الفصل| 09
أعلَم أنَّ الماضي سيُلاحِقني مهما اختبَأتُ مِنه، لأنَّ الماضي مِثل الموت، لا أحدَ قادِرٌ على الفِرارِ مِن قضائِه إذا ما كُتب، ولكِنَّه أقسى مِنه، سيُعذِّبُ روحي، ويزهِقها ألمًا، ثُمَّ يبعثها مرَّة ثانيةً مِن أجلِ أن يُزهِقها ندمًا لا غير.
كانَ عليَّ أن أحسِبَ للسُّقوطِ حِسابًا مُذ بدأتُ في تشييدٍ حُبٍّ غير عقلانيّ مِثلي، على أرضٍ مُحرَّمة، ربَّما لأنِّي لم أعتقِد أبدًا أنَّنا سنلتَقي خارِج حُدودِ الأحلام، ما وعيتُ على فساد قواعدي، إلى أن وقعت الفأس بالرَّأس، ونزفتُ بشدَّة.
ما أزالُ طريحَة الفِراش، جفنايَ متضافران بخُمول، والرُّطوبةُ تُعاضِد خديّ، أتوسَّلُ النَّوم ليقبَلني على متنِه، ويبحِر بي في عرضِ النّسيان، فالواقِع لن يبيعَه لي مهما عرضتُ عليهِ مِن دموع، سأظلُّ أتذكَّر التِحامَنا الآثم، ستقرّ عيني لنظراتِه الَّتي لم تُسطَّر باسمي قطّ، سأنتَشي برائِحته الرُّجوليَّة، واهتِمامِه الخالِص، ثُمَّ سأتفطَّنُ إلى أنَّه ذنبٌ لم أتُب عنه بعد، رغمَ أنَّه كسَر قدميّ، ولن أقِف باستِواءٍ قريبًا، وربَّما لن أقِف إلى الأبد!
سمِعتُ للتوِّ هديرَ سيَّارةِ الكولونيل الفخمَة وهِي تُغادِر رصيف القَصر، تخيَّلتُه جالِسًا على مقعدِه الاعتِياديّ، وبينَ يديه جريدة، يتصفَّحُها بحاجبينِ معقودين، مِن حينٍ إلى آخر يميلُ رأسُه نحوَ النَّافِذَة، فيظهَر فكُّه المنحوتُ على المِرآة، تخيَّلت لحظة نزوله بالثَّكنة واعتِماره للقبَّعة العسكريَّة الَّتي تُلائِمُه، هناك حيثُ يغدو كشخصٍ آخر يضجّ بالهيبَة. تشبَّثتُ بالمُلاءَة، وضغطتُ جفنيَّ ببعضِهما، مُعاتبةً نفسي، ما يُؤلِمني أنِّي أُمارِس الخِيانَة حتَّى وأنا بعيدةٌ عنه، حتَّى بعدَ أن أعلنتُ النَّدم، واعتَرفتُ بأنَّه خطأ، أنا تائِهة، لا أدري ما الَّذي عليَّ فِعله، كما لا أستطيعُ السَّيطرة على فِكري.
انفرَج جفنايَ بدهشةٍ حينَما فُرِع البابُ، ودخلَ الغُرفة شخصٌ ما، في بادِئ الأمر ظننتُ أنَّه جينوو قد نسِيَ غرضًا مِن أغراضِه، فما أعرتُه أيَّ اهتِمام، ولكِنَّ الفِراش اهتزّ، مُعلِنًا عن حُلولِ طرفٍ ثانٍ بِه، وراءَ ظهري تحديدًا.
" سايا، استيقِظي. "
فجَّر صوتُ سومين السَّاخِط الرُّعبَ بداخِلي، لم يسبِق وأن استَخدمت مِثل هذِه اللَّهجة الحازِمة معي مِن قبل، ازدَردتُ ريقي ثُمَّ أقدمتُ على النُّهوض، وأَطللتُ على سحنتِها الغائمة، تنمُّ عن عاصِفةٍ قريبِة، تفشَّى الذُّعر بصدري، كُلُّ ما استَنتجتُه أنَّها قد اكتَشفت جريمَتي، فكما يُقال لا جريمَة مِثاليَّة... سألتُ بصوتٍ مُتلعثِم.
" لماذا عُدت؟ "
انعِقادُ ساعديها عِند صدرها لم يُبَّشرني بخير، بدَت وكأنَّها على أُهبةٍ للحِساب، وما دارَ بعقلِي آنذاكَ ما خلَى مِن الشُّؤم.
" أهُناك ما احتَفظتِ به لنفسِك ولم تُخبريني عنه بخُصوص ليلةِ الأمس؟ "
أمالَت رأسَها بزاويةِ شكّ، وضيَّقت جفنيها.
" ما الَّذي حدَث بينَكُما تحديدًا؟ "
دفعتُ عدستيَّ بعيدًا عنها، مُتردِّدةً بينَ البوحِ والاستِمرار في الإنكار، لولا جينوو لاعتَرفت دونَ اكتِراثٍ لِما سيحلُّ بي.
" لم يحدُث ما يستحقُّ الذِّكر حقًّا. "
" أخبَرني أنَّني استَسلمتُ له، أقصِد أنتِ، ما معنى ذلِك؟ "
تمسَّكتُ بآخرِ غُصنٍ للأمل وأقنعتُني أنَّها تقصِد أمرًا آخر، زيَّفتُ الغَباء، وحرَّفتُ الحقيقَة حتَّى تخدِم مصلَحتي، وقُلت:
" لقد أمسَك بي بينَما ألِج الغُرفَة، وشرِبنا... "
صفقت كفَّيها بأحدِهما الآخر تُقاطِعُني.
" هذا ما قصَده إذًا؟ "
تنفَّست الصُّعدَاء، كأنَّها تخلَّصت للتوِّ مِن غُصَّة كانت عالِقةً في حُنجرتها، لعلَّها الحقيقةُ الَّتي أبت تصديقَها، وأعلتُها على تجاوُزِها. انكَسر حاجِباها بعتبٍ هذِه المرَّة، ولانت نبرةُ صوتِها.
" لِماذا لم تُخبريني أنَّكُما شربتما؟ لقد طلبتُ مِنك بوضوح أن تسردي عليَّ جميعَ التَّفاصيل حتَّى وإن لم تُكن مُهمَّة، كما أنَّ تناوُلكما الشَّراب سويًّا ليسَ مُجرَّد تفصيل، بل حدثٌ أساسيّ، لقد وقعتُ في موقفٍ صعب معَه مُنذ قليل، ولم أعرِف كيفَ أُجيب عليه، لحُسنِ الحظِّ انسَحب قائِلًا أنِّي سأتذكَّر عاجِلًا أم آجلا. "
طأطأتُ رأسي بينَما أقضِم شفتي السُّفلى بألم، لقد خُنتُها وها أنا ذا أكذِب عليها، لذلِك الخِيانةُ ليسَت النِّهايَة بل فاتِحةً لسلسلةٍ مِن الخطايا. أشحتُ وجهي بعيدًا عنها، مُنجدةً نفسي التَّي تُسحقُ تحت قسوةِ النَّدم.
" لم أتذكَّر أنَّنا شرِبنا حتَّى الآن، ظننتُ أنَّ اللَّيلَة قد مضت دونَ تصادُمات. "
" وما الَّذي جرى بعدَ أن شرِبتُما؟ "
أفصحتُ دونَ تردُّد، لأنَّه الصِّدقُ الوحيدُ في كلامِي، مُذ عقدنا هذا المجلِس المُباغِت.
" أرادَ مُصالَحتك، هذا فقط. "
حينَما استطعتُ أن أرفعَ رأسي أخيرًا، رأيتُها شاخصةً إلى النَّافذة، وذراعاها مُستلقيتان على فخذيها.
" لهذا السَّبب كانَ يتصرَّفُ بلُطفٍ على غِرار العادَة إذًا. "
بدَت لي وأنَّها تُحدِّث نفسَها.
" مِن السَّهل رقعُ الوضع، مُذ أنِّي لم أمزِّقه بشدَّة، يُمكِنني التَّظاهُر بالدَّلال، أُجيدُ ذلِك على أيَّة حال... سأذهَب. "
ربَّما نفدتُ مِن الفضيحَة الآن، لكِن إلى متَى؟ لا أظنُّ أنِّي سأنجو لوقتٍ طويل، حتَّى وإن ظلَّ بيكهيون جاهلًا، فإنَّ سومين ستربط الأحداث، وتلميحاتِه الَّتي يذرُّها بعفويَّة وستعرِف أنَّ تِلك اللَّيلة ما كانت بريئةً كما ادَّعيت...
لم أمتلِك القُوَّة لأغادِر السَّرير كُلَّ اليوم، بالكادِ حرَّكتُ أطرافي لأتقلَّبُ مِن جنبٍ إلى آخر، أهملتُ جميعَ وجباتِي، شهيَّتي مسدودَة، وصدري يختنِق، كأنَّ الأنفاسُ النَّقيَّة الَّتي أستنشِقُها بنهمٍ مِنِّي تنتقِم، أتنهَّدُ عسى أن أُزيحَ عنِّي الحمل، فأحصُل على راحةٍ لحظيّة، تزولُ بزوال زفيري، أحيانًا أتعثّرُ بالنُّعاس، وأحيانًا يُسنِدني الوعي، ويُذيقُني المَرار.
سُرعانَ ما ارتدَّ عليَّ تعبُ الأمس، وأرداني نائمةً لعدَّة ساعات، ظفرتُ فيها على جُرعةٍ مِن الرَّاحَة، دونَ أحلامٍ ولا ندَم، ولولا نِداءُ جينوو الصَّاخِب لي في صباحِ اليومِ التَّالي لما صحوت، وليتَني ما صحوتُ، إذ عضَّ ألمٌ مسعور أيسَري، بينَما يربت على ظهري بحَنان افتقدتُه.
" ما بِك عزيزَتي، هل أنتِ مريضَة؟ "
استَدرتُ إلى الجهة الَّتي بركَ فيها، توكَّلت على ذِراعي في الترفُّع عن السَّرير قليلًا، واجتَهدتُ لأعزِف ألحانَ الثَّبات، لكِنَّ صوتي كان مبحوحًا.
" أنا مُتعبةُ قليلًا، سأتحسَّن بعدَ أن أحظى بقسطٍ كافٍ مِن النَّوم. "
" ألن تذهبي إلى العَمل اليوم أيضًا؟ "
كوَّب وجهي بكفَّيه والدَّهشة مُسيطرهٌ عليه، بعدَ أن لاحظَ تدهوُر حالي.
" عيناكِ مُنتفِختان، والاحمِرار يُلطّخُهما، أشعُر بالقلق عليكِ، دعينا نذهَب إلى الطَّبيب حتَّى يفحصَ حالتَك بعد عودتي. "
أزلتُ يديه عن وجهي، رغمَ أنِّي كثيرًا ما رجوتُ لو يمنحُني لمسةَ قلقٍ كهذه.
" دعنِي وشأنِي رجاءً. "
بخيبةٍ قال:
" كما تُريدين. "
ما عُدت قادرةً على التحكُّم في انفِعالاتِي، وانفِلات غضبي على الشَّخصِ الَّذي آذيتُه يزيدُني مقتًا لنفسي، لا يُفترضُ أن أصبَّ عليه فيضي، بل أن أغدق عليه بحُبِّي، لعلِّي أُكفِّر عن خطيئَتي، ولكِن هيهات بينَ ما عليَّ وما أستطيعُه!
بمُجرَّد ما خلت الغُرفةُ مِنه انهمرت دُموعي مِدرارًا، لقد صمتُ يومَ أمس، لكِنِّي اليَّومَ أضعَف مِن سابِقه، علِمتُ أنَّ الجميعَ نِيام، والمقصورةُ معزولةٌ عن القصر، لن يسمَعني أحدٌ مهما انتَحبت، فاصطَخب صوتُ نشيجي، وبأمانةٍ حافظت عليه الجُدران.
" لماذا يا إلـهي، جينوو لا يستحقُّ الخِيانَة، لا يستحِقُّ أن أَكذِب عليه أو ألعَب دورَ البريئَة، كَم كُنت رخوةً لتتمزَّقَ مبادِئي بنظرة واحدِة مِن رجُل؟ كَم كُنت ضعيفةً لأنساقَ خلفَ رغباتي ومشاعر وُلدت مِن فراغ في فراغ؟ كَم كانَ عليَّ أن أصعدَ مِن درجةٍ في سُلّمِ الخطايا لأَعي أنَّه عليَّ الانسِحاب قبل أن ينهار، لماذا؟ "
لماذا لا نعِي حينما نتسلَّق درَج الخَطايا إلى أن نصِل قمَّتِه، وتنهارَ الطَّريق الَّتي أتينا مِنها؟ لماذا لا نعي قبلَ أن يصيرَ العُدولُ عنه مُستحيلًا؟
احتجتُ لأن أسفكَ كُلَّ ما في مآقيَّ مِن مياهٍ فيَّاضَة حتَّى يخِفَّ وزني، ويسعَ مقدِرة قدميّ، احتَجتُ لأن أُسرِّح صرخاتي المُعذّبة مِن سِجنِها، رغمَ أنِّي دفنتُها بالفِراش لئلَّا تخترِق النَّافِذة، حتَّى يعمَّ السَّلامُ فُؤادي ولو كانَ مُؤقَّتًا، وربَّما موقوتًا. توجَّب عليَّ أن أُصفِّيَ ذِهني مِن الأفكارِ السَّوداويَّة الَّتي غشيته، وأن أدوسَ ليلتَنا الآثِمة، حتَّى أولَد مِن جديد.
لقد خسِرتُ نفسي، لن أخسَر حياتِي بسببِ حُبٍّ عقيم، وكَما طعنتُ جينوو في ظهرِه دونَ أن يدري، سأُداري الجُروح الَّتي لم يشعُر بها بعِنايَتي، سأعاوِد تصينفَ أولوليَّاتِي الَّتي اختلَّت بعد أن دخلَ الكولونيل حياتي، سأُسخِّر كُلَّ وقتِي لزوجي مهما أهمَلني، وسأُكفِّر عن ذنوبي.
حلَّ فجرٌ آخر، عيَّنتُه فجرًا لانبِعاثي من جديد، قرَّرتُ أن أقومَ مِن رُقعةِ أحزانِي، وأثِبَ مِن فوقِ الحُفرةِ الَّتي نشأت بينَ الماضي والمُستقَبل، أعلمُ أنّ ذلِك سيكونُ صعبًا، لاسيَما وأنِّي قد أُصادِف خليلَ فُؤادِي الخفيّ، والرَّجُل الَّذي تخلخل في شراييني دائِمًا، لا بأس حتَّى وإن جذَبتني إلى قاعِها، لأنَّ وثبتي لم تكُن عريضًة كما ينبَغي لأجتازَها، على الأقلِّ حاولتُ إنقاذَ ما يُمكِن إنقاذُه، وما استَسلمتُ لحُكمِ الإعدام بحقِّي. لم أجدِ جينوو بجانِبي، لاشكَّ وأنَّه صحيَ قبلي وما حبَّذ إزعاجِي. قصدتُ الحمَّامَ أقضي على آثارِ يومينِ كامِلين مِن الخُمول، ثُمَّ غيَّرتُ ملابِسَ نومِي وارتَديتُ أُخرى مُناسِبةً للعَمل، سيرتُه رجَّت صدري، أجهلُ ما إذا كانَ عليَّ مُصاحَبتُهما لئلَّا أُثيرَ الشُّكوك، أم عليَّ اللُّجوءَ إلى القِطار هربًا مِنه!
-
ما كِدتُ أصدِّق أنِّي قد عثرتُ على المرأةِ الَّتي يهواها شغافي فيها، حتَّى فقدتُها، لم أعلَم متَى غفلتُ عنها فباغَتتني بالرَّحيل، أو ما فتَن بينَنا فعُدنا إلى عُصورِ التَّجاهُلِ البارِدَة، رغمَ أنَّنا صهرنا جميعَ خِلافاتِنا في ليلةٍ مِن حميم!
لستُ رجُلًا قد يُبادِر بالتودُّد لامرأة، لاسِيَما وإن شعَر بأنَّه غيرُ مرغوب فيه مِن قِبلها، أعي أنَّها تُكِنُّ لي من الحُبِّ ما مِن شأنِه أن يُلثِّم بصري، ويقودَني إليها مِثل الأعمى، ولكِنِّي مُقيَّدٌ بإبائِي الَّذي لا يحِنّ، لذلِك تركتُها تُنفذُّ ما يجول في رأسِها، وتعتكِف في انتِظارٍ لن يعودَ عليها بأيَّة نتيجةٍ مُثمرة، بل ولن يُؤتي غير الذَّبول، والبُعاد.
تأمَّلتُها بإمعانٍ وهِي مسلوبةُ الفِطنة، مُمدَّةٌ مِثل حوريَّة على سريرِنا المُشتَرك، والَّذي باتَ ساحة جافِية انطَفأت مشاعِلها، جِنانُها محجوبةٌ عن نُسوري النِّهِمة بثوبٍ حريريِّ ناصع البياض، واللّحاف الثَّخينُ مُستقرٌّ عِند خصرها. جالت يدي على خصلاتِها المفرودَة كأجنِحة الطَّير، وحينَما صبَت عُنقهَا أزاحَتها عنها، أستغربُ كيف زالت مُخلَّفات احتِلالي في ظرفٍ مُريب، وعادَةً ما تدومُ لوقتٍ مُزعج، يُرغِمُها على طمسِها بأحدِ أوشِحتِها الرَّفيعَة، جسدُها يُخبِرني أنِّي ما كُنت مُسنَّنًا بالقدرِ الكافي لأطرِّزَها بي!
قرّرُت ألَّا أُبيحَ للسانِي إحياءَ ما حدَث بينَنا في ساعةٍ شاغِرة، تولَّانا فيها السَّكر، ربَّما كرِهت ذاتَها لأنَّها استَسلمت لي بعدَ أن مارستُ جوري عليها، وربَّما هِي بحاجةٍ للاختِلاء بنفسِها ومُصالَحتِها، قبل أن تعترِف بصُلحٍ وقّعت عليه آن غِيابِها.
حزمتُ رحالَ قامَتي المثنيَّة بقُربِها، وتحتَ سطوةِ اللِّباس العسكريِّ المُلائِم لخريفٍ يلفِظُ أنفاسَه الأخيرة، نزلتُ إلى غُرفةِ الجُلوس؛ حيث أحضَرت لي الخادِمة مينيونغ قهوَتي السَّوداء المُفضَّلة، احتسيتُه على مهلٍ بمُفردي؛ والديَّ نائمان، وأخي الأصغَر مينهيوك لا يبيتُ في المنزِل غالِبًا، بالكادِ أُقابِله، فهو يتدرَّب بشغف مع الأوركسترا الوَطنيَّة كعازف كَمان، لم يوافِق والدُنا على المسارِ الَّذي اختاره لحَياتِه، أرادَه أن يكون سِياسيًّا مثله أو عسكرِيًّا مثلي، لكِنَّه حارب بضراوةٍ من أجلِ رغبتِه؛ واختَفى عن الأنظارِ حتَّى أخضعه لها، يمتلِك قُدرةً عجيبةً على الإقناع، رغمَ طيشِه.
خرجتُ مِن القصر مُستعِدًّا لتوبيخِ السَّائِق، إن اضطرَّني لانتِظارِ السيَّارةِ خارِجًا في هذا البردِ القارص، صرت أتصيَّد أبسطَ أخطائه مُنذ أن دريتُ عن حقيقتِه الَّتي يُدثِّرها تحت ابتِسامةٍ وديعَة، ليسَ لأنتقِم لها بالطَّبع، كرجُل وطَن، مِن الصَّعبِ أن ألتمِس للخِيانة عُذرًا، مَن خانَ بشرًا اليوم، فسوفَ يخونُ أُمَّة بالغدّ، وبداخلي حقدٌ دفينٌ تجاه المُنافقين، الخِيانَة أهونُ مِن النِّفاق.
بمُجرَّد ما لمَحني هرعَ يفتَحُ البابَ مِن أجلي بأدب، يُخيِّمُ الارتِباكُ عليهِ كُلَّما قابَلني، أستَطيعُ رُؤيَته يُلبِّدُ جوَّه، بينَما أمُرُّ بجوارِه بوجهٍ مُتبلِّد، رغم أنِّي لا أرى ما بسطحِه. قبل أن يتسنَّى لي الصُّعودُ، دفعَ البابَ حتَّى ضاقَ شقُّه.
" هل تسمَح لي بطرحِ سُؤال؟ "
أمهلتُه حُفنةً مِن وقتِي، لكِنَّه أهدرَه على الصَّمت، ما جعَلني أكفهرّ.
" ما الَّذي تودُّ قولَه؟ "
" سايا تتصرَّف بغرابةٍ مُنذ يومين، أيُعقَل أنَّك أخبرتها عمَّا رأيتَه؟ "
لعلَّه أحسَّ بالنَّدم بعدَ أن استَحالَ استِردادُ كلماته، إذ أزاحَ وجهَه عن مرآي... وجدتُ أنَّ الوقت مُناسِب لتنقيطِ الحُروف.
" لو كُنت أنوي إخبارَها، لما انتَظرتُ حتّى هذِه اللَّحظَة، شؤونُكما لا تعنيني، فلا تُقحِمني بِها مُجدَّدا، مفهوم؟ "
" مفهوم. "
سرَّحتُ سُخريتي علانيةً في زفرةٍ صاخبة.
" إن قرَّرت أن تخون، فلتخُن بشجاعَة، الخِيانةُ ليسَت للجُبناء. "
" صباحُ الخير. "
انضمَّ إلينا طرفٌ ثالث؛ زوجتُه، يُمكِنني التعرُّف عليها حينَما تلبس ثِيابًا مألوفة، سبقَ لها وأن لبستها في الماضي.
" الجوّ يزدادُ برودةً وأنتَ لا ترتدي الكثيرَ مِن الثِّياب، لذلِك أحضرتُ لك هذا الوشاح، فلتفَّه حولَ عُنقِك كي لا تمرض. "
أتساءَل ما الَّذي قد يُسوِّل خِيانَته لها، فها هِي ذا تُغرِقه باهتِمامِها، رؤيتُها وهِي تخدمِه بتفانٍ تُشعِرنِي بالشَّفقة تجاهَها.
" أنا بخير. "
حينَما أخفضَ يدَها مُعترضًا، بإصرارٍ لفَّته حولَ عنقه، ورغمَ رفضهِ الجليّ ما تذمَّر، ربَّما لأنِّي حاضِرٌ بينَهُما، وأيُّ حركةٍ مُنحطَّة مِنه بحقِّها، قد تُحرِّضُني على النُّطق، أراهِن أنَّ يُفكِّر على ذلِك النَّحو، يا لهُ مِن رجُلٍ غبيّ، وجبان.
باشمِئزازٍ جسَّدته شفتِي المعقوصة، شاهدتُه وهُو يُمثِّل دورَ الزَّوجِ المُراعِي ببراعَة، لولا عِلمي عن جريمتِه لخِلتُ أنَّهُما النَّموذَج المِثاليّ للثُّنائيّ، تأكَّدتُ الآن أنَّ الحياةَ تمنحُ المُحتاجَ الَّذي يُقسِم أن يُحافِظ على مِنحِها دائِمًا أقلَّ مِمَّا ينبغي، في حينِ تمنَحُ أولئِك الَّذينَ لا يُقدِّرونَ أكثَر مِمَّا يستحقُّون، ذلِك قانونٌ ينطبِق على الجميع... يُصبِح الرَّجُل ممثِّلًا مُحترِفًا حينَما يخون، كما تُصبِحُ المرأة قُنبلةً موقوتَة حينَما تشكّ.
تعثَّرت بالفُضول حِيالَ غِيابِها المديد هِي الَّتي لطالَما كانت مواظِبة على عملِها؛ إنَّها المَّرة الأولى الَّتي تتخلَّف فيها عنه، مُنذ انتِقالهما إلى هنا، لذلكَ قاطعتُ خلوتهُما المُثيرة للشَّفقة.
" لقد تغيَّبتِ ليومين. "
جفلت لوهلة إذ انقضَّ عليها سُؤالِي فجأة، ليسَ مِن عادَتي البحثُ خلفَ غيري.
" كُنت مُتوعِّكَة قليلًا، احتجتُ لقسطٍ مِن الرَّاحَة حتَّى أُنضِّم أفكاري. "
" أطلبتِ الإذن؟ "
عدَّلت حِزامَ حقيبتِها بتوتُّر جليّ، قبلَ أن تومِئ نافِيَة، نِظامُ الجيشِ صارمٌ للغايَة، وأيُّ انتِهاكٍ قد يؤدِّي بصاحِبه إلى الطَّرد، كُنت واثِقًا أنَّها ستخسر وظيفَتها، فلا حائِط متينَ قد يُسنِدُها عداي.
" يُمكِنك الاستِعانةُ بي إن تعرَّضتِ للطَّرد بسببِ ذلِك. "
بعدَ فاصلٍ مديدٍ من الصَّدمة انحَنت.
" شُكرًا لك. "
ما عرضتُ مُساعَدتي عليها إلَّا لأسكِت ضميري الَّذي يؤنّبُني، لأنِّي أتستَّر على مُجرم، كتعويضٍ على صمتِي المُضرِّ بكرامتِها.
قادَ المركبَة السَّوداء بصمت، حريصًا ألَّا يقَع في الحُفر الَّتي تتخلَّل بعضَ الطُّرق، حاولتُ ألَّا أشغل بالي بهما، وركَّزتُ مع الجريدَة بينَ كفيَّ، أُلاحق العناوين بحثًا عمَّا يلفِتني لفتحِها.
تحتَ ألسِنة الشَّمسِ الفاتِرة، وعلى مواويل الرِّياحِ الزمهرير، الَّتي كانت تُطيِّر التُّرابَ الماكِث على الأرضِ وتنثره في الجوِّ كُلَّما هبَّت، تمامًا كما تُطيِّر رياحُ الزَّمن الهوجاء العواطِف الخفيفَة، وقفتُ أُراقِب الجُنود وهُم يُصوِّبونَ على الأهدافِ الخشبيَّة البعيدَة عن خطِّ اصطِفافهم، بواسِطةَ الرشَّاشات الثَّقيلَة، تارةً أُصحِّح وضعيَّة حملهم لها، كذا توجيهها باستقامة، وتارةً أصرُخ إذا ما أخطأ أحدُهم رغم أنَّ رضابِي نضَب وأنا أشرحُ عن كيفيَّة التَّسديد، ما تردَّدتُ في مُعاقَبة الفاشِلينَ بالرَّكض حولَ الميدانِ خمسَ مرَّات. لستُ مُجبرًا على تولِّي مثل هذه المهام البسيطَة، ولكِنِّي أملأ وقتي بها لئلَّا أفكِّر.
أرى الجميعَ وكأنَّهم الشَّخص ذاته، رغمَ قاماتهم المُتفاوتة، وأوزانهم المُتباينة، بسبب رؤوسهم الصَّلعاء، وذلك يضخُّ السُّخطَ في أوردتي، ربَّما أتَّخذ زلَّات أيديهم كمُبرِّر لأصيحَ بهم، كأنِّي أقول لماذا أنتُم مُتشابهون؟
حططتُ رحالي بجوار جُنديّ مفتولِ العضلات، التفتَ إليَّ ما إن استشعر وجودي بالأرجاء. اطَّلعت على الشَّارة الَّتي نُقش فيها اسمُه، ثُمَّ أفرجتُ عمَّا سكَن ذهني لبُرهة بصرامة.
" كَم مرَّة عليَّ إخبارُك أن تجعلَ جِسرهُ مُستقيمًا، لئلَّا يغلِب ثقله كتفك. "
" آسف حضرَة الكولونيل، كتِفي مُصابٌ لذلِك لا يسعُني التَّصويبُ بشكلٍ صحيح. "
كَم أكرهُ الأعذار.
" خمس لفَّاتٍ حولَ السَّاحَة. "
نقلت الرِّياحُ إلى أنفِي رائِحةً أعادَتني أدراجِي إلى اللَّيلَة الَّتي شرعتُ في حفرِ قبرِها، مُذ أنَّها باتَت أثقَل مِن أن أحمِل جُثَّتها على ظهري فُرادى.
تمسَّكت ببرودِي في حينِ أعاقته شفتاي.
" انتَظر قليلًا، تفوحُ مِنك رائحةٌ غريبَة، تُشبِه رائِحةَ النَّعناع إلى حدٍّ ما، ما هِي؟ "
" أوه، إنَّه زيت لعِلاج آلام الظَّهر والمفاصل، الجميعُ هُنا يستَخدمُه، لأنَّ سِعره رخيص، ومفعولُه مضمون. "
بالأمسِ وسومين حديثةُ العهدِ بالاستِحمام اشتَممتُ رائحة الشَّامبو خاصَّتها، كانت مُختلفةً عن الرَّائِحَة الَّتي انبَعثت مِن شعرِها ليلَتها، ظننتُ أنَّها جرَّبت نوعًا جديدًا وما راقَ لها، فهِي تُحبُّ التَّغيير، لكِنَّها لا تستخدِم المراهِم الرَّخيصَة عادَة!
-
مرحبا يا معشر الخفافيش 😎
وحشتوني او ضب اغراضي وروح 🌚🐎
بحب قول لكم اننا داخلين على مرحلة مظلمة من القصة وسوداوية 😭
من بين كل رواياتي جسد هي الوحيدة يلي ما تشبهني يمكن تشبه دواخلي 💔
المسار تبعها غير المسار بقصصي السابقة يلي كلها تمشي بترتيب تصاعدي لقاء وبعدها نمشي حتى الوقوع فالحب هون في كتير انزلاقات بالعلاقة بين البطلين 😂😂
شو رأيكم بالفصل!
أكثر جزء عجبكم وما عجبكم!
بيكهيون!
سايا!
جينوو!
تعتقدو سايا تقدر تتمسك بقرارها!
بيكهيون يشك بسومين!
شو بيصير بالفصل الجاي!
مييون كتير لايقة لدور سايا ياخي هيك بتعطيك انطباع الزوجة الصالحة والمغلوب على امرها 😭 خاصة بهالصورة 🌚
دمتم فص رعاية الله وحفظه 🍀
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro