الفَصلُ الرَّابع: جَريمةٌ فِي وَضحِ النَّهار؟
عَلى حَافةٍ عُشبيةٍ مُسطحةٍ لِبُحيرةِ لُوخ نِيس كَانَ إِيثَان يَسير وَعيناهُ عَلى البُحيرةِ لَا تُفارِقان، وَخلفهُ تَواجدَ خِادمهُ الشَّخصِي الذِّي يَستمعُ بِرحَابةِ صَدرٍ وَاِبتسامةٍ لَم تُفارقِ الثَّغرَ للِحظةٍ إِلى تَذمرِ آستَر حَولَ غَبائِه الذِّي لَا يَعلمُ أَينَ حَل عَليهِ حِين وَافقعَلى طَلب ذَلك الغِرَ الصَّغيرَ بِالمَجَيئِ إِلى سكُوتلَاندا، فَبجدية مَا الفَرقُ بَين لُندُن وَهذَا المَكان؟!
حَالمَا كَفَ عَن التَّذمرِ قَليلا، اِنتهَز فِينيَاس هَذهِ الفُرصةَ لِيدلِي بِافتِراضِه وَالّذِي كَان كَالقشةِ الّتِي قَسمَت ظَهرَ البَعير؛ أَيعقلُ أَنهم قَطعُوا مَسافةً كَهذِه مِن أَجل أُسطورةٍ سَخيفةٍ حَول وَحشِ لُوخ نِيس؟!
«أَيهَا الفَتى! لِنعُد الآن.»
عَلى صِياحِ آستَر نَما قَوسُ عُبوسٍ مُزينًا مَلامحَ المُخاطَب الّذي هَتفَ بِاِستياء: «لِم؟ لَقد وَصلنَا توا!»
وَمن دُون أَن يُبالِي بِمشاعِر الطِّفل أَو بِالأَذَى الّذي سَيُسببهُ لَه رَد عَليه بِجفاء: «كَفاكَ تَضييعًا لِلوقت، لَا وُجودَ لِشيءٍ يُسمَى وَحشًا هُنا!»
«وَما أَدراك!»
عِندئذٍ طَفحَ الكَيلُ بِالنِّسبةِ لِخاله، فَاِكتست البُرودةُ نَبرتهُ الّتي تَخللتهَا بَعضُ العَصبيةِ حِينَ أَجاب: «لَو كَان مَوجُودًا حَقا، أَتَعتقدُ أَنه لَن يَظهَر مُجددا؟ لِذا كَفاكَ أَحلامًا وَاهِيةً وَدعنَا نَعُد أَدراجَنا.»
أَبلسَ إِيثَان مُغتاظًا وَقد وَسوسَت لَه الشَّياطينُ بِالهَرب بعيدًا وَتركِه يَبحثُ عَنه حَتى يَكادَ قَلبهُ يَتوقف اِنتقاما، لَكن لَمسةَ خَادمِه الحَانِية عَلى رَأسِه وَاِبتسامتِه اللَطيفةِ وَهوَ يُحاولُ مُواسَاتَه حَالتا بَين ذَلك، إِذ قَال لَه بِنبرةٍ كَانت النَّقيضَ لِنبرةِ ذَلكَ الخَال المُزعج: «سَيدِي الصَّغير، إِلى مَتى تَودُ البَقاء هُنا؟ مُنذُ مُدةٍ وَنحنُ نَسير وَلا شَيءَ غَريب حَدث...»
«أَظنهُ يَنوِي السِّباحةَ أَيضا.»
وَلأنَ كَلام فِينيَاس قَد قُوطعَ إِثرَ سُخريةِ أَسخمِ الشَّعر، فَقد قَابلهُ بَعينينِ مُغمَضتينِ مَع اِبتسامةٍ لَطيفةٍ دَبت الرُّعبَ فِي أَوصاله؛ فَكلُ إِنشٍ مِنه شَعرَ بِالتَّهديد، وَكأَن الرِّسالةَ التِّي يُريدُ إِيصالهَا كَالآتِي: كَلمةٌ أُخرَى وَستدفعُ حَياتكَ ثمنًا لَها.
وَلن يَكذبَ لَو قَال أَن هَذهِ أَولُ مَرةٍ يَخافُ مِن شَخصٍ مَا بِمثل هَذا الكَم؛ لَيس يُبالغُ لَو قَال أَن هَالتهُ تُشبهُ هَالةَ القَتلةِ المُتعطشينَ للدِّماء، وَمن أَجل هَذا فَقد أَخد اِحتياطاتِه بِأن لَا يُزعجَ إِيثَان فِي وُجوده.
ثُمَ أَعادَ الأَسمرُ تَركيزهُ عَلى سيدِه الصَّغير وَهالتهُ المُخيفةُ قَد اِختفَت وَحلت مَحلهَا هَالةٌ يَكادُ يُقسمُ فِيها آستَر أَنه يَرى الُورُود وَالقُلوبَ تَطفُو فِي الأَرجاء! وَبنفسِ نَغمةِ الصَّوت السَّابقةِ اِسترسَل فِي الكَلام: «لِذا مَا رَأيكَ أَن نُكملَ التَّجولَ فِي المَدينة؟ فَكما تَعلمُ رُبمَا لَن تُتاحَ لَك فُرصةُ الخُروجِ عَما قَريب، وَخاصةً أَن موعِد عَودتكَ لِلأكَاديمِية مُقبلٌ عَلى الأَبواب.»
هَز أَمهقُ الشَّعر رَأسهُ مُوافقة، وَهذا مَا جَعل الحَارسَ الشَّخصيِ لِلمرةِ الثَّالثةِ بَعد الخَمسين يُدركُ كَم هُو سَيءٌ فِي التَّعامُل مَع الأَطفال، وَسيكُون هَذا حَتمًا سَببًا رَئيسيًا فِي عَدمِ رَغبتِه فِي الزَّواج.
وَها هُم الآن فِي شَوارعِ المَدينةِ يَتجَولُون، وَالجَو بَين الخَالِ وَاِبن أُختهِ بِالعَداءِ مَشحون، مَا جَعلَ فِينيَاس فِي وَسطهمَا حَائرًا لَا يَدرِي مَا الحَل مَعهمَا، وَمعَ ذَلكَ فَهو لَا يَنوِي التَّدخُل بَينهُما.
بَينَ كُشكٍ إِلى آخَر وَبين مَتجرٍ إِلى متجرٍ كَان إِيثَان يَتفقد؛ فَقد اِشتَاق إِلى الخُروجِ وَالتَّسكُع، وَمن المُؤسفِ وَالمَقيت فِي آن أَن يُحرَم مِمَا يُحب جَراءَ شَخصٍ لَا يَتذكَرُ مَلامِحه.
زَعيقُ بُوق عَربةٍ صَدحَ فِي الأَرجَاء مَا جَعلهُ يَستفيقُ مِن دَوامةِ أَفكَاره، لَكن الوَقتَ كَان مُتأخرًا جِدًا لِتجنُب الاِصطدَام فَتَيبسَ مَكانهُ مُغمضًا عَيناه رَوعة. مُدةٌ مَرت وَلم يَشعُر بِأيِ شَيء، فَاِختلسَ النَّظر لِتختلجَ عَيناهُ صَدمة، وَيَجتوِي الدَّمعُ المَآقي، وَبِأعلى صَوتٍ يَملكُه نَادَى عَلى خَادمِه الشَّخصي الّذي دَفعهُ إِلى حُضنهِ مُتلقِيًا كُل الضَّررِ لِنفسه.
فِي حِين أَن آستَر قَد طَلبَ مِن أَحدِ المُشاةِ المُساعدة فِي الاِتصالَ بِالطَّبيب، وَريثمَا وَصل كَان قَد نُقلَ فِينياس بِالفِعل إِلى غُرفةٍ في الفُندقِ الّذي عَلى مَا يبدُو سيمكُثونَ فِيه حَالِيا.
«حَالهُ لَيست حَرجة، أُصيبَ فَقط بِبعضِ الرُّضوضِ الطَّفيفة وَكسرٍ فِي اليدِ اليُمنى، عَليه أَن يَرتاحَ وَأن لَا يُجهدهَا حَتى بَعد تَعافيهَا لِمدة أُسبوعٍ عَلى الأَقل.» عَقبَ إِتمَامِ الطَّبيب مُعايَنةَ وَمُعالجَة فِينيَاس أَدلَى بتصرِيحِه هَذا مُطمئنًا آستَر عَلى حَاله، وَفي ذَاتِ الوَقتِ يُوصيهِ بِالاِهتمَامِ به. فَأومَأ لَه بِالإِيجابِ شَاكرًا إِياهُ عَلى عَملهِ الجَاد، ثُمَ قَصدَ الغُرفةَ التِّي يَرقدُ فِيهَا المُصابُ حِينمَا وَدعَ الطَّبيب.
وَمثلمَا تَوقع فَإِيثَان لَم يبرَح مَكانه، إِذ فَضلَ الاِلتصاقَ بِخادمِه خِشيةَ فُقدانِه، دَنَى مِنه رَغبةً فِي المُواسَاة -وَإِن لَم يبرَع فِيها-، لَكنهُ تَراجَع فِي اللَحظاتِ الأَخيرةِ مُستذكرًا مَا حَدثَ عِندَ بُحيرةِ لُوخ نِيس.
«هَذا كُله خَطئي، مَا كَان عَلي الخُروج أَبدا!» اِهتزَ جَسدُ الصَّغيرِ وَفرَت شَهقاته تَزامُنًا مَع لَومِه نَفسه، لَكنَ قَولهُ هَذا جَعل خَالهُ يَتصنمُ مَكانَه مُحللًا كَلامَه، فَبالتَّفكِير مَليًا فِي الأَمر، الخَطأُ خَطأهُ وَحده؛ إِذ مَا كَان عَليهِ التَّركِيزُ بِهويتِه كَمستشارٍ فِي التَّحقيقِ وَتناسِي مُهمتِه الرَّئيسيةِ التِّي تَمَثلت فِي حِمَايةِ هَذا الصَّبي، فلَولا تَواجُد الأَسمرِ فِي مَوقِع الحَدث مَا كَان لِيحدُث مَا يُحمدُ عُقباه.
شَد عَلى قَبضتِه بِسخطٍ حَتى غُرزت أَظافِرهُ دُونَ وَعيٍ مِنه، فَسقَت دِماؤُه القَّانِية الأَرضَ الرُّخامِية، وَلا يبدُو عَليهِ الاِكثراتُ لِهذا. فَفي هَذهِ اللَحظةِ قَد قرَر أَنهُ لَن يُعيدَ ذَات الخَطأ مَرتَين، وَأنّ اِبنَ أُختِه سيكُون أَولوِيتهُ الأُولى دَائمًا مَهمَا جَرى.
<----«« »»---->
«هَل أَلقيتُم القَبضَ عَلى الجَانِي بِالفِعل؟» فِي رِواقِ الفُندقِ الخَالِي مِن المَارة، وَجه آستَر تَساؤُلهُ نَحو المُدخن الذِّي بَدا فِي عُمرِ الكُهولة؛ إِذ تَخللت بَعضُ خُصلاتِ الشَّيب شَعرهُ المَصبوغَ كَأغصَان شجرةِ العَرعار. عَدلَ نَظارتهُ المُستديرةَ وَهوَ يُجيبُ بِجفاءٍ كَما تَقاسيمُ مَلامِحه البَاردة: «أَجل، لَكنَنا لَم نَستطِع الوُصُولَ إِلى العَقلِ المُدبِر.»
صَمت لِبرهةٍ قَصدَ تَرتيب أَفكَارِه، ثُمَ اِسترسلَ فِي الحَديث: «اِتضحَ أَن الحَادثَ كَانَ مُتعمَدا، وَالمَسؤُول عَن هَذا غَيرُ مَعلُوم، إِذ تَم رَشوةُ السَّائقِ مِن أَجل القِيامِ بِقتلِ اِبنِ الإِيرل نَاينرَاي، إِيثَان نَايترَاي.»
هَمهمَ الحَالكُ مُتفهما، ثُمَ بَادرَ فِي إِلقاءِ أَسئلتِه الاِستفهَامِية: «وَكيفَ عَلم أنَنا سَنكُون هُنا؟»
«لَا أَعلم، وَلكِن الشَّيء الأَكيد أَن هُناكَ جَاسُوسًا يَنقلُ الأَخبارَ إِليه.»
وَحديثهُ بِالضَّبط كَانَ نَفسَ الاِستنتَاجِ الذِّي تَوصلَ إِليهِ آستَر. وَشكهُ لَم يَسمحَ لَه إِلا بالاِشتباهِ بطَريحِ الفِراش العَاجِز ذَاك؛ فَربمَا يَكُون مُنافِقًا رَمى نَفسهُ إِلى الخَطرِ بُغيةَ خُروجِه مِن دَائرةِ الاِشتباه، وَلمَ لَا؟ فَكلُ شَيءٍ مُمكن وَخاصةً أَنّه الوَحيدُ الّذِي كَان يَدرِي مَكانَ وِجهتِهم هَذه بَعد رِيفَن وَماريَنا. وَمن هَذا الصَّدد قَرر مُراقبتهُ عَن كَثب.
مَد يَدهُ لِمصافحةِ المُفتشِ المَدعُو إِيَان وَهو يَرد عَليه: «شُكرًا عَلى تَعاوُنكَ الكَريم، لَو تَوصلتُم إِلى أَي شَيءٍ جَديد فَيرجَى إِعلامِي بِذلكَ فِي القَريب العَاجِل.»
إِجابةً عَلى كَلامِه زُينَ ثَغرهُ بِبسمةٍ رَسميةٍ اِعتادَ رَسمهَا أَثنَاء العَمل ثُمَ غَادرَ المَكان، لِيلجَ آستَر الغُرفةَ وَيستغربَ تَواجُد إِيثان عَلى مَقربةٍ مِن البَاب، فَنطقَ مُستفسِرا: «مَاذَا تَفعلُ هُنا؟»
«ذَلكَ الشَّخصُ كَان يَستهدِفنِي، إِذًا...فِيني بِسبَبي...» شَد عَلى قَبضتيهِ بِإحكامٍ وَجسدهُ يَرتجِف، بَينمَا بَصرهُ عَلى الأَرضِ مُنتكِس، أَحسَ بِيدٍ كَبيرةٍ حَانِيةٍ تُمسدُ رَأسه فَرفعَ رَأسهُ مُحدقًا بِخالِه الذِّي أَبعد يَدهُ سَريعًا مُتظاهِرًا بِحكِ مُؤخرةِ عُنقِه.
«لِم تَعتقدُ هَذا؟» تَساءَل آستَر بِنظراتٍ حَازمةٍ فِيمَا اِكتفَى الصَّغيرُ بِرمقهِ بِحيرةٍ وَتعجُب، لِيعقبَ هَذا الأَول عَلى كَلامِه مُستطرِدا: «أَلم تَضع فِي حُسبانِكَ أَن خَادمكَ ذَاكَ سَيشعُر بِالنَّدمِ وَربمَا يَلومُ نَفسه لَو تَأذيت؟ فَبعيدًا عَن عَملِه المُتمثلِ فِي خِدمتِكَ فَهوَ أَنقذكَ كَونهُ يَعتزُ بِكَ جِدا.»
صَمت قَليلًا يُلاحِظُ اِرتعاشَ عَينَي إِيثَان دَلالةً عَلى تَأثرِه بِالكَلام، فَرسمَ عَلى ثَغرِه شَبحَ اِبتسامةٍ لَا تَكادُ تُرى مُسترسِلا: «وَبالتَّالِي فَحزنكَ وَلومُ نَفسكَ حَاليًا يُعتبرُ نُكرانًا لِجميلِه، فَفي مَوقفٍ كَهذَا عَليكَ أَن تُكفكِفَ دُموعَ حُزنكَ وَتقفَ إِلى جَانِبه حَتى يُشفَى.»
بَعدئذٍ كَفكَف زُمردِي العَينين عَبراتِه بِكم قَميصِه مُومئًا بِرأسِه، ثُمَ لَادَ بِالفرارِ عَسى أَن لَا يَلحَظَ اِحمرَارَ وَجههِ الطَّفيف، وَلكِن مَا لَم يَعلَمه أَن ذَلكَ كَان آخِر هَمه؛ إِذ هُو بِذاتِ نَفسهِ يَشعرُ بِالإِحراج مِن كَلماتِه تِلك التِّي لَم يَعتَد عَلى قَولهَا مِن قَبل إِطلَاقا.
<----«« »»---->
تَطايرَت السَّتائرُ البَيضاءِ بِفعلِ نَسماتِ الهَواءِ المُتهَادية، وَبوقاحةٍ نَشر البدرُ الفِضيُ نُورهُ عَلى الغُرفة بِغيرِ اِستئذان، مَا سَمحَ لِذلكَ الشَّخص رُؤيةَ طَريقهِ نَحو فِينياس الرَّاقدِ عَلى السَّرير. حَدقَ بِتمعنٍ فِي مَلامِحه الهَادئة وَوجههِ الّذِي مَا عَادَ يُوحِي أَنه لِشخصٍ مَيت؛ فَشخصٌ ذَا جَسدٍ ضَعيفٍ مِثله كَان مِن المُمكنِ أَن يَموتَ مِن تِلكَ الإِصابةِ لَو لَم يُحالفهُ الحَظ بِطريقةٍ مَا، ثُمَ اِرتفعت شَفتاهُ فِي بسمةٍ سَاخرةٍ مُهسهِسا: «لَا أُصدقُ أَنكَ مَجنونٌ لِتصلَ إِلى هَذا الحد.»
اِنفتحَت أَجفانُ الأَسمرِ فَجأةً مُحدقًا فِي مَعالمِ المكَانِ المُتواجِد فِيه، ثُمَ حَط بَصرهُ عَلى ذَلكَ الشَّخص الّذِي لَم يَتفاجَأ بِرؤيتِه وَكأنهُ عَلى عِلمٍ بِقدومِه، فَنطَق: «أَيزَاك...»
لَم يَسمح لَه المَدعُو أيزَاك بِإتمامِ كَلامِه مُشيرًا إِلى الصَّبي النَّائمِ بِجوارِه، وَالّذي قَد اِستخدمَ ذِراعهُ اليُسرَى كَوسادةٍ لَه، فَاِفترَ ثغرهُ بَاسِما؛ فَإِيثان بِالنِّسبةِ لَه لَيس سَيدهُ الصَّغيرَ الّذي يَخدمُه فَقط، وَإنمَا اِعتبرهُ كَشقيقٍ أَصغر لَه، وَليسَ مِن المُستبعدِ أَن يَقومَ بِأيِ شَيءٍ مِن أَجله.
«عَلى أَي حَال، نَتيجةً لِإصابتكَ فَعَلى الأَقل لَن تَعملَ لِمدةِ نِصف شَهر، كَيفَ تُخططُ لِتعويضِي عَن ذَلك؟»
جَلبَ أَيزاكَ كُرسيًا لَه مِن أَجلِ الجُلوسِ حِينَ أَلقَى مَا فِي جُعبتِه مِن كَلامٍ بِخفُوت، لِتشقَ اِبتسامةٌ وَاسعةٌ وَجه المُخاطَب القَائِل بِمرح: «يُمكنكَ أَخدُ عُطلةٍ أَنت الآخر، أَلا تَعتقدُ ذَلك؟»
تَجعدَ جَبينُ الآخَر فِي اِنزعاجٍ مُحاولًا ضَبطَ أَعصابِه، وَمَع نَفسهِ فَكر: أَلن يَكُون مِن الرَّائِع لَو حَطمتُ يَدهُ الأُخرَى كَذلك؟
ثُمَ تَنهدَ بِقلةِ حِيلةٍ مُزامنةً مَع رَدهِ الآتِي: «لِيكُن لَك ذَلك، لَكن تَحمَل المَسؤُولية الكَامِلة عَما سَيترَتبُ عَن هَذا.»
أَومَأَ الأَسمرُ رَأسهُ بِالإِيجَاب قَبلَ أَن يَعودَ إِلى نَومِه؛ فَقد أُجهدَ لِمجردِ مُحادثةٍ بَسيطة، فِي حِين أَن الأخَر نَقرَ عَلى لِسانِه بِغيظٍ إِزاءَ تَجاهُل هَذا الأَول مُعالجةَ زُكامِه الذِّي أُصيبَ بِه البَارحة، وَهذَا كَان سَببًا إِضافيًا لِمَا عَليهِ حَاليًا مِن إِجهاد.
وَدونَ أَن يَرفَ لَه جَفنٌ بَقيَ يُحدقُ فِي النَّائمان، وَأفكارٌ كَثيرةٌ أَشغلَت فِكره، فَأضناهُ الهَمُ وَإِن لَم يُوضَح ذَلكَ عَلى مَعالمِ وَجهه.
فِي مَكانٍ آخَر بَعيدًا عَنهم وَبالتَّحديد فِي لُندن، كَان مِيريث مُنغمِسًا فِي مُلاعَبةِ اِبنِه الّذِي لَم يَتجَاوزَ العَامَ مِن عُمرِه بَعد، وَقد كَان لَه فِي المَلامِح مُشابِها، إِذ اِلتمَع مِحجرَاهُ بِزرقةٍ كَحجرِ الأَكوامَارِين الّذي رُصعَت بِه أَقراطُ وَالدِه، وَلَه شعرٌ خَفيفٌ أَشقرُ وَخدودٌ كَما لَو أَنها حَلوَى قُطنيةٌ سُكرِية.
تَعالَت ضَحكاتُ الرَّضيعِ المُسمَى درُوسيل فِي الأَرجَاء مَا أَدخَل البَهجةَ وَالسُّرور قَلب مِيرِيث، لَكنهَا لَم تَدُم سَريعًا إِثر الأَخبارِ التِّي تَلقاهَا مِن مُساعِدهِ الأَيمَن وَالّتِي تُفيد بِأَن مُحاوَلتهُ فِي إِرسالِ قَاتلٍ لِيخطفَ حَياةَ اِبنِ الإِيرل قَد بَاءت بِالفَشل إِثرَ تَدخُل خَادمِه فِي الوَقتِ المُناسبِ لِإنقاذِه.
نَما قَوسُ عُبوسٍ عَلى ثَغرِ الأَشقرَ حِين نَطق: «مَا الّذِي حَدثَ لِذلكَ الخَادم؟»
«عَلى حَسبِ مَا وَصلتنِي مِن مَعلومَات فَحياتهُ لَيست فِي خَطر، أُصيبَ بِكسرٍ فِي اليَد وَبعضِ الجُروج.»
عَقبَ إِجابةِ مُساعدُه عَلى تَساؤلهِ نَقرَ عَلى لِسانِه بِاِمتعاضٍ وَهو يُلاعِب درُوسِيل فِيمَا يُفكِر: هَل هُو مَجنُونٌ أَم غَبيٌ بِلا عَقل؟
اِنقضَت الليلةُ عَلى خَيرِ مَا يُرام وَحل صَباحُ يَومٍ جَديدٍ أُجبرَ فِيه فِينياس عَلى اِغترافِ حَسائِه مِن يَدِ آستَر الذِّي وَاتتهُ الفُرصةُ لِردِ الصَّاعِ صَاعَين، فِي حِين أَن هَذا الأَول يُجاهدُ الحِفاظَ عَلى اِبتسامَتهِ وَإِن خَانهُ جَبينهُ المُتجعد اِمتعَاضا، وَيتمَنى لَو يَقدرُ عَلى سَكبِ الحَساء عَليه، لَكن هَذا ضَربٌ مِن المُحال؛ فَهوَ مُجردُ خَادمٍ عَكسهُ هُو أَخ الكُونتيسة مَاريَانا وَإِن كَان مُجردَ نَبيلٍ سَاقطٍ بِلا لَقب.
فِي أَحدِ مَقطورَاتِ القِطارِ البُخارِي المُتوجِه نَحو عَاصمةِ المَملكةِ المُتحِدة كَان الثُّلاثِي هُناكَ جَالسا، وَكُلٌّ مُنغمِس فِيمَا يَفعلُه فَذاكَ إِيثان يُحاوِل بِقدرِ اِستِطَاعتِه تَقشيرَ التُّفاحِ مِن أَجلِ فِينيَاس وَلكنهُ يَفشلُ فَشلًا ذَريعًا فِي ذَلك، وَهذَا مَا جَعل الكُلوحَ عَلى حِسنتِه طَاغيا، فِي حِينِ أَن الأَسمَر الجَالِس بِقربِه يَضحكُ بِخفةٍ عَلى مَلامِحه اللَطيفة وَفي ذَاتِ الوَقتِ يَرفعُ مِن مَعنوياتِه بِمدحِ طَريقةِ تَقشيره وَالّذِي لَا يبدُو أَنّه مُجد.
بَينمَا كَان آستَر وَكعادَتِه مُنغمِسًا فِي التَّفكِير يَعبثُ بِالقلمِ بِيدهِ اليُمنَى؛ وَحتمًا لَن يَكُون سِوَى بَارون اللَيل هُو مَا يُثيرُ حِيرتهُ وَيأخُد كُل وَقتِه الثَّمينُ فِي التَّفكِير وَالتَّفكِير، فَعلى حَسبِ مَا طَالعهُ فِي جَريدةِ اليَوم فَالبارُون لَم يَظهَر لَيلةَ البَارحةَ مَا أَثارَ جَدلًا وَاسعًا لَدى السُّلطاتِ خَاصةً وَالسُّكانِ عَامة، وَلكِن عَلى عَكسِهم هَذا لَا يُؤرقهُ وَإنمَا يَدفعهُ للتَّفكِير: هَل مُهمةُ بَارونِ اللَيل الحَالية التَّخلص مِن إِيثَان؟
فَعدمُ ظُهورِه لَيلةَ البَارحةَ يَدفعهُ إِلى التَّفكِير بِأَن جَريمتهُ لِذلكَ اليَومِ كَانَ تَوقيتهَا صَباحًا وَضحيتهُ هَذا الصَّبيُ أَمامهُ لَا غَير، فَإِن كَانَ هَذا الاِفتراضُ صَحيحا، أَلا يَعنِي أَنّه مِن اليَومِ فَصاعدًا فَحياةُ إِيثان سَتكُون فِي خَطرٍ مُحدقٍ حَقا؟
تَنهدَ بِتعبٍ مُبعدًا كُل هَذِه الأَفكَار عَن رَأسِه؛ فَسواء كَان ذَلكَ صَحيحًا أَم لَا، فَمهتهُ مِن البِدايةِ تَمثلَت فِي حِمايتهِ وَحتمًا لَن يُخيبَ أَمالَ صَديقهِ وَأُختِه.
يُتبَع...
<----«« »»---->
اللهم صَلِّ وَسلم وَبارِك عَلى سيدِنَا مُحمد.
أَستغفرُ الله وَأتُوب إِليه.
1812 كلمة.
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro