الفصل| 06
هل ثمَة ما هُو أقسَى مِن أن تقطُنَ طوالَ ما تبقَّى لكَ مِن العُمرِ فوقَ ضريحِ نفسِك؟
جسَدي مقبرةٌ ما عادَت تسعُ جُثَثي، لأنِّي عاجزٌ عن قمع جيوشِ الموتِ بداخِلي مهما قاتلت، أنا أموت مِرارًا وتكرارًا، كلَّما خلقت فِيَّ شخصًا آخر، يُستَشهدُ في ميدانِ أفكاري، وما أكادُ أصحُّ وأقوم، حتَّى تُصيبَني وعكةُ قنوطٍ أُخرى.
لا أنفكُّ أتساقَط مِثل ثلوجِ ينايِر، لأنَّ موطِنَها لم يعُد يُطيقُ حُمولَتها، وبعدَ كُلِّ تساقُط للذِّكرياتِ أذوب كأنِّي ما كُنت قطّ ويُراودني الفراغ كأنِّي غير موجود، لكنِّي عاجزٌ عن النِّسيان، كيفَ قد أنسى والنَّدبُ بداخِلي، ويا ليتَه حجَر رُكنًا على جسَدي بدَل أن يستقرَّ بأعماقِ روحِي!
آمنتُ أنَّ أسوأ أنواعِ السُّقوط، ليسَ أن تسقُطَ مِن عينِ أحدِهم، بل أن تسقط مِن عينِك، حينها ومهما قلَّدتك الحياة مِن أوسِمة، يستَحيلُ أن تراكَ وسيمًا أو أن تفتَخر بنفسِك، مهما جمَّلتك، لن تكون جُملةً كامِلةً، تعلم أنَّ ما بينَ السُّطورِ خرابٌ عارِم، كذلِك ورغم أنِّي أنزِل في أعلى طابقٍ للجاه، روحِي مدفونةٌ ستَّ أقدامٍ تحتَ الحاجَة.
أمقُت نفسِي كُلَّما أخفَقتُ في التعرُّف على أشخاصٍ يُشارِكونَني ذاتَ السَّقف، ولأتفادَى الإحراجَ عليَّ دائِمًا أن ألعَب دور المُحقِّق، وأنبش عن الأدلَّة بينَ ثنايا أجسادِهم؛ ثيابهم، تسريحاتهم، روائِحهم، قبل أن أُصدِر أبسَط الأحكام.
أرى جميعَ الوجوه ذاتَها كالأوراقِ الخاوِية، كالجُدرانِ المُتشابِهة، حيثُمَا تلفَّت قابلتني ذاتُ الخِلقة، مِثل المرأةَ الَّتي احتَوتها يداي، وأنفقت عليها شفتايَ قُبلةً آسِفةً ظنًّا أنَّها زوجَتي. لوما ذاعَ صوتُ سومين من الطّابِق أعلاي وكشف لعينيّ الشِّبه بصيرَتين أنِّي أخطأتُها بأُخرى، تكتَسي أحدَ فساتينِها المُفضلَّة، وشعرُها مُصفَّفُ مثلها، لبقيتُ على جهلي، ولارتَكبت ما قد أخجل منه!
أزاحَتني المرأةُ الَّتي حبستُها في شراكي عن غير قصد بكفَّيها، لمسافةٍ أباحت لها الحراك، وهرَبت دونَ أن تطلب مِنِّي مُبرِّرًا، لقد صفعتُ زوجَة السَّائِق مُنذ ثلاثِ أيَّامِ، واستَطعتُ التذرُّعَ باللَّيل، ما عُذري الآن؟ ومَن هِي حتَّى؟
تشبَّثتُ بالسيَّاجِ قبل أن يُفلِح الغَضب في دفعِي إلى الانهِيار، ومسَحتُ على وجهِي الَّذي أوشِك أن أنسى معالِمه بخشونَة. استَرحتُ للحظات، ثُمَّ صعدتُ إلى الطَّابِق الثَّانِي، حيثُ وجدت سومين واقِفةً في الرِّواق، أمامَ هيري وآه يونغ، لاشكَّ وأنَّها وجدتهُما تعبثانِ في الأرجاءِ مرَّة أُخرى. أستطيعُ تمييزَ هاتين الاثنتين بفضل قوامِهما.
عقَفت رأسَها إلى الخلفِ ما إن ورَدها صوت خطواتي؛ أجهَل كيفَ تنظُر إليَّ الآن، أبِغضب أم بانكِسار... يجِبُ قلبي كُلَّما عانقَ جفنايَ وجوهًا لا ملامِح لها، فتزدادَ طيَّات روحي، وأتيقَّن أنِّي لن أنفتِح مرَّة أُخرى.
التَفتَت نحوَ الفَتاتين مُجدَّدًا، وأعارتهُما ما تبقَّى مِن اهتِمامِها.
" يُمكِنُكما الانصِراف الآن. "
بعدَ مُغادرتِهما، بنظراتٍ ولفرطِ الإحراجِ انكبَّت على الأرضِ، سعيت إليها عازمًا على كسر الصَّمت الذي دام بيننا لأيَّام، دون أن يتطوَّع أيٌّ مِنَّا لمُعالجَته، لكنَّها اجتَبت تجاوُزي، مُصِرَّة على موقِفها. لولا السُّؤال المُلحّ الَّذي يطرقُ ذِهني، لما أفسَحت لها في وقتِي الثَّمين رُكنًا، ولأجلِه أمسكتُ بمعصمِها، وعطَّلتُها عن المضيّ قدمًا.
" مَن المرأةُ الَّتي نزَلت للتوِّ وهِي ترتَدي أحدَ فساتينك؟ "
" إنَّها سايا؛ زوجةُ السَّائِق. "
لعقتُ زاوية فمي اليُمنى أُراوِغ السُّخط الَّذي حزَم أمتِعته وقصَده، ثُمَّ ضغَطتُ على مِعصمِها.
" أنتِ أكثَر شخصٍ يعلَم عن عِلَّتي، لماذا منحتِها ملابِسك؟ ألم تُفكِّري ولو للحظةٍ في أنّي قد أخلِطُ بينَكُما بسببِها؟ "
رغمَ جميعِ النَّكباتِ ما أزالُ أتَّسِم بالهُدوء، ولكِنِّي أفقِدُ السَّيطَرة على أفكاري أحيانًا، لعجزِي عن إبصارِ ما يلوحُ في وجوهِ الملأ، أجهَل ما تلتفُّ حولَه أصواتُهم المُتملِّقَة، أجهلُ ما يُضمره صمتُهم، أصيرُ مُرتابًا يومًا بعدَ يوم!
" هل تنتَقمينَ مِنِّي؟ "
ثنَت ذِراعَها مُتحرِّرةً مِن الألَم الَّذي حكمتُ عليها بِه، والتَمستُ الازدِراءَ في نبرةِ صوتِها.
" حبَّذا لو تخلَع عنك عقليَّة الكولونيل، في الثَّكنة العسكريَّة، فلا أحَد يُحاول الإيقاعَ بك هُنا. "
بمُجرَّد ما انتَهت مِن فحِّ سمومِها أقلَعت عن السُّكون، مُعتقدةً أنِّي سأغضّ الطَّرف عن مزايدتها الكلاميَّة معِي، لكن لا، لستُ رجُلًا يرضى بالخَسارَة...
قبل أن تطرحَ على الأرضِ خُطوةً أُخرى، قبضتُ على كتِفيها بقوَّة.
" إيَّاكِ أن تُحدِّثيني بهذِه اللَّهجةِ مُجدَّدًا. "
" لماذا؟ هل ستضرِبُني ثانِيةً؟ "
اضطرَبت أنفاسي بينَما أُحاوِل رسمَ صورةٍ لها في ذهني بِناءً على صوتها، لا ريبَ في أنَّها تهزأ بي الآن، ورُبَّما تتبنَّى تعابيرَ مُتقزِّزَة!
كِبريائي جُرِح لمجرَّد التَّفكير في أنِّي قد كدت أتنازَل لها، مُتناسِيًا أنَّها امرأةٌ تهوَى قصائِد اعتِذاراتٍ موزونَة، ولستُ رجُلًا شاعِريًّا!
سلَّمت نفسي لظُنوني، وسمحتُ ليديَّ بنقلِ سُخطي إليها في لمستين مؤلِمتين.
" حاوِلي أن تتخطَّي عتبة المنزِل ثانيةً دونَ عِلمي وستَرينَ كيفَ سأكسِر لكِ هذا الفمَ الَّذي لا يُجيدُ سِوى التفوُّه بالهُراء."
رغمَ الإنذاراتِ الَّتي أرسلتها لها عينايَ، ثارت عليَّ باكيَة.
" أليسَ مِن الظُّلمِ أن تُطالِبَني باحتِرامِك في حينِ أنَّك تُعامِلني وِفقَ ما يُمليهِ عليك مزاجُك المُتقلِّب؟ تؤذيني ثُمَّ ترميني على سريرِ الزَّمنِ ليجبرني، أكُلُّ ما تريدُه هو التحكُّم بي، وتقييدَ وقتي؟ أنا لستُ جنديًّا من جنودِك بيكهيون. "
لمرضي العجيبِ هذا جانبٌ إيجابيّ وحيد؛ هُو أنِّي معصومٌ مِن التعثُّر بالشَّجنِ في العُيون، غيرُ قابِل للاستِعطاف، لا يسعُني رؤية ألم أحد، كما لا يرى أحدٌ ألَمي، وبالتَّالي فإنَّ قلبي لا يُشفق، والذَّنب لا يهزّ جفنيّ مهما رُجِمت بالمَلامَة.
" لأنَّك مُصِرَّة على استِخراجِ أبشعِ وجه أمتلكه. "
تركتُها ورائي مُنهارةً على الأرضِ تنوح بحُرقة، وهبطتُ إلى غُرفةِ المعيشَة، لم أتكبَّد عناء انتِظارها، أو التَّهويد عليها، ليسَ الطَّرف الَّذي يستبيحُ الاشتِكاء هو المَظلوم بالضَّرورة، ثمَة من يستخدم لغةً غيرَ البُكاء، وأبجديَّة غيرَ الحروف، بصدري طائِلٌ من الأوجاعِ الخفيَّة، ما مدَّت يدَها يومًا لتُطيِّبها، لماذا عليَّ أن أنحنِيَ لاحتِوائها إذًا؟ يُمكنها النُّهوض وحدها، يكفي أنِّي سأقضي دقائِق شاقَّة على مائِدة الغَداء مع عائِلتي، أقربُ النَّاس إليَّ صاروا غُرباءَ عنِّي، وكَما لا أُبصِرهم، لم يُبصِروا يومًا عذَابي معَ مرضي... ظنَّ أبِي أنَّه كان مُجرَّد خُدعةٍ لأتهرَّب مِن الزَّواجِ الَّذي دبَّرهُ لي، وأُشوِّه سُمعته، فهو لم يعلَم عن المشاعِر الَّتي شدَّت جسورها بيننا!
لستُ رجُلًا قد يُجبِره أحدٌ على القِيام بِما لا يرغَبُ فيه، صحيحٌ أنَّنا اجتَمعنا بسببِ عائلتينا، لكنِّي فُتِنت بها، وإلَّا لما رضيتُ بالقيود، لقد قابلتها في مَسرح الأوبرا لأوَّل مرَّة، كانت ترتَدي فُستانًا مُخمليًّا يُفصِّل ما اندَفن في أعاليها لضيقِه، ويُحكِم صِيانَة سفوحِها لطولِه المُعتبَر، بدَت كسيِّدة بريطانيَّة مرموقة بخصلاتِها المموَّجَة، وقُبَّعتها السوداء المُزيَّنةً بالرِّيش، أخبَرتني شفتاها المبرومتان، وعدَستاها اللَّتانِ راحتا تتجسَّسانِ على الملأ بحثًا عن التَّشويق، أنَّها ضجرةٌ من العرضِ مثلي، إذ اشتُهِرت بفهمِي للُغةِ الجَسد، يومَها تطارحنا أحاديثَ وديَّة بصوتٍ خافت، كي لا نُزعِج الخاشِعين حولنا، قبلَ أن تتواطَأ أنامِلها بأنامِلي، وتسحَبني خارِجًا... رغمَ الخرابِ الَّذي عمَّ دماغي مُؤخَّرًا وشتَّتَه، ما تفتأُ صورتُها محفوظةً في دُرجٍ من أدراجِه.
ظننتُ لوهلةٍ أنَّنا محظوظَين، فالطريقُ أمامَنا كانت سانِحة، وتأهَّبت لعقدِ قِراني، مُدَّخِرًا سعادتَي لنفسي، لأنِّي رجُلٌ مِن سُلالَة الصَّمت، كُلُّ ما يولَد بي لابدَّ وأن يُدفَن بي، رغمَ أنِّي لم أؤمن بالحُبِّ يومًا. قبلَ الزَّفافِ بشهرٍ تمامًا تعرَّضتُ لحادثٍ مأساوِيّ، قلبَ حياتي رأسًا على عقِب، صحوتُ مِنه بالمُستَشفى، فاقدًا لقُدرتِي على تمييزِ الوجوه، طلبتُ مُهلةً حتَّى أعتادَ على وضعِي الجَديد، فترةَ نقاهةٍ أستَوعِب فيها ما أصابَني على الأقلّ، ولكِنِّي قوبِلتُ بالرَّفض.
أدركتُ بعدَ الزَّواجِ أنِّي قد تسرَّعت في قراري مُنذ البِداية، فشخصيَّتينا مُتضارِبتين، لا تعقِدانِ الهدنَة إلَّا على سريرِ الحُبّ، الَّذي سُرعانَ ما خلَع عنه مُلاءَته النَّاعمة، وصارَ كأيِّ مثوًى بارِد لعلاقةٍ عابِرة، لا تُدفِّئ جوانِبه سِوى الرَّغبة... هِي امرأةٌ غير ناضِجة، وأنا بالكادِ أُعيلُ نفسي!
عِند مطلعٍ الفجر، هاجرتُ جانِبي البارِدَ مِن الفِراش، التَحفتُ بذلتي العسكريَّة المُرصَّعةِ بعِدَّة شارات تُؤرِّخُ أمجادِي، ثمَّ اصطَحبتُ معي إلى الحديقَة كوبًا من القهوةِ السَّاخِنة، أعدَّتها مينيونغ، وجلستُ إلى الطَّاوِلة بانتِظارِ الآنِسة كانغ، لم أمتلِك أيَّة نِيَّة في الاعتِذار، حتَّى وإن ظنَّت أنِّي أستَغل سُلطَتي، أو أنظُر إليها باستِصغار. ما لبِثت وأن تسلَّلت خارج المقصورة مِثل المُجرمين، ثمَّ سارت بخُطواتٍ وئيدَة، ظهرها مُحدودِبٌ كعجوزٍ على حافَّة العُمر وذِراعاها تضمَّانِ الحقيبةَ إلى صدرِها.
" ألن تتوقَّفي عن التصرُّف بطريقةٍ صِبيانِيَّة؟ "
تسلَّيتُ برؤية عمودُها الفقريّ يستقيم بجزع، قبل أن تُحوِّل قِبلتها إليّ.
كُنت واثِقًا أنَّها ستظلُّ ساكنةً في ذاتِ المكانِ حتَّى الغد إن لم أتحرَّك، لذلِك أفرغت يديَّ من الكوب، وأعدمت المسافَة بيننا.
" بخُصوصِ الأمس، لقد كُنت ثمِلًا قليلًا، و... "
قاطَعتني.
" ظننتَني سومين. "
خيَّم الذُّعرُ على وجهِي، بمُجرَّد ما طرَح عقلي فكرةَ عِلمها عن الموضوع. هِي مُقرَّبةٌ مِن سومين، ماذا لو باحَت لها عن وضعِي بينَما تُثرثِران؟
" لقد كُنت قريبًا مِنِّي للغايَة، لكِنِّي لم أشتَمَّ أيَّ رائحةٍ للمَشروبِ عالقةً بين أنفاسِك. "
ذرَّت شفتايَ أوَّل حُجَّة على الرفّ، لحُسنِ الحظِّ أنَّ جسدي خادمٌ أمينٌ لا يُفشي أسراري، أو يتجسَّس عليَّ لصالِح أحد!
" ربَّما لأنَّك حبستِ أنفاسَك. "
صمتت ثُمَّ، بتردُّد نطقت.
" لقد صفَعتني مُنذ أيَّام، لكِنَّك لم تُفكِّر في التَّبرير لي، لِماذا تستَميتُ الآن لصفِّ الحقيقة إلى رصيفِها؟ هل خشيتَ أن أُسيءَ فهمَك؟ "
أتساءَل لِماذا كُتِب علينا اللِّقاء في أشدِّ الظُّروفِ احتِدامًا؟
" أخبرتُكِ أنِّي ظننتُكِ سومين، أنتِ الَّتي تُسهِبين في التَّفكير. "
بصوتٍ ضحوكٍ قالت:
" بِما أنَّك استَفقت باكِرًا وانتظَرتني، فذلِك يعني أنَّك نادِم، لن أُهدِر جهودك إذًا. "
خِلتُ أنَّها صعبةُ المِراسِ مِثل سومين، يستَحيل أن تركَع من نِداءٍ وحيد، ربَّما لأنَّها ابنة أبيها المُدلَّلة، والَّتي ألِفت اجتهادَ الجميعِ لنيلِ استِحسانها، وهو السَّبب الَّذي يجعلُني أترُك مشاكِلنا للأيَّام، حينَما يطِفُّ غِلُّها ستزحفُ إليَّ مِن تِلقاءِ نفسِها.
عُدت أدراجِي إلى الطَّاوِلة حيثُ احتَكرت يدايَ كوبَ القهوة ثانِية. انفصلت عن العالَم لوهلة، وحينَما تفقَّدت الرُّقعة الَّتي تركتُ فيها السيِّدة كانغ منذ قليل، وجدتُ أنَّها لم تتزَحزح عنها ولو قيدَ أنملة.
" إلى متَى ستظلِّينَ واقفة هُناك؟ "
بدَل أن تلِج المَطبخ، اقتَربت مِن الطَّاولة ثُمَّ جلست أمامي، ما جعل الاستِغراب يتشكَّل بينَ حاجبيّ.
" ألن تتناوَلي الإفطار؟ "
تلَعثمت بارتِباك.
" لا أتناولُه عادةً. "
أتساءَل ما إذا كُنت مُخيفًا إلى درجة فِرارِ الكلامِ مِن الحناجِر!
صرفت بصري عنها، وبحثت لهُ عن رصيفٍ آخر أركُنه إليه، ليسَ لشيءٍ سوى لأنَّ إطالةَ النَّظر بوجوه النَّاس تُزعجني، وذلِك ما يحمِلُني على اجتِنابِ الاحتِكاكِ بهم، إلَّا إن دعَت الضَّرورة.
ظننتُ أنَّها لن تُفاوِض الصَّمت على الكلمات، إذ أوحَى لي التوتُّر الَّذي يسطو على جسدِها كُلَّما تقابلنا، أنَّها امرأةً خجولة، قليلةَ الكلام، لكِنَّها نافتَ جميعَ توقُّعاتي، ربَّما أخطأت!
" سومين صبيَّة مُدلَّلة، عاشَت كُلَّ عُمرِها بينَ أُناسٍ يستَميتون لإرضائِها، لذلِك مِن الصَّعب أن تقبَل الرَّفض، ولكِن مِن السَّهلِ جِدًّا الاحتِيالُ على غضبِها، وسرقته مِن جيبِها، لا أعرِفُك جيِّدًا، ولكِنِّي أظنُّكَ رجُلًا لا يُجيد غزلَ الكلِمات، أو البَوح... إن منعتها مِن الذَّهابِ إلى مكان، يُمكِنك اصطِحابُها إلى غيرِه، وستُسعَد. "
عجيبٌ كيفَ أصابَت في تقدير شخصي، وما مرَّ وقتٌ طويلٌ منذ أن انتَقلت إلى العيش هُنا!
علمتُ من سومين الَّتي ما انفكَّت تقصُّ عليَّ مُغامراتهما خلال الطُّفولة، أنَّها صديقتُها المُقرَّبة. كُنت لآخذ ما قالته بعينِ الاعتِبار، لو ألقته عليَّ قبل أن تُقنِعني تصرُّفات زوجتي المصون بتجاهُل المُشكلة بينَنا. كأنَّ الحياةَ اقتادَت قُبلتي نحوَ امرأةٍ أُخرى لحمايَتي من الإحراج.
اختَرقت نغاماتُها شُرودي اللَّحظيّ مرَّة أُخرى.
" شخصيَّتُها مُنعِشة، لن تشعُر بالوحدة ما دامَت تحومُ في مَدارِك. "
المُشكلةُ أنَّها لا تحوم إلَّا في مداري، ما حاولت يومًا الانحِراف إلى مركَزي، لو اختَرقت غِلاف الزِّيف الَّذي يُحيط بي، لأدركت مدى سوداوِيَّتي، ولعلِمت على الفور أنِّي لستُ بخير، ولم أكُن.
" أليسَ ذلِك سطحيًّا؟ "
رفعتُ بصري عن القهوة حيثُ انعكسَت صورَتي، ونظرتُ إليها.
" هل يكفِي أن تحومَ في مَداري، وتنشُر نورَها حولي؟ "
لاحظتُ أنَّ أناملها ارتَخت، كأنَّ الوعي فارقَ جسدها.
" صحيح، النُّور لا يفي بالغرض دونَ دِفء."
شعرتُ أنَّها مَن تحتاجُ إلى المُواساة لا أنا، رغمَ أنَّها استماتت لطمسِ خيبتِها.
" ولكِن إن ظلَّ كُلٌّ مِنكما يَظنُّ أنَّ على الآخر أن يُقدِم على الخُطوةِ الأولى، ستتَّسِع المسافةُ بينَكُما، دون أن تشعُرا. "
اكتفيتُ بالسُّكوت، علامةً على رغبتي في غلقِ الموضوع، واحتسيت قهوتي السَّوداء على مهلٍ، تحتَ السَّماء الغائمَة، بينما النَّسمات البارِدة تُحاول اجتِياز أسوارِ المعطفِ الطَويل المُستنِد على كتفيّ، والطُّيور المُحتشدةُ على حوافِ السَّقف تُغرِّد بصخب دونما انقِطاع. رغمَ أنَّنا غريبين عن بعضِنا البعض غير أنَّ السَّلام طوَّقنا، لم أشعُر بمُرورِ الوقتِ حتَّى وافانا سائِقي. واضِح أنَّه استَغربَ وجودَنا سوِيًّا، واستجوبَ زوجتِه مُفتِّشًا عن أسبابٍ مُقنعة، ما إن ولَجتُ السيَّارة، إذ تأخَّرا بالخارِج.
قادَ بسُرعةٍ خوَّلتنا الوصولَ إلى الثَّكنة في غضونِ ساعتين. وجدتُ المُلازِم جونميون بانتِظاري على الرَّصيف، حيثُ ركَنت سيَّارَتي للتوّ؛ هُو رجلٌ بطولي، يفوقني عُمرًا بسنةٍ تقريبًا، ولأنِّي أنحدِر من عائلةٍ مرموقةٍ تمكَّنت من الترقِّي قبله، لم يسمَح لشعرِه بأن يغمُر رأسَه مُنذ أن التَحق بالجيش. اعتَمرت القُبَّعة العسكريَّة ذات الحواف السَّوداء، وحينما نزلت حيَّانِي باحتِرام، رغمَ أنَّه صديقٌ قديمٌ لي، ثُمَّ توغَّلنا بداخل المبنى سويًّا.
" سيعقد قادة الجيشِ اجتماعًا في سول لمُناقَشة قضيَّة المهاجِرين الشَّماليِّين، عليكَ أن تكونَ مُتأهِّبًا لحُضورِه. "
قلبت عينايَ بضجر.
" وبالطّبعِ سيسحَبونَنا إلى سهرةٍ سخيفةٍ بعدَه... "
ضربَ كتِفي بخفَّة، لم أكُ بحاجةٍ لرؤيتِه حتَّى أعلمَ أنَّ ثغره ممتلِئ بابتسامةٍ ماكرة.
" نسيتُ أنَّك رهن امرأة، ومِثل هذِه السَّهراتِ ما عادَت تصبُّ في مصلحتِك. "
يسخَرُ مِنِّي أنَّا الَّذي لطالما ردَّدت أنَّ عُشُّ العزوبيِّة، أفضلُ مِن قفصِ الزَّوجيَّة.
مرضي جعلَني أنفر من الأماكِن المُكتظَّة، والثَّكنة العسكريَّة ليسَت استِثناء، الجيش غيرُ مُناسبٍ لرجُلٍ مُعتلّ مِثلي، فجميع الجُنودِ مُلزمون بالتخلُّص من شعرهم، لا يُمكِنني التَّفريقُ بينَهم، لذلِك أجتنِب ذِكر أسمائهم، وأستخدِم ضمير المخاطب في التَّعامل معهم، حِرصًا ألَّا يكتشِف أحدٌ سِرِّي... لقد غدَت الثَّكنة بضيقِ عُلبةِ كبريت، تسكُنها أعوادٌ مُتشابِهة، أجِدُني غاضِبًا طوالَ اليوم، أصرُخ لألهِيَ نفسِي عن التَّفكير، لكِنَّها المكان الوحيدُ الَّذي أشعُر فيه بالانتِماء، يروقني إصدارُ الأوامر.
كانَ الجميعُ ينحنونَ لي أنا الَّذي لم يسبِق وأن انحنَيتُ لنفسي بحجَّة أنِّي رجُل شامِخ.
اضطررتُ للعودةِ إلى سول زوالًا من أجلِ الاجتِماع الَّذي استَهلك من وقتِنا سِتَّ ساعات كاملة، ما كِدت أُصدِّق أنِّي قد تحرَّرت من الواجِب، حتَّى أصرَّ عَددٌ من الإطارات على إهدارِ الأُمسيَة في الحانَة المعهودَة كما توقَّعت، مُتذرِّعين بالمُغنِّيَة الجديدَة، الَّتي أسَرت قُلوبَ العديدِ مِن الرِّجال، لاسيَما الكِبارَ في السِنّ. على واجِهتِها عُلِّقَت لافتةٌ كبيرةٌ تحمِل اسمِها؛ Red، تُنبِّئ الجميعَ أنَّها ابنةٌ شرعيَّة، يُمكِنهم ارتِيادُها باطمِئنان. كانت عِبارةً عن قاعةٍ فسيحَة، خافِتة الإنارَة، تعجُّ بالطَّاوِلاتُ المُستَديرة لاحتِضانِ أكبر قدرٍ من الزَّبائِن المُترفين، في نِهايتِها مِنصَّة خشبيَّة، حطَّت الجوقةُ الموسيقيَّة رِحالِها عليها، تتوسَّطهُم امرأة ممشوقةُ القوامِ، تكتسي فُستانًا فضِيًّا طويلًا، تمايلت أنامِلها على حامِل الميكروفون، وأمالَت أنظارَ رِفاقي، بينَما تُغنِّي بصوتٍ عذب.
سُرعانَ ما تملَّصتُ من قادَة الجيش، الَّذين لا أقلُّ عنهم شأنًا، بعضهم يفوقُني عُمرًا ورُتبة، والبعضُ الآخر أدنى منِّي، تحجَّجت بإحضارِ زُجاجةٍ أُخرى من المشروب، ثُمَّ جلستُ إلى البار بمُفردي، كُلُّ ما في الأمر أنِّي سئِمتُ أحاديثَهم المُقتَصِرة على النِّساء، مِن العارِ أن تكون أعظَم مشاغِل خدم البلاد متمثِّلةً في جسَد!
هُناك نوعانِ من الرِّجال في بؤرةِ الفسادِ هذه؛ من آوى في حِجرهِ فتاةَ هوى، وراحا يتبادَلان القُبل واللَّمسات علانِية، ومَن هُو مِثلي، محجوزٌ في جسدِه، مُختلٍ بقدحِه، راغِبًا في تنظيفِ فِكره مِن الشَّوائِب العالِقة بِه.
حرِصتُ ألَّا أسمح للسَّكر بكَسري، حتَّى أستَطيعَ التهرُّبَ مِن هذا المجلِس. عبرَت نظراتي الجافَّة الأجسادِ المُتراقصَة، والتكتُّلاتِ الغريزيَّة حولي، نحوَ جماعَتي، فإذا بأغلبهم يتوسَّدون الطَّاولة غائبين عن الوعي. طرحتُ الكأسَ على البار، ونزلتُ عن الكُرسيّ، ثُمَّ زُرتُهم لمرَّة أخيرة.
" عُذرًا، عليَّ الذَّهابُ الآن. "
لم يعترِض أيٌّ مِنهم، كانوا شِبه نِيام. خطَّطتُ للذَّهاب إلى المنزل سيرًا على الأقدام، واستِنشاق هواءٍ نقيّ يُعوِّضُني عن أجواء الحانَة الخانِقة، مُذ أنَّه لا يبعُد عنها كثيرًا.
" سيِّدِي، توقَّف رجاءً. "
لم أعِ أنِّي المعنيُّ بالنِداء حتَّى مثَل أمامي رجلٌ فارِع الطُّول، مُبعثرُ الشَّعر والهيئَة، أوَّل أزرارٍ من قميصِه مفتوحَة، وعلى عُنقه أحمرُ شِفاه.
" استَمع إليّ. "
رفَعتُ أحدَ حاجِبيّ، أمنحُه الإذن لإفراغِ ما بجُعبتِه. في أماكِن عامَّة كهذِه، لا أُبادِر بالحديثِ إلَّا إن كُنت مُتأكِّدًا مِن هويَّة الطَّرف الثَّاني... أذكُر أنِّي رصدتُ هذا الرَّجُل مُنذ قليلٍ غارِقًا في ثغرِ امرأة، مُعتَّقةً في برميل البَغاء.
" لا تُخبِر زوجَتي أنَّك رأيَتني في هذا المَكانِ برفقةِ امرأة، أنا أتوسَّل إليك، لقد كانت مُجرَّد نزوةٍ عابِرة، لا أدري ما الَّذي أصابَني حقًّا، ولن تتكرَّر مرَّة أُخرى، أنا أعِدُك."
تشبَّثَ بكُمِّ سُترَتي، بينَما أتأمَّل طلعَته بحثًا عن أثرٍ يقودُني إلى هويَّتِه، صوتُه ليسَ غريبًا عنِّي!
" أقسِم أنِّي لستُ ذلِك النّوع مِن الرِّجال إطلاقًا. "
بذلَتُه مألوفَة كذلِك، أليسَ سائِقي؟
-
يا هلا بالخفافيش الحلوين 🐥💃
ما تاخرت عليكم 😭😭😭 الله يدوم حماسي وحماسكم💃
متخيلة شكل سايا لما بيكهيون سألها إذا فطرت، أكيد عيونها طالعو قلوب 🐭❤
شو رايكم بالفصل!
اكثر جزء عجبكم وما عجبكم!
بيكهيون!
سايا!
سومين!
جينوو!
القفلة نارية صح!
بيكهيون يخبر سايا او لا!
شو توقعاتكم للفصل الجاي
حبيبنا جينوو فضح حالو 😂😂😂 بيكهيون لايك وذفاك من وين نطيت علي 😂
احنا بنزحف لبؤرة الاحداث، بتصير شغلات جنونية شوي بالفصل الجاي 😈🔥
اعتقد كونتو فكرة عن شخصية بيكهيون، هو هادئ ومنطوي، بس لما يعصب ما بيعرف وين يحط ايديه 😂😂😂
بيكهيون تعري لبيكهيون جسد بعد كلامو عن النساء: اخخ تفوووه 💦
دمتم في رعاية الله وحفظه 🍀
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro