيَّة على الكبرياء للتَّضليل، ليسَ بوسع أحدٍ الجزم أنَّ لُبَّه مهزوز، لا أساس لمقامِه ولا مُسمَّى، بل هُو الَّذي اختَلقَه، سوى شاعرٌ قضى معظَم عُمرِه يرثي حالَه لنفسِه، كلِماتُه وُلِدت مِن رحِم الألَم، وخلَّدته في قالبٍ باهِر.
هو الرَّجل الَّذي قادَ فيَّ حملةً فكريَّة، عازِمًا على احتِلالي، له أحداقٌ كالبَنادِق، رغمَ ضعفِ جنودِه، رغمَ جميعِ الانشقاقات ضِمن صُفوفِه، ورغمَ جميعِ العُيوب في هياكِل مُعاهَداتِه، نالَ مِنِّي بلا عناء، ورفَع علَم الحبّ على سارِيتي.
دونَ تفكير يُذكَر، اقتَحمتُ وابِل المَطر، قصدَ دفعِه عن مرماه، بأيِّ وسيلة كانت، حتَّى وإن استَخدمت كفّيَّ العارِيين، فانتَهى بي المَطافُ صيدًا سائِغًا للسَّماء، ما توانَت في استِهدافِي، حينَما اجتازَت رصاصاتُها حواجِز ثِيابي واقتَرنت بلَحمي، انبَعثت القشعريرةُ في جسدِي لفرطِ ما تختزِنُه مِن صقيع، لحظَتها تساءَلت كم مرَّ عليه وهُو واقفٌ هُنا بغير حراك، كأنَّه أوكَل إليها مهمَّة إطفاء حرائِقه بعدَ أن عجز عنها؟
المِصباحُ الكهربائيُّ المُثبَّت فوقَ عارِضَة المَدخل، أماطَ رُكامًا مِن الظَّلام حولَنا، وكفَل لنا بُقعةً مِن الضِّياء هِي الَّتي توسَّطناها. كِلانا مبلول، تتقاطَر المياه مِن حوافِ وجهينا، وأطرافِ خصلاتِنا الرَّاكِدة بلا حراك. لن أملَّ مِن تأمُّله، ولو أهدرتُ عليهِ عُقودًا مِن عُمري، رغمَ أنَّه بُستانٌ ذوَت جميعُ ورودِه؛ هُناك في الحُزنِ ما يجتذِبُنا إليه، ربَّما لأنَّه صادِق، فيه مِن الواقِعيَّة ما نسيت التوقُّعاتُ أن تحزِمه.
ما يزال جبينُه نائِمًا على كتِفي بخُمول، وصدَى كلماته يُذاعُ في قنواتِي مِرارًا وتِكرارًا، ذلِك السُّؤال بِما تخفَّى فيه مِن آهات لا يُفارِق بالي، والتَّفكير في أنّي سبب كُلّ ما حلَّ بِه مِن دمار، يصلي فُؤادًا وجعًا. هل كان عليَّ انتِظار حُبِّي الخارِج عن القانون ليعيثَ الآفات حولي، حتَّى أرسل بعثات المنطِق مِن أجل القبضِ عليه، وسجنه بعيدًا عن الأنظار؟
قضمتُ شفتِي، قبل أن أنبِس بحسرَة.
«فلتغفِر لي.»
داسَت الثَّواني المُضغَة المُزريَة المكبَّلة بأضلعي وهي تنتعِل الصَّمت. ما لبِث بيكهيون وأن أبحَر بعيدًا عن مرفِئي العائِم في المِياه، ونَظر إليَّ بجفاء مُزعزِعًا روحي، فجأةً ازدَحمت الكلِماتُ في لِساني، ورغمَ أنَّه رحبٌ ليسَعها كُلَّها، تزاحَمت!
« لا أدري كيفَ أنقُل إليك كامِل دُفعات الأسفِ المركونَة بجوفي. كُلّ التشوُّهات الَّتي طفحَت في أيَّامِك بسببي، لوما سِرت خلفَ أهوائِي ليلتَها، وأنا أرتَدي أعذارًا واهية، لما اضطررت لتطبيقِ القصاص على سومين، على الأقلّ لن يكونَ بذاتِ الشدَّة الَّتي أودَت بحياةِ طفلكما.»
لي عينٌ ثرَّة، كُلَّما وخزَت الهُموم دواخِلي ثارَت، ونقَلت شكواها خارِجَها، دونَ اكتِراثٍ للمَكان والزَّمان، أو مَن يُقاسمني إيّاهُما؛ ما ارتأت ضيرًا في تهجيرِ مُواطنيها، ونفيهم إلى برٍّ آخر الآن، ربَّما لحِمايتهم مِن ألسِنة الشَّجن، ووغى النَّدم. كثيرًا ما تعثَّرت أنفاسي بالغُصصِ المُنتشِرة في حِماي وبلهيبِها الحامي اكتوت، فشهقت كرضيع.
«لذلِك أستحقُّ الموت، لم أكتفِ بتعذيبِ نفسي، بل وعذَّبت أكثَر مِن شخص، رغمَ أنَّهم أبرياء؛ ما مسُّوني بسوء، كأنِّي نذيرٌ للشُّؤم، لا أجلِب سِوى التَّعاسَة للمُحيطين بي، مُنذ أن ظهرتُ في حياتكما أخذَت تتداعى.....»
ظلَّ ساهِيًا إلى الأفق كأنَّه يُحاوِر أتراحه بصمت.
«تداعَت لأنَّها لم تكُن صلبةً كِفايَة.»
عِندَ فاصلةٍ زرَعها على سطرٍ فارع، يمنحُني إجازةً ليست ما أنا بحاجةٍ إليه، بل إلى راتب غفران، لأسدِّد تكاليفَ عيشي، اتَّضحت معالِمه لي؛ ورغمَ أنَّ كُثبانَ الدَّمع تتموَّج بينَ جفنيّ، رأيتُ فكَّاه في طِحان، ووجهُه مائلًا عنِّي بزاوِيةِ نِسيان.
أبيتُ الاقتِناع، فوعيي مردومٌ تحت ثورةِ الوجدان، ربَّما يحاول التَّخفيف عنِّي، مع أنَّ ذلِك خُرافةٌ يصعب على المرء المُؤمِن تصديقَها، وأنا مؤمِنة بأنِّي فيه مُجرَّد مُجرِمة، وربَّما يودُّ دفع ثمن استِعارته لكتفي قبل أن يتراكَم عليه!
«لا، ليسَ خطأ أيٍّ مِنكما، لو لم أُخلق مِثل هذِه الثَّغرةِ بينَكما لما تشقَّقت علاقتكما. كان عليَّ التصرُّف بعقلانيَّة وإثناؤها على الأقلّ، بحُكم أنِّي أكثَرنا توازُنًا، أمقُت نفسي كُلَّما تذكَّرتُ أنِّي اعتبَرتُ مواعيدنا العفويَّة فُرصًا مِن كنفِ القَدر...»
قاطَعني هذِه المرَّة بنبرةٍ حازِمة، خلَت مِن وجهَة نظرِه، كأنَّه طرفٌ حِياديّ، لا المعنيّ!
«لقد أجهَضته.»
جفلت، وامتَنعت عن مُصافَحة الحقيقَة الَّتي جاءَني بِها. أعلمُ أنَّه لا يمتلِك أيَّ سببٍ قد يحملُه على مواساتي، لكِن مهما أحصيتُ مساوِئ صديقَتي، يستَحيل أن تتمادَى إلى هذا الحدّ، يستَحيل أن تقتُل ابنَها.
«تظنُّ أنَّ دورَ الأب لا يليق بي!»
تحدَّث بجمود، كرجلٍ اكتَفى مِن ألاعيبِ الحياة، علِمتُ حينها أنَّه قد تألَّم حتَّى تشبَّع، كَم مِن مأساةٍ طواها في دُرجِه يا تُرى؟
ما استَسغت النَّظرات الآسِنة الَّتي انسَكبت مِن مُقلتيه، ولا الوجومَ الَّذي ألجَم شفتيه فما نطَقتا بحرف آخر، وباندِفاعٍ اكتَنفت محيّاه بينَ كفيّ، لا بأسَ حتَّى وإن أزالهُما عنه، ونهرني على وقاحَتي، بحُكم أنَّهُما تؤوِيانِ أشلاءَ إخلاصِه لزوجتِه.
لوهلةٍ نسيت ماضينا الَّذي لوَّثتُه مِلء إرادَتي، ربَّما سلبَها مِنِّي الحبّ، يومَ غزانِي، وصوَّب بنادِقه نحو فُؤادي، حيثُ غدَت كُلّ طلقة بُعد موتًا، مقبَرتي مليئةٌ بأجداثي، لا يفرِّق بيني وبيني سِوى شواهِد بنيت فوقَها، تُنبِّئني بتواريخ استِشهادِي.
أوشحت خدَّاه الرّطبان لمساتِي المُرتبِكَة، لعلَّها تمنَحُه قليلًا مِن الدِّفء، وطبعتُ بصماتِي عليهما، لعلَّها تهديه إلى صِدقي قبل أن يمسَحها المَطر.
«لقد اعتَدت على التَّعامُل معِي بكلِّ نُبل مُنذ البِدايَة، رغمَ أنِّي زوجة السَّائِق فقط، وأدنى مكانة مِنك، أذكُر أنَّك طوَّقتني بنفوذك كي تحميني مِن الطَّرد، وذلِك لطفٌ مِنك حقًّا، ما الَّذي ستهبُه لقطعةٍ مِنك إذًا؟ أتخيَّلُك أبًا رائعًا، يتفانى لإسعاد ابنِه، سيكون المَكان الَّذي تتجمهر فيه كلّ عاطِفتك، ستقدِّم له أفضَل ما لديك.»
تلمَّست وجنتيه بحُريَّة، مع أنِّي في برِّه دخيلة، مطلوبةٌ لدى محكمَة الأخلاق. لم يُبعِدني عنه، وسمَح لي بسرقةِ القليلِ مِن أتعابِه في ربتاتٍ خاشِيَة.
رغمَ الوهنِ الَّذي يرهق رموشَه الكثيفَة، ورغمَ أنَّ الوَدق يزيدها ثقلًا ويُغريها بالالتِحام والقاع، صامَت مآقيه عن لقف دمعَة، أدري كَم هُو بحاجةٍ إلى البُكاء، ولكنِّي لا أتوقَّع مِن رجلٍ يرى الكِبرياءَ مِن زاويةٍ ضئيلة أن يئِنّ.
«أنسيت أنِّي أرهبتُك عقابًا على خطئِك؟»
ضاقَت أنامِلي على خدَّيه بلهفة، وبنت نظراتِي جسرًا نحوَه، وحدِي مَن عبرتُه، ليسَ لمُواساتِه، بل لتبرئتِه مِن تُهمةٍ يُلصِقها بنفسِه.
«لقد قُلتها، عاقَبتني لأنِّي أخطأت، ولم يكُن خطأ يُغتَفر.»
عقَد أنامِله حولَ مِعصميّ على أهبةٍ لنزعي عنه، سكَن بثباتٍ لبُرهَة، يرمِّم صدوعه، ويُلملم شذورَه، ثُمَّ أطلَّ عليَّ بذاتِ قِناعه الَّذي طُمِسَت فيه كُلُّ آثارِه.
«جيّد أنَّك تعلَمين.»
أخفَض ذراعيّ، وبكُلّ بساطة استأنَف دربَه نحوَ سيَّارتِه، دونَ أن يسمَح لي بالردّ، ما الَّذي كُنت سأقوله على أيَّة حال؟
تعسَّر عليَّ فهم ما جرى بينَنا للتوّ، فقد أنهاه بطريقة غامِضَة، ما لامرأةٍ ساذجة مِثلي القدرة على فكُّ لُغزِها، هل اعتِرافُه لي مُنذ قليل يعني أنَّه يدعوني لفتحِ صفحةٍ جديدَة، أم أنَّه كان مُجرَّد كلماتٍ عابِرة، حدَث وأن أثقلت غماماته؟
طوالَ سفرَتي بالقِطار وبالي مشغولٌ بالكولونيل، كأنّه تصفَّى مِن جميعِ الأولويَّات لأجلِه، هُو أعظَم المُلهيات، لطالَما جعلني أتخلَّى عن شُؤوني، وأُمارِسه بلا كللٍ أو ملَل. هُو قضيَّة عاجِلة أجنِّد لحلِّها كامِل حواسي، ورغمَ أنِّي لا أتقدَّم فيها ولو بخُطوة واحِدَة مهما أنهكتُ ذاتِي، أواظِب على تصفُّحَها مِن كلِّ جانِب. فكَّرت بالحديثِ الوديّ الَّذي دار بينَنا، عقِب شهرٍ مِن الخِصام، وبمعاناتِه حينَما اكتَشف أنَّ سومين حكمَت على ابنِه بالموت، ما أزالُ مصدومة مِن فعلتِها، لم أعهدها امرأةً قاسيةً هكذا، ما خطبُها؟
حينَما نزلتُ في محطَّة سول، كانَ المَطر يهطِل رذاذًا، سُرعان ما توقَّف تمامًا، وظلَّت آُثارُ التَّساقُط عالقةً بسقوفِ المَنازِل تتقاطَر بشحّ، كما علَت طبقة رفيعة مِن الماء الأرض، أكسبتها أنوارُ الشَّارِع لمعةً خافِتة. هبَّت الرِّياحُ البارِدة، وداست الألغامَ المُندسَّة في ملابِسي المُبلولة، فما انفكَّت تنفجِر بي مع كُلِّ لفحَة. احتضنتُ صدري بذراعيّ، عسى أن أستمدُّ مِنهما بعضَ الدِّفء، لكِن عبثًا. في ظلِّ ذلِك الشَّقاء، خِلت أنَّ المنزل هدفٌ بعيد المَنال، وها أنا ذا واقفةٌ أمامَه، أحمَد الربَّ لأنَّ الطَّريقَ قد انتَهى أخيرًا. هرولتُ إلى الدَّاخِل، مُعفيةً بصري مِن التَّحديق، لا أظنُّ أنَّ بيكهيون سيعودُ اللَّيلَة إلى هُنا.
رأيتُ جينوو راسيًا على مسافةٍ مِن السَّرير كالجُنديّ، يدلِّك حافتيّ عينيه بإبهامِه وسبَّابته بإرهاق. أدركتُ على الفور أنَّه يرتقب مجيئي بينَ صبرٍ ونفور، ما أثبَت صحَّة تخميني بخُصوص الكولونيل. عليّ أن أقلقَ على نفسي الآن، إذ تبنَّيتُ يومًا مِن العمَل دونَ استِشارتِه، ربَّما أشعلت ثورة، انتقِامًا لأنثاي الَّتي نذَرت له سنواتٍ مِن الإخلاص، غضَّ الطَّرف عنها، لا حقَّ لي في الغضَب، لكنَّ ذلِك لم يمنَعني مِنه.
أعلَن صريرُ البابِ عن وصولي، مُستقطِبًا كامِل انتِباهه؛ النَّظرةُ المُتهالِكة بينَ جفنيه اشتدَّت ما إن ولَجت لحظَه، ما لبِث وأن أقبَل عليَّ بخطواتٍ حثيثَة.
«لماذا تواصلين تنفيذ ما برأسك دونَ الرُّجوع إليّ، كأنِّي لا أعني لكِ شيئًا!»
استَكان على بُعدِ شبرين مِنِّي.
«كيفَ فكَّرت في السَّفر وقضاء النَّهارِ بطولِه واقفةً على قدميك، رغم أنَّ الطَّبيب حثَّك على الاستِلقاء ريثَما تسترجعين طاقَتك؟»
أغلقتُ البابَ ورائي، أمنَع الهواءُ البارِد مِن التَّسلُّل إلى المقصورَة، وحاولتُ التَّظاهُر بالهُدوء قدر الإمكان، كي لا أزيدَ الوضع سوءً.
«تعلَم أنَّ إدارَة الثَّكنة صارِمَة...»
أفزعتني الصَّيحَة الَّتي أطلقَها بغَتة، وجعلَت كتِفاي يقفِزان فزعًا.
«ذاتُ العُذر في كُلِّ مرَّة.»
قبل أن أستدير نحوَه طوعًا، ربَط يداه بكتفيّ، وأجبرني على مُواجَهته. في عينيه عاصفةٌ عاتِية، لم أصمُد وسَطها طويلًا.
«هل الرَّجل الَّذي فضَّلتِه عليّ يُشارِكك العَمل، لذلِك تتلهَّفينَ إلى الرَّحيل مهَما كُنتِ مُنهكَة، ولا تفوِّتين أيَّ يوم!»
أعي جيِّدًا أنِّي مُذنبةٌ في سُجونِ الإخلاص، زِنزانَتي ضيَّقةٌ تُقيِّد حرَكتي، ولا تسعُ مشاعِري حينَما تُقرِّر أن تتظاهَر، لكنِّي عجزتُ عن تمالُك أعصابي، ودفعتُ صدرَه بكفيّ، ربَّما لأنَّ كلماته ضمَّت شُظفًا مِن الحقيقَة!
«ليسَ القلق ما حمَلك على مُساءَلتي إذًا، بل كبرياؤك، أنتَ قلقٌ على مكانتِك كسيِّد وصاحب الكلِمة فيه، تودُّ أن تكونَ الوحيد الَّذي تُرجَع إليه الأمور، لذلِك كثيرًا ما تتحدَّث بنبرةٍ مُتسلِّطَة في نِقاشاتِنا. كُلّ ما تكترِث له هُو عدَم إخباري لكَ واستِشارتك تحديدًا، لا لأنِّي مُلزمةٌ بالرَّاحَة والتخلِّي عن العَمل مُؤقَّتًا، أنتَ هكذا دائمًا.»
تجمَّعت الدَّهشةُ في محجريه، وكادَت تفيض مِنهما، نادِرًا ما أخاطِبه بنبرةٍ فظَّة كهذِه، حتَّى نسيَ أنِّي إنسانٌ كذلِك وأجيدُ لهجَة السُّخط مِثل الجميع، صمتي لم يعنِ يومًا ضعفي، كُلّ ما في الأمر أنِّي اجتَبيت التَّنازُل والتَّظاهر بالانهِزام حِفاظًا علينا، الآن ليسَ لديَّ ما أحميه، لن أضحيَ مِن أجلِ حبٍّ ميِّت بعدَ اليوم!
«مهما تقدَّم بِك العُمر، لا تنسى أنَّك حينَما قرَّرت جلبي إلى هذا المنزِل لم تستَشِرني، بل وضَعتني أمامَ الأمرِ الواقِع.»
قذفتُ حقيبَتي نحوَ السَّرير، مرَّت بجوارِ وجهه، فأغمَض عينيه، مُعتقِدًا أنِّي وجَّهتُها للكمِ غُروره. بعَد لحظات أفرج عن عدستيه، وشاهَدني بينَما أغادِر مجالَ بصرِه. حكمتُ عليّ بالسِّجن لبضعةِ دقائِق في الحمَّام، اتَّكأتُ على بابِه بتعب، إذ غدا الوقوف مهمَّة عسيرةً على قدميّ، أنا مُرهقةٌ مِن المُقاوَمة، ومِن العيش، سئِمت مِن ارتِقابَ فجرٍ بهيج، يعدِم سلسلةً مِن اللَّيالي، لا فواصِل بينَها، وينير ظُلماتي، فجرٌ ما زارَني قطّ.
ظننتُ أنّ هذه الخلوة ستُعينني على رقعِ ثقوب روحي، لكنَّها زادَتها وسعًا. بتُّ مُقتنعةً أنَّ الحياة لا تودُّ رُؤيَتي سليمة، فكُلَّما شرعتُ في لملمة طوبِ الإرادَة لبِناء جدارٍ يحولُ بيني وبينَ رغبتي في ذلِك الرَّجُل، يقفِز الزَّمن مِن فوقِها إليّ، وهو يحمِله في رِحالِه، ويسلُبني كُلَّ ما لديّ، الآن وعلاقتي تحتضِر مِن السَّهل أن أضعف.
شيَعت الحياةُ أسبوعًا كامِلًا إلى مقبرةِ الماضي، لم أرَ الكولونيل لا في المنزِل ولا في الثَّكنة مُنذ ذلِك اليومِ، يومَ بذَر فيَّ الأمَل، تفترّ أساريري كُلَّما تذكَّرت استِنادَه عليّ، رغمَ أنِّي أخطأت بحقِّه، أقنِع نفسي أنَّه لم يعُد يكرهُني كالسَّابق، وأطمعُ في نيلِ منزِلة شريفَة بفُؤاده، ثُمَّ أهزّ رأسي وأنفضُ الأفكارَ الغبيَّة خارِجه. أجدني أبحثُ عنه بلهفة كُلَّ فترة غداء، وموعِد عودة، دونَ أن أصادِف لعُبورِه أثرًا. راوَدتني شكوك بأنَّ إجازَته تشمُل المنزِل والعَمل، ربَّما رسا في ميناءِ الغِياب، ليصطادَ قِسطًا مِن الرَّاحَة هُو حلٌّ بِه.
مضيتُ مِن حيثُ توقَّفتُ كأنَّ لا شيءَ قد حَدث، أنا جيِّدةٌ في الاستِمرار، ولو ساءَت الأحوال. الكلامُ بيني وبينَ زوجِي شِبه مُنعَدم، ربَّما يخشى علينا مِن النِّهايات الَّتي يدَّخِرها لنا الصَّمت المُحيطُ بِنا، فالمرَّة القادِمة قد تكونُ الأخيرة. لم أقرِّر مصيرَنا بعد، ما أزالُ أخوضُ حربًا فكريَّة طرفاها أنا ووجداني، لم يسبِق وأن وقعتُ أسيرةً لحيرة بهذا الجَلال، يُمكنُني أن أحفِر لي مهربًا مِنها، ولكنَّ صوتًا بداخِلي يحثُّني على الصَّبر.
اندَلع بصيصُ نورٍ في نِهاية النَّفق، قاومتُ الرَّكض إليه طويلًا، سُرعان ما سيطَر عليَّ الجُنون، ودَفعني خارِجَ الثَّكنةِ العسكريَّة، في أمسيةٍ باكية، علا نشيجُها على شاكلةِ رعودٍ مُدويَة، كُلُّ ما يُحصِّن جسدِي مِن تدابير السّماء الَّتي أرسَلت علينا مطرًا وحاصِبًا، مِعطف كاب قصير، داكِن الخضرة، يتَوارى خلفَه قميصٌ رفيع، ويطوِّق خصري بنطلون فضفاض مِن الجينز، لحُسن الحظِّ رافقتني مِظلّتي السَّوداء، سِرتُ خلفَ اعتِقادٍ غير مُثبت في أنَّه يستَريحُ مِن الدُّنيا بمنزِل الشَّاطِئ، أردتُ أن أطرَح عليه سُؤالًا غبيًّا مِثلي.
فرضَ عليَّ انعِدام سيَّارات الأجرة بسبب الظُّروف الجويَّة المُضطرِبَة، الاعتِماد على قدميّ الحافِيتين مِن أيّ تردُّد. صهَرت الحرارة الَّتي ولَّدها احتِكاكُ الارتِباك والإنهاك بجوفي الصَّقيعَ المُنهال عليَّ مِن كُلِّ صوب، احتَدمت أنفاسي، وتشاحَن زفيري وشهيقي بفمي. صبوتُ الهضبَة أخيرًا، وتراءى لي على قمَّتها منزِله الفاخِر.
تريَّثت حينَما رصدتُ شخصًا يقِفُ بشموخ، عِند حُدودٍ لا يصبوها هشيمُ الموج، كُلَّما تناثَر على الشَّاطِئ مُحطَّمًا، هُو الرَّجُل الوحيدُ الَّذي قد يعترِض طريقَ المَطر، بلا سلاحٍ يحميه مِن بطشها، كأنَّه ضائعٌ في عالمه الخاصّ. رائِحة البحرِ شهيّة، والمقطوعَة المجَّانيَّة الَّتي ألَّفتها الطَّبيعَة تستحقُّ مبلغًا كبيرًا مِن الانتِباه!
تجرَّأتُ على التوغُّل وسَط الرِّمال، فتسلَّلت حُبيباتُها داخِل حُدود حِذائي المفتوح. أمتُّ أميالًا مِن الفُراقِ بسَطها بينَنا، حتَّى أدركتُه. عاينتُ مظهَره باهتِمام ما دام ذلِك مسموحًا، كان يرتدي كنزةً رماديَّة مِن القُطن، وبنطلونًا أسود. لم أدرِ كيفَ عليَّ الإعلانُ عن وُجودِي، ما لبثت وأن احتويتُه داخِل مظلَّتي معي، أحجبه عن الوَدق. كسبتُ بعض الوقت لترويضِ الكلِمات، قبل أن تُجبر على المُثول أمامَه. انفصَل عن مرأى البحر، غادر أدغالِ أفكارِه المُتشابِكَة، ونزَل بمحطًّتي، حيثُ انفَجرت في فمِه زفرةٌ ساخرة.
«هل أنتِ مهووسة بي؟»
لقد تعرَّف عليّ! هل لأنِّي المرأةُ الوحيدَة الَّتي يُحتَمل أن تلحَق بِه إلى هُنا؟
أجَّلت التعجُّب رغمًا عنِّي، إذ طرقَ الحياءُ رأسي. علِمتُ مُنذ البِدايَة أن هذا اللِّقاء لن يُعقَد، إلَّا لو تجرَّدتُ مِن أغلالِ الكِبرياء، علمتُ أنَّه سيحتاجُ إلى مُؤنٍ وفيرةٍ مِن الجُرأة والإصرار، فأنا بالنِّسبة له مُجرَّد مُتطفِّلة تُطارِده كُلَّما فضَح القدر مكانَه. مضت عُصبةٌ مِن الزَّمن ونحنُ صامِتان، حينَما استَجمعت شجاعَتي نظرتُ إليه بكلِّ إخلاص وقُلت:
«أنا امرأةٌ ساذجة، قد أشيِّدُ عمارات شاهقة مِن التوقّعات لو أعطيتني حجرةَ أمل، ما انقطعت عن التَّفكيرِ بك، بالمنحى الَّذي سلَكته عواطِفك تِجاهي، وما إذا كُنت قد سامَحتني على خِداعِك أم لا، لذلِك أتيتُ إليك.»
عطَف رأسُه نحوَ المِياهِ الهائِجَة بهدوءٍ مُريب.
«لماذا تُحبّينني؟»
اقتَرب مِنِّي بخُطوة، ثُمَّ أمسَك كتِفيّ بقوَّة، لشدَّة الارتِباك الَّذي ضربَ دواخِلي، والرَّجفان الَّذي أخلَّ باتِّزاني، أسقطتُ المِظلَّة.
«ما الَّذي يروقك برجلٍ مِثلي؟»
اختَرقَ صوتُه العالي لجَب الموجة الَّتي لطَمت السَّاحِل للتوّ، حيثُ لامست بقاياها أقدامنا المحصَّنة.
«لا يُمكِنني رؤيتُك حتَّى.»
كانت خصلاتي مشروعَ لهوٍ للرِّياح، هجَدت على كتِفيّ، مُقتديةً بخصلاتِ بيكهيون، إذ أثقَلها الماء، وما قوِي عدوُّ البحرِ على زحزحتِها. بدا لي وأنَّه يفيضُ عليَّ كي لا أرى ما بِقاعِه مِن رُكام، رُكامه هُو الَّذي ما توانَت الحياةُ في كسرِه بفؤوسِها!
صمتّ وانتَظرت أعصابَه لتهدأ. حينَما نبَّأني حدسي أنَّه صارَ مستعِدًّا لاستِقبال جوابي، دونَ أن يقمَع مسيرَتي إليه، أرسَلتُه بتوتُّر.
«يقولون، لو عُرف السَّبب بُطل العَجب، لو تعرَّفت على سبَب حُبِّي لكَ، لأعدمتُه وتحرَّرت مِن قبضتِه، لكنِّي ما أزال أجهلُه.»
تناءَى عنِّي، وانتَحلَت خيبَته هويَّة ابتِسامَة، أقامَت على ثغرِه، رغمَ أنَّه ليسَ موطِنها، موطنُها الوحيد بينَ جفنيه؛ كانت خبيثةً كِفايةً لتزرع الدُّموع في عينيّ، حيث قال:
«أنا أطلال.»
«وأنا شاعرٌ يهوى الوقوفَ عليها، وبُكاءَها في أبياتٍ لا سقفَ لها.»
بعدَ تفكيرٍ وجيز أضفت:
«بل البُكاء نيابةً عنها!»
«لستِ سويَّة.»
قهقهَ بسُخريَة، ويدُه في مهمَّة فاشلة لتجفيف وجهِه مِن قطرات الماء. سُرعان ما لفَّ قدميه عازِمًا على الرَّحيل، دونَ أن يسمَع ما لديّ؛ جليٌّ أنِّي لم آتِ إلى هُنا لأرى كيفَ يُبلي في فترةِ النَّقاهَة، عقِب هزيمَة حياتيَّة ساحِقة!
أعي أنَّه لا يظنُّ نفسَه صفقَة حبٍّ مُربِحَة لأحد، زواجُه والَّذي راهَن عليه بكُلِّ جوارِحه على وشكِ الإفلاس غالِبًا، وهُو يلومُ نفسَه على هذِه الخاتِمَة. لا يظنُّ نفسَه أرضًا خصبة، تُزهِر فيها بذور الحُبِّ مُستقبلًا شاعِريًّا، إذ سبقَ وأن ذبُلت جميعُ محاصيله، وفي شِتاءِ الخذلانِ ما عثَر له على قوت. يجهلُ أنَّه مِثاليٌّ بالنِّسبَة لي؛ النَّافِذة الَّتي أختلِس مِنها النَّظر إليه تُصوِّره لي كامِلًا، هُو وصفة شِفائي الوحيدَة، ربَّما ليسَ حُلمًا قد يُراوِد أيَّ امرأةٍ كانت، لكنَّه راوَدني وأقامَ في يقظَتي مُستعمراته، أردتُه أكثَر مِن أيِّ شيءٍ آخر، واكتَفيتُ باختِلاقِ نهاياتٍ لقصَّتنا، تتوِّجُني به في خيالي فحسب، لم أحلُم بفُرصةٍ للمُحاولة حتَّى.
هُو معدنٌ صلب، لا أظنُّ أنِّي صبوتُ درجَة انصِهارِه بعد، سيتوجَّب عليَّ أن أُشعِل نفسي مِن أجله، وأنا مستعدَّة لذلِك كُلّ الاستِعداد؛ يُمكنني التَّضحية بعلاقَتي المفرومَة مع زوجي، ليسَ مِن الصَّعب عليَّ أن أُضحِّيَ بكِبريائي، لأسعى خلفَ فُرصة ما توقَّعت يومًا أنَّها ستجثو على كفيّ، حُصولي عليها لوحده يُعتَبر غنيمَة.
طبعتُ آثارَ مُروري على الرِّمالِ الَّتي باتَت مُتماسِكَة بفضلِ المَطر، نحنُ نُشبِهها، لأنَّنا روحان لن يُؤلِّف بينهُما سِوى اليأس، مهما أنكَر فما انهارَ على كتِفي يومَها إلَّا لأنَّه سئِم مِن الشُّموخ. مددتُ يدِي وشددتُ مِعصَمه، وفي مُقلتيّ أملٌ لن يُبصِره، يسبحُ وسَط عبراتي.
«هلَّا سمحت لي بإصلاحِك؟»
التَفت إليّ، عقَف أحدَ حاجِبيه، وانحَدرت نظراتُه على قامَتي باستِخفاف.
«أنتِ بحاجةٍ إلى الإصلاح أيضًا، أنسيتِ بهذِه السُّرعَة أنَّك حاولتِ الانتِحار مُنذ أسبوعٍ تقريبًا؟»
بيدي الحُرَّة مسَحت قطرات الماء الَّتي شوَّهت صورته في بصري؛ الوِديان تجري بينَ تقاسيمي مُختلطة بدمعي، وما مِن سدٍّ ليردَعها.
«لأنَّك طلبت.»
«لن أحبَّك.»
أمالَ رأسَه يسارًا يدعوني لأجيب إن كُنت أستَطيع.
«حبِّي يسعُ كلانا.»
تجرَّد مُحيَّاه مِن السُّخرية الَّتي نبَتت فيه مُنذ لحظات. شهقتُ بوجلٍ حينَما ندَّد بمِعصمِه العالق بكفِّي، وبصوت مُرتجف عاهدتُه.
«سأسعِدُك.»
«وهل أنتِ سعيدَة؟»
«وجودك يكفي لتنفجِر ينابيع السَّعادة بداخلي، وسأغمُرك بها.»
انتَشرت شقوق التردُّد في مُقلتيه، كأنَّ مفعول عرضي على قَراره بدأ للتوّ، لذلِك طرقتُه مِن جديد عسى أن أهدِمه.
«تخيّل أن الحياة أرادَت أن تُراضيك، فوضعتني بينَ يديك كضمادَة، لو أردت لجروحِك أن تبرأ كما ينبغي، لا تنزعها، دعها.»
ما دامَ اهتِزازُه إلَّا لثوانٍ معدودَة، تمالَك نفسَه مِن بعدِه، ورحَل. ربَّما أنا بنظرِه مُجرَّد امرأةٍ واهِيَة، لا تُغريه ليعتصِم بها مِن المسافات!
لم أحسّ ببرودة الجوّ، لحرارةِ الخيبَة المُشتعلةِ بداخِلي، لا أدري مِن أيِّ نافذةٍ دخَل إليَّ اليأس وأخلاني مِن كُلّ التوقُّعات، ولا أدري مِن أينَ أتيتُ بكُلّ تِلك الثَّروةِ مِنها، رغمَ أنِّي قصدتُه فقيرة، مُدركةً أنَّها مُحاولةٌ مُعدمةٌ لكسبِه.
انتَهى بي المَطافُ جالسةً في محطَّة القِطار، كانت مُحصَّنةً مِن غاراتِ الكون بسقفٍ ثخين، لكنَّ عراءَ الواجِهة، أتاحَ للرِّياح الخبيثَة المَجالَ للدغي. لقد نصَب اللَّيل سُرادِقَه الدَّاكِنة بالفِعل، وأبى أن يقتطِع لضياءِ الشَّمس تذكرةً فيها. توالى مُرور النَّاس على حُدودِي، البعضُ يترجَّل، والبعضُ يصعَد، ما يحدثُ بمحطَّة القِطار يشبِه إلى حدٍّ كبير ما يحدُث بالأفئِدَة؛ فالزَّمنُ محطَّات، الرُّكون فيها إجباريّ مهما تأجَّل، هُناك حيثُ يُخلي البعضُ أمتعتهم، ويتوهون في آفاقِ الغِياب، ويحجِز آخرونَ أماكِنهم فينا. لا توجَد سفرةٌ أبديَّة، الفُراق محتوم.
هُو الآن يجلِس في أفخرِ قاطرة مِن قاطِرات قلبي البالية، بعدَ أن ركبني مجَّانًا، يتقوَّت على خفقاتِه بنهم، فواجِبي أن أخدمه ما دامَ يستقلُّني، وبينَ الوجبَة والوجبة، يجولُ بينَ أروِقَة فِكري، حتَّى وهُو غائِب، حاضِرٌ فيّ!
صعدَت عدستايَ طوابِق مِن الهمِّ نحوَ عنان السَّماء؛ لقد خلَدت إلى الرَّاحَة أخيرًا. تخلَّيتُ عن الفُرصَة للعودَة أدراجِي، نحوَ موطِن اليأس الَّذي حصلتُ على جنسيَّته مُنذ أمد، مرَّتين، وهاهي ذا فُرصَتي الأخيرةُ تصفُّ إلى الرَّصيف؛ آخر دُفعةٍ مِن المُسافِرين، والَّتي لا تزيدُ عن عشرة أشخاص تصعدُ القِطار. لم أشأ الإدبار، بانتِظارِي مأوى، ولكنَّه خاوٍ إلَّا مِن معنى الكلِمة، حينَذاك تساءَلت، هل مُحاولةٌ واحدة تكفي؟
بعِنادِ إديسون ترفَّعتُ على قدميّ، وسلكتُ سبيلًا ما يُؤدِّي إلى سِواه، ربَّما العِناد في حالَتي هذِه حُمق، لكنِّي أستبيحُ ارتِكابَ حماقةٍ أُخرى مِن أجلِه. بعدَ دقائِق مِن الرَّكض فيي غياهِب اللَّيل، استَكنتُ أمامَ بابِ منزِله، استَجمعتُ شهقات آملُ أنَّها ستكفي لمُواجهتِه، ثُمَّ طرقتُه بقبضَتي المُرتجفة، مِن البردِ والارتِباك. اقتَحم مجالَ بصري بطلعةٍ مُختلفةٍ عن السَّابق؛ شعرُه جفّ، وصدره متدثِّر بقميصٍ صوفيّ نبيذيّ اللَّون. لاشكَّ وأنَّه لم ينسَ مظهري، إذ ربطَ الاستِغراب حاجبيه، لكنَّه ما نبس ببنتِ شفَة.
«لقد فوَّت القِطار الأخير.»
تجهُّمه حرَّض الارتِباكَ على الثَّوران في صدري، ما تزالُ أنفاسي المُختلَّة، تنتهِك قوانين الصَّمت. سُرعان ما انحلَّت عُقدَة لساني وسألت:
«ألا يُمكِنك أن تُدرِجني في حياتِك، بأيِّ صفةٍ كانت؟»
رفرفت أسرابُ اليأسِ فوقَ سواحِلي، عائِدةً إلى موطِنها، بعدَ هجرةٍ ما دامَت إلَّا لثوان. أكمَد مُحيَّاي، كأنَّ طول إقامَتي في عينيه، شفَط كامِلَ ألواني. ثوت نظراتي الأرض، وكادَ الاستِسلامُ يطوي عُنقي. قبل أن ألفِظ أنفاسِيَ الأخيرة، وأعودَ أدراجِي بلا نيَّة في التِّكرار، تجمهرت أصابِعُه حولَ ميلةِ خصري، وشدَّتني إلى جسدِه؛ كانت يدُه صنَّارة ربط بنهايتها طُعمَ الغِواية، اصطادَني مِن حوضِي بغتَة، وفي شِراكِه علقتُ مخطوفَة الأنفاس؛ عبرَت حُنجُرتي شهقة ذهول، لكنَّها تشردت بين جُدرانِ فمه، هُناك حيثُ وافَتها المنيَّة!
افتَرست مُقلتايَ ملامِحه الهاجِدَة، مِثل الفضاء الخارِجيّ، ما مِن شيءٍ قادر على زعزعة أركانِه، جفناهُ مُستلقيانِ بوداعة، وأنفاسُه تصطخِب، كُلَّما ضربَت شاطِئي. دَفن دهشتي تحتَ شفتيه، وشارَكني مُدَّخراتِ رئتيّ دونَ إذنِي. خُضت معركَة شرِسَة مع الاستِيعاب، مُنذ ثوانٍ معدودة كان الغرقُ بينَ ذراعيه حُلمًا، كاستِعادَة الفِردوس قبل أن يستَعيدَ الربُّ أماناتِه مِن أجسادِنا، كيفَ لي مُطاوَعة اللَّحظَة بما تفرِضُه عليّ مِن ضرائِب إذًا؟
احتلَّت بقيَّة أنامِله الرَّشيقَة رقبَتي، عزَفت على مسامِ أديمي بإتقان، بينَما يُراقِصُني في قُبلةٍ حميمَة، وربَّما يستَدرجني نحوَ قُنبلة، أخفاها في نِهايةِ هذِه المَقطوعَة، مقطوعةٌ ألهمتُه ليؤلِّفها، وحينَما تضمحلُّ الرَّغبة سيُفجِّرني برحيلٍ مُباغِت.
ذلِك ما أردتُه، وتمنَّيتُ حدوثَه، رغمَ أنَّه خارجٌ عن حُدودِ المستطاع، الآن وقد حقَّقتُه، حاصَرني الخوف. ذراعاه كحزامٍ ناسِفٍ حولَ خصري، يُنذِرني بالهلاك، إن أنا نذرتُني لميعادٍ غير شرعيّ، الهرج والمَرج مُتفشِّيان بعقلي، إذ ثارَت أفكاري في أقفاصِها، تناحَرت على الحُكم، ومزَّقت بعضها البعضَ إربًا إربا؛ لفرطِ الازدِحامِ في رأسي، ما عُدت قادرةٍ على معرفَة ما يدورُ به حقًّا. لم يتبقَّ مِنِّي سوى قلب فوضويّ، يسعُني سماع صرخاتِه، ولكنِّي عاجزةٌ عن تمييزِ أقاويلها المُختلِطَة. انتابَني مِثل هذا الشُّعور مرَّة، يومَ حلَّقنا بطائرته الحربيَّة، وهدَّدني بالموت. الوقوع فيه، أشبَه بالوقوع في الهاويَة!
توصَّلتُ ونفسي الأمَّارة بالسُّوء إلى اتِّفاق؛ ألَّا أستبِق التحسُّر على النِّهايَة، وأعيشَ اللَّحظَة بحذافيرِها. انبَطح جفنايَ في هزيمةٍ تامَّة، وهبَطت أنامِلي على صدِره برويَّة، باحَت لي عن الحروب الأهليَّة الّتي أشعلتُها فيه، وانتقَمت مِنِّي شفَتاه بخُشونَة. كُلّ يدٍ ذهبَت في اتِّجاه، لتضربَ واللّقاء موعِدًا مِن وراء ظهره. مِن ثغرةٍ نشأت بينَنا حينَما غيَّر القِبلَة باحتِرافيَّة، مُحافِظًا على قوامِ القُبلَة، نجحتُ في استِلامِ حُزمةٍ مِن الهواء، ملأت بها رئِتايَ الخاوِيتانِ إلَّا مِن زفيرِه الفاسِد، ذي نكهَة الفردوس، ستُعيلَني على مشقَّة السَّبيل.
ارتَقينا في الشَّغفِ مراتِبه واحتَدم اشتِباكُنا إلى أوجِّه، انضمَّت يدُه الحرَّة إلى خصرِي، وأعانَت توأمَها على ربطِي بجسدِه، نهَل مِنِّي لثمات رشوف دون تردُّد. لا أصدِّق أنَّه رفَع مِرساةَ الكِبرياء الَّتي لطالَما قيَّدته بمينائِه، وأبحَر في عرضي بجُنون.
نازَعني بسيوفِ الولَع؛ قواطعه، حتَّى وصَل لِسانه إلى قاعِ فمِي، حيثُ ترقد غنيمته الموعودَة. خاطَبني بلغةٍ لا تُشبِهه، ما خِلتُ يومًا أنَّه يُتقِنها، وربَّما لم أك أستحقُّ. لأوَّل مرَّة أشعُر بالامتِنان لأنِّي مازلت حيَّة؛ لقد خلق لي سببًا لأُسعَد، ضخَّ بفشلي الذَّريع في القضاء عليَّ معنًى، وسوَّل لنفسي الاستِغناءَ عن عتَبها على القَدر. لو علِمتُ أنِّي سأعيشُ عرسًا عاطِفيًّا كهذا ذاتَ يوم، لسعيتُ له باسمة مهما قسَت الظُّروف. لا يهمّ، سواء كان خاتمةً لعُصوري المُظلمَة وفاتحة لحقبة ذهبية، أو مُجرَّد مُكافأةٍ على كِفاحِي السِّرمديّ، أو ربتة تُهيِّئُني لاستِقبالِ المزيد مِن المآسي. حتَّى وإن لم أخلد فيه، يكفي أنِّي خلدتُ إليه ولو لوقتٍ قصير!
انتَهت النَّوبَة، وغادَر ثغري بتلكُّؤ، شعرت أنِّي عِشت عُمرًا طويلًا، قبَّلته فيه إلى الأبد، وكُتِب لي عمرٌ آخر، لا بأسَ حتَّى وإن دنَّسته التَّعاسَة. عصَفت أنفاسُه المُضطربة بوجهي، وكُلَّما تشبَّعت رئَتاه بالهواء، ارتَفعَ صدرُه ولامَس صدري. فتحتُ عينيّ، ونظَرتُ إليه بخمول، أتساءَل هل تعدَّيتُ عتَبة قلبه حينَما اجتَذبني إليه، وتعدَّت قدميّ عتبةَ بابه؟
-
مرحبا يا حلوين 😍😍
كان فصل حساس لهيك حبيت آخذ كل وقتي حتى ما جيب العيد 😂 مع شوي كسل اكيد كتبتو وقعدت استنى يتعدل لحالو 🏃
متخيلين انو من السابع ما في اي ملامسات خليعة بين البطلين!!! 😹😹😹 وتتتف ما عملت هيك شي من قبل، كامي شخص ما يصبر على المشاهد الشميلة، انصدمت مني 😰
المهم بعد 21 فصل جمع اليأس بين المرأة الفارغة عاطفيًا، وبين الرجل الفارغ والمجروح أخيرا، الكوبل المكتئب الكئيب، دي الفيرست كيس برضا الطرفين فراشات بمعدتي 😭😭
لو عندي شوي من اصرار سايا فالدراسة كنت صنعت صاروخ من زمان 😂👊
اتحلت عقدة علاقة بيكهيون مع سومين، عمايلها نسفت حبو ليها تقريبا، اكيد ظل في بقايا جواتو مش رح ينسى بسهولة 💔
وهيك انتهى الجزء الأول من الرواية 😭
شو رايكم بالفصل!
أكثر جزء عجبكم وما عجبكم!
بيكهيون!
سايا!
جينوو!
سومين ما خانت بيكهيون باي ذ واي هي هيك شخصيتها، ممكن قابلتو بحياتكم ناس ما يعرفو شي اسمو المسؤولية ورغم اعمارهم لسا حابين يستمتعو ويعيشو بحرية.
بيكهيون يتقبل سايا او لا!
كيف تكون علاقتهم مع عقلية بيكهيون العسكرية المتعصبة!
كيف رح تتصرف مع جينوو!
علاقة بيكهيون وسومين تنتهي او تظل!
لو لاحظتو بيكهيون بالرواية جنتل مان، مش عصبي بالعكس هادئ وبالو طويل، ردود افعالو الهمجية مرتبطة بوظيفتو ككولونيل، مش ممكن يثور لسبب تافه دائما اسبابو وجيهة.
شو توقعاتكم للفصل الجاي 😍🔥
وروني حماسكم
دمتم في رعاية الله وحفظه 🍀
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro