الفصل| 14
لطالَما انهرتُ كالأتربَة، وثويتُ ثرى الشَّجنِ غير قادرةٍ على النُّهوض مِن جديد، أقنِع ذاتِي في كُلِّ مرَّة أنِّي جبلٌ شامِخ، لا يهمُّ كم سأخسر من أشلائي، لن أشعُر بالنّقص لأنِّي ثخينة، كما لن يشعُر البحر بفقدانِ قطراتٍ مِنه. أنسى في كثيرٍ مِن الأحيانِ أنِّي غيرُ قابلةٍ للتَّجديدِ مِثله، بل كُلُّ قطعةٍ مِنِّي نفيسة، تُساوي في ميزانِ الخيبةِ ثروة، كيف لي أن أستغني عنها بيسر إذًا؟ وكم أخشى اليومُ الَّذي أراني فيهِ هزيلةً مثل عود ضعيف سهلِ الرُّكوع، إن بالغَ أحدُهم في ثنيه ينشَطر!
هذا الحُبُّ الغير شرعيّ الَّذي تبنَّاه فُؤادِي ودسَّه بحرصٍ تحتَ شِغافِه لئلَّا تدوسَه الظُّروف، أو تنتشِله المَبادِئ مِنه، وتلفِظه بعيدًا عنه، يفتكُ بي، أنا أُربِّي بين جنباتي جنينًا للموت!
ظننتُ أنَّه مُرحَّبٌ به هُناك ما دامَ بعيدًا عن الأنظار، ولكنَّه تراقصَ أمامَ العَيانِ في ليلةٍ غاوية، مرَّت فيها فلذاتُ الزَّمنِ تحملُ مشاعِل حيرة، حبَّبته في قبولِ الدَّعوةِ الآثِمة الَّتي تلقَّيتُها عن غيرِ قصد، واكتشاف مغاراته المردومة تحت ثيابه، أمَّا الآن، فهُو يسكُن تلافيفي، وشراييني.
كما تجاوَز حُبِّي له حُدودَ المنطِق ورسا في مينائِي المُتشقِّق، بعد أن قطع بُحوري النَّاضِبَة، استقلَّ عروقي نحوَ عقلي، وعشَّشَ هُناك، لم أدرِ عنه حتّى تكاثَر، وفاقَني تعدادًا، ثُمَّ حلَّق بأجوائي كطيورٍ أبابيل تُنشبُ على حِجارةِ حُمقٍ حامية، أحرقَت أفكاري السويَّة، فانتشرت فيها الثُّقوب، ثقوبٌ امتلأت بالألم، بالطَّمع، وبالرَّغبة.
تمالكتُ نفسِي قبل أن أقطَع ما يربِطُني بالحياةِ وأدعُوَ الموت إليَّ برسالةٍ من دماء، راوَدتني الرَّاحَةُ حينَما انبَثق الألمُ مِن جُرحِ يدي السطحيّ، فخلقتُ لهُ شريكًا يُؤنِسه على مسافةٍ ضئيلةٍ مِنه، وانتَظرتُ ليخمَد ثمَّ التحقت بجينوو على السَّرير، لا أعلَم ما سببُ رغبَتي في إيذاءِ نفسي، أهُو حبِّي المُحرَّم، أم نفورِي مِن زوجِي؟
حاولت الانخراط في الحياةِ ثانيةً، مثل العادة، لكن عبثًا، فكُلَّما اصطادَتني عيناهُ تخبَّطتُ كالسَّمَكة الَّتي تُصارِع الهلاك، لينتهِيَ بي المطافُ خابيةَ القوى، مُستسلمةً لعواطِفي!
صارعتُ الثُّلوجَ الَّتي أخذَت تنحسِر عن الأرضيَّة إلى المقصورةِ مُنطفئة الطَّلعة، كشمعةٍ نفدت ذخيرتُها فما عاد باستطاعتها مُقاومة الالتِهاب، ولا الوقوف، بعدما انتهيتُ مِن المُساعَدة في إعدادِ العشاء، مُذ أنَّه يومُ عطلة، ما فارقت سيرة الكولونيل وزوجتِه اللَّذين لم يبرَحا غُرفتهما طوالَ اليوم ألسِنة الخادمات، كلِماتهنّ استقرَّت بلُبِّي كأنصلةٍ حادَّة، أدمته، لو حرَّكتُها قليلًا، أو لو حاولتُ انتِزاعَها بكذبة لفرَّت روحي مِن أنفاقِها، ولفقدتُني إلى الأبد، أتساءَل ما إذا كانَ فصلُنا الحميم يتصدَّر عناوين ذاكرتِه أم نسيه، هل شعر معِي بالحُبّ الَّذي ادَّخرتُه لهُ في خيالي وما بخلتُ في مدِّه به، وهل يُفضِّل مقاسي عليه؟
قبل أن أطرَح جسدِي على السَّرير، وأشحَن ما خسِرتُه مِن طاقة، اجتاحَت سومين غُرفَتي بخطواتٍ مسعورة، ووجهٍ قِفار، رفرفت ابتسامةٌ واهنةٌ على ساريتِي، وتأهَّبت للتَّرحيبِ بها، رغمَ أنَّه ليسَ الوقت المُناسِب لنتسامَر.
" لم أركِ مُنذ مُدَّة، مشاغِلُ الحياةِ تصرِفُنا عن بعضِنا البعض مِرارًا. "
قمَعت كُلَّ ما اصطفَّ مِن أجلِها على مُحيَّاي بصفعةٍ جلجلت خدِّي، ودواخِلي. انقبض فُؤادِي، وارتَعشت أطرافي، إذ أومَض في بالي مُبرِّر وحيد، حاوَلتُ أن أغضّ الطَّرفَ عنه، يستَحيلُ أنَّها اكتشفت المُلامَسات الَّتي هربت من أنامل بيكهيون إلى جسدي!
بحقدٍ قالت:
" لطالما نهرت صديقاتي النِّساء اللَّواتي يأتمنَّ رجالهنّ لدى نساءٍ أخريات، ولطالَما نظر بيكهيون بدونيَّة لمن يتنازل عن كامل ثقتِه لغيره، لأنَّ النزيفَ مِن جنسِها، كُلَّما علَت التَّوقُّعات، تضاعَف وقعُ الضَّربة. "
ذرفَت ضِحكةً مُهتزَّة، تحتضِن ألفِ دمعة، أبَت مُقلتاها التخلِّيَ عنها.
" لم أشكّ ولو قليلًا في أنِّي قد أرسلتُ إلى غرفتي عاهرة، لا صديقَتي المُقرَّبة! "
ارتَجف جسَدي، ذُعرًا، وقهرًا؛ لقد تضرَّعت الربَّ في الكنيسة ليبقيَ سرِّي حبيسَ الكتمان، علمتُ أنَّ يوما كهذا قادم لا محالة، لكنِّي ما خلت أنَّه قريب هكذا، في خلوتي راوغتُ النَّعت الَّذي قذفتني به بأكثر من حجَّة، ولكنَّه على لسانها أبلغ، لا يسعُني تخطِّيه، أكاد أفقد وعيي لهول الموقف!
لم تستطِع الحفاظ على اتِّزان صوتها طويلًا، ولا على سكون قدميها، حيث تأرجحت من بقاعٍ إلى آخر في مسارات غير مدروسة.
" سألتُك مرارًا وتكرارًا عمًّا جرى بينَكُما ليلتها، حتَّى عِندما أخبرني أنَّك قد استَسلمتِ له ما صدَّقته، خلته يستدرِجني، كيفَ سوَّلت لكِ نفسُك طعني في ظهري، وانتهاز فرصة غيابي، لإغواء زوجِي؟ أما نغزَك الذَّنبُ وأنت تحتلِّينَ فراشي، أما حرّكت كرامتُك ساكنةً لردعِك وأنت تحتالين على رجلٍ مُعتلٍّ يعتقِد أنَّك أنا؟ "
كوَت العبراتُ مآقيّ كأنَّها جمرٌ يتصاعد مِن بُركانٍ ثائر بداخِلي، أنا الَّتي ظننتُه خامِدًا، لا يتفاعَل إلَّا مع مُعاناتِي النَّفسيَّة، طوال الأيَّام المُنصرمة بكيت، وجرحتُ نفسي، لأنِّي الَّتي أتعذَّب، أدركتُ أنِّي أنانيَّة حتَّى في الألَم!
مددت ذراعيّ نحوها مفرجةً عن أسرى جفنيّ، وفي طريقٍ وعر، مليئ بالعثرات، ركضت كلماتي على عجل.
" سأشرحُ لكِ، فلتُصغي إليَّ رجاءً. "
انهالَت أنامِلها على صدري تدفعُني بقوَّة، ولأنِّي خائِرة القوى تقهقرت مرارًا، آذنةً لها بالتَّنفيسِ عن غيظِها ودموعها النَّابعة من خيبةٍ واسعةٍ في روحها... أستحقُّ العقاب.
" ما الَّذي ستقولينَه؟ أنَّ الرُّكوعَ له كان مُحتَّما؟ هل ستتذرَّعينَ بالقدر وتمسحينَ بمنادِيله دِماءَ الخطيئة الَّتي اقترفتِها على فِراشي؟ لم تُعدميني وحدي، بل أعدمتِ زوجِي، وزوجَك، لقد خُنتِنا جميعَنا، رغمَ ثقتِنا العمياء بِك. "
بنا النَّدم أسوارَه حولَ بصيرَتي، وعبَّد مقلتيّ بطبقات غليظةٍ منه، فما لاحظت يدَها الَّتي هرَعت إلى شعري، حتَّى أجهزَت على خصلاتِه الخلفيَّة بغلّ، سحبت رأسِي إلى الأسفل، كأنَّها تودُّ لو تسحبُني إلى الحضيض، وفحَّت كالحيَّة.
" تستَحقِّينَ الموت أيَّتُها الخائِنَة. "
بتلقائيَّة اجتمعت ذراعيّ عند بؤرة الألم، جميع المبرِّرات هجرتني، مهما كان دافعي دامغًا فلن يُبرِّئني من ذنبي، لولا جينوو لصمتّ، ولسمحتُ لها بتنفيذ كلِّ ما يجول برأسها، لأجله ثُرت:
" لقد وضَعتني في فوهةِ المِدفع، فتلقَّيتُ الطَّلقة عن كلتينا، لو تنحَّيتُ قليلًا لهلكنا سويًّا، ضحَّيت بجسدي من أجل مستقبلنا، لم يكُن لديَّ خيارٌ آخر، ربَّما تظنِّينَه مُجرَّد عُذر، ولكنَّها الحقيقَة. "
بحُت بشطرٍ مِن الملابسات، الشَّطرُ الَّذي يُؤيِّدُني، فالشَّطرُ الآخر هو رغبَتي في تذوُّق السَّاعات من صواعه الذهبيّ، والتفَّاح المُحرَّم، حتَّى ولو تكبَّدتُ خسارَة فِردوسِ النَّقاء، الحبُّ شيطانٌ لوَّثني!
حلَّت عقدةَ أصابعها حول شعري، وحدجتني بنظراتٍ فارغة كاللَّيل.
" أنا بحاجةٍ إلى إعادةِ النَّظر في علاقتِنا، والتَّفكير في مصيرِك، بعد أن قتلت كلَّ شيء جميل بيننا، فلتشرعي في حزمِ أغراضِك، لا أعلم ما الحكم الَّذي سأصدره بحقِّك، لا أريدُ رؤيتكِ حقًّا. "
صفعت سنواتٍ مِن الصَّداقَة الحميمَة بظهرها، إذ عادَت إليها معطوبة تتلو آيات الموت، وتأهَّبت للرَّحيل، خطوة فاثنتين. جرَح الصَّمت لِساني، ورغمَ أنِّي فقدتُ الحقَّ في الاحتِجاج، مُنذ أن شرَّعتُ مصارِعي لزوجِها هتفت:
" حتّى وإن مقتِّ رؤيَتي لأنِّي راقصَت زوجكِ على فِراشكما، ليسَ مِن حقِّك مُصادرة رزقي، لا تنسي أنَّك جذرُ هذِه الخطيئَة، لو لم تجنِّديني لحراسة محلِّك، ريثما تفرغين من المرح مع رفيقاتِك لما حدَث ما حدَث! "
-
شخصيَّتانا مُختلفتان، كالاختِلافِ بينَ مدينتين رغمَ أنَّهُما تنتميانِ إلى بلَد واحد، وتسقفهما سماء واحدة، الأولى ماطِرة، والأُخرى هاجِرة، كلَّما تبادلنا الزّيارات، اصطدمنا بغربةٍ متينة، ما استَطاعت التأقلمَ مع بُخلي العاطفيّ، وما عرفت كيف تُقنعني بالإقامةِ لديها، بل أصرَّت على انتقادي.
كُنَّا نتحدَّث لغتين غير مُتشابهتين، أفهمها، فأردّ بلغتي، لكنَّها لا تفهمُني. استَعصت أبجديَّتي عليها، وما انفكَّت تترجِمُ تصرُّفاتي على طريقة الحُب، كلمةً بكلمة. غفلت عن المعاني الَّتي اختبأت بين السُّطور، وأفسدت جماليَّة أحاسيسي، بعضها اختزَله كبريائي، والبعض الآخر ضاع في الفجوات اللُّغويَّة بيننا.... لم يترقرق الحُبّ الَّذي تحتكِره دواخلها على فراشها يومًا، كأنَّها تخشى عليه من النَّفاد، لم نعد نحن، لقد تحلَّلنا إلى أصلنا أنا وهي.
كانت في تلك اللَّيلة امرأةً مِن ينابيعَ ساخِنة، لا تُحاكيها، ما أكاد أعتاد على حرارتِها حتَّى تنفجِر بي مرَّة أُخرى، ظننت حينَما وعيت أنِّي قد هبطتُ بأرض غريبة بينَما أفتِّشُ عنها، وربَّما هِي الَّتي هبَطت عليَّ مِن حيثُ ما احتَسبت.
قضَّت لمساتُها اللُّبسَ الَّذي غلَّف اليقين، فيداها لم تُخاطباني بذاتَ اللَّهجةِ الحنون الَّتي لامسَت خافِقي آنذاك، رغمَ أنَّه لا يفقَه فيهِ قولًا، رغمَ أنَّه أصمّ، وقضَت مُهجَتي نحبها. أردتُ أن أخنقَها، وأشتقَّ الصَّراحَة مِنها قسرًا، لكنِّي تمالَكتُ أعصابي، وسمحت لها بأخذ غفوة على ذِراعي، أمنَحُها أمانًا زائِفًا، يُنسيها تزييفِ الحقيقَة.
اقتَفيتُ فُتاتَ الشُّكوكِ المتناثر في صراطي، نحوَ المَجهول، خائِفًا مِن مُلاقاةِ الحقيقَة المشؤومة. أنا الَّرجُل الَّذي لم يسبق له وأن نسَج اعتِذارًا نذرتُ لها اعتِذارًا لو اكتشفت أنِّي المُخطِئ في النِّهايَة، أما لو كُنت المُصيب فويلٌ لها مِن وعيدي، لا أدري ما قد أصنَعُه بِها مِن ألَم، لا أدري كم من صحفة ستشغل نوتاته، وإلى أيّ مدًى قد تصبو، سأُؤلِّف ملحمة، عن حربٍ بطرفٍ وحيد.
لم أعُد إلى سول معَ السَّائِق، بل استَعرتُ أحدَ الضبَّاط وكلَّفته بقيادَة السيّارةِ العسكريَّة نحوَ السِّجن. شُقَّت مصارِعه مُحتفيةً بِنا بمجرَّد ما رُصدنا، تركتُ رفيقي بالخارج رغمَ برودةِ الجوّ، وتوغَّلتُ في أحشاء المبنى، الَّذي اصطَبغت جُدرانُه بالرَّماديّ الدَّاكن، تَمنحُه مسحةً مُظلمة. اضطررتُ للتوقُّف في كُلِّ رواقٍ أمام بابٍ مِن قضبانٍ حديديَّة، موصد بالأغلال، وإهدار بعض الثَّواني، ريثَما يفتَحه لي الحرس، فيصدِر اصطِدام الأغلال بالقُضبان قعقعة مسموعة.
لاشكَّ في أنَّ الضَّابِط جونميون ما يزالُ يعمَلُ حتَّى الآن، فهُو رجلٌ كادِح. اقتَحمتُ مكتبَه دون استِئذان، مُتسبِّبًا في وقوفِه، حيثُ ثنى ذِراعه وحيَّانِي عسكريًّا.
" حضرة الكولونيل. "
" لديَّ مُهمَّة خاصَّة لا أثِق بسواكَ حتّى ينفِّذَها. "
" أنا رهنُ إشارتِك. "
ما لبِثت وأن ألقيتُ أوامِري كالعسكريّ الّذي أنا عليه، دونَ أن تتدخَّل المشاعِر في قراري، أو تتداخَل بينَ تقاسيمي الحازِمة.
" فلتتحرَّى لي عن مكانِ تواجُد سومين ليلَة الثَّالِث مِن كانون الأوَّل."
ارتَخت أوصالُه بعضَ الشَّيء.
" تقصد زوجتك؟ "
تكفَّلت ملامِحي بنقلِ رسالة له، فحواها أنِّي لا أريد سماعَ أيِّ سُؤالٍ عن الموضوع، فامتَثل.
" عُلِم. "
أجَلتُ بصري بين أرجاءِ مكتبه المنظومةِ كبيتٍ شعريّ، لا خلَل فيه، تصِف شخصيَّته. رغمَ أنِّي رجلٌ لا يثِق بأحدٍ مهما بلغ فيه مِن المعرِفة، هُو الوحيدُ الَّذي تُسوِّل لي نفسِي إقراضَه قليلًا مِن الثِّقَة، لن يستفيدَ مِن فضحي شيئًا.
على حافَّة مكتبِه الخشبيّ سيَّرتُ سبَّابَتي بخيلاء، غائِبَ الذِّهن.
" هل مِن موقوفين في قاعةِ الاستِجواب، أو معطوبين في الزَّنزانات؟ "
" قُبضَ بالأمسِ على أحدِ الجواسيس الَّذين يعملونَ لصالِح نظيرتِنا الشَّماليّة، لكِنَّه مُصرّ على التِزامِ الصَّمت. "
استَكنت، وألبستُ فمِي ابتِسامةً ذاتَ معنى.
" سأعلِّمُه كيفَ ينطِق إذًا. "
" قبضتُك كالموتِ لا تُمهل. "
علِمت أنَّ خلفَ مديحِه تتوارى ' لكِن ' مهزوزة، وها هُو ذا يبوحُ بها.
" لكن، نحنُ بحاجةٍ إليه على قيدِ الحياة، في جعبتِه أسرارٌ قد تُساعِدنا على الإطاحَة بغيره، سيِّدي. "
فصلتُ عدستيّ عن منظرِ الحائِط التُرابيّ، ونظرتُ إليه بجمود.
" لن أقتُله، سأدفعُه نحوَ حافَّة الموت فقط."
يعي جيِّدًا كم أغدو عنيفًا، حينما تعصب مشاكِلي الحياتيَّة بصيرتي، وتمنعُني رؤيةَ الأرواحِ وهي تتدفَّقُ مِن أجسادِ غيري.
أذِنتُ لقدميّ بالإقلاعِ نحوَ غُرفةِ الاستِجوابِ المُظلمة، رغمَ تحذيرِ جونميون، كثيرًا ما استَغللتُ المُذنبينَ للتَّنفيسِ عن غضبي، لا أحبَّ إلى قلبي مِن تعذيبِ البَشر. ما تزالُ الحُروبُ هوايَتي، ربَّما هي مجرّد عادَة اكتَسبتُها خِلال السَّنواتِ المُنصرمة، وربَّما هي الشَّيء الوحيد الَّذي أجيده، بينَ ألسِنة الوغى أكونُ أنا، سواءٌ رأيتُ وجوهَ ضحاياي أم لم أرهم، هُم أعدائي وإزهاقُ أرواحهم من واجِبي.
حينَما تجاوزتُ عتبةَ النُّورِ إلى رحِم غُرفةٍ لا ترحَم، خلعتُ السُّترةَ الثَّخينَة عن جسدِي وعلَّقتُها على الكُرسيِّ المُقابِل لكرسيِّ الاعتِراف، حيثُ قُيِّد المُتَّهمُ بأحزمةٍ موصولةٍ بحدودِه، لا يُمكنُني تشخيصُ حالته، أو مدَى السُّوء الَّذي وقَف عِنده الجلَّاد الَّذي كانَ هُنا قبلي، ولكِن بما أنَّه يُحرِّك أطرافَه بسلاسَة فذلِك يعنِي أنَّهم رفقوا به، الرِّفقُ للحيوان، البشرُ فصيلةٌ لا تستحقُّ الفُرص، بل القرص!
كادَت صيحاته المُتوسِّلة بينما أُعذِّبه بالسّوط تارةً وبالكهرباء تارة أخرى، تندي الجُدران الخرساء شفقةً عليه لكنَها ما أندَت قلبي، بل ندِيَ جبيني لأنِّي بذلت جهدًا جبَّارا لاستِخراجِ آهاته، لولا جونميون الَّذي تدخَّل وانتزع السَّوط مِن يدي، لأرديتُه قتيلًا، ليسَ نكالًا على جُرمِه، بل فِداءً لغضَبي الَّذي يكادُ يحرق الأخضَر واليابِس.
أُرغمت على تأجيلِ قضيَّتي وتبنِّي الغِياب، إذ كُلِّفتُ بقيادةِ عمليّة اقتِفاءِ آثارِ الجواسيس عند الحُدود، والقبض عليهم. مرَّة أُخرى تلطَّخت يدايَ بالدِّماء وأذناي بحشرجتهم وهُو يستَنجِدون لكن ما من مُغيث، كُلُّ مَن يرفُض الإدلاءَ بشهادتِه أو الوشاية برفقائه يُعدَم جلدًا. لقيَ شهرٌ مصرعه في ميدان الزَّمن، فوَّت احتفالين، كان يُفترض أن أمضيهما مع العائلة؛ عيد الميلاد، ورأس السَّنة، قضيت أيَّامًا مِلؤُها التَّعب، غير أنَّه شغلَني عن أفكاري السَّوداويَّة، وها أنا ذا عائدٌ إلى سول في السيَّارة العسكريَّة، سأسقُط على رؤوسِهم مثل قذيفة لا تبوح بموعدها، الوقتُ متأخِّر لذلِك فالجميعُ نيام، عدا زوجتي فربَّما هِي تعبثُ في الأرجاء.
عبَّدَت خطواتِي الأرضيَّة الَّتي تجرَّدت مِن الثُّلوج، لا شيء سيظلُّ كما تركناه أوَّل مرَّة، مِثلَ الحبِّ الَّذي كُنَّا نُهجُره بعدَ كُلِّ شجار، ثمَّ نؤوب إليه ظنًّا أنَّه سيحافظ على ذاتِ اللّهفة. لمحتُ ضوءً مُنبعثًا مِن المطبخ، سويًّا وضوضاءً خافتةً، استَمالاني إليه، حيث لفتت انتباهي امرأةً قصيرَة القامَة واقفةً أمام الفُرن، وفي يدها اليمنى ملعقةٌ خشبيَّة. انتفضت حينما أزحتُ الباب الزُّجاجيّ عن مسكنه، أبتغي الولوج، ففحّ مُفشيًا لها عن وجودي.
" سيِّد بيون، ما أخبرنا أحدٌ أنَّك قادمٌ اليوم، لذلِك لم نُجهِّز شيئًا لاستقبالك. "
لم تعوِّض ما فقدته من الهواء قبل أن تستطرد.
" لاشكَّ وأنَّك مُرهقٌ جرَّاء السَّفر، هل أُسخِّن لك العشاء؟ أم أصنَع لك غيره؟ "
بدت عروضها ضربًا من الجنون، لعلَّ التوتُّر سببه، ما تزال ترتجف أمامي!
" في هذا الوقت؟ "
جدلت أصابعها بصمت، في حين وضعت القبَّعة على المائدة، وحجزت مقعدي الرُّوتينيّ، ما شئتُ إحراجها منذ لحظات عودتي الأولى.
" البابونج يفي بالغَرض. "
سارعت إلى بارِ المطبخ كأنَّها تفرّ من أنصالي البصريَّة، ثمَّ التفتت نحوي بغتة.
" عيد ميلاد مجيد، وسنة سعيدة. "
جحظت عيناي، هي آخر من توقَّعت أن يستقبلني بمثل هذا الكرم، ليست أوَّل من يُهنِّئني، ولكن لتهنئتها لي طعمٌ آخر، هل لأنَّها امرأة؟
غيرُها يخشون الاختِلاطَ بي، أو محادثتي، فهالَتي تجعلُ الجميعَ ينفضُّونَ مِن حولي، ربَّما لأنَّ الحياةَ رتَّبت لنا موعِدًا فُجائيًّا ذاتَ يوم، تداعت بعض الحواجز بيننا.
قالت بأريحيَّة، بينما يشغلُ ظهرها جفنيّ:
" حياةُ رجال الوطَن صعبةٌ للغايَة؛ فتسخيرُ وقتك بأكمله لأغراضٍ غيرها تضحيةٌ عظيمَة، يكفِي أنَّك تُضيِّعُ لحظاتٍ كانت بأمسِّ الحاجةِ إلى وجودِك، وأُخرى كُنت راغِبًا بها. "
" أليسَ تسخير الحياة لقطعةِ أرضٍ خرساء، أفضلُ مِن تسخيرِها لشخصٍ مُخادِع. "
نظرت إليّ من فوق كتفيها، وبنبرةٍ ساخرة ردَّت.
" لو أنَّ هذا الشَّخص المُخادِع يقطُن بذاتِ قطعةِ الأرض فأنتَ تُهدر وقتَك الثَّمين في حمايتِه شئتَ أم أبيت. "
اشتطت غيظًا، إذ هدتني إلى هفوَتي، وتجمهرت أصابعي وسط يديّ. ما لبثت وأن شتَّتني عن استيائي بكلماتٍ حنون.
" بينَما تخدم الوَطن، لا تنسى نفسك، فهي الأحقُّ بِك. "
حينَما دنَت مِن مرتَعي وهِي تحمِلُ كوبيَ الأحمَر، مُستوليةً على نظَري الَّذي ما يزال مكبَّلا بإخلاصها، قبضتُ على رائحةٍ مشبوهةٍ تسعى إلى عُبورِي، رائحةٌ قويَّة. استَقمتُ بهُياج غير مكرثٍ لفزعها، واجتذبتُها إلى حُضني، مُستنشِقًا الخلاصَ الكامِن في رقبتِها، مُرورًا بخصلاتِ شعرِها الَّتي آوت ذاتَ العبيرِ الباهِت، ثمَّ تلمَّستُ أنفَها، ورسمت شكله في خَيالي، كُلُّ الأدلَّة تُدينُها، في تِلك اللَّحظةِ همَّشت هويَّتها وبعُنفٍ ضغطتُ على ذِراعِها.
" ليلة الثَّالث مِن كانون المُنصرِم، أينَ كُنتِ؟ "
-
هلاوز خفافيشي 💙
يما وحشتوني كتير حاسة اني مختفية من اشهر مو من كم يوم 😂
مرّت علي فترة شوي صعبة.
قفلة نارية يتطاير الشرر منها 😂😂 عارفة اني شريرة مافي داعي تذكروني 😈
اليوم انكشف جانب ثاني من بيكهيون، جانب كتير مظلم، في جواتو رجل مبرمج على القسوة والحرب، وصراحة خفت منو 🌚
شو رأيكم بالفصل!
أكثر جزء عجبكم وما عجبكم!
بيكهيون!
سايا!
سومين!
سومين بتطرد سايا او لا!
مصير علاقة بيكهيون وسومين!
كيف ترد سايا على شكوك بيكهيون!
شو هي توقعاتكم للفصل القادم 😈🔥
دمتم في رعاية الله وحفظه 🍀
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro