على الصراط
كثيرًا ما نرى شخصًا لا يؤمن باللّه، ملحدٌ ربّما، أو له دينٌّ غير ديننا، لكن مع ذلك تجده ثريًّا له مِن مَتاعِ الدُّنيا ما عجزنا نحن عن امتلاكه، بل وقد بُسِطَ له مِن الرّزق ما لَمْ يُبسَط لنا. هنا أغلبنا يتبادر لذهنه سؤالٌ شائكٌ للغاية: لما لستُ مثله؟ أبذلُ جهدي وكلَّ طاقتي لكنّي لا أُحَصِّلُ شيئّا مما حصَّله، هل هذا عقاب اللّه لي؟
الأدهى، تجد البعض يتجاوز هذا السّؤال لسؤالٍ أخطر«إنْ كان كلُّ ما يحلُّ بي قدرٌ مكتوبٌ عليّ، لا مَناصَ لي مِن الهروب منه، فلما أعاقب؟ ولماذا سأساق نحو جهنم إنْ أسأتُ اختيار طريقي، أوليس الطريق الّذي ذهبتُ فيه كان مقدرًا علي؟»
~°~
مرحبًا يا أصدقاء، كيف هي أحوالكم؟ كيف حال الهمة والنَّشاط؟
عشنا معكم في سلام، وتشاركنا معكم ذكرياتٍ حلوةٍ لكن حان الآوان لكي نضع أقدامنا على خطِّ النِّهاية.
قد جئتكم اليوم بآخر فعالية لنا، لكن قبل أنْ أشرح لكم شروطها ونتطرق لتفاصيلها دعوني وبشكلٍ مبسطٍ سريعٍ أجيب عن الأسئلة الآنفة الذكر، رغم أنَّه مِن الصَّعب الإجابة عنها، فقد أفنى الكثير مِن الشيوخ عمرهم وأهرموا شبابهم بحثاً عن الجواب، بيد أنّي سأسلّط الضّوء على الجواب بما قُدِر لي معرفته.
يقول اللّه تبارك وتعالى في كتابه العزيز :
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ﴿٩٩﴾ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ}
-سورة يونس.
تبيّن الآية الكريمة أنّ الإسلام لَمْ يكن إكراهًا، أيْ أنّ النّبي دعا الناس للدّعوة لكنَّه لا يمكن أنْ يدخلهم إليه قسراً وإجباراً {فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر}
-سورة الكهف.
وأيضًا أوضحتِ الآية أنَّ الإيمان لا يكون إلا بإذن الله، فلا تجهد نفسكَ يا «محمد» في دعوة نفسٍ لن تؤمن.
لكن، إنْ كان الإيمان بقدر الله ومشيئته هل هذا يعني أنّنا إنْ اخترنا طريق الكفر فليس بيدنا؟
قطعًا لا، فاللّه لَمْ يعاقب أحدا قبل إرسال الرُّسل والدّعوة والكتب. الله جلَّ علاه لَمْ يرسل رسولًا أو نبيًا واحدًا، بل عدداً لا يحصى لدعوة النّاس للهدى، مما يعني أنَّ الإيمان مِنْ عدمه اختيار الإنسان، مع توفيقٍ مِن الله.
يقول الله تعالى في سورةِ البقرة:
{قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٣٨﴾ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُون}
إنّه لمِنْ لطف الله أنْ خلق فينا فطرةً لحبّه وللإيمان به، ففي كتاب (الشَّباب شعلةٌ تحرق أو تضيء) للشيخ قاسم يقول أنّ للشباب والمراهقين قدرةً أكبر للإيمان بالله لأنَّ فطرتهم تكون لا تزال سليمةً، فكلما انغمس الشَّاب في المعاصي قسى قلبه ووجد صعوبةً في العودة لله بسهولةٍ، بل يحتاج منه ذلك جهادًا وقوّةً وصبرًا أقوى ممّا يحتاج إليه الشّاب في بداية إيمانه، وأحبُّ أنْ أنوّه أنَّ الرّسول صلّى اللّه عليه وسلّم قال:« سبعةٌ يظلّهم الله يوم لا ظلَّ إلاّ ظلّه» وذكر مِنْ بينهم الشّاب الّذي يهرم شبابه في طاعة الله.
دعونا لا نبتعد عن الموضوع كثيرًا، ماذا يقصد الله في كتابه { فمن اتبع هداي}
ذلك لا يعني قطعًا أنّ الشَّخص يصبح عابدًا متمسكًا بالدِّين بهدى مِن الله فقط، وهو ما يعتقده الكثيرون قدرُ الله، فتجده يقول:«لن أومن، فالله لَمْ يهديني!»
الدُّعاء بالهداية هو أنْ يوفقكَ الله لعبادته، أيْ يبسطُ لكَ الطَّريق له، فنجد بعضًا يسوق الله له صحبةً صالحةً، وبعضًا يجد كلماتٍ تؤثّر فيه، وبعضًا يهتدي بالعلم.
إنّما الوصول لدرجة العابد الّذي يحبُّه الله جهدٌ وصبرٌ وقوّةٌ، وإلاّ لما تعب الصَّحابة واستشهد بعضهم؟
ادعُ الله أنْ يوّفقكَ ويهديكَ، إنّما ابذل جهدًا، لا تكن كالّذي يشتهي طعامًا وعندما يقدّم له ينظر له متحسرًا ولا يقوم نحوه، ثمَّ يلقي باللوم على الَّذي وضع له الطعام بعيدًا و لم يلقه في فمه!
لن يوصل الطَّعام لفمكِ سواكَ، لذا توكَّل ولا تتواكل.
كذلك يقول بعض العلماء أنّ الهداية في هذه الآية، هي كلَّ ما أنزل الله مِنْ حكم الإسلام والتي تتلخص في القرآن والسُّنّة؛ أيْ الأسباب التي تعين الإنسان ليهتدي.
وهذا ما تعنيه الآية {فمن اتبع هداي} أيْ اتّخذ بالأسباب واتّبع ما جاء في القرآن والسُّنَّة.
خُلاصة الكلام: الله يبسط لكَ الطَّريق، ويسوق لكَ الأسباب، لكن أنْ تُقبل أو تُدبر اختياركَ؛ اختر أنْ تؤمن أو تكفر.
نأتي للسؤّال الثاني، لماذا يبسط الله الرّزق للكافر بينما أنا أتعذّب في القيام والصّيام وكلُّ ما ألقاه شقاءٌ وتعبٌ! هل هذا ظلمٌ!
حاشاه الله أنْ يظلم عبدًا!
يقول الله عزَّ وجلَّ في سورة البقرة:
{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا ۘ وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَاب}
بَسطُ الرّزق للكفّار ابتلاءٌ لقساوة قلوبهم، فإمّا أنْ ينغمسوا بملذّات الدّنيا أكثر فأكثر، ويزداد تمرّدهم و جحودهم وكفرهم حتَّى يستيقظوا على الطَّامة الكبرى: الموت.
أو يهتدوا ويسحبوا أنفسهم سحبًا مِنْ كلّٓ تلك الملذّات الزّائفة لطاعة الله.
{زُيّن للّذين كفروا}
الزِّينة هي أنْ يبدو الشَّيء رائعًا ذا جمالٍ لا يصدق في عين مالكه فيصبح كلَّ ما سواه قبيحُ المنظر، وتجد المالك منغمسًا في حبِّ ذلك الشَّيء غير قادرٍ عن الابتعاد عنه.
وصَدق الّذين قالوا: لا أصعب مِنْ أنْ تُبتلى بقسوة القلب فتصبح منكبًّا على الدّنيا ومافيها مقبلاً عليها بجوارحكِ، زاهدًا في ما أعدّه الله لكَ مِنْ رفاهيةٍ في جنَّته، ولذّةٍ في طاعته.
يقَوْل تَعَالَى :{ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقهمْ يَوْم الْقِيَامَة}
فالّذين زيّنت لهم الدّنيا ينظرون نظرةَ استصغارٍ للمؤمنين، فهم يملكون الدُّنيا ولا يؤمنون بوجود آخرةٍ لذا يظنُّون أنَّهم ملكوا كلَّ شيءٍ.
هل يتذكر بعضكم قصّة نوحٍ عليه السلام؟
كان كبار قومه، الّذين كفروا بدعوته، كلَّما مرّوا به وهو يبني فلكًا في الصّحراء سخروا منه ونعتوه بالجنون، ويقولون: «أين الماء الّذي سيحمل هذا الفلك ونحن في أرضٍ قاحلةٍ جّافةٍ؟»
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}
ماذا كان ردّ نوحٍ عليه السلام؟
قال لهم أنتم الآن منا تسخرون، فإذا آن أمرُ الله نحن سنسخر منكم، وهو ماكان؛ أمرَ الله سماؤه فأغرقتِ المكان ماءً، وأصبح جفاف الصّحراء طوفانًا.
هذا تمامًا حال الّذين زيّنتْ لهم الدَّنيا، فهم يرون ما أمامهم مِنْ مُلكٍ ورفاهيةٍ ولا يعرفون شيئًا ممّا لدى الله في ظاهر الغيب، كما يسخرون مِن ادّعاء المؤمنين بوجود جنّةٍ ونارٍ.
وصف الله حال هؤلاء يوم القيامة، فإذا بهم نادمون، يتحسّرون، ويتمنون الرجوع لدقيقةٍ واحدةٍ كي يسجدوا لله سجدةً. {ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابًا}
-سورة النبأ.
أمَّا الابتلاء للمؤمن، مِنْ ما يواجهه مِنْ شقاءٍ في الدّنيا وتعبٍ، فلكي تصغر الدُّنيا في عينيه؛ هذا أولًا، ثانيًا هو ابتلاءٌ لقوّةِ إيمانه فيصبر ويحتسب أو يضعف ويتراجع.
وهو لا ينقص مِنْ أجر المؤمن شيئًا.
بل إنَّ الصّبر لَمْ يذكر القرآن له مقدار، مما يعني أنَّ جزاؤه عند اللّه كبيرٌ جدًا.
ولو أردتَ التّفصيل في الصّبر ومقدار جزائه وكم يحبُّ الله الصّابرين، لأخذ مني ذلك كتبًا وليس فصلًا واحدًا، لذا سأكتفي بالآية التَّالية؛ يقول الله عزَّ وجلَّ في سورة الزُّمر {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَاب}.
علمنا الآن أنَّ الإنسان مخيرٌ في اختياره، ويجازى على صبره، لكن هل يعني كلُّ ذلك أنَّ كلامي ينفي قدر الله؟ هل هذا يعني أنَّ كلَّ شيءٍ باختيار الإنسان؟ ماذا عن المرض؟ ماذا عن الموت والأجل؟ ماذا عن الزَّواج والنَّصيب؟ ماذا عن فرحةٍ سيقت لنا دون اتخاذ بالأسباب، وألمٍ قُدِّرَ علينا رغم محاربتنا له؟
السُّؤال هنا يلحُّ بقوَّةٍ ويطرح نفسه؛ ترى ما هو القدر؟!
إنّ الله عَلِمَ ما كان وما سيكون، وما لَمْ يكن لو كان كيف يكون، عِلمُه لَمْ يُسبق بجهلٍ، ولَمْ يُلحق بنسيانٍ، فهو عِلمُ مقادير كلِّ شيءٍ، وكُتِبَ في اللّوح المحفوظ ما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، عَلِمَ الله كلَّ شيءٍ سيقع في هذا الكون.
فهناك قدرٌ أزليٌّ في اللّوح المحفوظ قبل أنْ يُخلق أيُّ شيءٍ في الكون.
وهناك قدرٌ عمريٌّ، أي في العمر مرّةً واحدةً عند جمع خلق ابن آدم في بطن أمه فيكتب أجله وشقيٌّ أم سعيدٌ.
وهناك قدرٌ حوليٌّ، في ليلةِ القدر مِن كلِّ عامٍ، وهو قدرٌ معلّقٌ بالدّعاء يصارعه، وأيضًا القدر اليوميُّ كما ذكره ابن القيم في (شفاء العليل) كلّ يومٍ هو في شأنٍ، وهذا أيضًا معلّقٌ بالدّعاء.
قد جاء في الحديث الرابع مِن الأربعين نووية:
عنْ أبي عبدِ الرَّحمنِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: حدَّثنا رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الصَّادِقُ المصْدُوقُ:
{إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذلِكَ، ثمَّ يُرْسَلُ إلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فيهِ الرُّوحَ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ وَأَجَلِهِ وَعَمَلِهِ وَشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ. فَوَاللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فيَدْخُلَهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فيَسْبِقَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلَ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا}
رواه البخاريُّ ومسلمٌ.
فهناك قدرٌ كُتِبَ علينا مِن الله عندما نفختِ الرَّوح داخلنا ونحن في ظلمة الرِّحم، وهناك قدرٌ يدفع بالدعاء فكلَّما ألحَّ العبد في دعائه استطاع تغيير قدره، وهناك قدرٌ مقترنٌ بما اتخذناه مِنْ أسبابٍ، وكلُّها خيرٌ مِنْ الله فقد جاء في الحديث : يقول عمر رضي الله عنه: «لو عرضتِ الأقدار على الإنسان لاختار القدر الَّذي اختاره الله له»
قد تبدو لكم بعض الأشياء متناقضةً، لكن لمن الصَّعب التَّفصيل والغوص في التّفاصيل كما قلتُ، لذا قبل أنْ أغادر دعوني أطرح لكم فكرة الفعالية وشروطها:
في هذه الفعالية، ستختارون سؤالاً كثيرًا ما روادكم عن الإسلام، مثل الأسئلة آنفة الذّكر، وعليكم إيجاد جوابٍ له واستخلاص عبرةٍ منه.
لا تبخلوا علينا بمشاركاتكم، ودمتم بخير.
معكم مشاعر مِنْ فرسان اللغة🌸.
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro