الفَصلُ العَاشِر: كَالضِّياءِ فِي الغَسق.
اِخترَق سَمعهُ صَوت الضَّجيجَ مُزعجًا بِذلكَ لَحظاتَ نَومِه الهَانِئة، لِتنفصلَ أَجفانهُ بِبطء، وَأَثناءَ ذَلك شَعر بِالأَلم، شَعر بِه حِينمَا حَاولَ زَحزحةَ جَسدِه، أَحس بِالخَدر، وَكأنَ جَسدهُ شُل بِالكَامِل، وَبمَا أنّ تَحركهُ سيفقدُه طَاقةً هُو فِي حَاجةٍ مَاسةٍ لَها، فَضلَ البَقاءَ سَاكِنا، وَاِستخدامَ عَقله كَونهُ الشَّيءَ الوَحيد القَادرَ عَلى مُساعدَته فِي الوَقتِ الرَّاهِن.
مَسحَ المَكانَ الّذي هُو فِيه بِعينَيه، لِيتضحَ أَنّه مُستودَعٌ قَديمٌ وَمهجُور، وَسُرعَان مَا تَذكَر حَادثةَ الإِختطَاف، لَكن مَا لَا يَفهمُه، مَا بالُ جَسدهِ مُدمرٌ هَكذا؟ وَكأنّ أَلافَ الإِبرِ تَخزهُ فِي آن.
بُتَر تَفكِيرُه الدَّاخِلي مِن قِبل القَائِل بِمَرح، وَكأنّ مَا هُم فِي خَضمِ مُواجَهتهِ شَيءٌ هَيّن لَا عَسير: «أُوه، لَقد اِستيقَظت! صَباحُ الخَير.»
حَدقَ بِه بِاِنزعاجٍ كَيفَ يَقفُ أَمامَهُ بِاِبتسامةٍ سَامَة، مِن خِلالِهَا تُدركُ أَنّ لَه مَكرًا كَالثَّعابِين، شَخصٌ خَطرٌ لَا يَجبُ العَبثُ مَعه، لَكن فِي نَظرِ إِيثان هُو مُجردُ طِفلٍ شَقيٍ مِثلهُ عَاجزٌ عَن فِعل أَيّ شَيء، كُل مَا يُجيدهُ هُو التَّلاعُب بِالكَلماتِ وَاِستفزَاز مَن هَب وَدب.
فَجأةً اِنتَبه إِلى قَيدِه المَفكُوك، فَعلمَ أنّه اِستَطاعَ تَخليصَ نَفسهِ مِنه وَكذَا مُعاينةِ المَكانِ الّذي هُم فِيه مَحبُوسُون، لِذَا تَساءَل عَن نَتائِج بَحثهِ وَإن كَان غَيرَ مُتفائِلًا بِشأنِ ذَلكَ كَثيرا.
«لَا مَخرج، هُناكَ نَافذةٌ يُمكِنُ الوُصولِ إِليهَا عَن طَريقِ تَسلُق كُومةِ الخُردَة تَحتهَا، لَكن عَلى مَا يبدُو أَن الخَاطِفين كَانُوا نَبيهِين جِدا، فَوضَعُوا تَحتهَا مَن يَحرُسها.»
لَم يُصدم الأَمهق أَو تُحبَط مَعنوِياتُه فَقد تَوقعَ شَيئًا مِن هَذا القَبيل، اِستجمَع كُلّ قِواه مُحاوِلًا النُّهوض، فَأحسَ كَما لَو أنّما تَيارًا كَهربَائِيًا سَرى فِي كَافةِ أَنحاءِ جَسدِه، لَكن ذَلكَ لَم يَمنعهُ مِن مُواصلةِ مُحاولتِه حَتى نَجحَ أَخيرا، وَفرت مِن عَينِه دَمعةٌ كَشفَت المَستُور.
بَدلًا مِن طَلبِ المُساعَدة مِن أَسِيل حَاولَ إِيثَان فَكَ قَيدِه مُستعِينًا بِمَا قَرأهُ ذَاتَ مَرةٍ فِي إِحدَى الرِّوايَات، وَفيمَا يَفعلُ ذَلك سَأَل: «لِمَ جَسدِي مُحطمٌ هَكذا؟»
صُدمَ أَدهمُ الخُصلاتِ لِلحظة، ثُمَ اِنفجَر ضَحكًا حَتى كَادت دُموعُه تَتأرجحُ بَين أَهدَابِه، ثُمَ صفَر بِاِستمتاعٍ قَائِلا: «أَلا تَتذكَر؟ لَقد نِلتَ إِعجابِي يَا فَتى وَقتئذ!»
رَمشَ المَعنِي عِدةَ مَرات مُحاوِلًا اِستِيعابَ سبَب ضَحكه، لَكنه لَم يَقدِر؛ فَمن بِقدرتِه فَهمُ تَقلُباتِ المَجانِين؟ ثُمَ اِسترسلَ المَقصُود بِصفةِ الجُنونِ فِي كَلامِه: «لَقد تَم إِبراحُكَ ضَربًا حَتى فَقدت وَعيك، أَعنِي أَيّ شَخصٍ مَكانكَ لَتجمدَ مِن الخَوف، لَكنكَ لَم تَكُف لَحظةً عَن مُحاولةِ المَناص مِنهم، ذَلكَ كَان رَائِعًا بِحق!»
بِذكرِه لِهذَا بَدأَت بَعضُ الذِّكرياتِ حَول هَذا المَوضُوعِ تَعُود لَه، زَامنَ ذَلكَ إِفلاحُه فِي فَكِ قَيد يَده وَكذا قَدمَيه، ثُمَ هَرعَ بِخُطى مُعوَجةٍ نَاحِيةَ جَميلِ النَّائم لِتفقُد حَاله، وَلِحُسنِ الحَظ فَلم يُصب بِأيّ أَذى، لَكن نَظرًا لِملامِحهِ المُتجَعدة فَلا بُد أَنّ كَابُوسًا يرَاوِده، مَا جَعلهُ يُقررُ إِيقَاظَه، وَبصعُوبةٍ بَالغةٍ حَتى أَفلحَ فِي ذَلك. اِستَيقظَ والدُّمُوع قَد وَجدَت بِالفِعل سَبيلًا لَها عَبر وَجنتَيه، مَا أَشغَل فِكرَ إِيثَان بِمَاهِية كَابُوسِه، لَكِنه لَيس شَخصًا قَد يَحشُر أَنفهُ فِي خُصوصِياتِ الأَخرين، فَاِكتفَى بِالسُّؤال عَن حَاله وَعن مَا إِذ كَان بِخير.
هَز الأَسمرُ رَأسهُ بِأن نَعم وَقد كَفكَف دُموعهُ رَاسمًا عَلى شَفتيهِ اِبتسامتهِ المَرحةِ المُعتَادة، وَكأنّ لَا شَيء حَصل، وَصراحةً هَذا لَيس الوَقتَ المُناسِب لِلإِهتمامِ بِه، فَعليهم التَّفكِير فِي أَقربِ وَقتٍ مُمكِنٍ بِخُطةٍ تُنجِيهم مِن مَأزِقهم.
صَوتٌ خُطواتٍ تَقتربُ مِنهم اِرتَقت إِلى مَسامِع ثَلاثَتهم، وَقد كَادَت شَهقةٌ فَزعةٌ تَفر مِن العَربي لَولا كَتمهَا بِيديهِ فِي أَخرِ لَحظة، أَشارَ لَه إِيثَان بِاِلتزامِ الهُدوء، ثُمَ أَخفى هُو وَأسيل حِبالهُمَا فِي مَكانٍ قَصِيٍ لَا تَبلُغهُ الأَعيُن، وَتظاهَرا بِكونهمَا مُقيدينِ كَي لَا يَقعَا فِي مِشاكِل هُمَا فِي غِنى عَنها.
فُغرَ فَاهَا هَذان الأخِيران بِصدمة، فَلا يَكادَانِ يُصدقانِ مَا تَراهُمَا العَينين، بَل وَرُبمَا هُمَا فِي حلم سيستَيقِظانِ مِنه، أَعنِي مَن قَد يُصدقُ أَن سَالار دَاريا المَعروفُ بِاِلتزامِه للقَوانِين قَد يُقدمُ عَلى الهَربِ مِن الأَكادِيمِية كَما فَعلَا؟! مِن المُضحكِ حَقًا اِعتقادهُمَا هَذا الشَّيء كَونهُ السَّبب فِيمَا هُم فِيه حَاليا، إِذ وَعلى حَسبِ تَصريحِ قَائدِ مَهجعِ غَاردينيَا أُذنَ لَهُ بِالعَودةِ إِلى الدِّيار وَزيارةِ أُمه الرَّاقدةِ عَلى فِراشِ المَوت.
عُقل لسانُ الصَّغِيرين، فِيمَا تَولى جَميل مُهمَةَ اِحتضانِه وَالتَّخفيفِ عَنه، وَعلى الرُّغمِ مِن القَهرِ الّذي شُبعت بِه عَيناه إِلا أَنّه تَمالكَ نَفسهُ وَلم يَضعُف، فَما فَائدةُ التَّحسُر فِي مَوقفٍ كَهذا؟ لِذا وِبجِديةٍ وَجدت سَبيلًا لَها فِي نَبرتِه نَطق: «ضَعُوا فِي بَالِكُم شَيئًا وَاحدًا أَنّ مَوضوعَ تَسلُلكم مِن الأَكادِيمِية لَن يَمُر مُرورَ الكِرام، وَكمَا لَا وَقتَ لدينَا الآن؛ إِذ يُخطِطونَ للتَّنقلِ إِلى المِينَاء فِي هَذه اللَيلة، لَكن مِن حُسنِ الحَظ فَفي بَالي خُطةٌ بِالفِعل.»
«تسك، الخَطأُ خَطئي لِأنّي تَعاطفتُ مَع عَديمِ المَشاعِر مِثلك.» غَمغمَ أَسيل بِاِستياءٍ تَحت أَنفاسه، وَمع ذَلك فَغمغمتهُ اِرتَقت إِلى مَسامِع الأَكبرِ الّذي تَجاهَلها، وَصبَ اِهتمَامهُ عَلى شرحِ الخُطة وَالّتي لَم تَنل اِستحسانَ أَيٍ مِن إِيثان وَأسيل، إِذ صَاحَ هَذا الأخِير بِاِستهجان، وَقبضةٍ مَشدودةٍ بِإحكامٍ حَتى بَرزت العُروقُ وَابيضَت المَفاصل: «لَستُ أُمانِع اِستغلال الأَخَرينَ فِي سبيلِ تَمهيد طَريقٍ لِي، وَلكِن أَن يُضحِي أَحدٌ بِحياتهِ مِن أَجلي هَذا شَيءٌ لَن أَقبلهُ مَا حَييت، وَخاصةً لَو كَان أَنت بِالذَّات سَالي!»
وَأَعقبَ عَلى كَلامِه زُمردِي العَينين بِذاتِ نَبرتِه المُستهجِنة: «هَل أَنت جَادٌ أَيها القَائِد؟ لَا بُدَ مِن وُجودِ طَريقةٍ أُخرَى!»
اِنزعاجًا مِن مُقاطعتهِ وَتخيلِ سينَاريُوهاتٍ لَا أَساسَ لَها مِن الصِّحةِ زَمجرَ الأَكبرُ فِي وَجهيهمَا بِغضبٍ مَكتُوم: «أَنتُمَا مُزعِجان! مَن قَال أَنّي سَأضحِي بِنفسِي؟ لَم تَدعانِي أُكملُ حَتى كَلامِي.»
ثُمَ صَوبَ نَظرهُ نَاحِيةَ صَاحبِ مِحجرَي الجِمشت مُردِفا: «إِضافةً عَلى ذَلكَ لَن أُقايضَ حَياتِي مُقابلَ حَياةِ وَغدٍ مِثلك.»
زَفرَ سَالار بِعُمقٍ حَالمَا رَآهمَا وَاجمَين مُطبقينِ أَلسنتهُمَا، وَقبلَ الشُّروعِ فِي إِتمامِ شَرحهِ سَبقهُ الأَسمَرُ قَائِلا: «مَا رَأيكَ بِتغييرٍ بَسيطٍ فِي الخُطة؟ فَبدلًا مِن كَونكَ الطُّعم، دَعنِي أَتوَلى الدَّور؛ أَنا بَارعٌ فِي التَّمثيل كَما أَنّي مُتعودٌ عَلى مَواقفَ كَهذه أَنا الأخَر، إِضافةً إِلى أَنكَ أَقوانَا بُنيةً مَا يَعنِي رَفعَ اِحتمَاليةِ نَجاح الخُطة.»
«أَنا مُتفاجِئٌ مِن فَهمكَ السَّريعِ لِخطتِي دُونَ أَن أُتمَ الشَّرح.»
أَشادَ قَائدُ مَهجعِ غَاردينيا بِنباهَتهِ وَفطنَته، وَمَا زَادهُ إِعجابًا بِه هُو نَظرتهُ الوَاثقةُ وَالشُّجاعةُ الخَاليةُ مِن أَي ذَرةِ خَوفٍ رُغمَ مَا سيُواجِهه، فَلم يَكُن أَمامهُ إِلّا المُوافقةُ عَلى طَلبه، وَكذا إِتمامِ شَرحِ الخُطةِ للمُتبقِيين.
وَلِحُسنِ حَظهِم فَقد اِمتلكَ أَسيل أَعوادَ الثِّقابِ فِي حَوزتِه، أَو بِعبارةٍ أُخرَى هَذا مَا كَان وَاثقًا بِه الأَكبر حِين شَرحَ الخُطة، فَاليومُ يَومُ مِيلادِ تَوأمهِ المُحب للأَلعابِ النَّارية، مَا جَعلهُ يَستنبطُ أَنّ سببَ تَسللهِ هُو لِشراءِ الأَلعابِ النَّاريةِ وَإِشعالهَا تَخليدًا لِذكرَاه، بَل وَرائحةُ البارودِ الّتي تَفوحُ مِنه أَكدت ذَلك، بِالمُختصرِ فَقد كَان يَومَ حَظِهم.
طَفقَ الفِتيةُ ببعثرةِ الأَشياءِ المُتواجِدةِ فِي هَذا المَكان وَعثِ الفَوضى فِيه، بَعد ذَلكَ اِنتقلُوا للخُطوةِ التَالية والمُتمَثلة فِي إِضرامِ النَّار دَاخلَ المُستودَع، فِيمَا اِختبَأ أَسيل، إِيثان، وَسالار خَلفَ البَابِ عَقبَ رَبطهِم لِجميل مِن جَديد بِالحبال، وَهذا تَجنُبًا للشَّك.
ثُمَ وَبصوتٍ وَاحدٍ مُتزامِنٍ اِنطلقَ صِياحٌ خَائفٌ مُصطنعٌ مِن أَربعتِهم، وَمِثلمَا أَرادُوا فَقد قَدمَ الخِاطفُونَ عَلى وَجهِ السُّرعة، فِيمَا اِنتهزَ الثَّلاثةُ الفُرصةَ وَهربُوا بينمَا هُم مُنشغلُون مَع جَميل الّذي أَخبرهُم بِأنَ رِفاقهُ تَحتَ كُومةِ الفَوضى هَذه، وَلأنّ نِيتهُم المُتاجَرةَ بِهم فَلم يَتوانَوا لَحظةً عَن البَحثِ عَنهم.
ثَلاثةُ خَاطفينَ فِي الدّاخِل مُنهمِكين فِي البَحث، وَرابعهُم مُنشغلٌ فِي تَهدئةِ العَربي المُرتجِف البَاكِي، فِي هَذه الأَثناء اِنتهَز سَالار الفُرصةَ لِمباغتَتهِ وَضربهِ بِحطبةٍ صَادفَ وَوجدهَا فِي طَريقه، بَينمَا الثَّلاثةُ الأخرِين تَكفلُوا بِمنعهِ مِن الاِرتطامِ أَرضًا وَإِصدارِ الضَّوضاء.
كَما مَا لَم يَحسبُوا لَه حِسابًا هُو ضَياعُهم فِي الغَابةِ الكَثيفة، مَهمَا نَظروا مِن حَولهم لَن يجِدُوا إِلّا أَشجارًا مُتشابهةً لَن يقدِرُوا مِنهَا عَلى إِدراكِ طَريقهم وَالوقتُ يُداهِمِهم، بَعد رَكضٍ دَامَ لِربعِ سَاعةٍ عَلى الأَقل أَخد الفتيةُ قِسطًا مِن الرَّاحةِ يُفكِرونَ فِي حَلٍ لِلنَّجاة، أَو بِصحيحِ العِبارة فَكستنائي الشَّعر هُو مَن كَان غَارقًا فِي التَّخطيط عَكس إِيثان وَأسيل المُتاشجِران، وَجميل الّذي يُحاولُ تَحسينَ الأَوضاعِ بَينهُما.
تَوقفَ زُمردي العَينين فَجأةً عَن مُجاراةِ الأخرِ فِي السُّخريةِ المُتبادلَة، فَقد اِلتقطَت أَذانُه صَوتًا مَألُوفا، وَمن حُسنِ حَظهِ فَلم يَنقطِع الصَّوتُ حَتى اِستطاعَ تَحديدَ مَصدرِه، لِذا وَدونَ تَرددٍ اِنطلقَ قَاصدًا مَصدرهُ تَاركًا صُحبتهُ فِي حِيرة، وَلعَل الأَمر الأَغربَ هُو تَتبُع أَدعجِ الشَّعرِ لَه مُباشَرة، مِن ثُمَ جَميل وَسالار.
عَلى طُول الطَّريقِ الّتي سَلكُوهَا تَرأَت لَهُم بُقعةٌ مُخضرةٌ خَاليةٌ مِن الأَشجار، وَهُناكَ يَقفُ آستَر مَع عِدةِ ثَعابينَ عَلى مَا يبدُو أَنّها كَانَت مُرشدته.
لَم يُفكِّر الأَصغرُ لَحظةً قَبل قفزِه عَلى حُضنِ خَالهِ الّذي كَاد يَسقُط لَولا تَوازُنهُ فِي اللَحظاتِ الأخِيرة، كَما لم يَخفَ عَلى أَحدٍ دَهشتهُ الّتي اِستُبدلَت إِلى اِبتسامةٍ حَانيةٍ فِيمَا يُمسدُ رَأسهُ بِلطف. صَحيحٌ أَنّه وَعد نَفسهُ بِتوبيخِه حَال إِيجَاده، لَكن بُكاءهُ مُزامنةً مَع اِحتضانِه شَيءٌ لَم يَتخيلهُ عَقلهُ أَو يحسُب لَه حِسابا، فَاِرتَأى أَن يُمررَ ذَلكَ مُؤَقتا.
سَحبَ أَسيل كم أُستاذِه الّذي صُدمَ صَراحةً وَقت رُؤيتِه هُنا، بَل وَما أَدهشهُ أَكثر هُو رِفقتهُ مَع ثَعابينِه الخَائنة!
«هيي أَنت! كَيف جَعلت ثَعابِينِي تُطيعك؟!»
بِطبيعةِ الحَال لَم يكُن الأكبرُ لِيجيب، فَاِكتفَى بِإجابةٍ حَملتَ بَين سُطورِها مَعانِي السُّخرِية: «إِذا اِستطعتَ جَعلَ ثَعابينكَ تَتحَدث فَهنيئًا لَك مَعرفةُ الكَيفِية.»
«لَقد وَجدُونَا سَريعا، هَذهِ مُصيبَة!»
لَولا تَنبيهُ الأَسمرِ عَلى إِيجادِ الخَاطِفين لَهم لَكانُ صاحبُ الثَّعابينِ اِستمرَ فِي النَّق فَوق رَأسه دُون تَوقُف، فَكَيفيةُ التَّخلُص مِنهم حَاليًا هُو الأَهم، وَلم يَدرِ أَنّ قَلقهُ بِلا دَاعٍ فَمعهُم شَخصٌ قَادرٌ عَلى ذَلكَ بِكُلّ يُسر.
«اِنتظرنِي قَليلا؛ سَأتكَفلُ بِهم فِي غُضونِ عَشر دَقائِق.»
هَمس بِخفُوتٍ لِإِيثان فِيمَا يخَلعُ سُترتَه وَيلقِيهَا عَليه، إِخفاءً لِعبراتِه الّتي مَا كَان يَود لِأحدٍ رُؤيتهَا، بِخطى مُتمهلةٍ كَان يَسير، وَفي ذَاتِ الوَقتِ يُشمرُ عَن سَاعِديهِ غَير مُلقٍ أَيّ اِهتمَامٍ لِخصُومه، مَا زَاد سَخطهُم وَكذا اِندفاعِهم نَحوه بِلا تَفكِير، وَهذا أَكبر خَطئٍ قَد يَقعُ فِيه أَيّ أَحدٍ حِين يَستخفُ بِخصمِه. تَفادَى آستَر لَكمةَ الأَول بِسهُولةٍ ثُمَ رَدهَا لَه بِركلةٍ عَلى المَعِدة جَعلتهُ يَحطُ أَرضا، وَهذهِ المَرةَ تَقدمَ اِثنَين دُفعةً وَاحدة، رُغم هَجماتِهمَا المُتتالِية إِلّا أَنّ الَحالكَ اِستمَر فِي تَفادِي ضَرباتِهمَا حَتى يَتسنَى لَه قِراءةِ تَحركاتِهما مِن أَجل تَسهيل عَمليةِ هَزيمَتهما، وَبِالفعل لَم تَكُن مُجردَ مَسألةَ وَقتٍ حَتى أَطاحَ بِهمَا أَرضًا مَع بَعضِ الكُسورِ ضَمانًا لِعدم قُدرتهما عَلى النُّهوض مِن جَديد.
مَا شَهدهُ الأَخير كَان كَافيًا لِجعلهِ يُدركُ أَنّ خَصمهُ لَيس بِالهيّن وَأفضلُ خِيارٍ أَمامهُ هُو الهَرب وَالتَّمسُك بِحياتِه، وَقد أَدركَ آستَر نِيتهُ فِي الفِرارِ فَكانَ لهُ بِالمِرصاد، وَلم يبخَل عَليه بِالضَّرب رُغمَ تَوسلِ الخَاطفِ بِالعفوِ عَنه، رُبمَا لَا يبدُو الأَمرُ جَليًا عَلى مَلامِحه لَكنهُ كَان غَاضبًا جِدا مِن فكرةِ أَنّ اِبنَ أُختهِ سيتَأذَى لَو تَأخرَ قَليلا، وَمن هَذا المُنطلقِ سَمحَ لِمشاعرِه أَن تَنسابَ عَلنًا وَيفرغَ حَنقهُ عَليهم.
«يبدُو أَنّنا قَد وَصلنَا فِي وَقتٍ مُتأخر، شُكرًا عَلى عَملكَ الجَاد.»
صَفقَ المُديرُ كَايل بِيديه بِإِشادة، وَبجانِبه لِينُوس الّذي أَمرَ الرِّجالَ بِصحبتِه، بِإِلقاءِ القَبضِ عَلى الخَاطِفين، ثُمَ اِستمَر مُضيفا: «أَنا سَعيدٌ لِأنَ طُلابِي الأَحباءَ بِصحةٍ تَامة، لَكني أَخشى أَنّي لَن أَستطِيع تَمرير مَوضوعَ هَربكُم.»
خَتم كَلامهُ بِاِبتسامةٍ لَطيفةٍ كَانَت النَّقيضَ لِمَا تُحاكِيه عَيناهُ المُشعتانِ غَضبا، فِيمَا كَان لِينُوس قَد تَولى بَعثرةَ شَعر كُلّ من أَسيل وَجميل وَهُو يَنطق بِهُدوء: «حَمدًا للرَّب عَلى سَلامتِكُم، لِبقائكم صَامِدين حَتى هَذا الوَقت، هُو شَيءٌ يَستحقُ الفَخر.»
رُبمَا لَم يُغير كَلامُه شَيئًا فِي الحَالك إِلّا أَنّ الأَسمَر شَعرَ بِشيءٍ يُدغدغُ قَلبه وَكذَا دِفءٍ لَم يَشعُر بِمثيلٍ لَه مِن قَبل؛ أَن يَسعدَ أحدٌ بِنجاتِه سَالمًا بَل وَيثنِي عَلى مُحاولتِه البَقاءَ حَيًا بَدل لَومِه وَتمنِي مَوته لَشيءٌ لَم يَكُن ليَتخيل أَن يَحدُث.
وَكلّ هَذا لَم يَغب عَن نَاظرِي سَماوِي الخُصلات، فَدَفعَ جَميل إِلى حُضنهِ بِيد بَينمَا الأُخرى دَفع بِها قَائدَ مَهجعِ أَلكامَاس إِلى سَالار دُونَ مَجالٍ لِلمُقاومة، فَغمغمَ بِسخطٍ إِزاء ذَلك: «مَا بَالُ ذَلكَ المُزعِج؟!»
«رُبمَا رَأى أَنّكَ بِحاجةٍ إِلى حُضنٍ لِلتَّخفيفِ عَليك، تُريد؟» نَبس كَستنائيُ الشَّعر بِسخريةٍ فِيما يفتحُ ذِراعِيه لِاِحتضانِه، فَرمقهُ أَسيل بِاِمتعاضٍ وَهُو يُجيب بَينمَا يَمسحُ عَلى رَأسِ ثُعبانِه الأَبيضِ المُلتفِ حَول رَقبتِه: «لَا، شُكرا، لَكن تِيدي يَود ذَلكَ وَبشدة.»
ضَم سَالار ذِراعيه إِلى صَدرِه وَهو يُحدقُ بِثعابينهِ بِريبة؛ لَيس مُطمئنًا البَتة مِن تَربيتِه لَهم، وَخاصةً بَعدمَا حَاول أَحدُ ثَعابينهِ قَتله، لَو تَأخرَ لَحظةً في أَخد العِلاج لَكان فَارقَ البرزَخ بينَ الحياةِ وَالموتِ بِالفعل، وَما أَخافهُ أَكثر هُو نَظراتهُ الفارغةُ حِينمَا قَامَ بقتلِ الثُّعبانِ الّذي فَضلهُ عَلى غيرهِ مِن الثَّعابين، يَخشى عَليه حَقًا فُقدانُ روحِه المَرحة، لكن مَا باليدِ حيلةٌ وَهو دَائمُ الرَّفض بخصوصِ فكرةِ التَّخلص مِنهم، إِذ يقُول دَائمًا وَيرددُ أنّهم رِفقتهُ الوَحيدة.
لَوحَ الحَالكُ بيدهِ أَمامَ عيني الأَكبر لِجذبِ اِنتباهه، وَحَالمَا أَفلح نَطق بِطفُوليةٍ مَرحة: «لِمَ لَم تَذهب بَعد؟ هل عَلي الذَّهابُ مَعكَ وَتلقينُ ذَلكَ المُسن دَرسا؟»
«سَأذهبُ بَعد قَليل، المُديرُ بِالفعل يُجهز لِي عَربة.»
لم يمر وَقتٌ طَويلٌ حَتى تناهَى إِلى أُذنه ندهُ المُدير يُخبرهُ بِقدرتهِ عَلى الذَّهابِ الآن، وَقبلَ أَن يتجهِ نَحوه هَمس فِي أُذنِ أسِيل: «أَعتذر، لِنشعل الأَلعابَ النَّاريةَ يَومًا مَا معا.»
بِالنَّظر إِلى مَلامِحه الهَادئةِ الّتي لَا تُعطي أَيّ اِنطباع، غَمغمَ المُحدَث بِسخط: «تسك، عَلى الأَقل أَبدِ مَلمحًا يَجعلنِي أُصدقُ كَلامك.»
ثُمَ أَضافَ مُوجهًا كَلامهُ لِثعابينه العَزيزة بِنظرةٍ غَريبة: «مَن يَهتم لِأمره، أَنتُم مَعي بِالفِعل، لَن تُفكِّروا فِي خِيانتِي كَلاكس صَحيح؟»
<----«« »»---->
«مِيريث، كَيفَ الحَالُ يَا رَفيق؟ لَم أَرك مُنذ فَترة.» صَرخةٌ اِنطَلقَت مِن جَوفِ الدَّالف مِن غَير استئذانٍ للغُرفة، وَقد شُعَ صَوتهُ بِالحَماسةِ وَالجَذلِ الدَّالانِ عَلى رُوحِه المَرِحة، لَكنَ المَعنِي المُنهمكَ فِي أَعمالهِ الوَرقيةِ لَم يُعرهُ أَي اِهتمَام، وَمع هَذا لَم تُثبَط حَماسةُ هَذا الأَول الّذي اِتجهَ نَاحِيتهُ بَاسمَ الثَّغرِ وَقد أَخد يَنكزُ وَجنتهُ مُعقبًا عَلى كَلامِه: «لَا تَكُن كَالحَ المَحيا هَكذا، لَا أُحب هَذا كَما تَعلم، أَرنِي تَعابيركَ المَجنُونةَ الّتي أَحببتكَ مِن أَجلِها!»
رَفعَ مِيريث حَاجِبًا دُونَ الأخَر، وَقد حَملَت نَبرتَه بَعض السُّخريةِ قَصدَ الاِستهزَاءِ بِه حِين قَال: «سَيكُون شَرفًا لِي أَن تَكرهَنِي، سيبَاستيَان.»
اِنبثقَت ضَحكاتٌ مُستمتِعةٌ مِن سِيباستيَان، فَاِرتَج جَسدهُ عَلى إِثرهَا، وَكذَا تَبعثَرت خُصلاتُ شَعرهِ البُنية بِسببِها، وَفي هُدوءِ الغُرفةِ السَّاكِنَةِ لَم يُسمَع إِلّا صَدى ضَحكاتِه، وَخشخشةِ قُرطِه كَسمفُونيةٍ صَاخِبةٍ أَزعجَت سَمعَ الأَشقر.
«مِن المُخيفِ جِدًا تَغيرُكَ التَّدرِيجِي بَعد القَتل، أَشكَ أَنّك تُعانِي مِن الإِنفصَام كَرَفيقكَ الأَخر.»
تَنهيدةٌ عَميقةٌ وَشت أَيسه مِن حَال صَاحِبه البَائِسة، فَهُو فِي الوَضعِ الطَّبيعِي شَخصٌ يَتأرجحُ بَين الجِديةِ وَالمَرح، لَكن حَالهُ يَنقلبُ رَأسًا عَلى عَقب بَعد القَتل، وَكأن كُلّ مَلذَاتِ الدُّنيَا وَشهَواتِه يَجدُها فِيه، فَيصيرُ مَجنونًا لَا يَعرفُ إِلا الضَّحكَ بِصخبٍ وَإِزعَاجَ مَن حَولِه.
كَف سيبَاستيَان عَن الضَّحكِ لِيأخُد سَطحَ المَكتبِ مَجلسًا لَه، وَعينَاهُ الفِيروزِيتَان فِي السَّماءِ المُرصعةِ بِالنُّجومِ تُحدقَان فِيمَا يُدندنُ لَحنًا لَا يَدرِي أَين اِلتَقطتهُ أُذنَاه.
فِي حِين أَن الأَخر تَساءَل عَن سببِ قُدومِه، فَيُجيبهُ بِأنّ عَليهِ إِتمامُ عَملهِ وَبَعدئذٍ سَيعلَم، وَبالفِعل قَد هَم فِي الشُّروعِ بِعمَله؛ فَوقتهُ أَثمنُ مِن أَن يُضيعه؛ إِذ يَود تَخصِيص كُلّ وَقتِ فَراغِه لِعزيزِه درُوسِيل.
صَمتٌ اِنسكَب عَلى الأَفوَاه، فَباتَ مِن السَّهلِ سَماعُ حَتى أَبسطِ الأَصواتِ كَمَعزُوفةِ صَراصيرِ اللَيل المُعتَادة، وَكذَا صَوتُ الخُطواتِ المُتجهةِ نَاحِيتَهما، اِنبلجَت بَسمةٌ ثَغرَ كَستنَائيِ الشَّعر، وَراحَ يَتمدَدُ مُستعدًا لِلقَاء ضُيوفِهمَا الأَعزَاء.
«ثَلاثَة.»
«اِثنَان.»
«وَاحِد.»
تَزامُنًا مَع نِهايةِ هَذا الأخِير مِن العَد اِقتحَم مَجموعةٌ مِن المُلثَمِين الغُرفة وَأَحاطُوها، خَمسة مُلثمِين هَذا كَان عَددُهم، وَلم يَكُن بِالعَددِ الكَبيرِ فِي نَظرِ سِيباستيَان الّذي اِنقضَ عَليهِم كَأسدٍ جَائِع يَتربصُ بِالفَريسة، تَناثَرت الدِّماءُ فِي الأَرجَاء وَكذَا عَلى وَجهِ مِيرِيث الكَاظِمِ لِغيظِه حِين نَبس: «أَلا يُمكِنكَ القَتلُ بِأنَاقة؟»
«مَا الّذي تَقصدهُ بِالأَناقة؟ أَنا بِالفِعل أَفعلُ هَذا.»
عَقبَ رَدهِ عَليه رَمَى مِديتهُ نَاحِيةَ المُلثمِ الوَاقفِ ورَاءَ مِيريث، وَقد أَصابَ مُنتصفَ جَبهتِه مُخترِقًا جُمجُمَته، فَأُردِي قَتيلا، فَأَضافَ بِفَخر: «أَرَأيت؟»
حَدقَ الأَشقرُ فِي الجُثةِ بِطرفِ عَينِه ثُمَ إِلى سيبَاستيَان الّذِي هَم بِتنظِيفِ الفَوضَى الّتِي خَلفهَا، فَاِبتسمَ بِتكَلفٍ وَهُو يُجيب: «مَا زِلتُ لَا أَعتقدُ ذَلك.»
ثُمَ سَحبَ خَيطًا مُتواجِدًا بِالقُرب مِن مَكتبه، وَبعد مُدةٍ لَيست بِالطَّويلة قَدمَ كَبيرُ الخَدمِ الّذي طُلب مِنه المُساعدة فِي التَّنظيف، وَمِن دُونِ أَي اِستفسارٍ أَو كَلامٍ إِضافيٍ لَا مَعنى لَه بَاشرَ كَبيرُ الخَدمِ المَدعُو سِيسيل عَمله.
«هَل هَذا مَا أَتيتَ مِن أَجله؟ أَنتَ حَقًا فَظيعٌ لِعدمِ إِخبارِي!»
«بَل أَنت الفَظيع؛ أَنَقذتُ حَياتكَ وَبدلًا مِن شُكرِي تَلُومُني!»
وَكأنّه المَظلوم هُنا صَاحَ بُنيُ الشَّعر بِأسَى، مَا جَعل مِيريث يُقلبُ عَينيهِ بتمَلمُل؛ لَيس يَفهمُ حَقًا لِمَ تَم إِرسالُ هَذا المَجنونِ بَدلَ فِينيَاس، فَهذا الأَخيرُ حَكيمٌ وَرزينٌ فِي تَصرُفاتِه، لَا مُختلًا عَقليًا يُظَن أَنّه هَربَ مِن المَصحةِ العَقلِية.
«عَلى كُلّ، هَل أُرسلُوا مِن قِبل الدُّوق إِرنست فَالكِيري؟»
صفَر المُخاطَبُ بِإِعجابٍ زَائفٍ حِين هَتف: «أَنت ذَكيٌ عَزيزِي مِيرِيث!»
«كَيفَ عَلمتُم بِشأنِ مَوعِد تَحرُكاتِه؟»
«لَا عِلمَ لِي، كَانَت مُهمتِي قَتلَ البَارُون أَردِين كَاردِينِيه، بَينمَا فِينيَاس تَكفلَ بالمَاركِيز دُوغلَاس بَاركَر، وَفي نُقطةِ اِلتقَائنَا بَعد إِتمَامَ مُهمتَينا أَخبرنِي فِينيَاس أَن أَتوَجه إِليكَ حَالًا عَلى وَجهِ السُّرعَة من دُون مُمَاطلةٍ أَوَ تأخِير، كَما وَأوصانِي بِإِغداقكَ بِالحُب وَالأَمان حَال شُعوركَ بِالخَوف، لِذا هَلُمَ إِلي!»
فَتحَ يَديهِ عَلى مِصرعَيهمَا وَهُو يَتقدمُ نَاحِيتهُ كَي يَحتضنه، إِلّا أَنّ مِيريث أَبدَى مَلمحًا مُشمَئزًا وَألقَى عَليهِ أَول مَا وَطأتهُ يَداه، وَقد كَان مِدواةً مُمتلِئة، فَاِنسكَب عَليه الحِبر مُلطخًا وَجههُ وَثيَابه، وَبدلًا مِن الاِمتعَاض وَما شَابَههُ اِنفجَر ضَحكًا عَلى مَا آل إِليه حَاله.
لَم يُلقِ الإِيرل بَالًا لِجنُونِه المُتلفِ لِلأَعصاب، وَإنّمَا نَطقَ بِنبرةٍ هَادئةٍ عَكسَ مَا بِداخِله مِن بُركَانٍ ثَائر؛ إِذ لَا يَودُ الاِستسلَامَ أَمامَ اِستفزَازه: «مُقرِف، فِيني لَن يَقُول شَيئًا كَهذَا، وَعلى ذِكر سِيرتِه لِمَ لَم يَأتِي بِنفسِه بَدل إِرسالِ مُغفلٍ مِثلك يُصبِحُ فِي حَالةٍ سكرٍ بَعد القَتل؟»
شَهق سِيباستيَان بِصدمة، وَأمسكَ قَلبهُ كَما لَو أَنّه تَعرضَ لِطعنةِ الخِيانِة مِن أَقربِ النَّاسِ إِليه، ثُمَ نَطقَ بِنبرة أَسى مُصطَنعة: «عَديمُ المَشاعِر! كَيفَ تَتجرَأُ عَلى قَول كُلّ هَذا الكَلامِ الجَارحِ لِمُنقِذك؟»
«يَا إِلهِي أَلهمنِي الصَّبر!» غَمغمَ مِيريث مُبعثِرًا خُصلات شَعره بِعصبيةٍ وَنفاذِ صَبر؛ هُو حَقًا يَكرهُ الوَاقفَ أَمامَهُ وَينزعجُ مِنه، لَيس يَدرِي السَّبب لَكنهُ الوَحيدُ القادِرُ عَلى اللَعبِ بِأعصابِه وَإِتلافِها.
جَلسَ عَلى كُرسِيه طَالبًا بَعضَ الرَّاحةِ فِيمَا يَرمُق كَستنَائِي الشَّعرَ بِنظرةٍ أَخرَسته، دَلكَ مَا بَين صَدغَيه مُفكِرًا فِيمَا سَتكُون خُطوتهُم الآتِية، فَبعد أَن تَم القَضاءُ عَلى جَميعِ الأَهدافِ وَبقاءِ الرَّأسِ المُدبر، عَلَى أَيزَاك تَحديدُ يَومٍ مُميزٍ وَطريقةٍ فَريدةٍ لِلقضَاء عَلى مَن سَحب عَائِلتهُ إِلى الهَلاك، وَبهذَا سَتكُون مُهمتهُم اِنقضَت وَكلٌّ سَيمضِي فِي طَريقهِ الخَاصة، بَعد رِفقةِ ثَلاثِ سَنوات سَيكُون مِن المُحزنِ الاِفتراقُ عَن بَعض، وَأكيدٌ أَنّ سِيباستيَان غَير مُدرجٍ ضِمن القَائمة، إِذ لن يَشتاقَ لَه مُطلَقا.
أَسندَ ذُو العُيونِ الفِيروزِيةِ رَأسهُ عَلى مَكتبِ مِيريث وَقد اِنقلبَت مَلامِحهُ إِلى الهُدُوء، هُو ذَاتهُ يُفكِّر فِيمَا سَتؤُول إِليه الأَوضَاع، وَبالأَخص مَا سَيجرِي لِأيزاك؛ قَائدُهم وَمن تَكفلَ بِجمعهم، لَطالمَا كَان كَلغزٍ مِن المُحالِ فَهمهُ أَو تَوقعُ حَركاتِه، لَكن هَواجِس سَيئةً مَا اِنفكَت تُراوِده، مَاذَا لَو تَحققَت هَواجِسه؟ حِينئذٍ رُبمَا سيفقِدُ عَقلهُ وَيصيرُ حَقًا المَجنُون الّذي لَطالمَا تَم وَصفهُ بِه.
«نِيه، مِيرِيث! هَل تَعتقِدُ أَنّ ذَلكَ المَدعُو آستَر قَد يَكتشفُ الحَقيقة؟»
تَوقفت يَد المُخاطَب عَن الدَّق بِتملمُلٍ عَلى سَطحِ المَكتب مُجيبًا بِنبرةٍ أَكثرَ هُدوءًا مِن سَائِله: «لَو كَان مِثلمَا أَشادَ بِه أيزَاك فَحتمًا اليَوم بَدأَ بِالتَّفكِير حَول المَوضُوع بِجديةٍ وَما عَادَ قَادرًا عَلى تَجَاهُله، لَكن مَا سيُصدرُ غَدًا مِن أَخبارٍ لَرُبمَا سيحَطِمُ تَوقعاتُه، وَهذَا مَا أَمُلهُ صَراحة بَل وَأتمنَاهُ بِشدة.»
«إِذَا اِكتشَف ذَلك، هَل أَيزاك...؟»
بِعصبيةٍ رَاحَ الأَشقرُ يَضربُ مَكتبهُ وَعيناهُ شُعَا بِبريقٍ غَاضب، فَأخرسَ سيبَاستيانِ هَاتِفًا بِحنق: «اِخرس سِيباستيَان!»
اِزدردَ كَستنَائِيُ الشَّعرِ رِيقهُ بِصعُوبةٍ وَأُخرِس، فَهُوَ مُدركٌ أَنّ هَذا المَوضُوع حَساسٌ جِدًا بِالنِّسبةِ لَه، لِذا اِكتفَى بِالصَّمتِ يُراقبُ كَيفَ يُبعثرُ شَعرهُ بِغَيظٍ فِي مُحاولةٍ مِنه لِاِسترجَاعِ هُدوئِه، وَلعَل هَذه أَولُ مَرةٍ يَراهُ يفقدُ صَوابهُ هَكذا، وَلن يَلومَهُ فَأيزَاك بِالنِّسبةِ لَهُم كَالضِّياء فيَ الغَسق.
يُتبع...
<----«« »»---->
الله أَكبر، الله أَكبر، الله أَكبر، لَا إِله إِلا الله.
الله أَكبر، الله أَكبر، وَلله الحَمد.
2858 كَلمة.
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro