الفصل | 21
اهلا بالخفافيش 🐏
شو اخباركم يا حلوين!
لسا ما مر اسبوعين على اخر تحديث لا تقولو انتي متاخرة 😂💔
الفصل الماضي كان صادم صح! بيكهيون بيطلق ان ها بهالسهولة 🌜 هو رجل مثالي وناوي عالحلال مثل ما نقول عندنا 😂
Enjoy 💕
-
حولَ كاحِل كُلِّ حُلمٍ تلُفّ الحياة أغلالَها المَتينَة، لتُعدِم الوُصول.
لقد كانَ زواجُه قيدًا مُحكمًا حولَ كاحِل علاقتِنا هذه، ينسُبها إلى المُحرَّماتِ زُورًا، وربَّما هِي فاكِهةٌ مُحرَّمة لذلِك استَطابها كُلٌّ مِنَّا، فللاثمِ نكهةٌ لا يعقِلُها إلَّا مَن لا تُفارِقُ يداه شوكَته، يلقم مِنه حدَّ التُّخمَة. بدا وكأنَّنا لن نتزحزَح قطُّ خارِج مدَى سِلسلتِه الغليظَة الَّتي تئنُّ كُلَّما خُطونا خُطوةً إلى الأمام جعلَتها تصطكُّ بالأرض، صحيحٌ أنَّا لم نشعُر بِذلِك القيدِ، ولكنَّه كان دائِمًا موجودًا، فمَهما أحبَّني، لن يعترِف أحدٌ بِنا!
كثيرًا ما فنَّد الودَّ بينَهُما، أن انقَضى كُلّه والماضي السَّحيق، ومِثلَما لن يعدِل الوقتُ عن مسارِه مِن أجلِ أن يلتقِط أحدُهم ما أسقَطه في بِقاعٍ مِن بقاعِه سهوًا، يستحيلُ أن يعدِل فُؤادُه عن حُكمِه عليها، أو أن يشطِف صورَتها مِن السَّوادِ الَّذي دنَّسها، فهِي الَّتي خذَلته أشدَّ خذلان، ربَّما لا يسلب الأنفاس ولكنَّه يسلب الثِّقة.
خشيتُ كثيرًا أن أصيرَ ضحيَّة حذرِه مِن خيبةٍ جديدَة، كالخيبةِ الكامِنة في كُلِّ بدايةٍ مُثيرة تعِدُ بنِهايةٍ حُلوة، فلا يتغمَّدنِي بعاطفتِه ودِفئه، بيدَ أنَّه مال إليَّ رُويدًا رويدا حتَّى ثوى أرضي، دونَ أن يعِيَ على نفسِه المُغيَّبة.
ما خِلت قط أن الحياة ستَقتني لي صواعَ سعادَة ذهبيَّة، كفيلٍ بسدِّ نفقاتِ حاجياتِي العاطفيَّة جمعاء، وتدسَّه في رِحالي لأكتشِفه بغتة بينَما أنا على قِمَّة الوجد، فلَطالَما آمنتُ أنَّها استَثنتني مِن رحمتِها كأنِّي لستُ ابنَتها، بل لا أمتُّ لها بصِلة، وشطَبت اسمِي مِن قائِمة المُحتاجين، كأنَّها تحكُم عليَّ بشقاءٍ أبديّ جورًا.
صُدفةً استَيقظتُ على صوتِ الجَرس، وسلكتُ طريقَ البابِ أتقصَّى هويَّة الزَّائر، كِدتُ أتدخَّل حينَما اكتَشفت أنَّها زوجتُه، لولا أنِّي تعثَّرتُ بلفظَة الطَّلاق فسقَطت نِيَّتي بأرضِها، اكتفيتُ بالاختِباء خلفَ سورِ المطبخ كالعادَة، واستِراقِ السَّمعِ لخطابِهما المُسلِّي عن قصد، مُكمِّمةً فمِي بيدي، لئلَّا يُطلِق أهازيجَ فاضِحة.
علِمتُ أنَّ الجِنرال سيعودُ إلى هُنا بعدَ أن يُلقِيَ أعقابَ جِدالِهما في زفرة، مُذ أنَّ كوبَ قهوتِه السَّوداء على البار ما يزالُ ممُتلِئًا يتصاعَد الأوَّار مِنه، بجوارِه تضطجِع مِحفظتُه ومُسدَّسه الَّذي أشتَهي لو أفرغ ذخيرته برأسِ الخِيار تِلك.
لم أشأ أن أبوحَ لهُ عما اصطَادته أسماعِي مِنهما، آمِلةً أن ينقله لي على لِسانِه طواعيَة حينَما يحرقه الصَّمت، لعلَّ كلِماتِه الُّلؤلؤيّة تصوغ لي عقيقًا لا ينقطِع.
اختَبأتُ في الغُرفَة ريثَما يُناجيني ولكنَّه ما جاءَني، بل سمِعتُ صوتَ البابِ يُودِّعُه هذِه المرَّة. خِلتُ أنَّه قد أجَّل موعِد الحقيقةِ الَّتي تقلَّدت بينَ عينيَّ اليوَم حُليًّا ثمينَة، جميلةً كاليراع، غيرَ كُلِّ يومٍ، حتَّى المساء. انتَظرتُه على أحرَّ مِن الجمر، بعثرتُ وقتي بعشوائيَّة هُنا وهُناك لأنَّها عُطلة نِهايةِ الأسبوع، وبينَما أنا أتصفَّحُ الانترنت قرَّرتُ المُبادَرة بإعدادِ وجبةٍ لهُ احتِفالًا باستِئصالِه العلَقة إن ها مِن حياتِه، قد أخلفها مَن يدري؟
كانَت السَّابعة مساءً، حينَما شمَّرتُ على ساعديَّ وشرعتُ في إعداد فطيرة الفَراوِلة بِما أنَّ الثلَّاجَة ما تزالُ مُتخمةٌ بِها، ما هِي إلَّا لحظاتٌ معدودةٌ حتَّى اجتَاح الطَّحينُ كُلّ ما حطَّت عليه يداي، لاسيمَا وجهِي وملابِسي، ليسَ ذلِك فحسب، بل وأدركتُ أنِّي لا أُجيد حتَّى تشغيلَ الفُرن، لحُسنِ الحظِّ العمّ غوغل بالخِدمة!
جثمتُ كُثب الزُّجاجِ الشفَّافِ أُراقِبُ نُضوجها مِن الصِّفر بلهفةٍ لأنَّها مُسطَّرةٌ باسِمه، لقد ذكَّرتني بِنا، فهُو الَّذي تسوَّق مِن حواسِي الفِتنة، ثُكَّ مشجَ مقادير أنوثَتي مِن حُبٍّ ورغبَة، وراحَ يُراقِبُني عن كثب أنضُج أمامَه مِن مُراهقةٍ إلى امرأةٍ يمتحِنُها كُلَّ ليلةٍ على سريرِه.
قبل أن يدقَّ مُؤقِّت الفُرنِ كسَر أواصِر القُفل طرفٌ ثالِث، ليسَ سِواه. بِما اختزنتُه طوالَ هذا اليومِ الوحيدِ مِن أمانٍ جريتُ إلى الرِّواق... كانَ قد تخلَّص مِن حِذائِه الكلاسيكيِّ، وانتَعل آخرَ منزليّ، وما كادَ يستقيمُ حتَّى صعِدت قدميه، ولففتُ ذِراعايَ حولَ عُنقِه، مُقتصَّة مِنه منظرًا فاخِرًا، رغمَ أنَّه بدا مُنطفِئًا، مُظلِمًا.
بدَل أن أزيدَه بتساؤُلاتِي ضيقًا تعاميتُ عن عِلَّته، وزيَّفتُ ابتِسامةً مِثاليَّة.
" لقد أتيتَ باكِرًا اليوم، ما المُناسَبة؟ هل اشتَقتَ إليّ؟ "
مُذ أسَرتني نظراتُه ما أعتَقتني ولا جاهَرت لي بذَنبي، يبدو في مِزاجٍ سيِّء للغايَة... لاعَبت أنامِلي خُصلاتِه الرَّاسيةِ على قفا عُنقِه، إذ ضمَّت الرَّبطةُ شطرًا مِنها فقط.
" ولكنَّك غيرُ مراعٍ إطلاقًا، إذ ما أخذتَ بعينِ الاعتِبار أنَّ اليومَ عُطلةٌ ثمينة، مِن الظُّلم تركُ ساعاتِها تسيلُ هدرًا دونَما ملئِها في مواعِيد حُلوة، رغم أنَّه وسِعنها تسخيرُها، تَدري أنِّي أُريدُ فِعل الكثيرِ معَك خارِج السَّرير أيُّها الأنانيّ. "
اعتقَدتُ أنِّي إذا ما مازحتُه فسوفَ يعتدِل مزاجُه، ويَتعافى مِن حرارةِ الأعباء، ولكنَّه أرتَج جفنيه واستَفاقَ مِن بعدِ ذلِك ذاتَ الرَّجُل الَّذي يرانِي في رُقعةِ حياتِه مُجرَّد بيدقٍ لهُ عدَة مُثله، لا بأسَ بخُروجِه مِن اللُّعبَة.
" اصمُتي قليلًا، لستُ في مِزاجٍ للأخذِ والعطاءِ مع أحدٍ، حتَّى أنتِ. "
ارتجَّت شفتِي السُّفلى حينَما صارَ الكلِم يثِب مِن فوقِها لا يبتَغي الاقتِرانَ بالصَّوت لفرطِ الدَّهشة، لكنِّي لم أستطِع تمالُك نفسي حينَما همَّ بحلِّ عُقدةِ ذِراعيَّ حولَ عُنقه.
" إذًا توجَّب عليكَ القِيادَة إلى ركنٍ موقنٍ بأنَّه شاغِرٌ مِن الملأ، يقيكَ التعرُّض لإزعاجِهم، تعِي أنَّ الصَّمت برفقتِك يحرقُني. "
مِن طوعِي فرَّقت بينَ أصابِعي، نزلتُ عنه، وبسطتُ كفِّي على خدِّه أعصمه مِن الميلان إلى غيرِ برّ، وألقيتُ القبضَ على عينيه اللَّتين اختَلستا مِن الكونِ زُرقتِه، دونَ أن تختلِسَا شيئًا مِن الرِّفق، لم أُقابِل أقسَى مِنهُما طوالَ عُمري!
" أنتَ تتصرَّفُ بغرابَة، مِن غيرِ عادتِك أن تُشيحَ بوجهِك عنِّي دونَ أن يكيدَ بينَنا شِجار، ما بِك أخبِرني؟ "
عجبًا كيفَ لفُؤادِه ألَا ينفَجر حتَّى الآن، فرغمَ أنَه لا يُناهِز حجمَ صُندوق، يكتُم فيه ما لن تسَعه مجرَّة.
وبينَما أنا شارِدةُ بينَ تقاسيمِه في أوجّ ضعفي أفلَح في انتِزاعِي مِنه بغتة، فألَّف الغضَب بينَ ساعديَّ على صدري.
" أتشعُر بالفَراغ الآن وقد قرَّرت إنهاءَ علاقتِك مع زوجتِك بصفةٍ رسميَّة؟ "
كانَ على أُهبةٍ للرَّحيل كأنِّي شوكةٌ تخزُ مُقلتيه، ولكنَّ سُؤالِي ربَطه إلى جِواري لأمد رغمَ أنَّه ليسَ مُحبَّبًا، حيثُ كشَّر سحنَته، ضبابُه على وشكِ أن يغدُوَ رُضابًا، هُو الآن كالصَّقر يبحثُ عن خاصِرةٍ لينشبَ بها.
" أتتنصَّتين عليّ؟ "
" أصواتُكما كانت مُرتفعة، تكادُ تخترِق الجُدرانَ العازِلة، لم أكُ بحاجةٍ إلى التنصُّت. "
ضاقَ أحدُ جفنيه كأنَّ بينَ حافَّتيه جِسرًا يشدُّهما بالارتِياب، لم يكُ مُقتنِعًا بِما أدليتُ بِه، لا بأس فهي مُجرَّد كِذبة.
الآن وقد حظيتُ بِه ضيفًا في قاعِ كمينٍ لم أُخطِّط لحفرِه إطلاقًا، فالموقِف قد دسَّه بينَ ثناياه حينَما وقعَ فيه ونطَق ثغرُه الأبكَم، ما شِئتُ أن أضيِّع فُرصةً مُنِحت لي في مُلاسنتِه، وتسوُّل الشَّكوى مِنه.
" لقد طويتَ صفحتك المشوبَة وإيَّاها بصفةٍ رسميَّة، ستغدو حُرًّا مِن الماضي، فلِماذا تبدو كمَن يُساقُ إلى لحدِه؟ "
كُنت موقِنةٌ أنَّه لن يُخمِد ناري وسيدَعُ الشُّكوكَ لتلتَهمني كأنَّ أمري لا يعنيه، ما خِلتُ أنَّه سيزيدُها اشتِعالًا بكَلامِه المَسموم!
" لا تُسيئي تقدير الخاتِمة، فطلاقي مِنها لا يعنِي البتَّة أنِّي قد أحتفِظُ بِك إلى الأبد، أو أتزوَّجُك. "
تعاضَدت أنامِلي في باطنيِّ يديَّ خِلسةً، لعلِّي أعصِم لِسانِي عن الإتيان بنُقطةِ النِّهايةِ لعلاقتِنا، قرَّرتُ لأوَّلِ مرَّة ألَّا أنجرِف وتيَّار أعصابِي إلى الهاوِية، أن أتنازَل عن الجِدالِ في عُنفوانِه اتِّقاءً مِن عاقِبةِ احتِدامِه، لاسيمَا وأنِّي لن أغلِبه.
" أنتَ تبحثُ عن وقودٍ للاشتِعال ولن أمنَحك إيَّاه. "
انعطَفتُ بالفِعل عازِمةً على الاندِثارِ مِن مجالِ بصرِه، هربًا مِن الأذيَّة، غيرَ أنَّ يدَه الآدميَّة قيَّدت عضُدي وردَّتني أدراجِي إليه، الشَّرر في فوهتيه ما نبَّأني إلَّا على اشِتعالٍ لن تُطفِئه شلَّالاتٌ مِن الدَّمع.
" مُذ دخلتِ حياتِي كالمُصيبةِ اهتزَّت عواميدها وخرَّت، ما مِن شيءٍ أصبَح فيها كمَا أمسى، حدَّ أن صِرتُ أضِلُّ بينَ أزقَّتي عاجِزًا عن إدراكي فيّ، أتساءَل في كثيرٍ مِن الأحيان ما المهزلةُ الَّتي أُقيمُها، وأيُّ قبرٍ أحفِره لي بيدايَ فِداك، ولماذا؟ "
ما فكَّرتُ ولو لثانيةٍ في الهربِ مِن بينِ براثِنه، بل خُضتُ غِمارَ نظراتِه الحاميَة، أُنبِّش عن فهمِه، ورغمَ إذعانِي لهُ قوَّى قبضتَه حولَ ذِراعي، يُفرِغ فيَّ مكنوناتِه ما دامَ قادِرًا على ذلِك.
" أنتِ قُنبلةٌ موقوتةٌ خشيتُ أن أفكَّها فتنفجِر بي، نسيتُ لوهلةٍ أنَّ مآلها الانفِجار يومًا ما، وسهيتُ عن الأضرارِ الَّتي قد تُلحِقُها بي. "
" فلتفجِر إذًا، سأجوبُ الكونَ بأسرِه إن لزِم، وألمِلم أشتاتَك كُلَّها، ولتستقبِل الضَّرباتِ إن كانت مُحتَّمة، كُلُّ ما ستخلِّفه فيكَ هُو كدمة، تزول بعدَ أيَّامٍ معلومَة، أخشى عليكَ الألَم إن أنتَ انتَزعتني مِن قلبِك. "
اختَّل توازُن ثغرِه، لم يبدُ وأنَّه على قدرٍ مِن الثَّمالةِ بل في أتمِّ وعيِه.
" في البِدايةِ يبدو الجميعُ وأنَّهُم يستحقُّون التَّضحيات، حتَّى تُفاجَئي بِتضحيتِهم بكِ. "
جذَبني إليه فاصطَدمت بِه، وحينَما رفعتُ رأسِي أوشَك ثغري أن يُلثِّم ذقنَه.
" أعطِني سببًا واحِدًا يُحرِّضُني على إبقائِك. "
" لا أملِك ما أرهنُه لكَ سِوى أنا، ووقتي. "
باتَ المكُوثُ بينَ أسوارِ مُقلتيه مُهلِكًا، ما استَسغتُ التردُّد فيهِما. لم ألبِث وأن حرَّرتُ ذِراعي مِن ملكه، هرولتُ إلى المَطبخ، أطفأتُ الفُرنَ دونَ أن أسحَب الفطيرةَ مِنه، لن يرغَب في تذوُّقها على أيَّة حال، ثُمَّ إلى غُرفتنا حيثُ انهرتُ على السَّرير أدسُّ وجهِي بحضُنِ الوِسادَة لعلَّها تُواري انكِساراتي الجليَّة، أسدُّ المَعابِر أمامَ عبراتي لئلَّا تهاجِر إليَّ وتستوطِن بخديَّ اللَّذين تاقا لِما ينثُره عليهما مِن ورودِ حياء، لم أشأ أن أُبيِّنَ لهُ ضعفي حينَما عرَّاني مِن سعادَتي، الأصحُّ أن زمهريرَه اقتَحمَ ثيابِي وطعَن في صميمي.
أدركتُ أنَّ الحياة ما دسَّت صواعَ السَّعادة اللَّحظيَّة في رِحالي لُطفًا بي، بل لتُجرِّمني زُورًا وتزجَّني بينَ قُضبانِ الشَّجن لاحِقًا.
لم أتوقَّع الكثيرَ مُنذ البِداية خِشيةَ أن أخيب، علِمتُ أنَّه رجلٌ لا ضفافَ تحصر عقليَّته، يصبُّ مِن حيثُ لا أحتسِب، رجُلٌ يهوَى خطَّ الأقدارِ على الهامِش، كي لا تُدرِكها الأعيُن، لكنِّي وفي جميعِ الأحوالِ أنكسِر بيُسرٍ كالقشّ، إذ أقعُد إلى ضريحِ رغَباتٍ وأدَها فيَّ قبل أن تُتمَّ الشَّهقة الثانيَّة، وأبكيها بحُرقة كابنةٍ ربَّيتُها.
عقِبَ مِدرارٍ مِن الأفكارِ الآسِنة الَّتي ملأت بُحيراتِ صدري، غفوتُ على ذاتِ الوضعيَّة حتَّى هزَّت اليَقظةُ جفنيَّ صُبحًا، قبلَ أن يُبادِر مُنبِّهي بذلِك، ونظرتُ بجانِبي فما عثرتُ عليه، رجُل الكِبرياء ذاكَ يستَحيلُ أن يقرَبني ونحنُ مُتخاصِمان ولو أنَّه السَّبب، كُنت وما أفتأ مِفتاحَنا الوحيد، إن لم يتحرَّك ظلَّ في صُندوقِ البُعد.
أمامَ مِرآةِ الحمَّام تأمَّلتُ وجهِيَ المَبلول، حيثُ صفَّفتُ شعرِي القصير، بعد أن استَبدلتُ ملابِس الأمسِ المُريع بالزيِّ المَدرسيّ، افتَرضتُ أنَّه ربَّما لاذَ مِنِّي بالعَمل، لكنِّي ما إن وطأتُ غُرفةَ الجُلوسِ حتَّى أبصرتُه على الأريكَة بطلعةٍ كطلعةِ البارِحَة، فثِيابُه أسرى بالخِزانَة في غُرفتِه الَّتي اتَّخذتُ مِنها دارًا لأحزانِي، كان خاوِيًا مِن الوعي، خامِدَ المُحيَّى، سحنتُه النَّاعِسَة كتُحفةٍ مُقدَّسة، يدُه أسفَل خدِّه، فيما الأُخرى مخلوعةٌ تستَلقي على الطَّاوِلة، بصحبةِ مِنفضةٍ مُترعةٍ بأعقابِ السَّجائر، وزُجاجتيّ نبيذٍ خاوِيتين.
دُفعةٌ مِن خصلاتِه تسلَّلت تُخفي وجهَه بحِلكتِها، فإذا بأنامِلي تُزيحُها عنه، تُفسِح لي المَجال لاستِراقِ نظرة، وسرِقةِ قُبلة مِن ناصِيتِه... لاشكَّ وأنَّ حُبِّي لهُ مُتَّقدٌ يكوِي حتَّى الصَّخر الَّذِي تَرميني عيناه بِه في كُلِّ شِجار.
أرغَمني اقتِرابُ موعِد الدَّوامِ على مُفارقَة هذِه التُّحفَة البشريَّة النَّائِمَة، وترويضَ نفسي مِن أجلِ مُقابلةِ نُسختِه الدَّاكِنة حينَما أعود، وربَّما تنويرها بفِتنتي، فهُو الرَّجُل الَّذي لا يصمُد أمامِي مهما دعَّمه الكِبرياء!
في نِهايةِ الزُّقاقِ الَّذي ألِفت أن أسلُكَه اختِصارًا للزَّمن ارتَكنت سيَّارةُ دفعٍ رُباعيَّة سوداء، ترجَّل مِنها حُفنةُ رِجال يحجبونَ أعيُنهم بنظَّاراتٍ شمسيَّة. تخلَّل الارتِباكُ شِغافي، ومتُنَت عُقدةُ أنامِلي حولَ حِزاميّ حقيبَتي، توسَّلتُ ألَّا أكونَ المعنيَّة بوفودِهم، لابدَّ وأنَّ لبيكهيون كومةٌ مِن الأعداء، وقُربي مِنه خطرٌ عليّ.
ما كِدتُ أتجَاوزُ أوَّلهُم حتَّى زحفت قدمُه بخطوةٍ شمالًا جعلته مُوازِيًا لي، حيثُ قال ببرود:
" السيِّد بارك يريدُ رؤيتَكِ حالًا؟ "
وجَب قلبي وجبةً مُدويَّة تصدَّع لها كُلُّ جسدِي، بالكادِ استَرجع وظائِفه الحيويَّة، وأفرطتُ في الثَّرثَرة لعلِّي أتناسَى وَجلي.
" ومَن هُو السيِّد بارك هذا لأنصاعَ لأمرِه كأنِّي تابِعٌ مِن أتباعِه؟ أنتُم والسيَّارة تنمُّون على أنَّه رجلٌ ثريّ؟ "
مالَ رأسِي صوبَ كتِفي، سويًّا وعدستيَّ اللَّتين استقرَّتا على كتِفي.
" ثُمَّ ألا ترَى أنِّي على موعدٍ والمَدرسة؟ "
أدري أنَّ احتِمالَ فراري مِنهم يُعادِل العَدم، ولكنِّي تمسَّكتُ بحبلِ الأملِ المُهترِئ، وهممتُ بالانصِراف كأنِّي صاحبةُ خيار.
" أعذروني عليَّ الذَّهاب. "
ما عجِبتُ حينَما توطَّد كالحاجِز أمامِي.
" إمَّا أن تُرافقينا بالَّتي هِي أحسَن، وإلَّا فسنضطرّ لاستِخدامِ القُوَّة. "
رغمَ الخوفِ الَّذي عانَق أضلُعي، ارتأيتُ أن أماطِل وأتحذلق، لعلَّ الفَرج يُوافيني.
" أتطلبونَ إذنًا لاختِطافي الآن؟ "
بإيماءةٍ وحيدةٍ مِن رأسِه تزحزح تابِعاهُ مِن موقعيهِما، وحاصَراني، كُلٌّ مِنهما يتأبَّطُ ذراعًا مِن ذراعيّ، تخبَّطت نظراتي بينهُما بفزَع واهتزَّ صوتي.
" ابتَعِدا عنِّي، أنتُم تجهلون مَن أكون، وتحتَ أيِّ سقفٍ أقبَع، بيكهيون سيردُّ لكُم الصَّاع أصواعًا مُضاعفة، دعوني. "
مُذ أنِّي مُجرَّد امرأةٍ لا حولَ لها ولا قُوَّة، وقعَ ثغري فريسةً لمِنديلٍ مُشبعٍ بالمُخدِّر، كانت رائِحتُه قويّةً تُشبِه إلى حدٍّ كبيرٍ رائِحة المُعقِّمات، شيئًا فشيئًا جافانِي الوعي، فثقلَ جفنايَ كأنَّهُما يحمِلانِ على عاتِقهما أتعابًا مريرَة، واستَثقلت قدمايَ وزنَ جسدي، وبينَ فجَّةِ شفتيَّ المُتشبِّثتين بالصَّمتِ رتَّلتُ اسمَه رغمَ أنَّه لن يصبُوَه أبدًا.
كأنِّي هويتُ في فجوة لا قاعَ لَها لأمدٍ، وإذ اصطَدمتُ بالقاعِ وعيتُ بأنَّه الواقِع، فتحتُ عينيَّ في حُجرةٍ وهَّاجَة، يُخامر الرُقيُّ كافَّة رُبوعِها، انطِلاقًا مِن ثُريَّة الكريستال أعلاي، إلى الأريكَة الجِلديَّة الَّتي أدركتُ توًّا أنِّي مُستلقيةٌ عليها، قوَّمتُ ظهري بفزعٍ حينَما جرَت في رأسي ذِكرياتٌ مِن قُبيلِ انقِطاعِ النُّور عن بصري. تفحَّصتُ يديَّ وقدميَّ الخالِيتين مِن أيِّ أثرٍ لقيد، وبينَما أنا أُرمِّم جوارِحي المُرتاعَة وهواجِسي، انسلَّ مِن البابِ المُوارَب كهلٌ أشيَب، اكتَست الأيَّامُ مُحيَّاه حتَّى رثَّ وبلي، على شِفاهِه الذَّاوِية بسمةٌ عاوية.
" أرى أنَّ الجميلة النَّائِمة قد استيقَظت. "
انتَفضتُ مِن الأريكَة بجزعٍ سعيتُ لطمرِه كي لا يظنَّ أنِّي هشَّة، لكنِّي ما ردعتُ قدمِي حينَما تقهقَرت إلى الوَراء، ولا صوتِي حينَما تلجلج.
" مَن أنتَ؟ وما الَّذي تُريدُه مِنِّي؟ أتدري أنَّ ما جعلتَ رِجالَك يقترِفونَه يُسمَّى اختِطافًا؟ لا تظنَّنَّ أنِّي قد أسكُت على هذا الانتِهاك، سأبلِغ عنكَ. "
تهافَتت خُطواتُه ناحِيتي بوتيرةٍ مُتَّزِنة، دونَ أن يمسَح عن فمِه فُتاتَ السُّخرية، فيما كافحتُ لأتمسَّك بأرضِي، مُتسائِلةً عمَّ جعلَه يختطِفُني في وضحِ النَّهار لأجلِه، وما ينوي إلحاقَه بي، أشمُّ رائِحة الخُبثِ تنبعِثُ مِنه.
" على رِسلك يا صغيرَة، ستَعرِفين من أكون، وحينَما تعرِفينَ من أكون ستُدركين مِن تِلقاءِ نفسكِ أنَّ البلاغ سيرتدُّ عليكِ بالهلاك. "
ما إن استقرَّ كُثبَ مرتعِ قدميَّ حتَّى استَطرد بنبرةٍ يحفُّها الغُموض، بينَما يُعاينُ آفاقي كأنّه يمتلِك الرُّخصَة لذلِك.
" خِلتُ أنِّي سأُقابِل أنثى حسناءَ لم يسبِق وأن اقتَحمت مثيلتُها عينيَّ مُذ خِلقت، تقتدِر على سُموِّ مكانةٍ بقلب أيِّ رجلٍ، حتَّى وإن كانَ معمورًا، ولكن ها أنا ذا أُشارِف على مُراهِقة، أمِن الطبيعيّ أن أشعُر بالخَيبة الآن؟ "
ما لبِث وأن أماطَ عدستيه عنِّي حيثُ طرَح ضِحكةً هازِئة.
" أفقَد بيكهيون صوابَه بمُواعَدة فتاةٍ في الثَّانوية؟ لِم ذوقُه يتخبَّط في الحضيض دائِمًا؟ "
اسمُ بيكهيون لقفني مِن أفكاري الفيَّاضة، كطوقٍ مِن الغَرابةِ معقوفًا على شاكِلة علامةِ استِفهامٍ، لابدَّ وأن أزيلَها.
بتلقائيَّة تعانَق حاجبيّ، لفرطِ الاكتِظاظ أهملتُ التَّفاصيل وسعيتُ إلى اللبِّ بثبات، ورغمَ أنَّ الذُّعرَ يطحَنُ صدري دونَما شفقة، انبَثق صوتِي سليمًا.
" وما شأنُكَ أنتَ لتُقيِّم طبيعَة المرأةِ الَّتي اصطَفى أن يُواعِدها مِلء إرادتِه؟ "
خيَّم التبرُّم على سيمائه، قبل أن يُفحِمَني بردِّه.
" أنا والِد زوجتِه، ولي شأنٌ بكُلِّ ما يفعلُه ويمسُّ ابنتِي بضرّ. "
كانَ عليَّ أن أسألَ عن علاقتِهما أوَّلًا، كِلانا في ورطةٍ الآن!
إذًا فأنا أقِف قُبالَة قائِد أركانِ الجيشِ الكوريِّ الأوَّل، ولكنِّي لا أنوي تزييفَ الاحتِرامِ له، كما لو أنِّي أجهلُ هويَّته، ليسَ على الشَّعبِ حِفظ هيئاتِ كوادِر الدَّولةِ عن ظهرِ قلب، فمَن ذا الَّذي قد يخالُ أنَّه سيُصادِف أحدهم؟
قاطعَ تأمُّلي المُخضَّب بالسّكوت حينَما اضطَجع على الأريكَة باستِرخاء، ثُمَّ ظفَر إحدَى قدميه بالأُخرى كأنَّه في لِقاءِ عمل.
" مُذ أنَّ التَّفاوُض مع بيكهيون كانَ عقيمًا حتَّى أنَّه قامَ بتهديدي، ظننتُ انَّك ربَّما أشدُّ مِنه وعيًا، ما تزالينَ صغيرةً وأمامَك مساحةٌ شاسِعة لتزرعيها بذكرياتٍ سعيدَة، لن تناليها إن قرَّرت البقاءَ عدوَّة لي بالطَّبع، أحضرتُكِ إلى هُنا. "
بعفويَّةٍ قهقهت.
" إذًا فبعدَما باءَت كُلُّ مكائِدها بالفَشل جاءَتك باكيةً يا ذا النُّفوذ، تشكِي أنَّ امرأةً ما أسرَت قلبَ زوجِها، وأنتَ هُنا لتُحقِّق العَدالةِ لها؟ "
بما أنَّ جهِلي صدَّع الموقِف هذا، ما وجدتُ ضيرًا في هدمِه بعدمِ اكتِراثي، حيثُ ثنيتُ ذراعيَّ مُنتصَف صدري بغُرور، أراهِن بأنفاسِي جمعاءَ أنَّ الجِنرال سيفخَر بي، إن نجوتُ مِن هُنا على قيدِ الحياة ورويتُ لهُ ما أنجزتُه طبعًا!
" أنا مُدلَّلة الجِنرال، ليسَ هُناك طامةٌ قادِرة على تبديل حرفٍ مِمَّا يملأ سُطورنا. "
" كَم أنتِ وقِحة! "
لمحتُ فكَّه يرتجِف غيظًا، ولكنَّه كظَمه سريعًا.
" سأدخُل بالمَوضوعِ مُباشَرة. "
استلَّ مِن جيبِ سُترتِه الباطنِّي ظرفًا مُنتفِخًا، وسِعني تكهُّن محتَواه، ورماهُ على الطَّاوِلة قُبالَتي بنزقٍ كأنِّي أدنَى مِنه شأنًا.
" بالدَّاخِل شيكٌ لا يُمكِن لعقلِك الَّذي عاشَ على الفقرِ تخيُّل قيمتِه، وجوازُ سفر، تخلَّي عن بيكهيون وسافِري إلى نيويورك، هُناكَ بانتِظارِك حياةُ رغدة، شقَّة، سيَّارة، ومنحةُ بجامِعة أوكسفورد، جميعُ الأبوابُ ستُواربُ أمامَك. "
لمحضِ الفُضولِ حملتُ الظَّرفَ وألقيتُ نظرةً على ما بجوفِه، ثُمَّ قهقهت.
" أتُساوِم حُبِّي بمتاعِ الدُّنيا؟ "
أفلتُّه فتلقَّفته الطَّاوِلة الأنيقَة، ورمقتُه بدونيَّة.
" لن أُبادِله حتَّى وإن وضَعت الفِردوسَ عِند قدميّ. "
عبرتُ جِسر المسافَة بيني وبينَ الأريكَة حيثُ تركتُ حقيبَتي المَدرسيَّة، ثُمَّ التَقطتُها مِن حِزامِها، أتصنَّع الشَّجاعَة.
" ابنتُكَ الَّتي أتتكَ مُنتَحِبة هِي مَن أسقَطته مِن يديها، ولن تستردَّه ما دُمت على قيدِ الحياة، لا أحدَ مِنَّا سيقبلُ الانفِصالَ مهما بلَغت العاقِبة مِن السُّوء، سأتظاهر بأنِّي لم أسمَع مِنك شيئًا، ولن أُخبِره أيضًا. "
استقَام بانفِعالٍ وكأنَّ الغَضبَ وخَزه.
" لستِ في موقفٍ يُخوِّلكِ إلقاءَ المواعِظ يا هذِه، ما الَّذي تمتَلكينَه لتتحدَّثي بكُلِّ هذا الفَخر؟ لم أشأ انتِهاجَ أساليبَ مُلتويَة ولكنَّك ما تركتِ لي خيارًا آخر، لن تخرُجي مِن هُنا على قيدِ الحياة، سأُبادِله بحياتِك. "
لا أدري مِن أتتني الجُرأَة لأتحدَّاه في مِثل هذا الموقِف الصَّعب.
" سنَرى. "
" أيُّها الرِّجال، أمسكوها. "
سدَّ الرِّجالِ الَّذينَ قاموا باختِطافي صباحَ هذا اليوم المنفذَ الوحيدَ أمامي... أجهَل حتَّى ما السَّاعةُ الآن، وما إذا كان الجِنرال قد تفطَّن إلى غِيابي، ماذا لو ظنَّ أنِّي فررتُ مِن المنزِل مرَّة ثانية؟ سيكرهُني كثيرًا!
أنا خائِفة، أريدُ بيكهيون، نحنُ مُتخاصِمان، دعوني أصالِحه على الأقلّ!
-
لطالَما آمنتُ أنَّ التَّضحيةَ لأجلِ عاطِفةٍ محبوسةٍ في قفصٍ عظميّ، لن تمتدَّ خارِجَه لتزرَع النَّفع، أو تجنِي ما يُعادِل نفقَتها، قد تضمحلُّ في يومٍ مِن الأيَّام بغتة، وقد تنبُع مِن عينٍ أُخرى وتُجافيني وأنا ظمآن، ضربٌ مِن ضُروبِ الجُنون، فمَن ذا الَّذي يوثِّقُ لي أنَّ المُقابِل يستحقُّ الخَسارة، وأنَّ الغَد سيَكون مُزهِرًا كالأمس؟
لم تكُن علامَة الاستِفهامِ مُتعلِّقَة بما إذا كان عليَّ التَّضحية بمنصِبي، أو شيءٍ مِن نُفوذِي لأجلِها، بل لماذا عليَّ التَّضحيةُ لأكسبَها بصفِّي مُؤبَّدًا؟ مَن هِي بالنِّسبةِ لي؟ وهل حقًّا لا يُمكِنُني أن أستَغنِيَ عنها لأبادِلها بشطرٍ مِمَّا ملكت؟ فكَّرتُ وفكَّرت وما توصَّلتُ إلى نتيجةٍ تُرضيني، أكادُ أضعُ حياتِي على المحكِّ لأجلِ مغنمٍ لن يُساوِيَ شيئًا مِمَّا يلزِمني صرفُه في سبيلِه، ثُمَّ أنَّ بإمكانِه الانقِلابُ عليّ لاحِقًا.
ما كانت أولويَّاتي يومًا تقتصِر على امرأة، حِرصتُ أشدَّ الحِرص ألَّا تحبِوَ أيُّهنَّ إلى فُؤادي وتقرعَه كُلَّما ألَّفت الصُّدَف بينَنا، ولكنَّها اليومَ كُلُّ ما حُبِر على قائِمةِ ساعَاتي الطَّويلة، أشتَهي أن أؤدِّيَها مِرارًا وتِكرارًا دونَما كَلل.
أدري أيُّ الخيارين ينبَغي أن أستنِد إليه، لكن لي كرجلٍ رأيٌ آخر، ربَّما هُو التحدِّي الَّذي أشعله فيَّ تهديدُ قائِد الفَريقِ لأصونَ كلاهُما، مكانَتي وفتاتي، وأمرِّغَ وجهَه في وحلِ الإحباط، وربَّما هُو مجرَّد عُذرٍ مِن أعذاري لأدثِّر حقيقَة مشاعِري.
واصلتُ الفِرار مِن الحقيقَة الَّتي رفضتُ تقبُّلها، حقيقةُ أنِّي غدوتُ مُحتلًّا مِن قبل امرأة، حتَّى رشَّت الحياةُ عليَّ نواكِبها، وأدركتُ أنَّها الوحيدَة الَّتي تعنيني. أحيانًا نفقِد الضِّياء، ليكشِف لنَا اللَّيلُ ما خِفيَ عن أعيُنِنا نهارًا بينَما التَّفاصيلُ مزدحمةٌ تُشتِّت الأبصار؛ إذ قيلَ لي مساءً أنَّها تغيَّبت عن المَدرسةِ طوالَ اليوم، رغمَ أنَّها اصطَحبت كافَّة أغراضِها وإيَّاها، هِي تخشى مِن غضَبي، يستَحيلُ أن تخزَه بالتمرُّدِ!
حينَما قرنتُ الأحداث ببعضِها اهتَديتُ إلى أنَّها في خطر، الوحيدُ القادِر على العَبث بمُمتَلكاتٍ تُحيطُ بِها أشواكِي هُو السيِّد بارك... لقد جاءَ إلى مكتَبي بالأمس يصِف لي مَدى خيبةِ أملِه بي، رأيتُ الحِقد جاثِمًا في مُقلتيه، لظنِّه بأنِّي ألحقتُ الأذيَّة بقلبِ ابنتِه الغالِيَة. بطريقةٍ غيرِ مُباشِرة هدَّدني، مُحافِظًا على هُدوئِه.
" كان بوسعي التصرُّف مِن وراء ظهرِك والإطاحَة بِك، ولكن مِن أجلِ الماضي الحافِل الَّذي يجمعُنا، قرَّرتُ أن أُعطِيكَ فُرصةً أُخرى، هذِه أوَّلُ مرَّة تنحرِف فيها عن مسارِك، جميعُ الرِّجال مُعرَّضون للخطأ. "
حينَها نهضتُ عن الكُرسيّ، ودمَّرتُ ابتِسامَته قبل أن يُشيِّدها.
" ومنَ قالَ أنِّي أنتظِر مِنك فُرصة؟ "
دنوتُ مِن مكانِ وقوفِه مُحاصِرًا وجهَه الَّذي انطفأت فيه الثِّقَة ببصري، صحيحٌ أنَّ انبِعاثَها بحياتِي قد يُؤذيني، ولكِنَّها فتحتَ لي المَجال للانتِفاض أخيرًا.
" قوانا مُتكافِئة، رغمَ أنَّك أعلى مِنِّي منصِبًا، لذلِك إن حاوَلت التدخُّل في حياتِي بأيَّة طريقة، فسأتدخَّل في حياتِك، معِي ما مِن شأنِه أن يطرحَك بالحضيض، حضرَة القائِد. "
جحَظت عيناهُ المُحاطَتان بالتَّجاعيد.
" أتُهدِّدُني؟ "
تكفَّل صمتِي بإجابتِه عن سُؤالِه، ثُمَّ ما لبِث وأن جرَّ أذيالَ غضبِه، وغادَر. كُنت واثِقًا أنَّه لن يدَعني أذهبُ بسهولَة، لاسيَما وأنَّ زوجَتي مُتعلقَّة بي، لن يسكُتَ على عِصياني، وهُو السَّببُ الَّذي جعلَني أنفجِر بميني.
ما أزال بالثَّكنة، قدَمايَ تركُلان الأرضيَّة بجموح، وكفِّي تُثبِّتُ الهاتِف بأذُني، اتَّصلتُ بِبارك فورًا، وعلى وجهِي يُقيمُ الاستِنكار، مُرهِبًا كُلَّ مَن مرَّ بجواري وانحنَى لي احتِرامًا، لم يردَّ عليّ وكأنَّه يتعمَّدُ بريَ أعصابِي، وإن تمزَّقَت فسيكون الخاسِر الوحيد... ما انفكَّت أنامِلي تقرع رقمِه كُلَّما جاهَر صوتُ المسجِّلةِ بعَدم إمكانيَّة الوُصولِ إليه الآن، وبينَما أنا مُتَّجهٌ نحوَ سَيارتي، وردَتني رِسالةٌ مِنه تحمِل عُنوانًا ما.
( تعال إلى هذا الموقِع بمُفردِك، إن أخبرَت أحدًا فلن يسَعني أن أضمَن لكَ سلامَة الفتاة، لا تتهوَّر. )
قبضتُ على الهاتِف بقُوَّة، أُنفِّسُ عن العواطِف المُختلِطة الَّتي غمرَتني، لقد قتَلته في عقلي بألفِ طريقَة، تدمى لها القُلوب... كان مرفئي التَّالي ملهى القمر الدَّامي، دخلتُه فإذا بالإنارة مُخمليَّة غاوِية، ومشغِّلاتُ الموسيقى صامِته، بمِثل هذا الوقتِ لا يتَواجَد به أحدٌ سِوى النَّادِلون المُتكفِّلون بتنظيفِه، وتجهيزِه مِن أجلِ ليلةٍ أُخرى، إضافةً إلى سيهون القاعِد إلى البار، يحتَسي كوكتيلًا مِن صُنعِ يديه.
تخطَّيتُ الرَّسميَّات، ووضعتُه في صُلبِ الموضوع، قبل أن يدرِيَ عن حُضوري حتَّى.
" سأستَعيرُ عصابةً مِن رجالِك، هُناك مُهمَّة انتِحاريَّة لا مفرَّ لي مِنها قيدَ الانتِظار. "
أحالَ قِبلَته إليَّ، بحاجِبين ناشزين عن سُلَّميهما... كُنت قد مثلتُ بجِوارِه، وبسطتُ يدي على سطحِ البار.
" مهمَّة انتِحاريَّة؟ "
سُرعانَ ما تدارَك بُرودَه المَعهودَ، وحرَّكَ ساقَ الكأسِ ببطء، بينَما موجاتُه الفُضوليَّة تلطِم مُحيَّاي القَلِق برِفق.
" لستَ رجُلًا قد يستَغني عن حياتِه مهمَا بلَغ المُقابِل مِن ثمَن، فما الَّذي جرى؟ "
انجَذبت أنامِلي إلى عُقر يديَّ زحفًا، حتَّى متُنَت قبضتيَّ اللَّتين تسكُنهما أطيافُ غيظٍ تبتَغي تلبُّسَ وجهِه المُجعَّد.
" المدعوّ بارك مسَّ ما لا يُفتَرض أن تمتدَّ يداهُ القذِرتانِ عليه مِن بعدِ أن فحَّ تهديداتِه الواهيةَ على مسامِعي، يُخبِرني أنَّها ليسَت بفارِغة، وهُو الآن يلعَب معِي لُعبة الاختِباء، ما يزالُ يجهلُ مَن يكون بيون بيكهيون. "
بعدَ أن نفى خارِجَه زفرةً مُتحسِّرةً، نصَب سُرادِقه على أراضيّ.
" كُنت واثِقًا أنَّه لن يظلَّ ساكِنًا إذا ما علِم عمَّا تفعلُه مِن وراءِ ظهرِه، وهِي المُتضرِّرة الوحيدَة مِن المُخاطَرة، لِماذا تأبى التخلِّيَ عنها؟ "
أكرَه أن يتحدَّثُ بنُضجٍ هكذَا، لطالَما كان الأخرَق بينَنا، إذ بلغَ في اللَّامُبالاة سماءً لن أُضاهِيها، ما يجعلُني حكيمًا مُقارنةً بِه، رغمَ جميعِ مُغامَراتي اللَّيليَّة بينَ أحواضِ النِّساء... على الأقلّ هِي مُخاطَراتٌ غريزيَّة!
حينَما تخلَّف الكلِم عن ميعادِه أقعَد إلى طاوِلة الحديثِ مزيدًا مِن قومِه مُنذِرًا.
" لا أصدِّق أنَّك تُحبُّها إلى درجةِ إشعالِ العداوةِ بينَك وبينَ رجلٍ لن يعصى عليهِ التخلُّص مِنك، أأنتَ في كامِل وعيك؟ "
" ليسَت مسألةَ حبّ، بل مُجرَّد عِناد، كُلّ ما أُنهَى عنه يزدانُ في عينيّ. "
أرسلتُ لهُ لقطةَ الشَّاشَة عن رِسالةِ قائِد الفريقِ السَّابِقة، مُشارِكًا وإيَّاه خِطَّتي في النَّجاة.
" فلتُرسِلهم إلى هذا الموقِع بعدَ رُبعِ ساعةٍ مِن خُروجي، المسألةُ جادَّة لا تحتمِل عبثَك سيهون. "
ناظرتُه مُحذِّرًا، مُذ أنَّ أعناقَنا بيديه، هُو العابِث الَّذي لا ينفكُّ يذرُ الألغَام هُنا وهُناك لمحضِ المَرح، ما أزال أذكُر كيفَ وشى لمينِّي عن حفلةِ ميلادِي، رغبةً في أن يشهَد على ردَّة فِعلي، لأنَّه درَى بأنِّي أُخفِي امرأةً ما.
" ثِق بي. "
كُلُّ نفسٍ ثمين، لا نُدرِك قيمَته إلَّا ساعَة الاحتِضار، لقد اعتَدتُ أن أتنفَّسَ شخصًا، ظننتُه إكسيرَ الخُلود، ولكنَّه حرَمني مِنه، إذ ارتَفعت سومَته عليَّ حينَما سقطت، وبِتُّ أتوسَّل خصمًا، لذلِك عمَدتُ على اختِزانِ أنفاسي، إلى مضيقٍ يُرغِمني على استِهلاكِها، مِن أجلِي دونَ سِواي. ما كان إزهاقُ الأنفاسِ هباءً يومًا مِن شِيَمي، لاسيما وإن لم ينصبّ النَّفعُ بجيبي، فمُنذ أن تعلَّمتُ حِياكَة الأنانيَّة ثخينةً لئلَّا تُمزِّقها عواطِفي، مهما بلغَت حرارةُ المواقِف، نسيتُ كيفَ أخلَعُها لأقِيَ غيري مِن زمهريرَ المَصائِب.
أنا الَّذي ما أهبُّ إلَّا لأعيثَ فسادًا بأفئِدةِ أندادي، اليومَ أهبُّ مِن أجلِها كالرِّيح، أنا الَّذي استَكبرتُ النُّزول عن قِمَّتي لأجلِ أيٍّ كان، بالكادِ أصدِّق أنِّي الآن أُسابِق الزَّمن لأُجيرِها مِن مصيرِها، مصيرٌ ارتَكنَ إلى جانِبها بسبِبي.
بعدَ نِصفِ ساعةٍ مِن القِيادةِ، صبوتُ ساحة الخُردة المُظلِمة؛ المَكانُ المُتَّفقُ عليهِ، كانت هياكِل السيَّارات المهضومة مُنتشرةً بينَ ربوعِها، وأخرى مُجزَّئة إلى قطعٍ مُختلِفة تغمُر الأرض. حينَما لم تعُد سيَّارتي قادِرةً على الإقدام، حشوتُ مُسدَّسي بالطَّلقاتِ ودسستُه في الجَّيبِ الباطِنيّ لستُرتي، ثُمَّ واصلتُ على الأقدامِ، أتلفَّت ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشّمال، خشيةَ أن أُغتالَ مِن دُبر. سُرعان ما أطَّر جفنايَ برميلين حديديَّين، تتراقصُ ألسِنةُ اللَّهبِ على قِمَّتيهما، هدياني إلى مهادي؛ ألا وهُو ورشةً خاوية إلَّا مِن أدواتِ التَّصليح، وقطِع الغَيار، يحرُس مدخلها صفَّانِ مِن الرِّجال المُسلَّحين.
مِن بينِهما طلَع غاياتِي، الرَّجُل الَّذي أتمنَّى لو أمزِّقَه إربًا إربا، إذ تطاولت يداهُ على ما لا حقَّ له بِه، واعتَرض طريقي يبتسِم لي باستِخفاف.
" دقيقٌ في مواعيدِك كالأزَل. "
كُلَّما دنوتُ مِنه ازدَادت الرَّائِحةُ الكريهَة قُوَّة، أدركتُ أنَّها صادِرةٌ عن العَجلتين المُحتَرِقتين بجوفِ البرميلين... بسَط بارك كفَّه على الفُلكِ قُبالَتي يحُثُّني على إخراجِ سِلاحِي، وما توانيتُ في تهجيرِه مِن بِلادِه، وإلقائِه على الأرض بجفوة.
" لقد أتيتُ بمُفرَدي كما أمَرت، أينَ هِي؟ "
" فتِّشه. "
أومأ ناحِيتِي بوجهٍ يخلو مِن أيِّ أثرٍ للوديَّة، فانشقَّ أحدُ الرِّجال الَّذينَ يتَّشحونَ السَّوادَ عن الطَّابور، تحسَّس ستُرتي بيديه، ثُمَّ فنَّد شكَّه في أنِّي أوارِي ورقتِي الرَّابِحة هُناك، حينَما خابَت عمليةُ البحثِ استَكانَ بالمُوازاةِ وسيِّدِه.
" هُو آمِن. "
بمُجرَّد ما تبيَّن بارك أنِّي أعزلُ في مَرمَى الوَجل، قال:
" فلتُسلِّمني الوَثائِق الَّتي تُدينُني بالفَسادِ أوَّلًا، ثُمَّ سيسعُكَ رؤيةُ الفتاة... لم أشكَّ يومًا أنَّك تحفِر لي مِن وراءِ ظهري، لقد خيَّبتَ أملي. "
دسستُ يديَّ بجيبيّ، وما ردَعني غِيابُ الدُّروعِ عن جسَدي مِن الردِّ عليهِ بوقاحَة، وفاهٍ تفيضُ السُّخريةُ مِن أحدِ طرفيه، رغمَ أنَّه قد يُكلِّفُني خسائِر طائِلة، ليسَ لِسانِي مَن ينعقِد حولَ بكرةِ الصَّمتِ في مُجادلاتٍ رُجوليَّة كهذِه.
" لم أكُ أحفِر لكَ، بل كُنت أصنَع لنِجاتي طوقًا، مُذ أنِّي على عداوةٍ والثِّقة، البَشرُ زائِلون حتَّى ولو مازالوا، حضرَة الفريقِ الأوَّل. "
استَخرجتُ يدِيَ اليُسرَى مِن مخبئِها، ثُمَّ قرَّبتُ بينَ سبَّابَتِها وإبهامِها حتَّى ما ظلَّ بينَهُما سِوى أنمُلةٌ ضئيلةٌ تُؤيِّد مقَالي.
" فلتنظُر، مُشكلةٌ طفيفةٌ جعَلتك تنقلِب عليَّ، وتعتَلي مِنبرَ التَّهديد. "
" تدرِي أنِّي ما كُنتُ لأفرِّط فيما بينَنا لولا أنَّك آذيتَ فلذةَ كبِدي، لأنَّك الوحيدُ الَّذي يسعُني الاعتِمادُ عليهِ دونَ أن أخشى مِن حِولٍ في النَّتيجَة، ما تزالُ لديكَ فُرصةٌ لكسبِ ودِّي، دع تِلك الصبيَّة الَّتي لن تعودَ عليكَ إلَّا بالعارِ، وصالِحها، بابِي مفتوحٌ أمامَك لو هِي رضيت عنك... وأشكّ في أنَّها ستَنبُذك. "
أنزَل يدَه على كتِفي كأنَّه يُحاوِل أن يُميلَني إلى الاستِقرار الكامِن في مُوالاتِه، ولكنَّ رغبَتي المُميتَة بطِفلة منَعتني من السُّقوط.
" الفَتاة أوَّلًا. "
برَم شفتيه باستِنكارٍ قبلَ أن يتَناءَى عن طريقي ويسير نحوَ الممرِّ الَّذي يُشكِّله رِجالُه، لحِقتُ بِه، وما إن توسَّطتُهم حتَّى لمحتُها في قفا الغُرفةِ مُقيَّدةً إلى كُرسيٍّ مِن الخشبِ بحبالٍ متينة، وعلى فمِها شريطٌ لاصقٌ يحولُ بينَها وبينَ الكَلام، استَذكرتُ لحظَتها يومَ قيَّدتُها بالسيَّارةِ عِقابًا على مُشاغبتِها، يُمكِنُني تخيُّل ما فعلته بِهم.
تخبَّطت ميني بينَ أحضانِ الكُرسيِّ تبتغِي الانفِلاتَ مِنه، رغمَ عجزِها. حقيقةُ أنَّ يدًا غيرَ يدي امتدَّت إليها، وعينٌ غير عيني داهَمت ما لم تحجُبه ثِيابُها، أضرَمت فتيلَ حِنقي، ولكنَّه ما اكتَفى بإضاءتي بل ألهَبني.
" دعها تذهَب، ولنتحدَّث رجُلًا إلى رجل، أشكُّ في أنَّك تستعرِض عضلاتِ نفوذِك لتتستَّر على قصورِ بدنِك، ذلِك إهانةٌ بحقِّك. "
قهقه بتهكُّم.
" ألستَ تستعرِضُ عضلاتِ لسانِك، لعلمِك أنَّ ما لبدنِك المُكنةَ على دحرِ رِجالي؟ "
يجهَل أنِّي أحاوِل كسبَ المزيدِ مِن الوقت لأوباشِ سيهون، راجِيًا أنَّه لن يخذُلني. أنا رجُل الخُطط، لطالَما تخلَّعتُ على طرقٍ مُعبَّدةٍ محبوكَة، ما سبَق وأن مشيتُ على جسرٍ مهزوزٍ يتربّصُ بِه الانقِطاع مِن كُلِّ صوب، مُعتمِدًا على الحظّ، كاليوم!
" في الحقيقةِ لن يُفلِت أحدُكما مِن هُنا كامِلًا، ستُعاقَبانِ على الإثمِ المُشتَركِ الَّذي داومتُما عليه، ووحدكُما المُلامانِ على ما سيحلُّ بِكما. "
حينَما أطرقَ برأسِه جثوتُ رغمًا عنِّي مُتوعِّدًا الجبانُ الَّذي أردانِي مِن وراءِ ظهرِي بالهَلاك، ما إن تتغمَّد أنامِلي المُسدَّسَ ثانيةً.
تبِعت نظراتِي الحقودَة بارك وهُو ينحنِي قُبالَتي مُحتفِلًا بانتِصارِه عليّ.
" فلتذكُر كُلَّما لكزَك النَّدم أنَّك الَّذي طعنتَ نفسَك بنفسِك، وأنَّك مَن دفعَتها مِن صهوةِ الجاهِ إلى قعرِ الذلّ لأجلِ امرأة. "
وقف، ثُمّ ألقى تعليماتِه بنشوة.
" فلتُعذِّبوها أمامَ ناظِريه، عسى أن يستَفيق مِن الوهمِ الَّذي هُو فيه. "
قبل أن تنتهِك أيُّ ذراعٍ حُرمةَ جسَدها وتُراكِم على نقَمي نقمًا أجلَّ مِنه، ولَج أحدُ رِجالِه إلى الوَرشة بخطواتٍ مَذعورة.
" سيِّدي هُناكَ مُشكِلة، رِجالُ سيهون يُطوِّقون الوَرشة. "
حدَجني العجوزُ بنظرةٍ مُتوعِّدَة، ثُمَّ أخلى الورشَة، ليعتنِي رِجالُه بهذِه الأزمَة. سحَبتُ قدَم الرَّجُل الَّذي كانَ يقِف خلفي حتَّى سقَط وأسقَط المُسدَّس، رفعتُه مِن مضجِعه، ووجَّهته نحوَه، فإذا بِه جثّة هامِدة على الأرض، وبينَما العِصابتان تتبادَلان إطلاقَ النَّارِ بحفاوةٍ هرعَتُ إليها هِي الَّتي ناظَرتني بعينين دامِعتين، وأزلتُ الشَّريطَ اللَّاصِقَ عن ثغرِها.
" أجاشِّي، لِماذا أتيتَ إلى هُنا؟ سيَقتلونَك. "
تجاهلتُ الهُراءَ الَّذي هذَت بِه بسبب ضيقِ الوقت، وضعتُ المُسدَّس على فخِذها، وشَرعتُ في فكِّ الحِبالَ الَّتي تُقيِّدُها بالكُرسيّ.
حينَما حرَّرتُ معصميها مِن قيدِهما الَّذي ترَك احمِرارًا طفيفًا، احتَشدت أنامِلها النَّحيلةُ حولَ ذقنِي، وترقرقت العبَراتُ في مُقلتيها السَّوداوين.
" أتَدري ما الأبشَع مِن كُلِّ ما شهِدت عليهِ عينايَ اليوم؟ "
لم يكُن الموقِف مُلائِمًا لأيِّ توانٍ، غيرَ أنَّها قضَمت مِن قامَتي إذ شدَّتني نحوَ ناصِيتِها مِن تلابيبِ قميصي الحالِك.
" خوفِي أنَّك لن تُهِلَّ فيهِما ثانيةً. "
اختِلاسُ النَّظر مِن بوَّابتيها اللَّتينِ تُضمِرانِ جِنانًا فاخِرةً، أفقَدني تَركيزي لوهلة، اشتَهيتُ التنزُّه فيهِما، وملأ سِلالِي بِما يسدُّ سغَبي لَها، هِي محضُ ساعاتٍ نفَخ فيها القلقُ سُمومَه ففاقَت في سُلَّم الاهتِمام سِنين مُتتابِعة.
طلَعت ابتِسامةٌ فاتِرةٌ مِن ثغرِها، بيَّنت نضديِّ أسنانِها، ولكنَّها غربت قُبيلَ الميعادِ، حينَما رصدَ بصرُها شرًّا يتربَّصُ بِنا ذاتَ اليمين.
" انتَبه. "
بحركةٍ خاطِفةٍ انتَشلت المُسدَّس مِن فخِذها، وأطلَقت النَّارَ على الرَّجُل دونَ تردُّد، ثُمَّ كمَّمت فمَها بكفِّها في دهشةٍ مِن نفسِها.
" هل مات؟ "
لم أظنَّ أن تعليمَها التَّصويبَ قد يدرُّ ثِمارَه في وقتٍ قريب. أخذتُ المُسدَّس مِنَّا، وضيَّقتُ أنامِلي حولَ يدِها مُتغافِلًا عمَّا قد يُصيبُها مِن ألم، يكفِي أنَّ استِهتارَها يفتك بأعصابِي السَّقيمَة.
" ليسَ الوقتُ مُناسِبًا لانفِعالاتِك الدراميَّة. "
ما انقَطعت عن الثَّرثَرة حتَّى ونحنُ نسيرُ بينَ الجُثَثِ، والرَّصاصات الطَّائِشة.
" أنتَ مدينٌ لي بحَياتِك، بعبارةٍ أُخرى أنتَ ملكي مِن الآن فصاعِدًا، كُلَّما وسوسَ لكَ إبليس بتَركي مِن أجلِ أيِّ امرأةٍ كانت تذكَّر أنِّي السَّبب في تنفُّسِك حتَّى الآن. "
تريَّثتُ، وعطفت رأسِي نحوَها.
" اخرَسي. "
كُنت أصدُّ عنها خدع الظَّلام بظهري، إذ منَحته لها دِرعًا، أقيها مِن أيَّة غارةٍ مُباغتةٍ ما هِي بندٍّ لاحتِوائِها، بخُطواتٍ مُتعثِّرةٍ وأنفاسٍ مُتلعثمةٍ ما استَوت على السلَّمِ قطّ. كُلُّ همِّي أن نبرَح بُؤرَة الهلاكِ هذِه على قيدِ الحيَاة.
ها نحنُ ذا نُشارِف على صفٍّ مِن السيَّاراتِ السوداءِ على رأسِها سيَّارَتي الخاصَّة، كأنَّها بصيصٌ مِن الفرج يُلوِّح لَنا، ولكن ما كِدنا نصبوهَا حتَّى ثقَبت رصاصةٌ طائِشةٌ ظهري، فاندَفعتُ إلى الأمامِ قبلَ أن أسكن، مُتشبِّثًا بِها؛ وذِراعي اليُسرى مُتَّكِئةٌ إلى صدرِها، هِي الَّتي شغلت العراء خلفِها طواعِية لأستُرَها بتهوُّر.
وربَّما كانت رصاصةً مدروسَة المَسار، فالظلُّ الَّذي تراءَى لي حينَما انعَطفتُ بكُلِّ ما أوتيتُ مِن قوَّة لأتحرَّى هويَّة الفاعِل، ينتَمي للجِنرال بارك... بغلٍّ أشهرتُ سِلاحي، ورُحتُ أُفرغُ ما بالخزَّانِ مِن ذخيرةٍ لعلِّي أُرديهِ قتيلًا نقمًا على هجومِه، وضربِه مِن الخلفِ كالجَبانِ الَّذي هُو عليه، لكنِّي حبِطتُ، وأفلَح في الهرب!
في أُذنِها همَست بنبرةٍ يرهقها الألَم.
" أنتِ مثل صداعٍ برأسي. "
شعرتُ بكُتلةٍ تتغَلغل بحُنجرَتي تبتلِعُ أنفاسِي، اضطرَّتني أن أسعُل. نَظرت إليَّ مينِّي مُستفهِمة خطبي، لكنَّ رؤيتَها للدِّماء تنهمر مِن فمِي فجعتها.
" دم، هُناكَ دمٌ يسيل مِن فمِك."
عامَت عيناها في مِياهِهما الجوفيَّة، الَّتي تفجَّرت مِن ثقوبٍ في صدرِها، أبصرتُ القَلق يتوقَّدُ فيهِما على وشكِ إحراقِها حيَّة، وكمَا ارتَعشت يدَاها، ارتَعشت كلِماتُها الَّتي بدت وأنَّها تستلُّها مِن قارورةٍ غير قريرة.
" أينَ أُصِبت؟ ما الَّذي علينا فِعله؟ كُلُّ هذا بسبَبي. "
" سأكونُ بخير، فلنَذهب. "
استَندتُ على كتِفها، ودنونا مِن السيَّارةِ رويدًا رويدا، حتَّى إذا شارَفنا على الوُصول، ترجَّل سيهون، مُتفطِّنًا إلى أنَّ بي علَّة.
" بيكهيون هل أُصِبت؟ "
" لا أظنّ أنَّ إصابَتي خطيرة. "
أمسَك بِذراعِي مِن الجِهة الفارِغَة، مُعيلًا مِنِّي على ثِقلي.
" لا أحدَ مِنكما قادِرٌ على القِيادة الآن، اصعَدا معِي. "
طأطأتُ رأسِي بالإيجابِ، فساقاني إلى سيَّارتِه المَصفوفةِ بعشوائيَّة بينَ الظِّلال، حيثُ شغَلتُ ومينِّي المَقعدين الخلفيَّين، أمَّا سيهون فتولَّى أمر القِيادَة... عجزتُ عن الجُلوسِ مُستقيمًا حتَّى نُقطةِ الوُصول، إذ شدَّ الإرهاقُ جُسورَه بي وغزانِي بعدَ حين. لم يكُن أمامِي خيارٌ سِوى أن أتوسَّد فخذيها، ورغمَ أنِّي ما قويتُ على صُعودِ مُحيَّاها، هبَطت دُموعها إليَّ بخُنوع، كأنَّ فوقِيَ غيمةٌ حِبلى بكُروبٍ كثيرة.
انهالت تُنظِّف ما ذرَفه ثغري مِن دماءٍ بمِنديلٍ مُعطَّر، منَحها إيَّاه سيهون حينَما لاحَظ أنِّي أنزِف، هُو يحتفِظُ بعُلبةٍ مِنه في دُرجِ سَيَّارتِه.
" ما عهِدتُك طائِشًا، تسترخِص روحَك مِن أجلِ الحِفاظِ على روحٍ أُخرى، أنتَ الَّذي لطالَما تبجَّحت ببرودِك، وقُدرتِك على التَّجاهُل، ذاتُ الخطأ الَّذي نجوتَ مِنه بذراعٍ واحِدة، أعدتَه مرَّةً أُخرى رغمَ أنَّك أخبَرتني أنَّك ستتفاداه لو أُتيحَت لك الفُرصة، قُلتَ أنَّك لن تُنقِذني لو عادَ بِنا الزَّمنُ إلى الوَراء. "
بينَ موجاتِ أنينِها العَرجاء طفا عتبٌ مِن ضريعٍ، سويًّا وصياحٌ صريع، لعلَّ رؤيَتها لي واهِنًا نهَشت مِن روحِها، كما نهَشت مِن روحي رُؤيتِي لها مُقيَّدةً في مدارِ الخَطر.
" مُنذ مَتى ترتكِب الحماقات، بيكهيون؟ "
كانت نظراتِي تصطدِم بالواجِهة الخلفيَّة للكُرسيِّ الَّذي يقعُد عليهِ سيهون، ورغمَ حاجَتي للارتِشافِ مِن آبارِ الفِتنة المُتراميَة في كُلِّ ركنٍ مِنها، فإنَّ مقدِرتي خانَتني، لم أستطِع بلوغَها، كأنَّ ملِك الموتِ رمَى أثقالَه عليَّ كافَّة، وحَده لِسانِي مَن استَجابَ، هُو الَّذي لطالَما التَجأ إلى السُّكون بينَما كُلِّي طورَ الحَراك، يردُّ بالصَّمت.
" كانَ خطأً وأنتِ غريبةٌ عنِّي، أمَّا الآن فهُو واجِب، وأنا رجُل قانون. "
لا أصدِّق أنِّي أتذرَّع بالقانونِ، أنا الَّذي انتَهكتُ عرضَه مِرارًا وتكرارًا، طوالَ مسيرَتي كجِنرالٍ في الجيش، هِي لحظةُ الحقيقةِ، حيثُ تضلّ الكلِماتُ طريقَها، ولا يبقَى لَنا مِنها سِوى حُثالَتُها، ولأنَّها تعرِفُني جيِّدًا ما اقتَنعت.
" ومَتى تصالَحت مع القانون؟ أذكُر أنَّك كُنت ما تزالُ على عداوةٍ معَه مُنذ أيَّامٍ خلَت؟ "
هِي الوحيدَة القادِرة على افتِراسِ رُدودِي، وثنيِ ساقيَّ أمامَ الصَّمتِ غصبًا، أنا الَّذي واليتُه دومًا رغمَ أنِّي ما افتَقرتُ إلى الرُّدودِ يومًا!
وفي هذَا الحيِّز الضيِّق المُفعَم بأنفاسِنا النَّاطِقة، فشِلت في قهرِ بكوةٍ مكينةٍ أغارَت على دواخِلها، للحظةٍ باتَت شهقاتُها الَّتي بارَزتها بإيمانِها المَهزوز في أنِّي سأكونُ بخير تزيدُني على وجعِي وجعًا آخر أشدَّ مِنه.
هدأت حينَما ربتّ على فخِذها.
" اكتَشفتُ أمرًا مُهمًّا، أنَّ كُلَّ مَن يغالونَ في مدحِ أنفُسِهم، وكُلُّ مَن يُردِّدون أنا وأنا وأنا، هُم الَّذين يقترِفون أعظم الحماقات في تاريخِ البشريَّة لأجلِ ذاتِ الشَّخصِ الَّذين يصُدُّونَ عنه، ويبنونَ في وجهِه ألفَ حاِجزٍ مِن الأَنا. "
لزِمني أن أُحدِّثها كي لا ينسكِب الوَجلُ فيها سويًّا وشلَّالات الصَّمت، وأن أدسَّ في جُيوبِ كلِماتِي الشَّحيحَة قطعَ اعتِراف.
" تُجيدُ الأنفُس التَّمرد، كما لا تحبِّذ أن تظلَّ حبيسةَ الإطارِ الَّذي نُصمِّمه لهَا مهمَا بلَغت الحِكمةُ فيه مِن بلاغَة، ونفسي تتمرَّد عليَّ إليكِ. "
ترنَّح جفنايَ مُهدِّدان بسقوطٍ قريب، فلطمها الذُّعر.
" إيَّاك أن تُغلِق جفنيك، سنصِلُ إلى المُستشفى قريبًا، حسنًا؟ "
غبيَّة، تجهلُ حتَّى وجهَتنا، وأنَّها ليسَت المُستشفَى بالتَّأكيد... بالكادِ سمِعتُ صوتِي الخامِل بينَما أزجُره قبلَ أن تُظلِم دُنياي.
" لا تُملي عليَّ الأوامِر، أنا الجِنرال بيون بيكهيون. "
-
بالله الجنرال بالجملة الاخيرة ما ذكركم لما بيكهيون متملك بعد حادث السيارة لما صحي ومباشرة قال لسويونغ ارتدي سترتي اللعينة فورا 😂 ولما اغمي عليه وهي صفعتو حتى تصحيه وهو لما صحي قال لها هل صفعتني للتو 😂
هالولدين من طينة وحدة 🌚
لما قال طلاقي لا يعني اني ساتزوجك تخيلتو وهو يقول لها عوپا لن يتزوجك
😂😂😂
شو رايكم بالفصل!
اكثر جزء عجبكم وما عجبكم!
بيكهيون!
ميني!
سيهون!
بارك!
ما الذي سيحدث للجنرال!
ما جزاء قائد الفريق على انتهاكه!
السؤال الاهم هيون يتزوج ميني او لا 😂
شو توقعاتكم للفصل الجاي 💃
الفصل بعد
250 فوت
600 كومنت
دمتم في رعاية الله وحفظه 🍀
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro