الفَصل | 8
هلا بالخفافيش الحلوين 😍👋
كيفكم اشتقتولي او لا 😑🔪 اكيد اشتقتولي واشتقتو للاجاشي الجميل 😂
هالرواية عاملة لي هوس 😂😂😂 دائما بقول لازم غير الكونسبت بس اوقع دايما بالقصص العاطفية البحتة لايك شيت 🌚😐
شكرا لكم على 20K 😭😭😭
تعرفو اني واصلة بالكتابة للفصل 11 بس انا شريرة ما بنزل 🐸🔥
اكسوالز شخباركم مع التيزرات لسا عايشين!! هرمنا عشان هاللحظة 😭😭
-
Enjoy 💕
-
وما العينُ إلّا متملِّقة، تُحبّ ما ترى، وتُرينَا ما نُحبّ أن نرى أحيانًا.
لطالَما أبغضتُ أولئِك الّذين يستلهمون أحكامَهم مِن أطلالِ وجه، والّذين يُشيّدونَ الظّنونَ بطوبٍ واهٍ تبتاعُه أعينُهم مِن سوقِ القول أو الفِعل بغير أن تمتحِن جودَته، وما إذا كانَ سيصمُد يومَ تعصِف بِه الحقيقة. أولئِك الّذين ينجّمونَ عن دوافِع تسوّل لألسِنتهم القتل!
ما اعتقدتُ يومًا أنّي سأبتلى ببلائِهم، وأعدِمُ أحدَهم بداخِلي ظنًا أنّي صاحِبةُ الحقّ، مُذ أنّي صاحِبة الخسارةِ ظُلمًا، إذ عصَب الشّجن بصيرتي آنذاكَ مؤتمنًا كفّي على سيف غِلّ بتّارٍ يتوق للالتِحام، وزوَّر المُلابسات بنظري لتتماشى سويًّا وما أشتهيه؛ ألا وهُو إلحاق اللّومِ بأحدهم، لأتنفّسَ حينَما ينزِف فيّ، ولأُرفِّه عن نفسي، فأقتدر أن أعيش.
اجتذبني الزّمَن إلى قاعِه، وانصعتُ له بقناعةِ الميّت في أنّ مصارِع التّغيير قد أوصِدت، حتّى بلغتُ فيه عمقًا سحيقًا، وخِلال مسيرتي واصلتُ طعنه-بيكهيون- كُلّ ليلةٍ ثوى فيها السُّهاد جفنيّ، وتذكّرتُ أنّه الّذي أوّلني إلى ما أنا عليه الآن، أنّه هُو الّذي وهبَني حياةً تفوقُ الموتَ وزرًا حينَما كان أشدّ الضائقات وسعًا ورحمة.
لم أدرِ أنَّه قد دفَع مُقابِلي ثمنًا باهِظًا!
لكِنّ الحقيقةَ فلقت الظّنون ورويدًا رويدًا غمرت السّماء، كفجرٍ أنيق قمَع قُبحَها، وما هُو بأنيسٍ لمَن مسخت سحنتَه لأنّه صدّقها، فصلّى ألّا يبان.
اليوم أعي أنّه قد كان جُزءًا مُثمِرًا تبرعَم في ماضٍ مُقفِر، رأيتُه بعينيّ الظُلّم الّذي شغفَ فؤادي شائِكًا فخِلته ضارًّا، لا نفعَ فيه لسِواه، وما استسغتُه، واليومَ تتراءى لي طينتُه الرّخوة، وأدركُ كيفَ أحاقت بهِ الأشواكُ، وأيّ المآسي قد قاسى... بسببي!
الصّمتُ حِذاءٌ ضيّقٌ يخدِش لِسانِي مِن دُبُر، لكِنّي بعِناد أنثى تأبى التخلِّي عمّا راقَ لها حتّى وإن لم يكن مِن مقاسِها أصررتُ على انتِعالِه!
وربّمَا لأنّي لو سِرتُ حافيةً على سجادِ هذا الموقِف المحفوف بالفِخاخ لتأذّيت، أكثَر مِمّا آذَتني الحقيقة... لأنّي لو قُلت فقد أهذي بما لا ينبغي عليّ أن أقولَه، أو بِما لا يُطربه سماعِه، فهُو رجلٌ مُعقّدُ اللّغة، صعبُ المراس.
ما فارقَ بصري كُمّ ثوبِه الأيمَن المهجورِ مِن نزيلِه، على عكسِ نظيرِه الّذي يثبِّت المنشفة برأسه، رغم عِلمي أنّي بذلِك أهينُه عن غيرِ قصد، هُو الّذي سعى جاهِدًا لإخفاءِ بترِه لئلّا تُرقرِق لهُ مُقلُ الشّفقة، ولئّلا يُنظَر إليه مِن عدسةِ النّقص، لن يهتدِي إلى أنّ العبرات الّتي تترقرقُ في مآقيّ وليدةُ الذّنب، وأنّ ما يُرعِش شفتيّ هُو أسفٌ عاجِزٌ أن يبرحُهما!
قعدت حدقتيّ إلى مُحيّاهُ فإذا بالسُّخط يقشعُ الصّدمة عنه، ويعمُّ محارِمه، رجلٌ ذو كِبرياءٍ مًعتَّق مِثله، سيرفَع صوتَه ليُوارِيَ أنين هزائِمه حينَما يُجلجل مُقلتيه، فلا بأسَ أن تحمرّا مِن سخونةِ الغيظِ، ولا بأس أن تنتفِخ أوداجُه حدّ الانفِجار.
" مَن ذا الّذي أعطاكِ الإذن بالتّجوُّل في منزلي وولوجِ غُرفتي بلا حِسّ؟ أتظنّين أنّكِ قد صِرت شخصًا مُميّزًا وأنّ بوسعِك التّمادي إلى داخِل حُدودي لمُجرّدِ أنّي مددتُ يدي لكِ؟ لا تُصدّقي الأوهام الّتي تسري في نفسِك وتنجرفِي وإيّاها. "
سُرعانَ ما قذَف المِنشفةَ أرضًا، ومَدّ سبّابتَه نحوِي بحِقد شديد.
" ما رأيتِه هُنا، احرصي على أن يوأدَ هُنا. "
غيَّر قِبلةَ ذِراعِه إلى البابِ.
" والآن انصرِفي مِن أمامي فورًا. "
ليس الأمرُ أنّي أعصيه، ولكِّني مُكبّلةٌ بأرضي غيرُ قادِرةٍ على الحرّاك، ولعَلّ السَّبب في ذلِك هُو جهِلي بخُطوتي القادِمة!
وبينَما أنا غافِلة دوى انفِجار صبرِه.
" كيم مينّي. "
وحينَما كان حريًّا بي العودة أدراجي واتّقاء العاقبة المُتدثّرة بينَ أنسِجة القُرب، أقبلتُ إليه على عجلٍ كما لو أنّ قدميّ تلقفان ما يُلقيه عليه فُؤادي مِن خفقات، وأجبتُ على الهُراء الّذي حثّه كِبرياؤُه أن يفوهَ به قصدَ ترهيبي فتهريبي في قُبلة أحسنت ترويضَ الكلِم، واستعبدته رغمَ قصورِ سواعِدها، وما كان ليُنصِفه القول، فيحيدَ عن فهمِه أو يستغِلّ هفواتي اللُّغويّة ليحيد.
ما فكّرتُ لمرّةٍ حتّى قبل أن أهرعَ إليه بطيشِ عاشِق لستُ عليه، بُغيةَ تضميدِ جُرح كُنت داعيه، أردُّ لهُ جميلًا، وربَّما أتحجّجُ بجميله لأختَبِر الالتِحام، وأتلذّذَ بخسوفِ الشّفاه مُجدّدًا، ولأحظى بنُزهةٍ أخرى بينَ جِنانِ العاطِفة الّتي تختلِجُ أيسَري، مُتخطّيةً كُلّ ما دبَّره لي لِسانُه مِن كمائِن، بوثبةٍ اقتادتني إلى فضاءٍ غير الّذي قصدته، لكِنّي أردتُه!
أترعت أرواحُ الكلِم المنحورةِ بعدَما تناحَرت في صدري فمَه فصمت، وما عثَر على مِنبرٍ ليُعبِّر. دفنتُ فيها شعورًا واعتِذارًا، عسى أن يعثُرا لهُما فيه على أخاديد لم تردِمها الخيبة، ويطالا شِغافَه.
نقّبت يدُه عن الفِصال، لكِنّها حبِطت أمامَ صلادة أنامِلي الّتي صعِدت تُعانِق خصلات شعرِه المُبتلة، بنشوةٍ تحجّرت في بنانِها، نشوةٌ انبثقت مِن الذّكرى، إذ انفلتت وقائِع الأمسِ مِن غمامِ النّسيان بفيضٍ وأغرقت دواخِلي، فعِشتُ اللّحظتين في الآن ذاتِه، غير أنّ هذِه اللّحظةَ طغَت على السّالِفة، لأنّه يسلُبني وعيًا وهُو على قيدِ الحياة.
ما لبِثت ذراعُه أن تناوَلت خصري، وشفتاهُ أن تصفّحتَا ثغري بشغفٍ يُنافِس المرَّة الأُولى، كمدى اللّوعةِ في فراقٍ أخير! هُو الرّجُل الوحيدُ الّذي سقَى عينيّ الفِتنة، بين يديه تتبرعم أنوثتي، وفي شفتيه تُزهِر، كأنّهُ بحرارتِه يجعلُ البذرة في آن تُنبت، بنظرةٍ يبعثُ فيّ امرأة لا تركَع أمامَ سِواه، وبينَ المُنعطَف والآخر يبثّ رعشة، قطرةٌ مِنه تُزعزع حوضي برُمّتِه!
طاوعتُه بعمًى حينَما تخطّى بي المسافات إلى الوراء، وأحيى الماضي في قلبِ الحاضِر، رغمَ أنّ حالَه مِن حالي. ارتطَم بي في إطارٍ أسود لمَّ شملَنا، وطارَحني جسدي، حيثُ تشبَّثت يدُه بكتفي، تثبّتني بِه، وتثبّتُه بدُنيا الرّغبة، كالأمس.
إطارٌ يُشابِه سابِقه، مُضِلّ مِثله، غرَرٌ مِثله، وأمّارٌ بالسّوء، لكِنّه يُؤوي معنى لا يمُت له بصِلة، وإن وُجِدت فقرابة بعيدة، كِلاهُما سرير، لكِنّ مُستقرّنا هذا سعير، ونحنُ غير ما كُنّا عليه، كأصولِ النّزلة الّتي حملتها على التدفُّؤ ببعضنا البعض!
مُذ سرّحتُ النّورَ مِن جفنيّ وزججتُه في شفتيّ، قبل حتّى أن يثورَ عليّ، يقلبَ الموازين ويُذيقني رونَق الأسر نكالًا على جُرأتي، تخلّصتُ مِن نفسي لأخلُصَ إليه، لستُ أنا الّتي تهوى الاختِباء بين أضلع رجُل، ولا هُو الّذي يرضى بالتنازُل مُقابِل ودّ امرأة، ولكِن ها نحن!
ما انفكَّت خصلاتُه تذرف نداها على وجهي مُذ حلّ عليّ، كأنّه غيرُ كافٍ لجعلِ مسامِي ترفع راياتِها. حينما تفرّغَ مِن كامِل أنفاسِه تناءى يُنقّبُ عن سُعراتٍ تُعوّضُه، قبل أن ينالَ كِفايته مِنّي. كان عليّ أن أفتَح عينيّ، رغم خِشيتي مِن أنّهُما ستزالان مُغمضتان مادامت ظِلالُ مُحيطيه واقعةً عليّ، تقبِضُ كُلّ رمقٍ أهمّ باقتِطافه... وبالفِعل ظللتُ معصوبة، لا أرى سِوى قالبَه ناعسًا، وقلبَه مُهتاجًا، جسده مُقْعَدًا، وفِكره مُعقّدًا، لا يختلِف عنّي في شيء.
ما إن التأمت أشلاءَ حُروفِه الّتي قضيت نحبَها في صراعٍ ليسَ صراعها، ذلِك لأنّها عزمَت على الإطاحة بقوًى أعظمَ مِنها، حتّى زحَفت بخدر، غير مُعافاة.
" ماكِرةٌ أنتِ. "
للتوّ اشتكت شفتيّ الألَم الّذي أنزلَته لُثمته بِهما، كأنّهُ نوبةٌ أماتت حواسي، وربّما سلّطتها عليه وحده، وما أفتأ ساهيةً إليه، عالقةً في عرضه، بلا هادٍ.
" إيقاعُك لا يحتاجُ مكرًا، لأنّكَ سهلٌ مهما بلَغ مِراسُك مِن صعوبة! "
لاشكّ وأنّه قد عدّ نعتي لهُ بالسّهل إهانة، رغم أنّ مقصدي أبعدُ ما يكون عنها، لكِنّه الّذي لم يُكلِّف نفسَه عناء البحثِ خلفَه، بل استبق الاستياء، مُستدلِّا بفتيلٍ يجهل مآلَه، حيثُ تكوّمت بين حاجبيه غُصّة، اضطرِرتُ لفَضِّها بأصابِعي.
" أعرِفُك مُنذ مدّةٍ لا بأسَ بها، بقدرٍ يكفي لأدري أنّك رجلٌ ضعيفٌ أمامَ النّساء، كُلّ ما فعلتُه هُو استِغلالُ تِلك النّقطة لصالِحي، فسواءٌ اعترفتُ أم لا، كُلّما سقطتُ فيكَ نهضتُ امرأة، ومهما أنكرت فأنتَ أيضًا تراني عاريةً مِن سِنّي، لذلِك كُلّما نهضتُ وقعتَ أنت. "
تمدّد بجانِبي، تحاصُرنا الملاءةُ المُجعّدَة، وذراعُه الآليّةُ مُستقِرّةٌ على يميني. انشقّت أنامِله عن كتفيّ، ثُمّ شقّت لها مسارًا على خدِّي، وامتدّ وقعُ خُطاها إلى داخِلي، مُجلجلًا جُدران فُؤادي، بالرّغمِ مِن أنّها صامتة... كفِكرةٍ شاعِريّة!
" لستُ ضعيفًا أمامَ النّساء، إن شئتُ صرت أكثَر رجلٍ شاهق عرفتِه، لا درَج بداخِله، ولا حِجارةً ناتئةً خارِجه قد توضَع عليها قدمٌ فترقى إليه... لديّ مُتّسعٌ أحتاجُ لأملأه فقط. "
وأدتُ ضحكةً كادَت تُجاهِر بالسُّخرية، مُلمّحةً له عن غلطتِه الأولى، الّتي دفَعنا ثمنَها بأغلاطٍ أُخَر، ولم نوفِه، أَن كنت بحاجةٍ لترفَعك عن مدى ذراعيّ، وتظلَّ منطويًا برفّ الكِبر الّذي لطالَما قعدت عليه، فمُنذ أن احتويت معركةً شبّها الشجَن بين أضلعي بحربٍ غريزيّة أجَلّ مِنها، وأطحتَ بحُكمي بين ذراعيك، قلّدتُكَ وِسامًا شرفيًّا لجعلِي أسترخِص شرفي!
فوتُّ الردّ، إذ انقضت مُهلتي، وأهلّ صوتُه مِن جديد.
" ولكِن، ما الّذي أردتِ إثباتَه لي باندِفاعك نحوي كَمُغيثٍ يدفعُه الواجِب؟ لا أظنّ أنّي أشغلُ فيكِ مكانًا لو خلا مِنّي افتقدتني، وليست بيننا علاقةٌ قد تجعلُ مِن قبولِك ذا معنى أو تأثير لي، هل أنا مُخطئ؟ "
أغثتُ بصري الذي تخبّط في شفتيه المُتموّجتين، وما كان التّوقيتُ مُناسبًا ليصفَع الإحراجُ وجنتيّ حدّ التورُّم. بعدما هدأت مشاعِري، طلَع الكلِم مِن مخابِئه بثِقة.
" كِلانا مُزيّف، أليسَ هذا ما قصدتَه عندما قُلت أنّي أتشبّه بك؟ "
ارتكنت ابتِسامةٌ صغيرةٌ في زاويةِ فمي.
" لا يحِقّ لكَ مُطالَبتي باغتيابِ أسبابي أو التجسُّس على دواخِلي لصالِحك، يُمكنك تصديقُ ما أنتَ راغب بتصديقِه، كأنّي أردّ ما تظُنّه جميلًا قدّمتَه لي! "
تنفّست مُقلتاي منظرًا غيرَ منظرِه الخانِق، وطعنت قواطِعي التردّد الكامِن في شفتيّ، قبل أن أُرسِي كَفّي على ناصيتِه وأُجرِّدُها مِن ذوائِبه المبتلّة.
" هِي قضيّةُ تعرّي، فكما عرّيتني مِمّا غزلتُه لي مِن زيفٍ، عرّتك الحياةُ مِن المِثاليّة أمامي، لستُ بذلِك السّوء، ولست بتِلك الجودة، أما نحنُ بمُتعادلين؟ "
في كُلّ شهقةً يستلِمُها بجوارِ وجهي، يسحبُ الفِطنة مِن جفنيّ، يُحرّرُني مِن جسدي ليسجُنني فيه، مُنتهزًا عُنفوانَ شُرودي، وميعَة أنوثَتي الّتي تعصيني، وتُطاوِع لمساتِه.
أنفاسُه تزدادُ اشتِعالًا كُلّما خالطتها أنفاسي على مقربة، وأتساءَل لماذا يُطوِّقُ تقويمي بنظراتٍ مبهورة، كما لو أنّي تُحفةٌ بشريّة جميلة... لم يُنظَر إليّ بمِثل هذا الإمعان مِن قبل!
خيَّم جسدُه عليّ بغتة، وعصفَ ثغرُه بي على مهل، ناسِفًا ما سعيتُ جاهدةً لتجميعِه، حتّى يسعنِي النّجاةُ مِن تحتِ أنقاضِه. انهارت ذراعاي تمُسكان بغُصنِ الخطيئة، إذ تمسّكتا بأواسِط ثوبِه، وثبّتُّ قدميّ بقاعِ الهُوّة الّتي بلعت رُشدَنا، وأحاط بنا ظلامُها. وفي نِطاقِ حربٍ هدأ وغاها، انسابَ المنطِق مِنّا، وتركنا ضياعًا، نتضوّرُ جوعًا.
هُو رجلٌ مُرتفعٌ رفيع، حينَما أسيرُ فيه، فكما لو أنّي أسير على شفا الجُنون، في صراطٍ مُستقيم، إن اختلّ بصري لثانيةٍ ثويت الحُطمة، وكيفَ لا يختلّ وعيناه تختالان نُصب عينيّ بزُرقتِهما، ترغّبانني في الغطس، والغرق؟ ما مِن بأسٍ لو احترقت!
انسحَبَ ببطءٍ كالغَسق، وجفّف رمقي بنظراتِه المُشتعلةِ رغم صِغَر فوهتيها.
" أجهَل إلى متى سيدومُ حُكمي على نفسي في ظِلّ تهديدك له. "
صمَتَ فإذا بذراعيّ تعانِقانه حرصًا على دوامِ دِفئه، وشفتيّ تهذيان كمحموم.
" لا تزُر أروِقتي ووعيي مُنطفِئ بعد الآن، فلا أذُكرَ ملامِحك آنذاك، ويقضِم النّسيان مِن تفاصيل مُرورك... تعالَ إليّ كما اليوم، لأشارِكك مِلء إرادتي. "
بدا وكأنّ الإنهاكَ قد كسَر عودَه فاستلقت ناصيتُه إلى ناصيتي.
" أخبرتُكَ أنّي لستُ عزيزةً عليّ، يسعُني التخلّي عنّي لأيّ كان مُقابِل بعض الرّخاء، وربّما أفضِّل لو تكون أنتَ من تقبِضني مِنّي! "
لاعَبت أنامِلي خصلاتِه المشرّدَة على قفا رقبتِه.
" صِرت مألوفًا لديّ، أكثر مِن أيّ أحد، أميلُ إليكَ كأنثى، حدّ استِباحة ما يحدُث بيننا. "
كِلانا يُريدُ التّمادي في علاقةٍ لسنَا مَن جمَّعها، بل هِي الّتي جمعتنا سوِيًّا، ولأنّنا لسنَا مَن بدأها، قد لا نتمَكّن مِن إنهائِها؛ فكِلانا يُريد أن يُسكِت المنطِق بقُبلة، أن يدفِن المخاوِف بحُضنٍ، وأن يُقلِّم الفوارِق بمِبردِ الشّغف في مواعيد سريريّة شيِّقة!
لكِنّه حَلّ عُقدتي حولَ رقبتِه بتحَامُل.
" أخبَرتُك بالأمسِ أنّي لستُ على مقاسِك. "
لفرطِ ما كُنت واهِنة أخفقت في إقامة ظهري عن السّرير واللّحاقِ بِه، حينَما التقَط ذِراعَه، ووقَف يُركِّبُها في عُقرِ الغُرفة، قُبالَة المرآة الحائطيّة الَّتي تقابَلنا مِن خِلالها.
" مُدني مُحتلّة، يحفُّها الخَطر، تنامُ على هدهدة الألَم، وتُصبّح على فراغ قاتِم، لن تعلَمي مِن أينَ ستأتيكِ طلقةُ الخيبة، وفي أيّ زُقاق سيُستشهَدُ زهوُّ وجودُك فيّ، تستحقّينَ وطنًا آمنًا، يحتويكِ بلا مُقابِل، ولا يستوجب مِنك الأذيّة كتضحية! "
زفَر بتخاذُلٍ ثُمّ التَفتَ إليّ آمرًا.
" أخلي الغُرفَة، فقد أخّرتِني بما فيه الكِفاية. "
ما شِئت استِفزازَه بإصراري بعدما تحسَّن الجوُّ بينَنا، وصفا مِن الضّغائِن، وامتثلتُ لأمرِه الّذي جاءَ بلُطف، يُنافي صُراخَه المُدويَ مُنذ دقائِق؛ أي أنّ قُبلتي أقنعته بصدقي، وما كانت أيّ كلمةٍ لتفِيَ بالغرض، فلستُ مَن تُجيد التملُّق، وليسَ مَن يهوى تلقّيه!
ما إن أوصدتُ الباب بحيثُ لن يشِيَ عمَّا يُصيبُني، حتّى اتّكأت إلى سطحِه بتعب، وحشدت أنفاسًا مشذّبةً مِنه، هُو الّذي سطا على كُلّ ما اختَزنته رئتاي في حضرتِه، كما لو أنّ شحوبَ بصري، واحتِضارَ شفتيّ تبتغيانِه تِرياقًا، راقَ له.
حينَما استيقظت مِن نومٍ مُريحٍ، على واقعٍ مُتصدّع، ابتِداءً مِن رأسي الّذي كادَ الألمُ يشجُّه، وذاكِرتي المشطورة الَّتي تلاشَت أحرُفها عِند وصولِنا إلى المرأب، هرعتُ إليه، مُمتنّةً، وخجِلة للمرّة الأولى بسببِه، إذ اعتقدتُ أنّه لن يبُثّ فِيَّ سِوى الغضب.
ما كُنت لأستطيعَ شُكرَه، فكبريائي كالسدّادةِ في حُنجرتي، يُطوّعُ الأعذار لصالِحه، حتّى وإن أخطأت يمنعني مِن الانحِناء، وعُذره اليوم كان السّكر، لماذا قد أعتذِر على أفعالٍ وأقوالٍ انفلتت مِنّي دون سابِق إنذارٍ أو تخطيط كأنّها تُسيِّر نفسها؟ الجميعُ يثيرون المتاعِب وهُم سُكارى، غير واعين بما أقدَمت عليه ثغورُهم أو أيديهم، بالنّهاية لم أؤذِه!
كُلّ ما أردتُه مِن زيارتِي الصّباحيّة هذه، أن أتقَدّم إليه بعرضِ نسيان، أن أطلبَ مِنه محوَ الأمس كأنّه لم يكُن، لكِنّ الشطر المفقود مِن ذاكِرتي والّذي عثَر عليّ، كذا الشّطر المُحرّفَ الّذي تأصَّل، جعلاني أرغبُ في أن أتذكَّر وفي أن يتَذَكّر.
انتهزتُ غِيابَه عن الأرجاءِ لاستِطلاعها ببالٍ مُسترخٍ. لاحظتُ أنّ الأسوَد سائِدٌ، كأنَّه مُتزوّجٌ مِنه، يستحرمُ خِيانَته، فلمساتُه تطالُ مُعظَم ما فيها، لاسيما الأثاث الأنيق، حتّى سيراميك الأرضيّة، بارُ المطبَخ والكراسي الطّويلة المركونةِ إليه.
كان الأخيرُ مُبطّنًا في الجانِب الأيمَن لغُرفةِ الجُلوس-إذ أنّهُما منفتِحان على أحدِهما الآخر- والَّتي بِها طقمٌ فخمٌ من الأرائِك الجِلديّة، وطاوِلةٌ زجاجيّة، كُلّها مُشرفةٌ على واجهةٍ شفّافة، كَذا خِزانةٌ مُعتِمةٌ مليئةٌ بالشّراب تشغلُ حائِطًا كاملًا، كأنّه أوجَدها ليتباهى بها.
لم أستطع التّمادي وتفحُّص الأبواب المُغلقةِ خلفي، لأنّه ظهرَ في الجوار بملابِس رسميّة، وهالةٍ مُتلظّية، يُعلِّق مِعطفَه الثّخينَ على ساعِده الأيسَر، وبصرهُ مُتعلِّق بآفاقٍ غير مرئيّةٍ لي. شعرُه الطّويلُ محزومٌ بربطة، رغمَ أنّه لا يزالُ رطبًا.
راقبتُه وهُو ينحازُ إلى المطبخ، حيثُ انتشل حاوِية الخُبزِ مِن الرفّ الّذي يعلو المِغسلة، واستخرجَ مِنها شريحتين، حشرهُما بفجوتيّ المِحمصة، ثُمّ جلبَ مِن الثلّاجةِ عُلبة مُربّى سطَا الأحمَر القاني على شفافيّتِها. كان يُعدّ الإفطار له، وربّما لنا!
قُلت بلهجةٍ ساخِرة بينَما أرتحِل إليه على مهل:
" البعضُ يتوق لامتِلاك منزلٍ وحيد يحتوي تعثّراته الحياتيّة، وآهاتِه الّتي احتمل أثقالَها طوال يومٍ عسير، والبعض الآخر يمتلِك أكثَر مِن منزل، لكِنّه ليسَ شاكرًا! "
سحبتُ الكُرسيّ الّذي تولّدَ عن احتِكاكِه بالأرضيّة أزيز طفيف، ثُمّ جلست عليه، في حين وضَع بيكهيون الجرّة فوقَ البار، سويًّا وكيسًا ثلجيّا، اجترّته سبّابتُه إليّ.
" البعضُ ينزوي في ركنٍ دامِس مِن الماضي، يلومُ الحياةَ على ما أخذت، ويندُب حاضِره البائِس، ثُمّ يتذمَّر لأنّها لم تُعطِه أيّ تعويض... قد تكون الحياةُ هِي السّبب في تعاسة ماضينا، لكِنّ مصير حاضِرنا بأيدينا. "
كانت عيناهُ زِنزانتين فيهما حبسَ نظراتي، فما طلعت عن نِطاقِهما رغم أنّي أردتُ التحرُّر، لرؤيةِ ما أتاني بِه على الأقلّ. سُرعان ما أفرَج عنِّي، مُلبّيًا نِداء المِحمصة.
" إن لم تُعطِكِ الحياةُ ما أردته فاغتصِبها وخُذي ما شِئتِ مِن مُتَع. "
راقبتُه وهُو يسحَب الشّريحتين مِن موقِفيهما، حيثُ أثوى إحداهما الصّحن، والأُخرى كفّه السّليمة، ثُمّ أزاح عن الجرّة غِطاءَها، وأمسَك بالكفّ الأخرى سكينًا، راحَ يغرِسهَا في قلبِها، وما يعلِق عليها مِن مربّى يطلي بِه الواجِهة العُليا للخُبز.
ولعلّه أحسَّ بزوجٍ مِن الأعيُن تتربّص بِه، ما جَعله يستَرِق النّظر إليّ، حينَها أطرقتُ برأسي، وفوجِئت بأنّ ما أعطاني إيّاه مُنذ قليلٍ دواءٌ يُعالِج آثار الثّمالة!
كُنت أشعُر معَه بالرّاحَة الكافيةِ لأُخطِره بمّا يدور برأسي.
" الحياةُ تُعطي البعضَ دون أن يُزهقوا جُهدًا يُذكَر، ودونَ أن يقوموا بأيّةِ خُطوة صوبَها، كُلّ ما عليهم فِعله هُو التّنازُل عن القليل مِن أنفسهم الّتي يُثَمّنونَها، وبيعِ ما يجذِب الأبصارَ إليهم، وعيشَ تعاستهم برخاء، لأنّ النّفسَ السّقيمَة عِبء في جميع الأحوال "
نفضتُ عنّي زفرة كادَت تُعمي صدري، ثُمّ أضفت ببساطَة.
" ذلِك ما أخطِّط له، مُذ أنّي لا أجيد فِعل شيء "
تمتَم بشيءٍ مِن الخيبة، ساكِنًا.
" النّفس السّقيمة عِبء. "
بعدما أعتَقه الشُّرود، استأنَف توزيعَ المُربّى على سحنةِ الشّريحة، والّذي تبيّن لي بأنّه مُربّى الفراوِلة، في حين كان بصري مُسافرًا مع كُلّ حركةٍ تؤدّيها يدُه الآليّة، بدهشة.
"عجبًا إلى أيّ مدًى وصلَ تطوّر العِلم، لا يُمكِن لأحدٍ تخمين أنّ ما يقبعُ تحتَ كُمّكَ الأيمن ذراعٌ اصطِناعيّة، حتّى أنا لم أشكّ فيك ولو للحظة، تبدو حقيقيّة! "
وطّدتُ مِرفقيّ بالبار مُحتويةً ذقني بين كفيّ، ثُمّ سدّدتُ الكلِم بعبثيّة.
" المال مُذهلٌ بحقّ، يُمكِنه شِراء كلّ شيء، أعضاء، أطراف... وبالطّبع إعجابَ النّساء وودّهنّ، حتّى وإن كان مُزيّفًا! "
انقطَع دبيبُ الحركةِ في جسدِه، إلّا عدستاه الجهنّميّتان اللّتان نهضتا مِن مرقدِهما وقعدتا على وجهي، كذا شفتاه حينَما أنذرتا عن رغبةٍ مُضمرةٍ بداخِله.
" لِسانك بحاجةٍ إلى الجزّ، أتُريدين تجربةَ قُدرتِها على استِخدام السكّين شخصيًا؟ "
لمحتُ عُقدةَ أنامِله تشتدُّ حولَ السّكين لعظمة الغضبِ الّذي أحييتُه فيه عن غيرِ قصد، ما كُنت أرمي إلى أنّ إعجابَ النّساء بِه زائِف، فقد ظفَر بودّي، وأنا في الطّريق لأكون إحدى ضحاياه، إن لم نبتُر هذا القدَر الّذي يأبى إلّا جمعنا!
ألقيتُ بسيوفِ جفنيّ، مُتنازلةً عن النّقاش، كي لا تتفاقَم الخسائِر. وحينَما نعت لي حواسي أنّه قد زاوَل مهمّتَه، نظرتُ إليه مِن جديدٍ، فما أعارَني شطرًا مِن انتِباهه. سكَب كوبين مِن القهوة، قدَّم لي الأبيَض، مع صحنٍ ينضوي على الشّريحتين، أدركتُ أنّه ليسَ مِن الأشخاص الّذين يحبّذونَ تناوُل شيءٍ خِلال الإفطار، ويكتفون بالقهوة.
ما لبِث وأن عبَر إلى ناحِيتي، جلَس بجواري رفقة كوبِه الأسود، كهالتِه، وراحَ يحتَسي مِنه ببطءٍ، بينَما أنا أحتسيه سهوًا، وكفّاي يطوّقانِ مُحيطَ كوبي المُمتلئ
" هذِه المرّة الأولى الّتي أتناولُ فيها الإفطار."
رصّعَ الصّمتُ مجلِسنا، فتمنّيتُ ألّا تنتهي هذِه اللّحظةِ رغم شًحّ عطاياها، وبساطتِها، بين كتِفه وكتِفي مسافةٌ معقولة، لكِنّي أشعُر بالدّفء يُداهِمني، ربّما هِي ذكريات الأمس، أو ذِكرياتُ هذه الصّبيحة الّتي ما فتِئت قائِمة!
كانَ لرشفات القهوة طعمٌ آخر لم يسبِق وأن استضافه لِساني مِن قبل، كذا الخُبز المُحلّى بالمُربّى، هل السّببُ أنّي أُجالِس شخصًا لا يَنبُذني ولا يُضمِر لي حِقدًا يُواريه بالنّفاق، أم لأنّه هُو شخصيًّا؟ هل لأنّ أحدَهم أعدّه لي، أم لأنّه هُو مَن أعدّه؟
حينَما لم يبقَ في صحني سِوى الفُتات، وفي كوبي صُبابة، استقَام.
" إن انتهيتِ فلنذهب. "
افترقنا ففاض الشّوق مِن الفراغَات الّذي ملأتها خطواتُنا، حينَما أقلّتنا بعيدًا عن بعضِنا البعض، وغمرت الرّياحُ الفجوةَ العميقَة بينَنا، وتهافتت الأماكِن على بصري خاليةً مِنه، لكِنّه كان في ذِهني مُتجسّدًا، لا تُشتّته المسافات، يحِلّ حيثُما حللت.
انتهى بي المطافُ في الملجأ، لطالما كانَ خاتِمةَ كُلّ غياب أسلُكه. كذبتُ على الجميع، حتّى رينا وقلت أنّي قضيتُ اللّيلة لدى صديقتي، ليسَ خوفًا مِن طعنات ألسِنتهم أو أعينِهم، بل ادّخارًا لكلماتي الثّمينة... الصّمتُ يبتاع راحةَ البال أحيانًا!
كانَ يوم عُطلتي المدرسيّة هذا رتيبًا، كمقطوعةٍ موسيقيّة مُنسّقة، لا نوتة فيها ناشِزةٌ عن السُّلّم الاعتِياديّ، عدا أنّ صلبي في فوضى عارمة، لم أشهدها سابقًا، فأفكاري تقتتل بضراوَة، ومِن جراحِها الأليمة تنضحُ ذكريات جميلة. لقد صار قُرّة كُلّ فِكرة.
وحينَما أطلّ مِيعاد المُواجَهة؛ مُواجهة العيان، سترتُ التوقيع البنفسجيّ الّذي ينسِبُني –زورًا- لرجلٍ لستُ مِلكه، بل مُجرَّد مرجٍ قذفته إليه النّزوة في ليلةٍ قمرُها الشّغَف، بوِشاحٍ بُنيّ شاحِب، قضَم الزَّمنُ شبابه، كما قضَمت مِنّي الأتراح. والتحفتُ مِعطفًا أسودَ مُنتفخًا، كثيرًا ما تجنّبتُه، لكِنّ الجوَّ هذا اليوم فرضَه عليّ. تركته مفتوحًا على مِصراعيه.
لم أتوقَّع أنّي سأسلم مِن الأنظار حتّى ولو فرَدت الحقيقةُ أجنِحتها وحلّقت بحُريّة أمامَهم؛ فإن خيطَ الفتق، صنعوا فتقًا آخر لتنفذ مِنه عيونُهم الجارِحة وتغتال.
كُنت عشيقَة المُدير، وصِرت عشيقتَه السّابِقة الّتي نالَ مِنها كُلّ ما يبتغيه، فسئِم مِنها، وألقى بها في حاوِية النّسيان، وفي لحظةٍ يغشاها السُّخط وتحفّها الحُرقة، نشرتُ مقطعًا فاضِحًا له مع غيري انتِقامًا... لا شكَّ وأنَّهُم يفُكِّرون بهذِه الطّريقةِ الحمقاء!
كانت وشوشةُ المارّين بجواري تصبو إلى أذنيّ، والأخرى تُرمى في أذنيّ عمدًا بُغية أن تصبو إليهما، فتهوي في فراغي المُدقع دون أن تُصيبَني؛ يحدُث أن يتألَّم الفُؤاد ويتألَّم، يُطعَن في ذاتِ الجُرح مرارًا، حتّى يتبرّأ الشّعور مِنه، كجسدٍ بلا أعصاب.
خلعت السّاعات عنها حِصصًا وانتحلت أخرًا، مرّت بجواري على مهلٍ، وأنا على ذاتِ الحال، رأسي بين ذراعيّ، وعقلي حافٍ مِن الانتِباه.
ترقّبتُ جرَس الفُسحة بفارِغ الصّبر لأختلِيَ بنفسي، وأتنفّس هواءً مُصفًّى مِن أكسيد الكراهية، فالجميعُ يحتقِرني حتّى زفيرُهم الفاسِد. ولفرطِ ما تأخّر، ظننت أنّ الوقت يُعاكِسني، نكالًا لأنّي تمنّيتُ لو يُعجِّل في مجيئِه.
كُنت أوَّل من يبرح الصفّ، كأنّي على موعدٍ رسميّ لا يحتمِل التّخاذُل. قصدتُ السّطح مُباشرة، وعِند أوّلِ درجة ألجَمت يدُه جسدي!
" لنتَحدّث. "
تعرّفت عليه مِن صوتِه، وما التفتُّ إليه إلّا لأريه مدى استِيائي مِن مُداهمتِه الفُجائيّة هذه، ومِن اجترائِه على لمسي، رغم أنّنا افترقنا على خِصامٍ آخر مرّة.
" أما قُلنا كُلّ ما لدينا سلفًا، وأعدمنا فُرصَ اللّقاء بسحنةِ مُقرّبين كما قلّما فعلنا! "
هزّ رأسَه مُعترضًا، قبل أن يستعرِض إعراضَه أمامي جِهارًا.
" لا، أنتِ مُخطِئة، إذ كانت خاتِمة حديثِنا صمتًا، والصّمت ليسَ سِوى فُرصة ثانية، ها أنا الآن أنتهِزُها للوصول إلى ما أنشُده، وما تنازلتُ عنه حينئذٍ."
لم أتوانى في سلخِ اللّين الّذي عَمّ عينيه بنظراتٍ حادّة، ولم أتردّد في مُبارزَة نيّتِه مهما بلغت مِن النقاء بالجفاء، ذلِك لأنّي أريدُ قتل هذِه العلاقة.
" ما كانت خاتِمتُه صمتًا، بل نُقطةً وضعتها ومضيتَ عليها. "
بمُجرَّدِ ما استشعرتُ انحِلال أصابعِه حولَ مِعصمي كأنّ موجاتي هدَمت حضارَتها، هممتُ بسحبِه مِنها، لكِنّه شيّدَ إصرارَه أعلى مِن ذي قبل، مُتمسّكًا بِي، وأيّدت مُقلتاه الحانيتان اعتِرافات شفتيه المَهزوزَة بثبات، في مُرافعةٍ لكسبي.
" لقد كُنت خائِفًا عليكِ مِن نفسك الّتي تزجّ بكِ في طُرقاتٍ مُلتويةٍ، لن تقود إلّا إلى أقدارٍ دهماء، كُلّ ما تفوّهت به وليدُ القلق، لربّما قسوتُ عليكِ وهذيتُ بما لا أقصدُه لكِنّك تدرين أنّي لم أُضمِر لكِ أيّ سوء، كيف عساي أهمِل ما رأيتُه وما سمِعته؟ "
وها هُو ذا يُحمِّل القَلقَ تُهمَة تطاوُلِه على حُدودي، لكِنّ الجريمَة جريمة، وإن كانَ الدّافِع إليها نبيلًا، كذلِك هُو التعدّي على مسافاتي ومُحاولة الاستيطانِ بي!
أعرتُه صمتًا مديدًا يسكُنه الصّبر، لعلَّه يرضى بما كتبتُه عليهِ مِن فِصال، فردَّه إليّ بعدَ مُدّةٍ تالِفًا، مُمتلئًا بالثُّقوب.
" تِلك الفتاة، مين يونغ، رأيتُها معَه ذاتَ يوم في وضعٍ مشبوه، حينَها أدركتُ أنّكِ مَن ورّطتِ نفسك في قضيّتِهما، لأنّكِ علمتِ كما علمتُ أنا، لذلِك لم تُحاوِلي إسقاطَ التّهمةِ عنكِ، ورضيتِ بأحكامِ الجميع الجاحِدة بحقِّك. "
رفعتُ على سارِيتي ابتِسامةً ساخِرة.
" أنت لم تثِق بي إذًا، بل وثقت بِما رأيتَه! "
حينَما أوشكَ على قهقرةِ ظنٍّ لم أظُنَّه قطّ، خلعتُ يدَه عن مِعصمي، وقاطعتُه.
" لسنا مُقرّبين إلى درجةِ تأذنُ لنا بتبادُل العتب، والنّبش خلف مُبرّر يمسَح ظنونَ أحدِنا تجاه الآخر، يُمكنك أن تظنّ بخصوصي ما شِئته، لكِن لا تُشارِكني ظُنونَك، تحدّث عنّي مِن وراءِ ظهري، لكن لا تُحادِثني عن حياتي وما تخالُه خطأً أمامي. "
أفضل العلاقات هِي العلاقَة بين الغُرباء، حيثُ نتأمَّل أحدَنا الآخر دون أن نغرَق في أعماقِ الأمَل، فنصطدِم بقاعِ الألَم، حيثُ يستقِر الجمالُ على منسوبٍ طاغٍ، لا تشرِب مِنه الحقائِق التّائهة، كُلّما صادفتنا، كصورةٍ في إطار، لا تشيب.
قبل أن يُعرقِلني الصِّدق الّذي يتلألأ في جوهرتيه، وينكِصني على عقبيّ، أوليتُه بظهري، وابتلعت درجةً فاثنتين، وما أتممتُ الثّالِثة إذ حطَّ ثِقلَ كفِّه على كتِفي.
" يُمكننا القلقُ على بعضِنا كغريبين تصادَم كتفاهما بالشّارِع صدفة، وصبّت مصيبةٌ على أحدِهما، لا أحدَ مِنهما يمتلِك عِند الآخر مقامًا ليتداعى ولا سقف توقّعات ليخيب، لسنا بحاجةٍ إلى رابطةٍ اجتماعيّة ما لتهيج مشاعِرنا، يكفي أنّنا بشر!"
تمتمتُ بصوتٍ مسموعٍ وما حرّكت ساكنة.
" فاتِحتُها قلق، وخاتِمتُها آمالٌ وتوقّعات... ثُمّ خيبات. "
سُرعان ما نزفت قدماي خُطًى اقتادَتني قُدمًا، في حين خاضَ عقلي حربًا ضارية طرفَاها نفسي وندوبها، انتهت بتبديدي الضّيرَ في ملئنا الوقت سويًّا، دون مشاعر ولا اهتِمام، إذ أعلَم جيّدًا أنّي بخيلةٌ لأمنَحه منزلة، بل وفقيرة لا أمتلِك منزلاتٍ لأوزِّعها.
في قِمّة الدّرَج ركنت، والتفتّ إليه.
" يُمكنك رشوتي لأتغاضى بسيجارة، فقد صودِرت عُلبتي. "
رفَع صوته حتّى لا أضيّعَ حرفًا مِن حروفِه.
" لكِنّي لا أدخّن، وأنتِ تعلمين ذلِك جيّدًا... "
انقطَع عنه الكلِم حينَما استأنفت طريقي، مُحرجةً مِن الذّريعَة الّتي وقفت عليها دون التحقّق مِن صلابتِها، أهُو غبيّ لئلّا يفهَم أنّي أمدّ له يدَ الصُّلح مؤقّتًا؟
ولجتُ أرضَ السّطحِ بخطواتٍ آفلةٍ لا صيتَ لها، ما خوّلني سماعَ دوِيّ خطواتِه الرّاكِضة وهِي تلحقُ بي... الفِعلُ أكثَر فصاحةً وبلاغَة مِن القول.
حططتُ رِحالي على مسافةٍ ضئيلةٍ مِن السّور الحجريّ، وأسندتُ ذراعيّ إليه بخور، فشدّ بصري رِحاله وأقلع خارِج هذا الكون، كما لطالما شِئت. شردتُ إلى الفلك المُنقّى مِن الحياة، وربّما تشرّدتُ فيه، وطابَ لي الشّقاء؛ شقاءُ عُبور ذكرياتٍ وعرة، عبّدت فِكري الّذي يُشابِه بيداءً لا ملامِح لها، ولا ممرّات فيها.
كُنت أشعُر بوجودِه الفاتِر على هامِشي، احتَدم عِندما تبرّأ مِن صمتِه.
" أتعلمين، أنا لا أحبّ فصلَ الشّتاء، لكِنّي أستمتِع به. "
التفتّ إليه بشيءٍ مِن الفُضول، فهربت نظراتُه مِنّي واحتلّت الأفق الّذي أخرجني مِنه للتوّ. سكَت يُلملم أفكارَه بعدما شتّتُها، ثُمّ قال بتردّد:
" لم يسبِق وأن احمرّ خدّاك خجلًا ككثيرٍ مِن الفتيات حتّى خِلتُ أنّ لمسَته تُجافيك، لكِنّ لدغات البرد تمنحُك حمرةً مُحبّبة رغمًا عنكِ... "
غابَ عنه الوعي لوهلة، وباح، وهُو يتصفَّح سحنتي المجفلة.
" تبدين لطيفةً كُلّ موسم مطر، فكُلّما نظرتُ إليكِ داهمني نسيمُ الرّبيع في عِزّ الشّتاء، كأنّه ما يجيء إلّا لينهب مِن الكونِ ألوانَه ويزرعها في مُحيّاك، لذلِك يُعجبني. "
لشدّة التوتُّر الّذي فجّرته كلماتُه فيّ تلعثمت.
" ما هذا الهُراء الّذي تهذي به؟ "
اغترفَ خديَّ بينَ كفّيه يُجبرني على مُواجهَتِه، ثُمّ ابتسم كأنّ السّعادَة تُدغدغ صدره، دونَ أن يعبأ بالحُدود الّتي انتهكها.
" أقول أنّكِ جميلة شتاءً. "
لولا أنّ الحُمرةَ لاكَت خديّ بأمرٍ مِن الزّمهرير، للاكهُما الخجَل الآن!
قد تكون أخلاقي مصلوبةً في نِطاق الماضي، وشخصي جافٌّ مِن الحياء، لكنِّه-الحياء- لا يزالُ ينضح في أنثاي مِن حيثُ لا أدري، لم يبقَ مِنّي سوى امرأة تشعُر، وربّما ولِدت فيّ حينَما لم يبقَ مِنّي شيء!
سُرعانَ ما تناءيتُ عن مُتناولِه، مُحرّرةً وجهي مِن الحرارة الّتي أشعلها كفّه البارِد فيه، وتعرّيتُ مِن الصّدمة الّتي يبّست جسدي، فالجفاء يُشبِهني أكثر.
سادَ صمتٌ شفّاف بينَنا، كادَ يفتضح مكنوناتِنا، مُذ أنّي أتفاداه وهُو لا يُفارِقني، لكنِّي لم أتجرّأ على محقِه، فكان هُو صاحِب المُبادَرة كالعادة.
" لاحظتُ أنّكِ لم تخلعي الوِشاحَ عنكِ مُنذ الصّباح، هل أنتِ مريضة؟ "
عانقت أنامِلي أواسِط الوِشاحِ الّذي يُلثِّم رقبتي، وعانقت شفتاي الصّمت، لم أكُ خائفةً مِن أقاويل النّاس، فقد صارت روتينًا أمارِسه يوميًّا، كُلّ ما في الأمرِ أنّي لا أريدُ المزيدَ مِنها.
لكزَ كتِفي بمرفقِه، وهو يقول بخُبث:
" أم أنّكِ تتستّرينَ على جريمةِ رجل! "
لوهلةٍ اعتقدتُ أنّه على علِم بِما دارَ بيني وبينَ الجِنرال، لكِنّ العبثَ الّذي نبَت في ثغرِه وتطاول فنّد، لن يكونَ هادِئًا وودودًا هكذا لو علِم، فقد ثار لمُجرّد رؤيتنا سويًّا!
بذلت كلِماتي الشّحيحة ما بوسعها لتتوازَن على صِراطِ الادّعاء الأعوج.
" ليسَ مِن شأنِك. "
لم يهنأ لي بالٌ إلّا بعدما رأيتُه يعقد أنامِله وراءَ ظهره، حينئذٍ تنفّستُ الصّعداء، وألبست عيناي منظَر السّماء التّعيسة، الّتي زارَ الفرَجُ بعض أصقاعِها دون الأخرى. وبينَما أنا مُسترخية، على فِراشِ السّهو، أعاقِر كوبًا مِن الأفكار الخاوية، فإذا بِه يُداهِم طرفَ الوِشاح المُنسدِل مِن جِهته، ويلويه بحركةٍ سريعة، مُحرّرًا عُنقي مِن إحدى لفّاتِه!
" سأكتشِف الخطبَ بنفسي إذًا. "
هرعت يداي تُحصّنانَ الرُّقعة الوحيدة الّتي تردِم رقبتي، تحديدًا العلامةَ الّتي لن يُصدّق أحدٌ أنّها علامَة شغف، لا عُهر!
ما أزال أمتلِك فُرصةً ثانيةً لإنجادي مِن براثِن الحقيقة، ومِقصلة الاحتِقار، مُذ أنّي لففت الوِشاح مرّتين حتّى يُغطِّي أكبَر مِساحةٍ ممكنة مِنّي.
تعاضدت صدمتي مِن كمينِه المُباغِت الّذي أقفُ الآن على حافّتِه، مع الغضب الّذي صهَر أعصابي، ورفعَا صوتي إلى صهوتِه.
" بانغ تشان، هل فقدت صوابَك؟ دع وِشاحي وشأنَه. "
لم يكُن يضمِر أيّ نيّة للاستِسلام، إذ شاحنني عليه.
" رفضُك هذا يجعلُني أكثَر رغبةً لمعرِفة ما تُريدين إخفاءَه عنّي. "
في مُنعطفِ سديدٍ سلكته أفكاري، اصطدمت بسُؤالٍ جعلها تتهشَّم؛ لماذا أتمسَّك به أنا الّتي جعلتُ الجميع يصدّقونَ أنّي سيّئة كما يظنّون؟ أم لأنّها الحقيقةُ هذِه المرّة؟ وجدتُني جاهِلةً بدافِعي، ما إذا كان عنادًا وحبٍّا لتسوُّق الأكاذيب، أم رغبةً في حِفظ صورتي أمامَه!
لكِنّي أردتُ سدّ المنافِذ لئلّا يقَع عليّ ما أخشى وُقوعَه، لو أنَّه أسرى جُذورَه فِيّ بغيرِ وعيٍ مِنّي سأقتُلها الآن، لذلِك قرّرت التّنازُل عن الوِشاح، فليُزله، مَن هُو لأقلق عن نظرتِه بخصوصي؟ الكثيرون ينبذونني، ولن يكون الشّعرة الّتي ستقصِم ظهرَ البعير.
ما إن ارتخت قبضتي حتّى ترجّحت كفّته واستحوذَ عليه، وغارت نظراتُه حيثُ أراد، ابتِسامةُ الانتِصارِ الّتي بالكادِ سكنته انكسرت، وأغميَ عليها، وذبلت جميعُ ملامِحه، في حين قُمت أنا بشموخِ قلعةٍ مِن الرّمل ستأتيها الموجة الّتي تهدمها عاجلًا أم آجلًا.
" إنّها علامةُ رجلٍ بالفعل، هل ارتحت الآن؟ "
انتزعتُ الوِشاحَ مِن يدِه وغادرتُ قبل أن يقُدّ آخر فردٍ مِن أعصابي، وبينَما أنا أهرولُ بحرجٍ يُرغّبني في الاندِثار، وعصبيّة توسوس لي بالتّحطيم في غير مرأًى مِن أحد، أعدتُ الوِشاحِ إلى مَنصِبه حولَ عُنقي، مُكلّفةً إيّاه بسترِه ثانيةً.
كانت الفُسحة على مشارِف النّهاية، لذلِك حدّدتُ الفصل كآخر محطّة لي فيها، نفّستُ عن قيراطٍ مِن غيظي على بابِ السّطح الّذي دفعتُه نحوَ إطارِه بزخم، وحينَما واجهتُ الدّرج مُتأهّبة للنّزول، رأيتُ الفتاة ذات الشّعبيّة الطّاغية في المدرسة، واثِبة على سفحه، تُضمر في عُقدةِ ساعديها مكيدةً ما، وفي فيفاء وجهها غِلًّا عريقًا، جانغ هيري.
هِي طالِبةٌ ابتُليتُ بمُقاسَمتِها ذاتَ الصفّ، واستِحواذي على حُبّ فتًى لم يَقسِم لها مِنه شيئًا، لا تعنيه كما لا يعنيني، رغمَ أنّها لوحةٌ بشريّة تختزِن فيها مِن الجمال ما يفيضُ عن رِضا أصعَب النّقادِ مراسًا، فتفاصيلُها مُنتقاة، وراجِحةٌ في مكانِها المُناسِب، صدفتاها واسِعتان، ولؤلؤتاهما سوداودتين تلمَعان، خدّاها رابيانِ رغمَ ضعف بنيتِها، ولا يغيب الشّفق عن فمِها، وقوامُها منقوشٌ على قالبٍ جذّاب، يهوي فيه جِنسُ آدم بخنوع.
كثيرًا ما حاولت جرّي إلى فخّ الغضب لأنّي يتيمة، كنَّت قليلًا بعدما انتشرت شائِعة بيعي الهوى للمُدير، وها هِي الآن تعودُ إلى عادتِها القديمةبمُجرّدِ ما خَرّ جِداري الحامِي، وغدوتُ عارية، سانِحةً لتفترِسني كما تظنّ، وهذِه المرّة لسبب آخر.
ابتسمت باشمئِزاز وعدستاها تتنزّهانِ على قامَتي.
" انظروا من لدينا هُنا، دُمية المُدير المُدلّلة الّتي تخلَّص مِنها ما إن صادَف مَن هِي أحسنُ مِنها... وربَّما لأنّها صارت أوسَع مِنه. "
سُرعانَ ما كشَف ثغرُها عن طينتِه الحقيقيّة، إذ تكشّر.
" ما عُدتِ تمتلكين سنَدًا يحتوي سقطاتِك، يدرأ أخطاءك وهفواتِك، ويقيكِ مِن مكائِد الطّلبة، لاشكّ وأنّك تعلمين بالفِعل أنّ الجميعُ لا يُطيقك، لولا علاقتُكِ بالمُدير لقُصصتِ مِن هذِه الثّانوية مُنذ الأزَل. "
لمحتُ مُحيّاها يتفرَّغ مِن قاطِنيه، ويقحل.
" كوني مُستعدّة، لأنّي سأنالُ مِنك هذه المرّة. "
تقلّبَت عدستاي في فرشيهما بتبرُّم، قبل أن أخطوَ قُدمًا.
" افعلي ما يحلو لكِ. "
اندسّت يداي في جيبيّ مِعطفي المُنتفخ بتِلقائيّة، ولقفت قدماي الدّرجة تِلوى الأخرى بهوادة، لعلّهما تُقلّانني خارِج مدارِ المشاكِل، ما إن وطأتُ الأرض وكادَت كتِفي تتجاوَزُ كتفَها المُجاوِرة لها، حتّى وردَني فحيحُها محفوفًا بالسُّخط، وأدّى إلى سُكونِي مؤقّتًا.
" لقد لحِق بكِ تشان إلى هُنا أليس كذلِك؟ "
لم أُرِد مُجادلتها لأجلِ رجلٍ لطالما رفضتُ مشاعِره المجّانيّة، رغم أنّه أحسَن التّسويقَ لها.
ومُذ أنَّها تعلمُ أنّي لستُ شخصًا قد يعدل عن قراراتِه، وإن بدأتُ بالتّجاهُل فلن أنهيه، عضّت يدُها على عضُدي كالمِصيدةِ، تحولُ بيني وبينَ الحُريّة، ثُمّ دفعتني إلى الوراء، ونزفت حُنجرتها ببأس.
" ما الّذي ألقيتِه على الفتى ليقتفيَ آثارَك حيثُما اتّجهت، ورغمَ أنّكِ ملوّثةٌ لا يزالُ يبتغي الارتِشاف مِنك؟ مهما حاولتُ الفهم تناهيتُ إلى العدم! "
بحفاوةٍ صبَّت نظراتِي مِن خانِ صبري على يدِها المتّصلة بي.
" ليسَ لديّ وقتٌ لأضيّعَه على ترّهاتِ مُراهقتِك. "
سكتُّ ريثمَا حطّ بصري على وجهِها الممتعِض.
" لِم لا تسألينَه هُو؟ "
" ابنة العاهِرة. "
رفعت يدَها بُغية صفعي، ولزحمة الغضبِ في داخِلي ما عُدت قادِرة على سماعِ صوتٍ عدا مزاميرِه، فركلتُها بعُدوانيّة، وأزحتُها مِن أمامِي. تقهقرت وهِي تصيح بصدمة، صانَت توازُنها لمسافةٍ قصيرة قبل أن تسقُط على مُؤخِّرتِها، وبينَ تلافيف عقلِها مُضغة وعي.
لم يُبصِر أحدٌ مُلابسات ما حدَث، لأنَّنا كُنَّا محميَّتان بجدار، الآن وقد نتأت فجأةً أمامَ العيان بدورِ المُستضعف، أطلقت عقولهم العنان وقلَّدتني دور الظّالِم.
ما كُنت أنوي اختِلاقَ شِجارٍ ذا عاقبةٍ لن تشمل سواي، لأنّي وكما قالت وحيدة، لا سنَد لي. وسعني احتِواء صفعتِها، أو صدّها بودّية، لكِنّ مسّ لسانِها لسيرةِ أمّي أعمى عينيّ، قد أعفو عن أيّ جريمَة لفظيّةٍ تُرتكب بحقّي، لكنّي أعضّ إن تعدّى أحدُهم على عائِلتي.
تزامُنًا وجلجلةِ الجرسِ لجُدرانِ المدرسة، دنوتُ مِنها ودُست صدرها بقدمي.
" إن أتيتِ على ذِكر والديّ مرّةً أخرى، فأقسم أنّي لن أتوانى في قتلِك، وليشهد مَن يشهد، بالنّهايةِ أنا قاصِر، وسوفَ أحظى بنُزلٍ مُريح في مركزِ الإصلاح. "
" ما الّذي يجري هُنا؟ "
لسعَ صوتُ تشان مسامِعي مِن دُبر، لكِنّي لم أُعره اهتِمامًا، وأوّلتُني إلى الصفّ، رغم علِمي أنّي قد أعدمت فُرصتي في البقاء... سأُطرد حتمًا.
بمُجرّدِ انتِهاكي لعتبتِه، تكاثفت الهمساتُ حولَ مسامِعي، مُختلطةً بسُخريةِ أولئِك اللّذين حبّذوا المُجاهَرة، كأنّي دخيل. أكثَر تعليقٍ أضحكني، فحواهُ أنّي أحاوِل اصطِيادَ انتِباه المُدير، يُثبتون لي كُلّ يومٍ، أنَّ غباءَهم يفوق السّقفِ الّذي شيّدتُه له عُلوًّا!
لقد أتقنتُ فنّ التّجاهُل مُذ علِمتُ أنّ الكثيرَ مِن الاعتِبار يجلِب الدّمار؛ سيخيِّم عليّ الخذلان سواءٌ كُنت جيّدة أم سيّئة، كابتلاءات الرّبّ الّتي لا تُفرّق بينَ مُنحلٍّ أو مُتديّن، وتعلّمتُ بعدما تألّمتُ وتألّمت مِن جلداتِ الظنون، ألّا أشعُر، ولا أتألَّم، لذلِك لم أتأثَّر.
لم تمُرّ سِوى عشرُ دقائِق على قعودي، وصمّي لأذنيّ بسمّاعاتٍ بكماء، لا موسيقى فيها، وها هُو ذا أحدُ زملائي ينعي لي خبرًا كُنت بانتِظارِه، بنبرةٍ التمستُ فيها الشّماتَة.
" كيم ميني، المُدير يُريد رؤيتَكِ في مكتبِه. "
نهضتُ باعتداد ملكٍ انتُزِع مِن عرشِه، فأبى إلّا أن تذكُره حاشيتُه الغدّارة على أنَّه الّذي لن يُقهَر، حتّى وإن نُفيَ إلى غيرِ عالم سيقُطن رؤوسَهم لعقودٍ وعقود.
تحاشيتُ الاختِلاسَ مِن منظرِ تشان، ومضيتُ بثبات، وعيناي مُكتحلتان بالبُرود. اقتحمتُ غُرفة المُدير بلا أدب، فمَن بالدّاخِل لا يستحقّ. رأيتُ هيري تشغَل الكُرسيّ المُلاصِق لمكتبه، تدّعي المرض، مُنتهزةً مهاراتِها التّمثيليّة، كان واضحًا أنّها قد اقتطعت شكواها في المُنتصف حينَما سمِعت أزيز الباب، إذ تابَعت مِن حيثُ توقّفت.
" كُلّ ما فعلتُه أنّي أردتُ تقديمَ يدِ المُساعدَة لها بما أنّها يتيمة، لكنّها اهتاجَت فجأةً وهجمت عليّ كالكلبِ المسعور، ورغم ارتِفاع الدّرجِ إلّا أنّها جعلتني أسقُط مِن قمّتِه إلى أسفلِه بغير رحمة، هذِه الفتاة مجنونة سيّدي المُدير، وليسَ مِن الآمِن إبقاؤُها هُنا. "
استكثَر سُؤالي ما إذا كانَ إدلاؤُها صحيحًا أم لا، ونهرني بقسوة.
"آنسة كيم ميني، هذِه مؤسّسة تربوية، لا حلبةَ مُصارعَة لتستعرِضي عضلاتك أمام الفتيات."
انفلت مِن بين شفتيّ ضِحكةٌ تهُزّها السُّخرية.
" مؤسّسة تربويّة؟ "
أقدمتُ على قدّ المسافَة بينَ مضجعي السّالِف ومكتبه.
" على الأقلّ لستُ عجوزًا مريضًا، يسيلُ لُعابه على القاصِرات! "
لم يصمُد طويلًا تحتَ طرقات نظراتي الّتي حقّرته، إذ هرّبَ عدستيه بعيدًا عن معمعةِ حربٍ هُو الخاسِر فيها. بعد بُرهةٍ مِن الزّمَن وصلتُ ذراعيّ بصدري.
"ما الّذي تنتَظره فلتطرُدني؟ "
استوى على كُرسيِّه كما لو أنَّ لِسانَه مُكتّف، وقالَ برجفةٍ ملحوظة:
" لقد اتّصلتُ بوليّ أمرِك ما إن سمِعتُ عن فعلتك، سيأتي قريبًا لننظُر في شأنِك. "
" وليّ أمري؟ "
حتّى هيري قهقهت بصخب، قبل أن تُداخِل.
" مِن أينَ لها بوليّ أمر؟ هِي يتيمة، ولا أعتقِد أنّ أحدًا سيتكرِث بالمجيء إلى هُنا لأجلِ حلّ مشاكِلها، أراهِن أنّ الجميع سيستحي إن نُسِبت إليه. "
" راقِبي لِسانكِ يا آنسة، فقد يقطَعُ عنقكِ ذاتَ يوم. "
رصَّع هذا المَكان الخانِق نغمٌ مألوف، كذّبتُ وجودَه في الأرجاء، لكِنّ انتِصابَ المُدير كمسامِ الجسد حينَما يضربها داعٍ وجيه جعلني ألتفتُ إلى الوراء بصدمة، فضبطته عيناي ماثِلًا قُبالَتنا، بهيئتَه الّتي يُحلّيها السّواد، وتحُفّها الهيبة.
" أجاشّي! "
كأوّلِ موعدٍ دبّرهُ القدر لنا، ونبذناه كانَ يلتحِف ملايين الدّولارات، لكِن الحُسن الّذي يُدثِّر مُحيّاهُ لا يُقدّرُ بثمن، والكوارِث العاطفيّة الّتي عاثَها فيّ لا يُنصِفها سوى الصّمت!
تنازَلت أعيُننا وما تنازَلت عن اصطِداماتها الودّية رغم خُشونتِها. نطقت قدماه بالقُرب، ثُمّ طوّق ذِراعُه كتِفي، وغمرت نظراتُه الغامِضة شأنَ حُلّة شفتيه مُقلتيّ.
" لماذا تُحبّين الوقوع في المشاكِل... صغيرتي؟ "
بعد لحظات شحيحة، وقعَ صوتُ العجوزِ على آذاني مُتقطّعًا، كما لو أنّ كلِماتِه واقفة على سلكٍ كهربائيّ عارٍ، يخزُها بين الحين والآخر.
" تفضّل بالجُلوس. "
فرّت نظراتي مُكتفيةٍ مِن العذابِ الجميل الّذي تلقّتاه على أرضِه، فلمحتُه بطرفِ عينيّ وهُو يرفعُ ذراعَه اليُسرى، مُتمعّنًا في ساعةِ رُسغه الفاخِرة.
" اختصِر الموضوع فوقتي ضيّق للغاية. "
لاشكّ وأنّهُما قد تقابلا مِن قبل، فالرّجُل يرتعِش، ويتداعى كأنّه في حضرةِ ملك الموت... بالطّبعِ تقابلا، ما كُنت لأحافِظ على مكانٍ لي هُنا لولا أنّ يدًا نافذةً أسندتني. ليست النّساء وحدهُنّ من يتساقَطن عِند قدميه، بل حتّى الرّجال!
انحازَت يدُ المُدير إلى هيري المُلجمةِ مِن طلعةِ وليّ أمري الباذِخة، وطلوعِه الفُجائيّ، حيثُ روّجَ للزّورِ بثقة، كأنّهُ شاهِدٌ مِن أهلها.
" حسنًا، هذِه الفتاة هِي ضحيّتُها، قصدتها مُشفقةً عليها، بغرضِ التودّد إليها مُذ أنّها انطوائيّة، لا تُصاحِب أحدًا، لكنّها قابلتها بالعداوة، حتّى أنّها دفعتها مِن قمّة الدّرج. "
ارتشفتُ السُمّ الّذي رشّهُ عليّ برحابةِ صدر، لم أفكِّر في النّفي، رغم أنّ بحوزتي نصير، بل ولم أدرِ بأيّ صفةٍ أتى، إن كان بصفّي أم لا؛ فقد تعوّدتُ على التّهميش، والافتِقارِ إلى مُحامٍ، كأنّ ما يُفترض أن أقوله لن يُغيّر في المُجرياتِ شيئًا، لا يَطلُب مِنّي أحدٌ أن أقول.
" أهذا ما حدثَ حقّا؟ "
نغزني أثيرُه مِن جديد، مُحفّزًا.
" تحدّثي. "
هذِه هِي المرّة الأولى، الّتي أُمنَح فيها فُرصةً لإذاعةِ الحقيقة، فُرصةً لسردِ الأحداث مِن جانبي، ولكِن هل سيُصدّقُني أحدٌ إن قُلت؟
ربّما بيكهيون سيفعل!.
-
شو رأيكم بالفصل!
اكثَر جزء عجبكم وما عجبكم!
بيكهيون!
مينِّي!
تشان!
كيف سيعامل تشان ميني بعد ما دار بينهما!
ما الذي سيحدث فب مكتب المدير!
هل تتوقعون اي تطورات بعلاقتها مع هيون!
كامي البوس لن يخيب هرموناتكم 😂😂😂😂😂 اقصد توقعاتكم 🌜
اقترحولي اغاني حلوة انجليزية او كورية خاصة الجديدة 🎶
دُمتم في رِعايَة اللَّه وحِفظِه🍀
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro