الفصل | 11
هلاوز خفافيشي 😎
اكيد اشتقتولي مع اني ما عم اتاخر مثل ما كنت اتاخر بمتملك 😄
سوري اذا فتحت جروح البعض 🌚😂
كان المفروض ينزل بالموعد المحدد بس مرضت وغرقت مع دراما اكسترا أورديناري يو ورح اطلع منها بكراش جديد 😭😭
ورواية جديدة 🐸
شو خلصتو الامتحانات او اجيت بوقت سيء 😂!
Enjoy 💕
-
كالانتِظار هِي، تجعلُ قلبي يدُقّ، ودواخِلي تحترِق، وبدُخانِ الشّوق المُنطلِق مِن أعقابِ حُروبِنا الّتي نقلت أوزارها إلى الذّاكِرة، تختنِق.
متى، وكيف خطَت جزيرتي المُحاصرةِ بمُحيطاتِ مِن الماضي، مُترعةٍ بالدّروس، دونَ أن تهيج ما إن لدغها الخطر وتصرعَها، دونَ أن تُنحَر على أسواري، كغيرِها مِن الملأ، أولئِك الّذين ظنُّوا أنّهُم بمُقتدرين على إماطَة كبري، واختِراقي لستُ أدري، فبينَ اللّقاء واللّقاء، وجدتُني أتضرّع للقاءٍ آخر، وبينَ النّفسِ والنّفس، وجدتُني أتنفَسّ أُكسيدها.
لقد أتيتُها لأوّل مرّةٍ كعودٍ مُتماسِك، حُدودُه معافاة، لا نتوء فيه قد ينطِق باعتِراف، ولا نخرًا قد ينمّ عن أسقامي، فعاثَت فيّ الثّقوب، الواحِد تِلوى الآخر، وجعلَتني أنا الصّامِت الّذي ما سبَق وأنّ اشتكى حتّى وهُو في كهفِ الخلوة، أُنشِد ألحانَ الشّوق على قارِعة الذّكرى!.
ما احتاجت لأن تُقلّ ذاتها بعيدًا عن مُتناولي لأبتغيها، فالمُفارقةُ أنّها بينَ يديّ، بيدَ أنّي أقتصِد في استِهلاكِها خوفًا عليّ مِن عاقِبة الإفراطِ فيها، ولا لأنَ تغيبَ الدّهر عن مرآي حتّى ألوذ مِن مكرِ الحنين إلى ذِكراها، فهي امرأةً غير كُلّ النّساء، بسهولتِها صعَّبت عليّ العيش، وبكثافة ذِكراها أغصَّت بالي، امرأةٌ مُفارقتُها لوهلةٍ تُقدّرُ بعُمر!.
كانت ترتَدي عباءَة الحُلم، وتطوفُ بأجوائي كُلّما كحّلها اللّيل، كأنَّها تهبِط على عرشِ السّماء كُلّما هبَط، مُكتمِلةً كالبدرِ، وهّاجةً كهالتِه، وترقُص فوقَ قبري الدُنيويّ الّذي بهرجَته ذاتَ مرَّة بقُربِها، قبل أن يلفِظ يومي آخر أنفاسِه، فتُدِبُّ الهولَ بينَ جُدراني، ما كانتَ رحيمة، بل انتِهازيّةً لا تُفوّت دقيقةَ ضعف، إلّا وتهبّ بجبروت.
حدقتاها رِجس يُحدق بي، لكِنّي وبغُرورِ رجُلٍ لم يرتشِف مِن صواعِ الهزيمة قيدَ قطرة أقصِدها، ورموشُها شفراتٌ على أهبةٍ لإزهاقِ وعيي ما إن أقدِم على انتِهاك الأوليين، مِقصلةٌ تفصِلني عن رقبةِ الحذر فأغدو غِرًّا لم يشهَد في هذِه الدّنيا مِن جنسِها أيّ بلاء، وربَّما هي تمسَحُ عن ناصيتي أضناء الماضي، بمنديلٍ منقوعٍ في الأمل.
كُنت قد نسيتُ كيفَ يكون النّومُ بجوارِ امرأة، تحتَ أنقاضِ اصطِدام، وحولنَا أعقابُ رغبة في محفَل الإثم، عدَا إن سمّم الخمرُ عقلي ووقعتُ في مكيدةِ الغفوة لأصحُوَ بعدها مُستنكِرًا، لكِنّها خلَّدت انكساري بتأييدٍ مِنّي، ونثَرت على رُفاتِ كِبرائي نراجس عينيها الفتيّتين، بالكادِ تذكّرتُ أنّه قد راحَ ضحيّتَها، ورتَع بينَ خِلجانِ الأنس في ثغرِها، كأنَّها بنظراتِها المُشبعةِ بالأنوثة غمرت آفاقي، فلمَ أرَ إلَّا ما ينصبُّ كُثبَ بصري... هي!.
وربَّما استبَحتُ الرّقودَ بجوارِها، واستطيبتُ الضّريحَ الّذي صمّمته لي ذراعاها، بعدما أماتت مُقاومَتي؛ لأنّها كانت لي قبل أن تكونَ لغيري. لاشكّ وأنّها قد طعنت الكثيرَ مِن الرّجال بفِتنتِها السّارية عن غيرِ قصد، وبعَثت في غرائِزهم روحَ الانتِقام، لكِنّها وبكلمةٍ واحِدةٍ أجهضت حُروبَهم، عداي، إذ عبرتُ مضيقَها إلى قُرّتها دون رادِعات، ولا نِزاعات، ثمَّ توطّنت فيها لوهلة مُضرمةٍ بالوِدّ، ورغم ضيقِها، وسعتني ككُلّ!.
ما ظننتُ يومًا أنّي المعصوم مِن فتنةِ النّساء، إلّا ما يروي نفسي المصلوبَة في الماضي، سأشتهي زيارةً أخرى لأصقاعِ امرأة نجلاء ملغومة، وقد وشِكت أن أُغتال في بُقعةٍ مِن بقاعِها، وما ظننتُ أنّي سأهوى الاشتِراكِ ثانيةً في ثورةٍ خفيّةٍ للإطاحةِ بالأنفة، وانتِخابِ الرّغبة، مهما اعتمرت مِن مُسمّيات، وبطَّنت مِن فحاوي.!
وحينَما بلغَ فيّ الاشتياق مبلغًا كبيرًا لا مُضاهِيَ له، ابتاعَ لي في كونِها أرضًا ورديّة، بنيتُها، فكُنت أعتكِف بين أسوارِها لحظات الغفلة، وباشتِداد عُودِه في شِتاء الفصال القارص هذا، انتزعَ جُلمود الزُهوِّ مِن دربِ الوِصال الشّاق، ومضى يحمِلُني على ظهرِه المتين، أنا الّذي ما نطقتُ برأي، ولا حرّكتُ ساكنًا، حتّى رماني عِند قدميها.
أتيتُ وبالي خاوٍ مِن أيّ أطماع، ولغير رؤُاها ما تطلَّع، وربَّما وأد تطلُّعاتِه تحتَ أتربةِ الإنكار، ما إن وُلِدت؛ يحدُث أن ندخُل مُناقصةً حياتيّة نجهلُ مآلنا فيها، وإذا ما بدت الخسارةُ أقرب إلينا جاهرنا بالاستِسلام رغم أنّنا نختزن أطنانا من الأمل، نكذِب على العيان كذا أنفُسنا ونقول مُستحيل، لكِنّ ألبابَنا تهتِف بمُمكن ولو كُنّا واحدًا مِن بين الملايين، ولا نُدرِك وزن حُمولتِنا، إلّا حينَما تُغرِقنا في مُحيطِ الخسارة، فيجتذبُنا إلى قاعِ القنوط.
كذلِك لم أسمَع لآمالي صدًى حتّى حفرت الدّنيا بأظافرها، وانفجرت أمامي بصخب، ثُمَّ خمَدت، إذ غمرتني بالتّجاهُل طوال اليوم، وما اقتدرتُ إلّا أن ألكُمها بالمِثل؛ لستُ رجُلًا مُلمًّا بمناهِج الصُّلح، ولا رجُلًا قد اعتاد على مدّ يدِه أوّلًا.
ها هي ذا الشّمس تُلملم ذوائِبها وتربطُها بالأفقِ القصيّ، مُتأهّبةً لقيلولةٍ وجيزةٍ على ملاءَة المغرِب السّوداء، لا يفصِلهما سِوى مسافة ضئيلة، حينئذٍ احتشدَ الأطفالُ في باحة المنزِل الأماميّة، يودّعون يومهم الأوّل الّذي رفع أشرعتَه وأبحر، رأيتُهم بينَما أنا واقفٌ كُثب نافذةِ مكتبي الطّويلة، لكِنَّ مُقلتاي افتقَرتا لمرأى مينّي، لم تكُ ضمنهم!.
علِمت بمُجرّدِ دخولِهم دونَها أنّهُم على وعيٍ باختِفائِها، بالأصحّ تعذّرِها عن المجيء بصحبتَهم، وقد استطعتُ تخمينَ مكانِها بيُسر، فهي امرأةٌ حيثُما يحرم عليها أن تكون، تكون... وبالفِعل عثرتُ عليها في إسطبل الأحصِنة، تُسامِر فرسي سكاي والّتي تقطُن آخر حُجرةٍ في هذا الممرِّ المشطور نصفين، استرقَت قدماي اللّثمات مِن الأرضيّة الموحِلة، لثمات تكادُ لا تعدو حاجِز الصّمت، حتّى بلغتُ مِنها قُربًا مُعتبرًا.
" أما حذّركِ أحدٌ مِن هذهِ الفرس تحديدًا؟. "
نشزَ كتِفاها عن سُلّمِ السّكونِ أنمُلتين؛ لأنَّها لم تتوقَّع أن يُنجِبني الفراغُ قُبالتَها، وعلِقت نظراتُها المختمِرة بالألِم في حانتيّ اللّتين سقتاها مِنه المزيد، ذلِك ما رواهُ لي مُحيّاها إذ فارقَه الوعي، وأطرافُها إذ انكمشت.
سُرعان ما صدّت عنّي، مُحبّذةً طليعةَ الفرسِ السّوداء، وقضت بأسهُم الصّمتِ المُريعة على حُفنةٍ مِن جنودِ الوقت، كأنَّها ماطَلت مُحادثتي ريثَما تُخلق فيها القُدرة على ذلِك، وما أطالَت أكثَر مِن مِعيارِ صبر.
" استطعتُ ترويض مالِكها ذاتَ ليلة، فلِم قد تعصى عليّ؟. "
اتّكأتُ إلى الحاجِز الفاصِل بين حُجرةِ الفرس، وما جاوَرها، وأوهمتُها أنّي أناظِر ما يضطجِع أمامي، بالرّغم مِن أنّ عدستيّ قد نزحتا إلى الحافّة في سبيلِها.
" ثمَة فرقٌ شاسِع بين التّرويض والإقناع، ما فعلتِه آنذاك هُو تجميلُك بناظِريّ، حتّى رغِبت في اقتِنائِك مُؤقّتا، وهُو ما ينطبِق على تعريف الثّانية. "
بعدَ سكتةٍ شفويّة عسيرة، أنغضت برأسي، واعتمرتُ الغُرور، رغم أنه بالٍ.
" أنا رجلٌ يُروِّض لا يُروَّض، ومِن حينٍ لآخر ألين وقد أنحنِي، ولكِنّي ما أنحني طاعةً، بل لألتقِط مِن الأرضِ ما يتهيّأ لي بأنّه منفعة."
بمُجرّدِ ما التَمست نُقطةَ النّهاية في أدبارِ سطوري، استلقت ابتِسامةٌ ساخِرةٌ على أعتابِ شفتيها، ومالت شمساها إلى مغرِبيّ، بانطِفاء.
" قصدتُ كِبرياءَك حضرةَ الجِنرال. "
وما كالت لي عدستاها بعد ذلك قيدَ نظرة، كأنّي لم أبلُغ فيهما نِصابَ الأهمّية الّذي يُسوّل لهُما سدّ رمقي مِنهما، وواصلت يدُها التّمايُل على فرسي.
" أليس ما حالَ بينَنا لآمادٍ طويلة، ذلِك لأنّك لقّنت نفسك أنّي مُجرّدُ طفلةٍ لا يسعُها تحريكُ لِتر مِن بحرِك، فهيّجت كُلكّ، ولأنّي ذاتُ الشّخصِ الّذي كادَ لكَ فيما سبَق؟. "
في الأخير وجّهت دفّتَها إليّ، وهذَت بلهجةِ انتِصارٍ ليست مِن آلِه.
" لقد كسرتُك. "
انتكَس رأسي لإنشات فضاقت الحُدود بينَه وبينَ جِدار عُنقي، وأعتقتُ ضِحكةً أدماها القهر، وما ارتضيتُ أن تموتَ بجوفي. لطالَما رقّصت الحقيقة حتّى الَّذي بِه صمم، ولطالَما تجبَّرت، وما رحمت إمارات يتولّاها كبرياءٌ عتيد.
" لو روّضتِه بحقّ، لما انتفض حينَ استفاق. "
لمع الاستياءُ في مُقلتيها وضّاحًا لكِنّها أخمدتُه بإصبعيّ كِبرِها، وواربَت بابَ الحُجرة الّذي يشغلُ نِصفَ إطاره، النّصفُ الآخر دائِم الخواء، كنافِذةٍ للخيلِ على العالَم الخارِجيّ.
ترجّلتُ عن الجِدار مُقتفيًا آثارَها الّتي ما بردَت بعد، ويداي مُختبئتين بجيبيّ.
" أتتعمّدينَ مُخالفةَ ما يُملى عليكِ مِن أوامِر؟ أم تشائين اختِبار الضّرر شخصيًا، لتُصدّقي أنّ ما قيل لكِ حق؟. "
حينَما امتنعت عن الردّ مثلتُ مكاني، وتفرّجتُ عليها بصمتٍ وهِي تخطُو إلى الأمام بلا مهابة، قبل أن تستقِرّ نُصبَها وتُربِّت على جِلدها بهدوء، غيرَ ما يعتمِل بدواخِلها، وما نمّت لي عنه نظرتُها الحقودة.
" مِن غير العقلانيّ أن تُحذّرني مِن حيوان يسعُني توخّي حذري ضده مِن تِلقائي. "
ارتأيتُ الصّمودَ في حِصن السّكون رغم أنّ الاستياءَ قد بدأ يقصِف أوداجي، فيما لقفت هِي السّرج الّذي كان مُعلّقًا على خطّافٍ في الجِدار الأيمَن، ونضدته على ظهرِ سكاي يليه اللّجام، أدركتُ أنّها تتأهَّب لدهسِ كلِماتِي وامتِطائِها، وربَّما لامتِطاء الهلاك.
" البشر هُم الخطر الحقيقيّ، لن تعلَم مِن أينَ سيهبّونَ عليك، وأين سيحفرونَ لك، فحتّى والسّكون يملؤُهم يؤذون... "
اقتَطعتْ مِن مِساحةِ اهتِمامها شبرًا بايعتني على وِلايتِه عيناها، حيثُ توّجَ ثغرَها إكليلُ وردٍ تالِف مِن السُّخرية، يكادُ يبانُ مشقوقًا غير مُكتمِل.
" ألا توافِقني الرّأي؟. "
صعدت زاويةُ فمي في الاستِهجانِ درجة، وتوافَدت خواطري على لِساني باحتِدام.
" إن كُنتِ أنتِ الّتي اجتبيتِ السّير حافيةً في أرضٍ تدرين أنّها محفوفةٌ بالعثرات، لا يمكِنك التذمُّر إذا ما خدشَت إحداها قدميك، وسعك الاتّقاء مِنها، لكِنّك ما حبّذتِه. "
وبذاتِ اللَّكنَة المُصابةِ بالغِلّ أضفت.
" أليس كذلِك؟. "
رغم أنَّها هرّبت مُحيّاها المُختمِر بالجمَال ودسّته على بُعدٍ آمِن مِن عينيّ، أبصرتُها وهي تمحي اللّوحةُ الّتي رقَشته، فإذا بِه يتجهَّم.
" حتّى وإن كُنت مَن اجتبى الأذيّة، أستحقُّ التِفاتة على الأقلّ. "
سُرعان ما أكملت قدماها دورتهما، تقتادانِها إليّ، وتقاطعَ ساعِداها على رصيفِ صدرِها بينهُما عزمٌ مُطلق، توهَّج في مُقلتيها بسطوع، كأنّها ما توارت عن أنظاري إلّا لتُسلِّح ذاتَها بالثّقةِ الكافية لقهري، وما هُي بمهمّةِ قد يقتدِر عليها بشر.
" أتساءَل مُنذ الصّباح عن سبب كرمِك المُفاجئ، والخفيّ، فعادةً ما تدفعُ للبعض لِقاء التفرُّج على بادِراتِك الخيريّة، وبثِّها للعامّة... هل مسَّك شيطانٌ نبيل؟. "
ابتعتُ مِن الأرضيّة خُطوة، كلّفتني أنفاسًا باهِظة، كأنّها ألفُ ميل... وربُّما هُو الغضب على وشكِ أن يستتِب!.
" وما سبب امتِثالك المُفاجئ، فعادةً ما تتهرّبين مِن مجالسِ النّفاق، وتصفعين الكرَم بوجهِ من مدّه ناحيتَك؟. "
لاشك وأنّي قد أصبتُ عينَ الحقيقة، إذ عسعست مجرّتاها، كما لو أنّ جميعَ أجرامَها زُجّت في ثُقبٍ لا مهربَ مِنه، ويا ليتَ ثُقبَ الصّمت بقادرٍ على ابتِلاعِ لِسانِها السّليط كُلما فوّض الموقِف إليهِ نِقاشًا.
" إرضاؤُك أهون مِن إرضاءِ مسخٍ آخر، كما أنّ الرّحلةَ تستحقّ، فمنسوبَ الهواء عالٍ، لن يتقلّص لأنّنا نستنشِقه سويًّا، وإذا ما تلوّث بصري برُؤيتِك نظّفتُه بالمناظِر المُتزاحِمة بالخارِج على إبهاري، وتدليك ذاكِرتي بغيرِك. "
تزامُنًا وسكونَ الزّوبعة الّتي اجتازَت ثغرَها إليّ، صبّت عيناها عليّ وابِلًا مِن النّظراتِ الملومة، أنا الّذي توهّمتُ أنَّها ستذرفُ عليّ ورودًا مبتورة، نظراتٌ لم يقطَعها أيّ تهديدٍ سليطٍ نبسَ بِه جفناي، ورغمَ أنّي وقفتُ في الواجِهة أُبشّرُها ببِئس المنال لو واصَلت على هذا المِنوال، ما استجابَت لي وكَم راحَ لابتِسامتِها المحشوَّة بالاستِفزاز فيّ مِن عصب!.
بسهولةٍ تخطَّت ما تفوّهت بِه وانعَطفت نحوَ النّسيان، كأنَّها تُؤيِّد النّهايةَ الّتي وددتُ تنصيبَها بدايةً أُخرى لا جديدة ولا قديمة، بقلمِها هِي، قدِمتُ وبينَ يديّ مخطوطةٌ مُفصّلةٌ عن مُدنِها الفِكريّة قبل الأنثويّة، فتبيَّن لي أنّي انخدَعتُ بإنجازاتي في ميادين النّساء، وغفِلت أنّها مزيجٌ مِن عدّةِ حضارات عُمريّة، حيثُ استأنفت تجهيزَ الفرسِ بطريقةٍ تنمُّ عن جهلِها كأنَّها تُعَبِّد مُستقبلها بالخَطر، ستُعانِق الأرضَ قبل أن تمسَّها لو أصرَّت.
قبل أن أُقلِع إليها حمّلتُ عاتقيّ نوايا شهيّة، لكِنّ حرارةَ استِقبالها هذا أفسدتها، أتساءَل ما إن كانَ غِيابي قد وخزَها ولو قليلًا، ما إن احتكَرت ذِكراي وقتَها كذِكراها، أعي أنّ خوفي مِن أنّ موازيني قد ثقُلت حتّى فاقَتها هُو ما يُلجِمُني ويسوقُني عكسَ تيّار رغباتي، وأعلَم أنّي بنظرةٍ مُواليةٍ مِنها سأعود إلى الصّوابِ المُدنّسِ بالخطايا، وأصبُّ عِندها.
حينَما بلغَ سُخطي زُباه وكادَ يفيضُ عليها، نفّستُ عن قدرٍ مِنه في زفرة، لعلّي أسعُه... ما تكهّنت أنّها ستقصِم ظهرَ احتِمالِي.
" تتنهّد؟ ما الّذي لم يرق لكَ تحديدًا؟ أخِلت أنّي سأتسلّق عُنقك ما إن تلوحَ بين ناظريّ كما لو أنَّك لم تنقلب عليّ؟ أنتَ صامتٌ مُنذ أن خيّمت على المكان، حتّى أنَّك لم تسُدَّ ثغورَ انتِظاري بكلمة، ولا إشارة على أنّكَ مفتوحٌ لاستِقبالي كالأزل!. "
ارتعَشت أهدابِي وهِي تُهدهِد على جانِبي الآخر الّذي سُرعان ما فضّ سيطرَتي، واندلَع على مدًى مِن الهوان، وجدتُني مُرغمًا على خلعِ الشّوق والتدجُّج بالقسوةِ لقمعِها.
" لمَ لا توفّرين لسانكِ للأعمال اللّيليّة فهُو بارِع في حصدِ الرّضا؟ لو ظلّ يكدَح نهارًا على هذا المنوال، فسينتهي به المطافُ وهُو مقطوع مِن قِبلي، أحذّرك مِن العبث معي، لستِ مَن يحِقّ لهُ محاسبَتي على ما فعلت وما لم أفعل."
رجوتُها في قالبِ التحذير أن تتراجَع ما دام الطّريقُ سالِكًا، وما دامَ جُندي على شفا اليقظَة، فلو انفلتَ زمامي مِن بينِ أنامِلي لن أدرِيَ ما قد أُلحِقه بها، وبأيّ أثاثِها سأصطدِم وأنا أتخبّطُ كالأعمى في كونٍ فسيح، لكِّنها عضّت على عِنادِها كما عضّت أسنانُها على الكلِم.
" ابتغيتُ تسخيره للأعمال اللّيليّة الّتي أبرعُ فيها كما تدّعي، لكِن عجوزًا ما تدخّل، وأفسَد كامِل مُخطّطاتي، بلا مُقابل يُذكر."
غدا ارتِجافُ شدقيّ بيّنًا للعيان، لفرطِ ما أختزِنُه مِن وصايا.
" اخرسي، ولا تُزايِدي على كلامي. "
استنم صوتُها قِمّةً أعلى مِن قِمّتي.
" أنتَ تدعوني إلى الحرب، فلِم تنتظِر مِنّي الهُدنة؟. "
أصواتُنا العالية استثارت حفيظة الفرسِ الجامِحة سكاي، فترفّعت على طرفيها الخلفيّين، رافعةً طرفيها الأماميّين اللّذين تخبّطَا في الفلك قُبالتهما، كما لو أنّهُما يحفِران الهواء، ودوى صهيلُها مُنذرًا بواقعةٍ مِن شأنِها أن تسلب حياةً!.
هرعتُ أدثِّر جسدِ مينّي بذراعي، لعلِّي أُبعِدها عمّا نشبَ حولَنا مِن خطر، ثُمّ التقطتُ اللّجام الّذي تأرجَح في الفلك بلا حولٍ لهُ ولا قوّة بالأخرى، تمامًا كما أتأرجَح ما إن تقطع رُموشها حبل جسري الواصِل بالمنطِق، والمبادئ.
شعرتُ بها عندما اندَفنت بينَ ترائِبي دون تردُّد، ونخرت بأنامِلها المُهتزَّة جِدارَ قميصي المُستندةِ عليه، تتّقي بأماني الزّائِف شُرور الكونِ رغم أنّي الشرُّ الأعظم، وهِي تعلم... بمُجرَّد ما سكَن المُحيطُ، ورقَدت أمواجُه الذَّريعة الّتي أفجعت الفتاة انتشلت رأسَها مِن مرتعِه الحاليّ، وغمرتني بنظراتِها المائعةً كأنّ الذُّعر أذابَ جليدها.
حينئذٍ اشتهيتُ زجَّ شفتيّ بينَ شفتيها، والانحباسِ فيهِما إلى أجلٍ غيرِ مُسمّى، فما وراءَ قُضبانِهما المهيبة جنّةٌ لا يعلمُها إلّا مَن جازَف باقتِرافِ نظراتٍ آثِمة، حكمت عليه بهِما، اشتهيتُ مدّ يديِ المُفعمةِ بالحِسّ، والتغزُّل بفِتنتها، بقصائِد بصريّة، وقطف لمساتٍ مُرهفة مِن خدَّيها، تُفحِم لِساني، وتُفحِّم صدري، لأرقُص ودُخّانِي سهيًّا.
لم أعِ أنّي قد نفّذتُ في مُقلتيها كُلّ ما جالَ برأسي، حتّى دفَعتي أذرُع ثغرِها المُرتعِدةِ إلى هاوِيةِ الواقِع.
" لِماذا أتيتَ إلى هُنا؟ "
في قاعها رأيتُ اللّآلِئ الّتي سئِمت مُلك محارتيها، تندفِع خارِجهما مُحرّضةَ على لسعِ خدّيهَا، وتعبيدِهما بالأحمرِ الّذي يليقُ بِها، قبضت أهدابُها على البعض، وظلَّ الآخر يسبحُ فيهِما، ويبرُق كما لو أنَّه نصلُ سيفِ على سارِية النّصر!.
تناءَت عن حِصني، كأنّ انعِقادَ الكلِم في لِسانِي وتلويحِه بالزُّور على مِنصتيّ أنفَرها، ثُمَّ نثرت نظراتِها المُحتارةِ في الأرجاء بعشوائيّة.
" لا يُمكِنك الظّهور في حياتي، وزرعِ الألغازِ في دربي، ثُمَّ الاختِفاء كيفما تشاء، فما إن أشرَع في الاعتيادِ على حالٍ تأتيني بغيرِه، وأنا على صفرٍ مِن الاستِعداد... "
في النّهايةِ تزعزعت جِبالُ الصِّدق في صلبها، وظاهِرها، إذ اهتزّ حاجِباها بألمٍ مكين، وانبرت نبرتُها الّتي وُلِدت غليظةً حتّى أدركَت رفاعةً مهينة، تُفشي بأنّها تسرِد كِذبة... كِذبةٌ علقمٌ ما استطبتُها، وما أجرت بداخِلي خيرًا.
" لقد سئِمتُك وسئِمتُ تقلّباتِك حقًّا. "
فككتُ أسرَ الحبلِ بعدما قضى ضِعف فترةِ حُكمه وسطَ كفِّي، والفضلُ لهذِه الأمَةِ الّتي اختَطفتني مِنّي لوهلة، واعتمرتُ الكِبر ثانيةً.
" أنسيتِ أنّكِ الّتي ظهرتِ في حياتي حينَما اختفيت، وحفرتِ لنا خندقًا ما كُنّا لنسلكه يومًا لو ما أمسكتِ بيدي آنذاكَ وسُقتني خلفك؟. "
أشاحَت بوجهها حيثُ ذرفَت تنهيدةً مُلتاعة، ثُمّ مثَلت في محضري على ذاتِ الشّاكِلة الباكِية، وأدلت بشكوى صريحة، مفطورةَ الخاطِر.
" وسعك نفيي خارِجها لكِنّك احتضنتني لسويعاتٍ ثمِلة، جعلتني أحلُم، لم أظُنّ أنَّك ستستغني عنِّي بهذه العجلة، كأنّي ورم أهلَكك، وحينَما فعلت انتظرتُ أن أنتابَك على شاكِلة لهفة، فتأتيَ إليّ مُجدّدًا، حتّى رمى اليأسُ الحجرة الّتي اخترقت نافِذتي."
لقد شببتُ على الغِياب بغيرِ عتاب فامتهنتُه، وإذا ما سُئِلتُ استعذتُ بحقّ الصّمت، ووكّلتُ التّجاهُل مُحامِيًا ليُمدِّدُ في أسري، وما أزال على سجيّتِي، لكِنّي اليومَ أستعسِرُ الصّمت، وأودُّ لو أجيب... هِي جعلتني محطّ ذنب!.
أودعتُ يديّ بجيبيّ عاجِزًا عن إماطةِ بُؤسِها رغم أنّي من ألقيتُه بداخِلها عن غيرِ قصد، لم أظُنّ أنَّها ستنتظِر، وربَّما ظننت أنَّي لا أمتلِكُ مِنها شيئًا سِوى ما تبادَلناه ليلتَها، وأنَّها لم تُرعرِع مِنّي جنينَ عاطفةٍ لتنتفِض ضِدّي كالآن بسحنةٍ تنضحُ بالوجيعة، فنحنُ لم نسلُك تِلك الطّريقَ الّتي قد تقودُ بأحدِنا إلى لومِ الآخر، أو تحرِّي حُججِه.
" أنتَ بين عينيّ الآن، لكِنّي مهما تصفّحتُ أبوابَك لا أستطيع الوصول إلى لُبِّ ما تُريده، وصمتُكَ ليس بهادٍ مِثل سكونِك، أريدُ تخطّيك والمضيّ، بدَل أن أرهَن وقتي لك، وأنا أجهل متى سيحثُّك كبرياؤك على التخلُّص مِنّي. "
لم أكُ على قدرٍ كافٍ مِن الوعي لأمسِك يدي حينَما حلّقت نحوَ خدّها.
هذا أقربُ ما أستطيع الوصول إليه... وددتُ لو أقول.
طرحتُ أصابِعي بكفيّ قبل أن يُدرِكاها، واجتبيتُ الرّحيل مُسعفًا رباطة جأشي مِن الانقِطاع، فأبوحَ بما هُو غير مسموح.
ما كِدتُ أطأُ في قراري خُطوةً حتّى صفّدت أصابِعُها رُقعتين مِن قميصي، واندسّت في صدري مُجدّدًا، تفرِض عليّ التّراجُع عنه، أنا الّذي لم يسبِق لي وأن انثَنيت بفِعل آهةٌ تدفّقت مِن فوهةٍ امرأةٍ لأجلِي، ولا رجاء.
لم تكُ مُتوطّدةً بي، بل أنا الّذي توطّدتُ بأرضِي، قبل أن أوطّدَها بي في حُضنٍ شغوف، كأوّلِ حضنٍ جمَعنا، فكان أولى بوادِر الاحتِراق... كثيرًا ما حقنت فيَّ بلمساتِها جُرعاتٍ حُلوة المذاق، رغم أنَّها ليسَت بترياق.
بعدَ زمنٍ غثٍّ غمغمت.
" أمِن الصّعب القول أنّك اشتقت إليّ؟. "
ورغمَ جحودِي بمعروفِها، ظلّلتني بمزيدٍ مِن الكلِماتِ الحسناء، المُتبرجةِ بالولاء.
" لم أحتج اعتذارا، تحدّث إليّ فأعلم أنَّك آسف. "
انحنى عودي شيئًا فشيئًا حتّى سجَد على ثراها، كذلِك سجَد وجهي على عتبِة رقبتِها الملساء، وارتشفت منافِذي العبَق الجاري في غدائِرها المُترفة بغير حساب، أنّى أحاسَب وأنا أدفَعُ الثّمَن سقمًا!...لطالما أجادَت استِلال الجحيم مِن ثغري.
" وهل تظنّين أنّي بآسف؟. "
" قصدتُ أنَّك تُريدُ العُدول على ما سننته بحقّي يومَها، وتُعيدني إليك. "
سُرعان ما نحَّت رأسَها عنّي، ونظرت إليّ بعينيها اللّتين سقتاني خمرًا.
" وإلّا فلِم أنتَ هُنا، على مرمى مِن مخدعي، ولستَ برجلٍ ينتهِج الخُدَع للإيقاعِ بامرأة؟. "
تمتمتُ وبقريرتي أضغاثٌ مشاعِر:
" لا أدري، لو أنّي أفهَمُ نفسي حقًّا لما طاوعتُها... لعله فُضول!. "
صاغَت لي مِن ذراعيها طوقًا ألبسته جيدي، ولمَح الخُبث في سمائِها.
" لقد انتظرت أن أتسلَّق عُنقك فِعلًا. "
ضبطتُ سِربًا مِن البلابِل يفِرّ خارِج قفصيها وينزِلُ بشفتيّ، خُيِّل لي أنّهُ نذير شوق، خاتِمتُه قُبلة، فما استطعتُ أن أردّ ولا أن أصدّ الإهانة الّتي رجمتني بِها، كأنّها تُحيي الماضي التّعيس على شاكلةٍ أخرى، مواليةٍ لها، مُعاديةً لي.
شقَّ الجشعُ فِطنتي وسحَقها قُربُها الّذي ازداد تفاقُمًا، حينئذٍ أنشَد لي جفناها النَّاعِسان حتّى أنام، وما لبِثتُ أن سقطتُ في سِنة، وعاضدتُ أنفَها إذ تلمَّس أنفي، لكِنّها هربَت مِنّي بعدَ لحظاتٍ قِصار، وبقيتُ طورَ الانتِظار، انتِظارٌ تُوّجَ بالغُبار، حيثُ لفحت أنفاسُها أذني أولًّا، ثُمّ فحّت فيها همسًا جعَل بيارِق مسامِي تنتفِض.
"خُذني في جولة. "
وابتسمت بغُرور بينَما تنزحُ إلى الوراء!.
عتبتُ سُخريَتها لئلّا نلتمّ تحتَ سقفِ جِدالٍ عارٍ، مُعرّضين لأهوالِ سُخطٍ لا تُحمَدُ عُقباها، وعاودتُ تفقُّد كُلٍّ مِن السّرجِ واللّجام، حريصًا على إحكامِ تثبيتِهما بالفرسِ.
من الرفّ الضيِّق الّذي يشطِر الحاجِز الخشبيّ بينَ هذِه الحُجرة وسابِقتها نصفين، التقطتُ عصا سوداء مرِنة، ذاتِ حافّةٍ مُنبسطة على شاكِلةِ مِجرفةٍ صغيرة الحجم، ثُمّ لويتُ الحِزامَ المُمتدِّ مِن فوهِ سكاي حولَ يدي الأصليّة وطلعتُ مِن الحُجرة، فالإسطبل.
صاحبتني وشوشة قدميّ ميني الخافِتة، إذ كانت تنبع كُلّما عانقتا الوحل الّذي يُلطّخُ الأرضيّة، وشاورتاه لوهلةٍ مُقتضبة، هِي لا تنتعِلُ حِذاءً مُلائِمًا للحظائِر كحِذائي العالي، فأسوارُه لا تتجاوز كعبيها، لكِن ساقاها لم تتّسِخا لحُسن الحظّ.
على مسافةٍ مِن البوّابةِ مثلت، فارتكنت تُطالِعني وعيناها تحمِلانِ مشعالين مِن الحماس، أشَّرتُ لها بيدي أن تقترِب، ثُمّ أمليت تعليماتي على مسامِعها.
" أمسكي بحديّ السّرج اليابسين أوّلًا، ثُمّ ضعي قدمكِ اليُسرى على الحلقِ، وأسنِدي ثِقلك إليه، سأُساعِدك على الترفُّع... لا تخافي. "
أطرقت برأسِها كعربون تأييد، حينَها أحلتُ كلِماتي أفعالًا، حيثُ قبّضت خصريها بيديّ ودفعتُها صُعدًا حتَّى صبت القِمّة... لم أتصوّر أنَّ بِها ثقوبَ خوف إذ انبطَحت على ظهر الفرسِ، وصفّدت رقبتها، كما لو أنَّها جُنديّ في ظِلّ القصف!.
" لماذا قُمت بإفلاتي؟ ماذا لو لفظتني مِن فوقِها كما يحدُث بالأفلام؟ عِظامي هشّة ستتكسّر لا محالة، فلتصعد على الفور. "
رأيتُ الخوفَ يثِب سويًّا وموجاتِها الصّوتيّة، ويلطِم فُؤادَها الّذي آمنت أنّه كالتُّرسِ لا يُنخَر. ارتأيتُ ألّا أعبَث معها، يكفي ما عيثَ فينا مِن فساد، آن الأوانُ لنستجمَّ بشمسِ الشّوق الّتي أشرقت حينَما مالت شمسُ الكونِ إلى الغُروب.
طردتُ قدمَها مِن الحلق واستخدمتُه للّحاقِ بِها، حيثُ ركبت وراءَها، وأخذت أنامِلي حبليّ اللّجامِ في عناقٍ حميم، وقتئذٍ تخلّت عن عُنق الفرسِ الّتي كادت تخنِقُها وتدرُّ عليها الرزيّة مِن أين لا تدري، وجلست باعتِدال مهزوز.
سألت لأزيحَ الصّمت عن جوِّنا، وربَّما لأرفِّه عنها رهابَها.
" أهي أوّل مرّةٍ لكِ على حِصان؟. "
" كثيرًا ما حلمت بامتِطاء أحدِها، الآن وحُلمي يُطارِح الواقِع، لا تبدو تجربةٍ رائعة. "
انتفضت في حُنجرتي ضحكة ذاتُ صيت، قبل أن أدفِن في أُذنها همسة.
" ستستمتعين، ثِقي بي. "
بكعبِ قدمِي رفستُ جنبَ سكاي أُحرِّضها على الإقلاع، فسارَت بتُؤدة، وكُلّما اعتادَت الفتاةُ أمامي على سُرعةٍ مُعيّنةٍ وخزتُها بالعصا حتّى تزيدها.
سافَرنا بعيدًا عن مُتناوَل الملأ، كذا البِنايات المعدودة الطّافِحة على وجهِ هذِه المزرعة، وُصولًا إلى بِقاعٍ مُسطّحةٍ تلتحِف الخُضرة، وتتحلّى بأزهارِ الهندباء، ما مسّتها معاولٌ ولا آلات، هُناك حيثُ تنزّهنا، بالأصحّ تنزّهَت، لأنّي أراها أحقَّ بالتأمُّل.
ما أوفيتُ الطريق حقّ تركيزِه بسببِ مظهرِها المُربِك، والّذي يحبِس النّفس ويقبِض النّبض كمظهرِ الهاوية، فما انفكَّت خُصلات شعرِها تتواطأ والرّياح لتُفشي عن الغِوايةِ المُنطوية في رقبتِها الجيداء، والخبايا الّتي تتستّر عنها ملابِسُها.
هِي دوامةٌ بمُجرّدِ ما أعتب مدى نظرِها، وأولى حلقةٍ مِن حلقاتِ هيئتِها العظيمة كليلةٍ مُقمرة فإنّ مصيري القاع، حتّى ولو استمتُّ في النّزاع.
تبَدّدت أطيافُ القلق الّتي قطنتها شيئًا فشيئًا، حيثُ استرخى جسدُها الّذي يُواكِبُني، وراحَت ضحكاتُها اللّاهية تُداعِب سمعي، بالرّغم مِن أنّ دمعَ انكِسارِها السّالِف ما بَرد في مآقيها بعد، وفي أقاصيها تُهت، حتّى وجدتني هِي.
" أعترِف أنّي كُنت جبانَة أكثَر مِن اللّزوم، فها أنا ذا أستمتِع بركوبِها. "
التفتت إليّ بنيّةٍ صافية، لكِنَّ نغمَتها الواطِئة أتلفت الكثيرَ مِن خلايا عقلي.
"وربَّما أنا أستمتِع بقُربِك مِنّي. "
كما قدِمت إليّ ووقفت على وصيد وجهي، عادَت إلى موطِنها مع حِصصٍ وفيرة مِنّي، إن لم أقُل كُلّي، وصعَّبت عليّ رفع بصري عن حِماها، رغم أنَّ معالِمها المتحفةِ مُحتجبةٌ مِنّي، ولأناوِر السّقوط شغلتُني بموضوعٍ غيرها.
" أما يزالُ الطّلاب يتنمّرونَ عليكِ في المدرسة؟. "
وحينَما عزفت أدركتُ أنّي ما أهرُب مِن حُفرةٍ إلّا لأقعَ بهُوّة، فليسَت صورتُها هِي المُخدِّر الوحيد، بل حتّى صوتُها، وكلّ ما ينبُع عنها.
" لم يتعرَّض لي امرئ مُذ علِموا عن خلفيّتي الزّائِفة، البعضُ صدَّق كِذبة وليّ أمري، والبعضُ الآخر وجدَ ذلِك فتيلًا ليختلِق ما طاب لهُ مِن السّيناريوهات، يُشيعون أنّ الرّجُل الّذي ادّعى كونه وليّ أمري ليسَ سِوى راعيًا لي، يستخدِمُني لأهوائِه بمُقابِل. "
رصدتُ رجّةً اخترقت سواءَ كلِماتِها؛ ضحكةٌ ساخِرة.
" تِلك أصدقُ كذباتِهم، وأدقُّ ما اقتادتهُم إليهِ دراساتهم لي. "
" ليتَ بوِسعي اغتِيال كُلّ لسانٍ أجرَم بحقّ سِيرتِك!."
" البشرُ يحبّونَ المواضيع الدّسمة، ولو خلت مِن المنكّهات ذرّتها عُقولهم بغير حِساب ولا سُؤالٍ عما إذا كانت تنتَمي إلى الوصفة، أو أنَّها مُجرّدُ زيادات، نتاج خِبرةٍ مُضلّةٍ بالطّهي، لا يهمّهم سِوى التلذّذ بمِا يتناولونه على مائِدةِ الفراغ!. "
رهفت نبرتُها، ورقَّت كأنَّها جناحُ فراشةٍ تُرفرِف.
" لكِنّي في سلام، رغم أنّي أُلتَهم... بفضلِك. "
عِند نُقطةِ الوُصول هدهدتُ على الفرسِ حتّى سكنت، ترجّلت ومددتُ ذراعيّ العون لميني الّتي أسدلت قدميها مِن جِهةِ وقوفي، ووازَنت كفّيها على كتِفيّ، مُبيحةً لي أن أُقلَّها إلى الأسفل بأمان. ما تناءَت عنِّي بل وثُق خناقُها حول عُنقي، وأسهبت عيناها النّظر في قُرّتيّ عينيّ، كأنَّها تؤلبُني ضِدّي، قبل أن تفقأ شفتاها غايتَها.
" الجَوُّ مُناسبٌ لقُبلة... أجاشّي. "
ما كُنت يومًا نِدًّا لغوايتِها إذ تنبِثِقُ مِن ثغورِ مُحيّاها، وتشنُّ حربَها عليّ، لذلِك دنوتُ إليها كأنّي أدنو إلى هلاكِي على يقين مُسبق. حينَما خنق جفناها بصرها، ليتسنَّى لي التسلُّل عبرَ بابِها، حطّمتُ آمالَها، ورددتُ لها الصّاعَ بمثيلِه.
" لنخض جولةً على الأقدام، قبل أن يهبِطَ الظّلام. "
أبت الانِصياع، غابَ عنّي أنَّها امرأةُ البادِرات، لا تستحي الإقدام، ولا تخشى الاقتِحام، وما استذكرتُ أنَّها الّتي زفَّت إليّ دعواتٍ مشبوهةٍ إلى أعراسِ الإثمِ في مواقيتَ اللّهفة، إلّا حينَما اصطادَتني بقُبلةٍ نجلاء، نحّت عنّي الأعباء.
ما خجِلت بفِقهِها الشّحيح في مناهِج البالغين، ولا بعرجِ شفتيها في السّيرِ على رصيفيّ شفتيّ، غير قادرةِ على الامتِداد إليّ، فكانت تستثيرُ أنفاسي مِن جُحورِها لتنحرَها، كصلابَتي الّتي طفَّت، كما لو أنّي أطفو في فضاءٍ رحبٍ، لا تُساوِي فيه جاذبيّةُ الكِبرياءِ شيئًا! هُناك حيثُ أغدو طليقًا، لا أغلالَ تُوقِعني إذا ما صعدتُ مُنحنياتِها أو تلمّستُها.
ما أزالُ كسيحَ القدمين، حتّى بعدَ أن تولّيتُها عنها، لعلِّي أسترِدّ شرفَي وأُذِلُّها، أنا الّذي أُبعَثُ بينَ يديها مِن شوقٍ مهين، وأُعمِّر في قرارِها بشغفٍ مكين، وتصيرُ الدّنيا في مجالٍ حدّاهُ خصراها جنّة، كأنَّها لكِفاحي المقيت، ثوبٌ مُريح، وثوابٌ مليح!.
ولا تزالُ ترقُد بذاكِرتي دون دِثار رغمَ أنَّ مذاق ملابِسها لا يُضاهِي أديمَها العاري، شاماتُها البادِية والخابيةُ الّتي أحطتُ ببقاعِها عِلمًا فِخاخٌ تنسِفُ بوعيي كُلَّما سهيتُ ودُست عليها، ولفرطِ ما أبهرتني أوقعتُ العصا الّتي سكَنت يدي القاسية.
في حضرتِها يتجرّدُ مِنّي جسدِي ويُلبِّي ما تنبِر بِه مِن رغبات، فها هي ذا يدي تتسرَّب مِن تحتِ قميصِها إليها، شاهِدةً على قشعريرةٍ عمّت ظهرها، ورعشةً ألمّت بثباتِها، فتنهّدَت بصوتٍ غاصّ، تنهيدةً غطَست بينَ أنفاسي المُتهدّجة.
صبَّت نسماتُ نيسانَ خصلاتِها المُجعّدةِ على عدّةِ جوانِب مِن وجهي، كأنّها ذُريّةٌ تمرح حتّى أوشكت على الاشتِراكِ في وِصالِنا، لكِنَّ يداي اللّتين انسلّتا مِن سقفِهما الباذِخ وانطلقنا مِن تِلقاء نفسيهما ردعتاها، وبينَما أنا في أقصاها لِساني مجدولٌ بلِسانِها، وكلِماتي الصّامِتةِ بتلابيبِ كلِماتِها، انقطعت عنِّي المُؤن فتقدَّر عليّ الانسِحاب.
استرحتُ على ناصيتِها، ورُحنا نتبادَل الاعتِرافات والمُجاملات في نظراتٍ سطّرتها الأُلفة، ورغم أنَّها كانت لي موسِدًا وثيرًا، لو كُتِب عليّ ألا أبارِحه لما بارحتُه أبدًا، شعرتُ كما لو أنّي أنام على الحديد، أم أنّ ما نغّصَ الهُدنة بيني وبيني هِي أنفاسُها الّتي ظلّت ترجمُني بعلاماتِ تعجّب ثقيلة، وربَّما علامات عُجب وانتصار، تدفعُني إلى حربٍ أخرى!.
أمّا هِي فلم تُهدِر مِن زمانِنا إلّا قدَّ حاجتِها، قبل أن تُخاطِبني بخليطٍ مِن اللّومِ، والاكتِفاء.
" لم أظنّ أنّكَ ستزورُ أحد مقاماتي مرّةً أخرى، فبعدَ أميالٍ مِن الانتِظار قطعتُ جميعَ الآمالَ، وعُدت إلى نُقطةِ البداية على مضض. "
دنت مِنّي وغرّدت موّالًا طروبًا.
" أشعُر كما لو أنّكَ أطعمتني الحياة بعدَما افتقرتُ إليها. "
طرحتُ سِربًا من خصلاتِ شعرِها خلفَ أذُنِها، وبيدي الآدميّة تحسّستُ بشرتَها مُنكِرًا في موقفٍ لن ينفعُني فيه الإنكار بشيء.
" أنتِ الّتي أمسكتِ بتلابيب قميصي وجررتِني مِن أرضي إليكِ قسرًا... لا تُسدّدي التّهم عليّ بعشوائيّة فترتدّ عليك. "
حلَّت عُقدَ أنامِلها حولَ قميصي، تاركةً خلفَها انكِماشًا ملحوظًا، تُمّ سيّرتهُما على صدري بوتيرةٍ بطيئة، وقد جاهرت شفتاها بابتِسامةٍ مُذنبة.
" أتعلم؟ لا يليقُ بكِ دورُ المسكين، إيّاكَ أن تلعَبه أمامي. "
راوَدتني الأنثى المُتواريةِ خلفَ أسوارِ عينيها، والّتي تحمِل سِراجًا وهّاجًا عن نفسي، مُقابِلَ عهودٍ مِن ذهب، قد تجعلُ أقسى رجلٍ يركَع لها ولاءً، لا أدري كيفَ استطعتُ صفعَها بالرّفض والإفلاتِ مِنّي قبل أن أُفلِت مِنها رغمَ أنَّ فِيَّ رغبةً عُظمى للانصِياع.
انتزعتُ يديَّ مِن مُحيطِها، ونزعتُ يديها مِن مُحيطي، انحنيتُ أنتشِل العصا مِن مسقطِها ثمَّ باشرتُ المشي دونَها، متيقِّنًا أنّ ما لها خيارًا آخر غيرَ اقتِفائي، وبالفِعل لم تلبِث وقتًا طويلًا حتّى جاورَتني طواعية ورصَّت خطواتِها في تناغُمٍ وخطواتِي.
ما صدَمني هُو تأبُّطها لذراعِي بلا إذنٍ مِنّي، حيثُ وأدت حركتي وأودت بِي إلى السّكون. حينَما نظرتُ إليها مُستفسرًا رمشت ببراءةٍ عِدّةً مرّات، كأنّ ما تقومُ بِه أمرٌ معهود في علاقتِنا المُلغزَة. بالتّفكير في ما أُلنا إليه مِن جميعِ جوانِبه، لم أرَ في اشتِباكِنا هذَا مضرّة، لذلِك تابعتُ السّير بصمت، كانت من هشَّمه بمواويلِها العذبةَ.
" سأصدّق أنَّك أرسلتَنا إلى هُنا مِن أجلي حتّى ولو ما كانت تِلك نيّتُك الحقيقيّة. "
لمحتُها تصرِف بصرَها عنّي، وتُشرّدُه أمامَها.
" ربَّما تجهل، ولكِنّي في مِثل هذِه الأماكِن أرتدِي نفسي الأصليّة، لا أحدَ غيري، وجلبُك لي إلى هُنا أفضلُ مكافأةٍ تلقّيتُها على الإطلاق. "
وبينَما نحنُ نحبر مسارَنا على الحشيش النّضِر المُلطّخِ بالأزهارِ البريّة، ميّزتُ مِنها الخنّاق، والهندباء، قاطعت خِطابَ الصّمت البليغ بدهشة.
" لاشكّ وأنّ كُلّ هذه الأراضي تنتمِي لكَ أيضًا. "
ثِقتُها الجليّةُ بخُلاصةِ مُلاحظتِها اختصرت عليّ التأكيد. ما هِي إلّا ثوانٍ حتّى أفلتت ذِراعي، وعكست قِبلتَها تُوازِيني، كأنَّما بجوفِها فيضٌ مِن الحياة تزكّت بهِ مُقلتاها.
" ما الّذي تُخطّطُه لمُستقبلِها؟. "
تعانَقت يدايَ وراءَ ظهري.
" لم أفكّر بعد، هل مِن اقتِراحات لديكِ؟. "
" لا أزالُ أجهلُ ما يوجَد وما لا يوجد هُنا، فجولتُنا اقتصرت على حظائِر الحيوانات. "
" لأنَّها مزرعةٌ خاصّة، لا يوجدُ الكثير حقًّا. "
مدّت ميمًا طويلةً كفاصلةِ تفكير زائِفة، ثُم هتفت بغتة.
" ما رأيُك بأشجارِ الكرز؟. "
أطلَّت البسمةُ ساطعةً بينَ رابيتيها المُحمرّتين كما ذكرته، وأضافَت.
" هُو فاكِهتي المُفضّلة مُذ أنَّه زيَّن موائِد الأشرافِ في الأزمانِ الغابِرة... "
لديها وجهةُ نظرٍ صائِبة، كُنت قد شرعتُ في دِراستِها مِن كافّةِ نواحيها لولا أنَّها جاءَت بما يُثنيني، بعدَما ازدردَت حدقتيها بعبثٍ لولهة.
" لستَ شريفًا، ولكنّ لا ضيرَ مِن التظاهُر. "
جعّدت حاجِبيها، وراحَت تتفقّدُني مِن حينٍ لآخر كأنّها تجُسّ النبض، تعلَم أنَّها ماكِرة، وما هِي بندٍّ لمكري إذا ما أطلقتُ له العنان. طرقتُ جبينَها بمُقدّمةِ العصا الجِلديّة، فضمَّدته بكفّيها ونازَعت الألَم بأنين مُبالغٍ فيه، أنا لم أؤذِها حتَّى!.
للتوِّ فقط تذكّرتُ ما ارتكبته مُنذ مُدّةٍ هيّنة، وأنّي حلفتُ ألّا أدعَها تفِرّ بفِعلتِها هذِه المرّة، ليسَ بغيرِ مضرّة، لويتُ ذراعيّ وراءَ ظهري مُضمِرًا مكيدتي، وما إن كفَّت على التّمثيل وتصفَّحت ملامِحي الكتومةِ بريبة حتّى قُلت:
" مُدّي كفّيك. "
" لماذا؟. "
" لأعاقِبك على عصيانِك لي حينَما كُنّا في الإسطبل. "
هربت مِنها ضِحكة، قبل أن تُمدِّد يديها على ظهريهما بتهاون، لكِنّي ما تهاونتُ في استِعراض بطشي، وكان أعظَم مِمّا رسمَته له مِن حُدود.
" بجديّة!! لقد آلمتني. "
نفخت بداخِله جُرعةً مِن الأنفاسِ لعلّ الوجيعةَ تُفارِقه، ثُمّ خبّأته بجوارِ فخِذها وأعادَت الآخر إلى مرماي، لينال نصيبُه. ظنَّت أنّي بذلِك قد اكتفيت، ولأنّها لم تتوقَّع أنّي سأُحدِق بمُؤخّرتِها وثبت بخِفّة ما إن لامَستها العصا، ورمقتني باستِهجانٍ مرير.
" وما هذا أيضًا؟. "
سفكتُ روحَ السّكونِ بخطوةٍ قصيرة هامِسًا.
" بثٌّ تجريبيّ فقط. "
ولا ريبَ في أنَّها صبَت مكامِن ما قصدتُه، إذ تضرّجت وجنتاها بالحُمرة.
توجَّب علينا اللّحاقُ بالمنزِل قبل أن تُطفِئ الشّمس أضواءَها، حيثُ ارتحلنا بينَ أطلالِ النّهارِ الّتي تكادُ تبيد ليولَد مِن رُفاتِها حضارةٌ حديثة بعدَ عصورٍ مِن الظّلامِ، وأثِق أنَّها لن تُخيّبَ آمالي، ما دُمنا على وِفاق، وما دامَ وِفاقُنا لن يتفتَّق.
-
يبزُغ النّهارُ دونَما الحياة أحيانًا، فلا كأنَّه مُتفائِلٌ، ولا كأنَّه عازمٌ على قهرِ أُمسياتٍ خليعة غمَّته، ويغمَضُ اللّيلُ دونَما صيحات القمَر وهُو يبيعُ بضائِع الأُنس للعشّاق، ودونَما أن تكتظّ أسواقُه السّوداءُ بمُرتاديها المُخلصين، وتتألّق، لطالَما كانت الدّورةُ الدُّنيويّة لأناسٍ شاغرين عديمَة الوقع، كما لو أنَّها مشلولَة تأبى الحراك، وربَّما هُم عديمو النّفع، إذ اجتبوا تسميم قلوبِهم بماضٍ يدرونَ أنَّه لن يقتُلهم، وما هُم بقادِرين على الإقلاعِ عنه.
لكِنَّ وجودَه طغى على ما خططتُه لهُ مِن حُدودٍ، فصار الحياةَ الّتي لم تصعَد على متنِ يومي مُنذ أزمنةٍ غابِرة، وربَّما مُجرّدُ شِهابٍ عابر كزبونٍ يهوى التّجوال بينَ أسواقي اللّيليّة، ينُيرُها بحُضورِه، ولكِن لابدَّ للانطِفاء أن يُراوِده عن رغبتِه ذاتَ حين.
لم أكُ أدري ما مصيرُ علاقتِنا المُبهمةِ هذِه، لأنَّه لم يُنِّبئني، رغمَ أنّ قُبلتَه كانت تكظِم شوقًا مُحتدمًا لم تسعه، كما لن تسعه الأيَّام.
وكُلّ ما كان بحوزَتي هُو انتِظارٌ جارِح، على أملٍ طريحِ التّشاؤُم في أن يأتيني مرّة أُخرى، لأنّي لم أعُد هديّتَه الّتي لففتُها لهُ بحاشِيةٍ ورديّةٍ مِن الذّنب، لعلّي أرفّهِ عنه ما حمّلتُه له مِن نقصٍ عن غيرِ قصد، لأنّي الآن أراهُ بعينِ الطّمعِ في فُؤادي المحرومِ غنيمةً عاطفيّة، لا يُمكِنني التّفريطَ فيها، هُو لم يعُد فِيَّ وضيعًا، بل مُقتدرًا رفيعًا!.
استيقظتُ مُتلهّفةً للقائِه، مُلتحفةً طرحةَ زفافٍ زاهية، لا تُشبِه في شيءٍ طرحةِ المأتَم الّتي التحفتها البارِحة، وابتسمتُ كأنّي على موعدٍ غرامِيّ بالحياة عقِب فُراقٍ مرير، وربَّما بمذبحٍ واعِد كثيرًا ما أنسى أنَّه قد يصيرُ لي ذاتَ يومٍ مذبحًا، وأعيشُ اللّحظةَ بخُدعِها.
بذلتُ مجهودًا جليلًا في التأنُّق رغمَ أنّي لا أمتلِك فائِضًا مِن الثياب ليعسر عليّ الانتِقاء، لكِنَّه لم يُشارِكنا مائِدةَ الإفطار. بعدَ انتِهائِنا مِن تعبِئةِ أمعائِنا، غادَرنا المنزِل في شاحِنتين عاريتيّ الظّهر، حملت كُلّ واحِدةً مِنهما نصِفنا، وخُضنا الطّريقَ المُؤدّية إلى بُستانِ الفراوِلة كما وُعِدنا. صحيحٌ أنّ بيكهيون لم يُرافِقنا، لكِنّي متأكِّدةً مِن أنَّه سيُوافينا.. لا أستطيعُ تخيّلُه وهُو وسطَنا مُجبرٌ على الابتِسام وما مُحيّاه بمجبولٍ عليه!.
افتَرشنا ظهرَ الشّاحِنة اليابِس، وهواءُ الرّبيع ينثُر رخاءَه في أرواحِنا، وربَّما روحِي هِي الوحيدةُ الّتي أحسنت تقديرَه، لأنّي أهوى مُعاقَرةَ المعانِي المُعتّقةِ في سُطورِ الطّبيعةِ، تُعيقُها علاماتُ تعجُّب، فالجميعُ مُنشغلٌ بالمَرح!.
لقد ابتُلينا بصُحبةِ الفتى المُزعِج مِن الأمس، وما انفكّ يهزِج كما لو أنَّه سكِّير أضاعَ سبيلَ الفِطنة، والعجيبُ أنّي ما رأيتُه بذاتِ السّوءِ الذي رأيتُه عليه سابِقًا، إمّا أنّ دمهُ الثّقيل قد خفّ، أو أنّي الّتي كُنت أرتدي نظاراتٍ مُتّسخة، تُريني الكونَ قبيحًا، حتّى مفاتِنه، لأنَّ وِجداني تقرَّحت بفِعلِ فاعِلٍ لم أستطيِب لشيءٍ طعمًا، أليست حالُ البشَر مُثيرةٌ للشّفقة حينَما يسرق الألم بصائِرهم، فيعتكِزون تعاسةً تُضِلُّهم؟.
صحيحٌ أنّ لِساني لم يشترِك في الأغنية الّتي لقّنها للأطفال توًّا، نظرًا لأنّي الأكبَر، لكِنّي صفّقت كدعم، وأنا أبتسِم. كانَ ثمةَ رُقعةٌ شاغِرةٌ على يميني، أتى الفتى وشغلَها، مُثيرًا استِغرابي بملامِحه المُبتهِجة، لاسيما فمَه المُدجّج بضِحكةٍ عريضة، ورَبكة... وكم خشيتُ أن يُرغِمني على الغِناء، أو التصرُّف بسخافةٍ مِثله!.
" تبدينَ اليومَ مفتوحةً للنّاس، ومُستعدّةً للحديثِ والإصغاء، كذا الابتِسام، على غِرار الأمس، أحدثَ معكِ شيءٌ جيّد في ظرفِ الغيابِ القصير هذا؟. "
تنفّستُ الصّعداء، وحيَّت نظراتي سقفَنا الباذِخ بإسهاب0
" أنا كالسّماءِ تمامًا، أحيانًا أصفو وأحيانًا أغيم، وفي حالةِ ما إذا اشتدَّ سوادي وامتلأتُ مِن الحياة أحبّذُ الاتّقاء مِن البشَر... "
سُرعان ما أوليتُه بصري بشيءٍ مِن الاطمِئنان.
" إنّها مسألةُ مِزاجٍ لا غير. "
انفضّ التَوتُّر الّذي جاشَ فيه حينَما أتى، كأن الشُّكوك الَّتي شابَت قرارَه، فرَمت مِن استِقرارِه، وبسطَ كفّيه على الأرضيّة الحديديّة ساخِرًا.
" مِن الصّعب النّجاةُ مع الأشخاصُ المزاجيين."
نفثتُ زفرةَ استِهجانٍ مالَ وإيّاها رأسي قبل أن أعقِف أحد حاجبيّ.
" لم يُخلقُ الكُلّ وبأنفُسِهم ينابيع طاقةٍ متّقدةٍ كأحدهم. "
ولعلّي أحسُده على الحيويّةِ الّتي يختزِنها رغم مشاقّ الحياة، وشقوقِها الّتي مِن شأنِها ابتِلاعُ الأرواحِ مهما بلَغ حجمُها...
في غضونِ لحظاتٍ اكتسيتُ الجديّة، وتمتمت.
" البعضُ خُلِق مُنطفئ، والبعض الآخر خُلِق لينطفِئ. "
تعمّدتُ تشتيتَه بلمحةٍ عن الأمس حيثُ كُنت قادرةٍ على نحرِ كُلّ مَن يُخاطِبني.
" عليكَ تعويدُ ذاتِك على التكيُّف إن أردت مُعاشرةَ شخصٍ مِن عالمٍ يختلِف عن عالمِك، وربَّما يعتنِق ما يُنافي مُعتقداتِك، والتمرُّس في الابتِعادِ لحِفظ المودّة بينكُما، أو حتّى للحِفاظِ على غُربةً وديّة، بدَل جنيِ العداوة مُقابِل اللّاشيء. "
سها إلى الأفقِ، فتشرَّدت كلِماتُه بلا رقابة.
" أنتِ مُخطِئة، الجميعُ مِن عالمٍ مُختلف، لا أحَد يُشبِه غيرَه، ولا اثنين ينتَميانِ لذاتِ النّمط، الجميعُ أُحجية، فحتّى مَن تخالين أنَّه انعِكاسٌ لدواخِلك على المرآة قد تكتشفين أنَّه الصّورةَ ذاتَها لكِنّ كلِماتِه مقلوبة. "
أطرقتُ برأسي مُؤيّدةً، ثُمّ أضفيتُ على ما قالَه رأيي الصّريح.
" ولا أحدَ يظلُّ كما عهِدته، لأنَّ الزَّمن يكتُب، والظّروف تُحرّف. "
أنا وبيكهيون مُتشابِهان، كصورةٍ وانعِكاس، لكِنّي أجِد صعوبةً في فهمِه أحيانًا، كأنّه بين اللّيلةِ واللّيلةِ ينبُش فيه الخفايا، فينجلي ما بعدَ النّهايةِ فُصولٌ أُخَر!.
حينَما خِلتُ أنَّه قد فرَغ انتفضَ لِسانُه وزجَل.
" لم يكُن الابتِعادُ يومًا لُزمًا، لعلَه ينفع لحِمايتِك مِن تطفُّل غريب، لكنّ القريب مهما اسودَّ وأنفرَ من حولَه، سيتمنّى دومًا لو يتحدّى أحدُهم ما نثرَه مِن زوابِع ليُسافِر إلى قُرّتِه. "
لا أدرِي مِن أيِّ فجٍّ قدِمت النّجوى الّتي توطّنت بصوتي!.
" أتعتقِد ذلِك؟. "
صحيحٌ أنّي شوّكتُ حدُودي لئلّا يعبُرها أحد، لكِنّي وبينَما أنا مُعتكفةٌ في أعماقي المُتصدّعةِ فُرادى، وبينَ الخيبةِ والأخرى تمنَّيتُ لو يحتلُّني أحدُهم، وما عبَرها أحدٌ مخافَة ما سيلقاهُ فيّ، عداه، كذلِك أخترِقُ مِن حينٍ لآخر أهوالَه حتّى أصِل إليه، ورغم أنَّه قدَ سعا ذاتَ سُويعةٍ لتهريبي احتَضنني بجُلّ ما لديهِ مِن اشتياق، كأنَّه توسَّل أن أحضُر!.
" بما أنّكِ في مزاجٍ جيّد اليوم، فلنستَمتِع. "
في مطلعِ الحقلِ ركنت الشّاحِنتان، كي لا تُدنّسا أرضَه بآثارِ عجلاتِهما الّتي التقطت أوساخَ الطّريق كُلّها، وكان في انتِظارِنا كهلانَ بشوشان، امرأةٌ ذاتُ ملامِحَ شابَّة ومُقلتان هرِمتان، تحتَ عصابةِ رأسِها تتوارى خصلات شعرِها دونمَا استثناء، ورجُلٌ بلغَت سحنتُه في الاختِمار مبلغَه مِن العُمر، فبانَ عليها ولم ترحمها التَّجاعيد.
دلّانا على مقصورةٍ ضيّقةٍ بعضَ الشّيء، عثَرنا فيها على ثيابٍ مُشابهة لثيابِهما، قُمصانٌ مُلوّنة، وسراوِيلُ مورّدَة، حصلتُ على الأزرق، ومُذ أنّنا قد سبقنَا الذُّكورَ إلى احتِلالِها، تحتَّم علينا الانتِظار لبُرهة مِن الزَّمنِ خارِجًا ريثَما يلتحقون بِنا.
بعدَما غدا الجميعُ جاهِزًا، ارتحلنا إلى بُستانِ الفراوِلة الّذي اصطفّت فيه شُجيراتها الأرضيّة كأسطُرٍ على ورقة، وحبّاتُها اليانِعة كلماتٌ شهيّةٌ تجذِبٌ الجائِع والشّبِع، تفصِلُ بينَها خنادِقُ منسّقة. أصغينَا إلى التّعليماتِ الّتي أفرجَت عنها المرأة بإمعان، ثُمّ انتشَرنا في الأرجاء، حاملين سلالًا مِن القشّ، والّتي صارت مرتعًا لمُواطني الشّجَر.
كان وويونغ يفقَّدُني أحيانًا ويُعينُني على القطفِ، وانتِقاء الثمار الأنضجِ مِن المعمورة، إذ واجهتُ صعوبةً في ذلِك، وما هُو بصعب، وربَّما لأنّ شطرًا جسيمًا مِن عقلي تنحّى عن منصِبه، طفَّت قُدرةُ عينايَ على التّمييز، وصارَ عقلي موطِنًا لأفكارٍ موبوءَة... كيف لا تلدغُني الذّكرياتُ، وما أراهُ الآن يُشبِه شفاه أحدهم؟.
مددتُ يدي مِن جديد وأنا في سِنة، وانتزعتُ حبّة فراولة مِن موضِعها، تحتَ رقابَة الفتى الخبير في هذا المجال، وما وعيتُ إلّا على نحيبِه بجوارِ أذني.
" يا مينّي، لماذا لا تزالين تقتطفينَ النيّئة مِنها، ألا تُبصرينَ الخُضرةَ المُنتشرة على حوافِها، وبينَ جنباتِها؟ ستكونُ حامِضة ولن يُرضِيَ مذاقُها أحدًا. "
مِن بابِ الغُرورِ فنّدت أطروحَته، ووضعتُها في السلّةِ الّتي كادَت تنتصِف.
" مَن قال ذلِك؟ أنا أحبّ الحوامِض. "
وبينَ عِنادي وخيبتِه انسلَّ صوتُ بيكهيون، وقبضَ أنفاسي.
" لماذا رأسُكِ يابِسةٌ بهذا الشّكل؟. "
ظلَّ كِلانا جاثيًا على الأرضِ، غير أنّ وويونغ اجترأ على زيارةِ مُحيّاه، ولِم لن يفعَل؟ ليس شخصًا اقتَرفَ على سريرِ الأفكارِ ما يجعلُه يحطّ رأسه!.
" أصِف لها مُنذ ساعتين هيئةَ الثّمارِ المُؤهّلةِ للقطف، لكِنّها لا تزال تُخطئ. "
أطلقتُ على وويونغ طلقة تأنيب، ثُمّ عطفتُ رأسي وصولًا إلى بيكهيون، فرأيتُه يوجه للفتى إيماءةً تأمُره بالانصِراف، امتَثل وتركَنا بمُفردِنا في هذا الرّواقِ الطبيعيّ، على مرأًى مِن البقيّة، مرّت ساعتان وأنا بانتِظارِ قُدومِه، وها قد تكلّل بالحُضور، لكِنّي عاجِزةٌ عن الإقدامِ نحوَه ولو بكلمة، ما الّذي ألقاهُ عليّ لأمثل أمامه كالجمادِ الأخرس؟.
انصبَّت نظراتُه بجوفِ سلّتي، ثُمّ استوت ابتِسامةٌ ثقيلةٌ على شدقِه.
" لاشكّ وأن حلق الفتى قد جفّ وهُو يوجّهُك، النّتيجةُ سيّئةٌ للغاية، حتّى الصّبيةُ مِن أبناءِ المزارعين بوسعِهم القيامُ بعملٍ أفضل. "
حينَما منَح بصري شرفَ الاطّلاعِ على خارِطة وجهه المُتبّلةِ بالتّفاصيل الطيّبة، تُهتُ في الميدان رغم أنّي أحفظُه.
" لم أعهدكِ بطيئة الفهم هكذا، أم أنّ ثمةَ ما يُثقل فِكرك، ويُعرقله؟. "
عجيبٌ كيف شخّصَ عِلّتي بنظرة!.
هرعتُ أُخفي وجهي الّذي ارتَعشت معالمُه بعدما ضربَها زِلزالُ التوتُّر بالأرضِ المغروسة، وتظاهرتُ بأنّي مُنهمكةٌ في العمَل.
" ليسَ شخصًا يُدعى بيكهيون طبعًا. "
واصلتُ اختِطاف الثِّمار مِن منابِتها بعشوائيّةٍ صارت مُتأزّمة، في حين صمت وصمت، رغم أنّي ألمَح على صفحتِه كُلّما استرقت إليها النَّظر حشدًا مِن التّساؤُلات، كانَ كبالونٌ بصدد الانتِفاخ... في النّهايةِ انفجَر بهدوء.
" أرى أنّكِ قد استطعتِ تكوين صداقاتٍ جديدة، رغم أنَّ ذلِك مُخالفٌ لسجيّتِك، لطالما كدّستِ الحواجِز أمامَكِ، وما أذِنت لأحدٍ بتخطّيها. "
عثرتُ في كلماتِه على بارودٍ نسبتُه إلى الغيرة، ربَّما لأنّي أردتُ له أن يشعُر بها، قرّرت إشعالَه أيًّا كانت التّبِعات، فنهضتُ أحمِل سَلّتي متوسّطةَ الحجم مِن مِقبضِها، ونفضتُ شظايا الأترِبة عن سِروالي بتلكّؤ، ثُمّ واجهتُه.
" هُنالِك دائمًا ذلِك المِغوارُ الّذي يُحطّمُ الحواجِز بكلِماتِه المفتولة، ويكسبَ قُلوبًا جريحة، لقّنتها الحياة أُصول الحَذر. "
حتّى وأنا متيقّنةٌ مِن أنَّ الغضبَ يلوكُه لم أَكِنّ، بل دنوتُ مِنه وألقيتُ عليه مزيدًا مِن الزّيت، بصوتٍ كفحيح الأفعى.
" أليس وويونغ وسيمًا؟. "
تعكّر مُحيّاهُ بشكلٍ واضِح، وتشاحَن حاجِباه مُحدثين كَمًّا مِن التّجاعيد بينهُما، وعلى جبينِه، لكِنَّه استكبَر الإدلاءَ بأيّ خَبر لي، وجدتُني مُرغمةً على إنهاءِ المسرحيّة الّتي بدأتُها، حيثُ صُنت بيننا مسافةً هزيلة، وعاقرتُ نظراتِه المُشتعِلة.
" لا تقلق، فأنا أميلُ إلى الرّجال الأكبرِ سِنّا. "
خُطوةٌ زهيدةٌ في مُقلتيه تُرهِقُني، وتكُلّفُني زفرةً كثيرًا ما تهرّبتُ مِن تسديدِها...
سُرعان ما خلعتُ مرآه عنّي، ومُذ أنّي فرغتُ مِن هذِه البُقعةِ الّتي لم أُنصِفها في الاختيار، إذ جرّدتُ قُصّرًا مِن أكنافِ شُجيراتِهم، زحفتُ إلى رُقعةٍ مُغايرة وطويتُ قامَتي ليسَعني لقفُ بناتِها، ولأنَّ السّبب قد بطُل فلن تتكرَّر ذاتُ أخطائي الشّنيعة.
مُعظَم الرّفاق رصدوا وجودَه في الجوار، وسرقوا انتِباهه مِنّي لوهلةٍ مديدة، قضيتُها أنا في العمَل بسلام. كانوا يتودّدون إليه بحبّاتٍ مِن الفراولة، ما ولَّد في نفسي غيرةً محسوسة؛ لقد تمنّيتُ لو أفعَل المِثل، لكِنّي أخشى أن يُساءَ فهمي!.
ظننتُ أنَّه سينسحِب مِن جواري عاجِلًا أم آجلًا، فالتّهافُت عليهِ ليسَ بمزحَة، الأطفال يقدّسونَه، ولو أنَّ بيدِهم الإمكانيّات الماديّة الكافية لشيّدوا لهُ نُصبًا تذكارِيًّا يُخلِّد إنجازاتِه الخيريّة كما يُهيّأ لهُم، ولشارَكتُهم فيه رغمَ عِلمي عن عُيوبِه الخُلقيّة، لأنّي الأحقّ بشُكرِه وتكريمِه، لذلِك طوّعتُ معدِني الخشِن، وجعلتُ مِنّي وِسامَه.
تفاجأتُ حينَما حلَّ على مقربةٍ مِنّي، بحيثُ لا يفصِل بيننا سِوى يارداتٌ حقيرة، وراحَ يجمعُ الثمرات ويزجُّها في سلَّتي بصمت. حدّقتُ بواجِهتِه الجانبيّة الموضوعة في مُتناولِ بصري للحظة خِلتُها عقيمَةً فتناسَلت، حتّى أمسَك بي مُتلبّسة.
نكستُ رأسي، ولُذت إلى الصّمتِ ريثَما أُرمِّم كلِماتي، وأصقُل جُرأتي، ثُمَّ أفرجتُ لهُ شيئًا مِمّا اختَلج فِكري، دونَ أن أتقاعَس في شُغلي.
" اعتقدتُ أنَّك ستستيقِظ باكِرًا وتُرافقُنا إلى البُستان، وانتظرتُ حتى فقدتُ الأملَ في التِحاقِك بِنا، بعد التّفكير اكتشفتُ أنّي كُنت حمقاءَ حينَما آمنت بالمُستحيل، ليسَ وكأنَّك الشّخصُ الّذي أوهمتَ الجميع أنَّك عليه، ولن تختلِط بأطفالٍ يُتَّم. "
تقصّيتُ حصيلةَ ما نثرتُه على مسامِعه بنظرةٍ خاطِفة، خوّلتني أن ألحَظ سكونًا ألَمّ بكُلِّه، سُرعان ما تدارَكه، واسترسلت يداهُ جني الفراوِلة.
" وما أدراكِ أنتِ بحقيقةِ شخصي لتُطلِقي عليّ أحكامَكِ هكذا برعونة؟ كُلّ مِنّا سافَر في قِطارٍ مُستقلّ، ولم تجمعنا سِوى محطّاتٌ دُنيويّة معدودة، إضافةً إلى نُزل احتوى حماقاتِنا في ليلةٍ عمياء، تعطَّل فيها الّزَمن لم تكشِف عن دواخِلنا."
في إحدى المُنعرجات الزمنيّة، وحيثُ تخضَّب صوتُه بالشّرودِ تشرّدتُ بينَ أزِقّةِ وجهِه المهجورة، لطالَما كانَ خامِدًا، لا يهيجُه سِوى الغضب.
بمُجرّدِ ما خوِيَ بالُه مِن الكلِم التفتَ إليّ.
" لا أعلَم، ربَّما لأنّي عاجِزةٌ عن تخيّلُكِ وأنتَ تحظى بالمرَح، ربَّما لأنّكَ ومُقارنةً بي عجوز ومُنطفِئ. "
رمقَني باستِنكار فاضطررت لتصويب منحى تفكيرِه.
" يهرم البعضُ قبل ميعادِهم، فالألمُ يختلِس مِن العُمر، إن كُنت لا تعلم!."
غرِق في أفكارِه الخاصّة وتمتم0
" كلّ ما في الأمر أنّي أسرفتُ في النّوم. "
لم يعُد إلى أرضِه إلّا عِندما سألت.
" لماذا؟ هل عملُك كجِنرال مُتعَب؟ أم أنَّكَ قد قُمتَ بعملٍ إضافيّ؟."
" أنتِ كثيرةُ الثّرثرة. "
استقام، ونفَض كفّاه مِمّا علِق فيهما مِن شوائِب، لم ألبث وقتًا طويلًا حتّى ترفّعتُ بدوري وفي يدي حبّة فراوِلة بدينة، تفوزُ بلقب أفضلِ ما جنيتُه اليوم، أبحرتُ بها نحوَ مرفئِه.
" افتَح فمَك. "
أزاحَ رأسَه إلى الوراء بمسافةٍ نحيلة مشدوهًا.
" ما الّذي تنوينَ عليه أمامَ هِذه الحشدِ الغفير؟. "
" وما العيبُ في أن أُطعِمك؟ سيخالون أنَّه مُجرّدُ امتِنان. "
وحِفظًا لسِرّنا الأثيم أمتُّ ما فرضَه علينا مِن مسافة وأضفتُ بهمس.
" لن يشُكّ أحدٌ في أنّ رجُلًا مِثلك قد تجوّل في جسدِ مُراهقة مِثلي. "
لم يقتنِع بعُذري، على الأغلب يُفكّر في أنّنا لسنا بعلاقةٍ رومانسية تسمحُ لنا بمُمارسةِ هذِه الأفعال البريئة، لكِنّي كُنت مُصرّة، لذلِك دُستُ على قدمِه. حينَما فجّ فكّيه حشوتُهما بالفَراولة، وقضَم البعضَ مِنها مُكرهًا ليتحرّرَ ليسَ إلّا.
" طلباتي أوامِر، إيّاك وأن تُعارِضني. "
أخذتُ البقيّة وهربت إذ اصطَبغت واجِهتُه بذاتِ لونِ الفراوِلة الّتي لقّمتُها لهُ رغمًا عنه، شعرتُ وكأنَّه سيسكُب عليّ الويلاتِ متبّلةَ بسُخطه في أيّةِ لحظة، أي أنّي قد أنقذتُ كلينا...
ما صدّقتُ أنَّه قد تغاضى، وظلّ يقتفي آثاري حيثُما حططتُ يحطّ بجِوارِي، ولا أُنكِر أنّ إيوائي له في مدى بصرِي لهُو مِن دواعي سُروري!.
قبل ساعةٍ مِن موعِد الرّحيل استَبقه، لعلَّه لا يبتغي أن تُلطِّخ الفوضى وقارَ طريقِه، وربَّما يخشى ألّا يندمِج معنا، أمّا نحنُ فاغتَسلنا في الحمّامات المُخصّصةِ للعُمّال، ثُمّ اكتسينا ثيابَنا الخاصّة، وانتظرنا اكتِمال عددنا حتّى نعود إلى المنزِل، ومُنذ أنّ وويونغ يُرافِقنا، لازَمتنا الفوضى، والجلبة، رغَم أنَّ الجميعَ مُرهقُ مِن الواجِب.
أدركنا المنزِل بعدَما أصابَنا اللّيل في مُنتصَف الدّرب، لكِنّه لم يزِدنا إلّا حماسة الكُلّ يُفضِّله بعوائِقه على النّهار وتيسيراته... كذلِك يهوى البشرُ جُلّ ما هُو ممنوع، أو مفعمٌ بالتحدّيات على السّهلِ المُمتنِع
كانت الثّامِنة مساءً، وشوق، جميعُنا جالسون إلى طاوِلة العشاء المُعدّةِ بأشهى الأطباق، نترقّبُ وفود العُنصر المفقود كي نُداهِمهما، لكِنَّه تأخَّر قليلًا. مُنِحت الفُرصةَ لإطفائِه حينَما قامَت السيِّدة آهن وعلى كاهِلها مهمَّة تُهِمّني.
" فلتصبِروا قليلًا، سأذهبُ لأنادي السيّد بيون حتّى يُشارِكنا المائِدة. "
ترجّلتُ عن مقعَدي كاللُّغمِ إذ تثِب الأشلاءُ مِن حولِه وهتفت.
" أنا سأناديه. "
" حسنًا. "
سِرتُ ناحيةَ الدّرجِ بخطواتٍ حثيثة، ثُمّ انعطفتُ على يمينِه؛ غُرفتَه مُنفصلةٌ عن شقيقاتِها في هذا المنزِل، وحيدةٌ في الرّواقِ مِثلهُ في هذا الكون، وحدَث أن اصطدمتُ بِه ما إن أشرفتُ على الطّريقِ المُستقيم، وشعرتُ أنّ أنفي قد تهشَّم بصدرِه الصّلب.
" إلى أينَ أنتِ ذاهبةٌ بكُلّ هذِه العجلة؟. "
" طلبت مِنّي السيّدة آهِن إخبارَك أنّ العشاءَ جاهِز، لتأتي وتُشارِكنا. "
رأيتُ الخُبث ينصب سُرادِقه في عينيه قبل أن يعقِد ساعديه.
" لم تُجيبي على سُؤالي، ما الّذي يدفعكِ إلى الإسراعِ كما لو أنّ وجودِي في خطر؟ هل خشيتِ أن أفرّ؟."
أخفَض صوتَه حتّى غدَا رخيمًا كأناشيد الملائكة.
" أم أنّكِ أردتِ الاختِلاءَ بي؟. "
استَعمرت أنامِلي فراغاتِ يديّ الاثنتين، فيما زوَّر ثغري العُبوس.
" خشيتُ أن يسبِقني أحدُهم إليك، ويسرِق مِنّي هذا اللّقاء الشيِّق رغمَ ضيقِ مجالِه، فالجميعُ مُعجبٌ بِك. "
" ماذا عنكِ؟. "
وكم كانَ سُؤالُه العشوائيّ مُربكًا لي!.
جنّبتُني هيئَته الغاوية لئلّا تزلَّ خُطاي بِها فيزلّ لِساني. سُرعان ما تفطنّتُ إلى أنَّ خصلاتِه الطّويلة المحكومِ عليها بربطة في دُبرِ عُنقه نديّة، وتلمّستُ ذوائِبه لعلّي أصرِفه عنّي.
" شعرُك مبلول. "
قبَض على مِعصمي بكفِّه الآليّة وأخفَض ذِراعي بتلكّؤ مقصود، نبّأتني عيناهُ اللّتان ارتَدتا نِصفَ جفنيه أنّه قد خَلد إليّ، وحينَما تراخَت نظراتُه وخارَت صريعَة شفتيّ، يليها إبهامُه أدركتُ ما ينوي عليه.
قبل أن يجرِفني إليه نبست بتردُّد.
" بيكهيون، العشاء. "
" لا بأسَ ببعض المُقبّلات. "
أنشبَت يدُه على خصري دونَ أن تُعتِق الأخرى مِعصمي، وشّنت شفتاه حربهُما في مِحرابي بنهم بينَما يُزيحُني إلى الوراءِ حتّى ثويتُ الحائِط، كأنّه تحالف وإيّاه ليطيحَ بنفسي ويزيدَني مِنه قُربًا، وقد أفلح إذ اختنقتُ بجسدِه وما أنا بنِدّه لصدِّه!
وربَّما لأنّي لم أرِد أن أصدّه، وكخائنِ للوطن لا يكتَفي بالفِرار بل ويبيعُه بثمنٍ بخسٍ، بِعتُه مُلك جسدي مُقابِل مُتعةٍ لحظيّة، ولكِنّ هذِه المُتعة تُؤوي العُمر بأكملِه داخِلها، كأنَّ الزَّمن فيها يتسارَع كلمحِ البرق في ليلةٍ عاصِفة؛ هِي ليلتُنا الكحيلة الّتي قطَر الشّغف مِن عيونِها، وحتَّى إذا ما أخلاني مِنه، وفتحتُ عينيّ على الخرابِ الّذي ذراه في نفسي لا يُراوِدني أيّ ندمٍ، ولا أيّة رغبةٍ في تحريك عجلةِ الزّمنِ إلى الوراء، ومنع ما حدَث بيننا.
لم يسأل عن إذني حينَما همّ باقتِحامي، ونهبِ ما أكتنِزُه مِن أنفاسٍ بالكادِ تجعلُني أقِف في حضرتِه، وبخُيلاءٍ ذرا خُطاه على شفتيّ كغُلامٍ يمرحُ في الحيّ مُنتعِلًا خفقاتي. لم يُتِح لي الفُرصةَ للتّعبيرِ عن ولائي، فما اقتدرتُ على مُجاراةِ قُبلاتِه الهوجاء ولمساتِه المتغطرِسة، لكِنّي فتحتُ لهُ بابي، واحتفيتُ بِه واضعةً يديّ على كتفيه برخاء، وسقيتُه مِنّي بكرم، دونَما أن أعبأ بالمكان والزّمان، وما مِن شأنِ الحياة أن تحفِره لنا مِن مكائِد.
حطّ يدَهُ الّتي كانت تحتجِزُ مِعصمي على الحائِط، فصارت لي زنزانةً هنيئة، وسيَّر لُثمَتنا باستِهتار على قدّ الانتِظار. رغمَ كُلّ ما اجترعناه مِن إكسير الرّغبةِ لم نصبُ الاكتِفاء، كأنَّه ارتحَل مِن بينِ أكفُفِنا حينَما انحلّت واعتنقت ثيابَ أحدِنا الآخر، تشتهِي خلَعها لولا أنّ الظّروفَ مُعادية، فغدا صعبَ المنال، وبينَ التّنهيدةِ والأخرى كُنَّا نصرِف لهفة، تعود مُختبئةَ في ذرّاتِ الهواء الّتي نُمرِّرُها إلى دواخِلنا جيوشًا ضارية.
خلَّف بيننا حائِلًا مِن الفراغ، راجعنا فيه أنفاسَنا بعدَما طردناها مِلء إرادَتِنا، شعرتُ بصدرِه المُحتكّ بصدري يرتَجّ؛ يعلو ويهبِط، وكَم صعُبَ عليّ تجميعُ قِطعي تحتَ سطوةِ أنامِله الّتي جابَت خدّي، قبل أن يكتمِل شِفاؤُنا مِن نوبةٍ اسمُها نحن.
" لم يسبق أن شعرتُ وأنا في أعالي امرأة، كما أشعُر وإيّاكِ. "
لم تُفارِق عيناي عيناه رغم أنَّهما عصيّتان على المُعاشَرة... كُنت مُخدّرة أجابِه للحِفاظ على توازُني، وواهنِةً مِثل صوتي.
" لم أعهَدك صريحًا هكذا، تُوزِّع الاعتِرافات في مسمعٍ مِن أحدِهم. "
تكَلّل ثغرهُ بابتِسامةٍ عابِثة.
" لستُ أعترِف، إنَّما أُعرِّفُك عمّا عرفتِه سلفًا. "
انبثقت مِن فوهِي ضِحكة متفكّهة، على أعقابِها هبطَ كفّايَ عن كتفيه وافتَرشا صدرَه الوثير. تفرّستُ ملامِحه لبعضِ الوقت، أُماطِل ما رجس في خاطِري، ثُمّ قضمتُ شفتي السُّفلى أُعطِّله عن المضيّ، مخافَة أن يسحَقه بالرّفض لكِنّي جاهرت.
" هل تودُّ أن نُبرِم حلِفًا سريريّا؟. "
دبَّت يدُه على جنبِ عُنقي، غمِض جفناه، وتلطَّخ وجهي بأنفاسِه المُضطرِبة.
" بشدّة. "
حينئذٍ كانت قُبلتُه أفصَح مِن أيّ كلمة، إذ تناهى صداها إلى أعماقي بجموحٍ كأنَّه ها هُناك يصدَح بجلال، وكانت شفتاهُ أمهَر مِن أيّ قلمٍ في مُبارَزةِ الواقِع، وإفسادِ نقائِه بما يختزِنُه مِن خيالاتٍ سوداء ومِن خواطِر بديعَة.
همّشتُ ما نحنُ عليهِ مِن اختِلافات، وتشبّثتُ بشعرِه الرّطب، أقي نفسي مِن الوقوع، وربَّما أدفعُني إلى القاعِ بكامِل إرادَتي!.
يحدُث أن أُضيِّع عقلي كُلّما فتّشت أنامِله جسدي، كأنَّه مُصيبةٌ مِن شأنِها أن تُورِّطني بالاشتياق وأنا في غِنًى عنه، ولعلَّ عقلي هُو الّذي يضيعُ مِنّي في آنٍ مُخضّبٍ باللّهفة، فلا يعثُر فيّ سِوى على أنثى خاضِعة، فيه راكِعة، كما يودّ.
هُو قاطِعُ وقتٍ يختبِئ في أغوارِ الذّكرى بمكر، ثُمّ يتخلّلُ أيّامِي دون سابِق إنذار، ويختلِس مِن عرباتي الباذِخة ما طابَ لهُ، يُكمِّم فمِي بقُبلاتِه الآثِمة وصمتِه العريق، ويُلثِّم عينيّ البصيرَتين فلا تُبصِرانِ نُذله، ويغتصِب فُؤادي بحُضورِه الجليّ.
أقعَد ذقني إلى سبّابتِه المطويّةِ وقال بهُيام:
" حينَما يخلو البيتُ مِن الحياة تعالي إلى غُرفتي. "
أرغَمتنا جلجلةُ الجرسِ الّتي بدَت كأنين النّاي لمسامِعنا الغارِقةِ في تراتيل العاطِفة على الانفِصال، حيثُ اتّجهنا إلى غُرفة المعيشة سويًّا حامِلين سِرًّا عظيمًا، وما لأحدِ القُدرة على التّشكيك في ما خُضناه بعيدًا عنهم.
لاحظتُ انضِمام غريبٍ إلى جمعِنا؛ امرأةٌ صبوح، ذاتُ أديمٍ صافٍ كسماءٍ صيفيّة عذراء، بينَ جفنيها تقطُن جوهرتان تُنافِسان الجواهِر الدُّنيويّةِ في اللَّمعان، لا ريبَ في أنَّ أيّ رجلٍ يتوقُ لامتِلاكِهما، خُصلاتُها الحريريّة مُسرّحةٌ على شاكِلةٍ ذيلِ حِصان خفيض، يرقُد بوداعةٍ على ظهرهِا، أمّا قوامُها فمُفصّلٌ على مقاسِ أنثَى.
سطا الاكفِهرار على سحنةِ بيكهيون بصفةٍ مُريبة، ما إن رآها واثِبةً على مسافةٍ مِن المائِدة، رُفقة مُدبِّرةِ المنزِل، كأنَّه على معرفةٍ مشوبةٍ بِها، في حين تقافَزت نظراتي المستغربة بينهما.
" ما الّذي جاءَ بكِ إلى هُنا؟. "
لفّت وجهها نحوَ مصدرِ الصّوت، ثُمّ أقبلت عليهِ بإشراق.
" لقد سمِعت مِن تشانيول أنَّك في زيارةٍ للمزرعَة، كان عليكَ إعلامِي لنأتيَ سويًّا، مرّ وقتٌ طويلٌ مُنذ آخر زيارةٍ لنا. "
انقبَض صدري وعرض جفناي، بسببِ تفسير جال في ذِهني لكِنّي أأبى تصديقَه، حينَما اكتشفت المرأة أنّي ضائِعةٌ بينهُما، هدتني إلى الحقيقةِ المُرّة بكُلّ سُرور!.
" أنا إن ها، زوجته. "
-
شو رايكم بالفصل!
اعطو عنوان للفصل يلا 😂
أكثر جزء عجبكم وما عجبكم!
ميني!
بيكهيون!
بث تجريبي يا اجاشي ها!! 🐸😂
وويونغ!
إن ها!
كيف ستكون ردة فعل ميني على حضور زوجته؟
هل سيحافظان على مخططاتهما أم يطرأ تغيير؟
كيف ستتعامل المرأتان مع بعضهما؟
ضيف الشرف وويونغ من فرقة ايتيز 😭😭
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro