الفَصلُ الحَادِيَ عَشر: اِنكشَافُ المَستُور.
«ثَلاثة، اِثنان، وَاحد.»
نَبس آستر وَهو يُحدقُ فِي سَاعةِ الجَيب، وَمُزامنةً مَع أخِر كَلمةٍ لهُ اِرتَفع صَوتُ الأَلعابِ النَّاريةِ فِي الأَرجاء مُزينًا سَماءَ الليلةِ الظَّلماء، وَمُعلنًا عَن بِدايةِ اِفتتاحِ المِهرجَان السَّنوي للِأكَادِيمية، وَكَذا وَقتُ بَدء تَحُركَاتِه.
تَجول هُو وَإِيثَان بَين الأَكشاكِ وَالمحَلات، وَكُلّ هَذا لِأن الأَصغرَ رَفض البَقاء حَبيسَ الغُرفة، فَلم يَكُن أمَامهُ خِيارٌ إِلّا اِصطحَابه خِشيةَ تِكرارِ سِيناريُو الاِختطاف، لَكن مَا لَا يفهمُه لِم الصُّعلوكُ مِن مَهجَع أَلكامَاس يَلتصقُ بِه كُلّمَا رَآه؟ وَهَذا يَنطبقُ عَلى مَا يَحصلُ فِي الوَقت الحَالي، وَما أَزعجهُ أَكثر هُو اِستمرَارُه فِي الثَّرثرة، وَمُناوشتهُ مِن حِينٍ إِلى آخَر مَع اِبن صَديقه.
رَفعَ خُصلاتَ شَعرهِ الدَّعجاء بِيدهِ بِعصبيةٍ فِيما اِنسلَ البعضُ مِنها وَهُو يُطالبُهم بِاِلتزامِ الهُدوء، صَحيحٌ أَنّه نَال مَا أَرادهُ لَكنهُ لَم يَدم إِلّا دَقائقَ مَعدودات، بَل وَيا لِحسنِ حَظهِ الجَميل! قَابلَ العَربي فِي طَريقهُم وَها قَد أُضيفَ فَردٌ جَديدٌ إِلى مَجمُوعتِهم الصَّاخِبة، مَن يَراهُ قَد يَظنُه حَاضنَ أَطفال.
كَرر عَمليةَ الشَّهيقِ وَالزَّفير مِرارًا وَتكرارًا حَتى يَهدأ، إِذ يُمكنهُ تَجاهُل إِزعاجهم وَببساطَة، لِذا عَليهِ فَقط الاِستمتاعُ بِوقتهِ حِين تَسنحُ لَه الفُرصة، عِند التَّفكِير بِهذَا اِرتخَت أَعصابهُ المَشدُودة وَعادَ لِهُدوئهِ المُعتاد.
قَضمَ قضمةً صَغيرةً مِن حَلواهُ وَعيناهُ حَول المكانِ تَجولانِ وَتتفحَصان، وَبالصُّدفةِ لَمحَ شَخصًا مَألُوفا، أَرادَ تتبُعه بِنظرِه لَكنهُ سُرعانَ مَا فقدَ أَثره.
فَجأةً وَعلى غَفلةٍ مِن الجَميعِ صَدحَ المكانُ بِصوتِ الطَّلقاتِ النَّارية، لِيرتفعَ كَذلكَ صَوتُ الصَّرخاتِ الفَزعة، وَمن دُون أَن نَنسَى تَلوُن المَكانِ وَاِصطباغهِ بِالأحمر القِرمِزي، وفِي وَسط هَذه الفَوضى أَخد آستَر الأَطفَال مَعهُ إِلى مَكانٍ أمنٍ لِلاِختباء، لَم يَلتقِ فِي طَريقهِ بأيّ قَاتلٍ نَظرًا لِعلمِه بِطُرقٍ سِرية لَا يَعرفهَا الأَكثرية، وَبدلًا مِن ذَلكَ اِلتقَى المُديرَ كَايل الّذي طَلب مِنهُ تَركَ مُهمة أَخد الطُّلابِ إِلى مكانٍ آمِن.
قَبل مُرافقةِ إِيثان لِكايل، شَد كُم خَالهِ قَائلًا بِصوتٍ غُلفَ بِالتَّوتر: «أمممم، خَالي...»
لَا يُمكنُ لأيّ أَحدٍ تَخيلُ كَميةِ الصَّدمةِ الّتي اِجتاحَت الأكبرُ وَهُو يسمَعُ هَذه الكَلماتَ مِن شَخصٍ لَم يَتوقع مِنه البتَة قَولها، وَصراحةً لا يعلمُ أَكانَ سَعيدًا أَم حَزينا، فَمشاعرٌ اِختلطت وَتأرجَحت بَينهُمَا هِي مَا كَان المُسيطرَ عَليه حَاليا. ثُمَ أردفَ الصَّبي: «هَل يُمكنكَ أَن تَعدنِي أَن لَا تَفعلَ أَي شَيءٍ غَبي؟ مَهمَا كُنت، وَمَاذا فَعلت فَأنَا سَأبقَى أُحبكَ وَأراكَ مُخادعًا مُثيرًا لِلحنق، سَواء أَكان أَنت أَو هُو، رَجاءً قَبل أَي شَيء فكِّر فِي أُمي الّتي تُعزك أَكثرَ مِن أَي شَخصٍ أَخر، لَا تَفعل ذَلكَ لِأجلي وَلكِن مِن أَجلها!»
حَتى الآن هُو قَد قَامَ بِمَا عَليه فِعله، لَا يعلمُ أَسيلَاقِيه مِن جَديدٍ أَم لَا، لَكنهُ عَلى الأَقل اِرتاحَ وَوشَى مَا فِي دَاخِله مِن مَشاعِر، وَمهمَا حَصل لَاحِقًا لَن يساورهُ شُعور النَّدم بَعد هَذا. مُزامنةً مَع إِتمامِه الكَلام لَاذَ بِالفِرار عَسى أَن لَا يَلمحَ اللَون القِرمزِي الّذي اِكتسَى وَجههُ وَأُذنيه، بَينمَا خَالهُ حَدقَ فِي ظَهرهِ بِنظراتٍ غَير مَقرُوءة، وَأحاسيسٌ مُختلطةٌ رَاودتهُ لَم يُدرك مَاهِيتها؛ يُريدُ البُكَاء وَفي ذَاتِ الوَقت لَا يَسعهُ ذَلك، ومن جهةٍ يُريد اللحَاقَ بِه وَإِفراغِ مَا فِي دَاخِله مِن هُموم، وَمن جهةٍ أُخرَى هُو فَقط لَا يَهتم، لَا يَهتم لِأي شَيء وَحسب، فَقط كَدُميةٍ خَاليةٍ مِن الرُّوح.
<----«« »»---->
لَم يَتوقَع الصِّبيةُ لَحظةَ نُزولِهم الدَّرجَ الرُّخامِي بِأنّ مَا سُيقابلهُم رِواقٌ مَطليٌ بِالذَّهب بَل وَمُزينٌ بِأغلَى التُّحفِ وَاللَوحات، جَراءَ هَذا أَطلقَ أسيل صَفيرًا طَويلًا مِن الاِنبهَار: «يَا رَجل! مَا مِقدارُ ثَروثِك؟»
اِكتفَى المُديرُ بِالضَّحكِ سُرُورا، وَمِن دُون أَن يَعلمَ الحَالك فَقد غَدى جَانبهُ المَغرُورَ بِكلامِه المُنبهِر، اِلتفتَ هَذا الأخيرُ إِلى رَفيقيهِ مُسترسِلًا فِي الكَلامِ بِحمَاس: «هَل نَخطفُ المُديرُ مُقابلَ فِديةٍ للإِفراجِ عَنه؟»
أَمالَ جمِيل رَأسهُ باِستفهامٍ غَزَى مَحيَاه، وَبكُلّ براءةٍ نَطق: «أَليسَ الاِختطافُ جَريمةً يُعاقبُ عَليهَا القانُون؟»
حَاوطَ الحَالكُ رَقبةَ العَربي بِيده مُجيبًا بِفخرٍ تَغلغَل صَوته، وَكان هَذا فِي مُحاولةٍ لِمحوِ فِكرهِ اللَطيف: «مَن قَال؟ القانُون سيشكُرُنَا عَلى ذَلك، بَل العَالمُ أَجمع!»
تَدخَل لِينُوس فِي حَديثهمَا مُؤيدًا حَيثُ نَطقَ بِتنهيدةٍ مُتعبةٍ مِن خِلالهَا يُدركُ المَرء مِقدار مُعانَاتِه مَع المُدِير: «صَراحةً سَأكُون مُمتنًا لَو خَطفتُمُوه، حَتى أنّي سَأدفعُ مُقابلَ إِبقائه عِندكُم.»
لَمعت عَينَا أَسِيل بِحمَاس، وَقد تَناسَى حَقًا أَنّ كُلّ مَا قَالهُ مُجرد مِزاح، لِيصيرَ عَلى الأَغلبِ كِذبةً تَم تَصديقُها، ثُمَ وَجهَ كَلامهُ نَاحيةَ إِيثان غَير المُبالِي بِمُحيطه: «هَل سَمعت هَذا إِيثان، مَا رَأيك؟»
«لَستُ مُهتَما.» مُجردُ كَلمتَانٍ نُطقتَا بِجفاءٍ جَعلَت كَايل يَتأثرُ وَيذرِفُ دُموعَ التَّماسيح، لَا يُصدقُ أَنّه بَعدمَا تَعرضَ لِطعنةِ الخِيانةِ مِن طُلابهِ الأَحبَاء، قَد يظهرُ مَلاكٌ عَلى هَيئةِ بَشرِيٍ يُحبه وغَير طَامعٍ فِي إِيذائهِ إِزاءَ ثروتِه العزِيزة.
وَبينمَا هُو غَارقٌ فِي أَحلامِه الوَردية وَالّتي مِن الأَفضل حَقًا لِيققِ الخُصلاتِ أَن لَا يَعلمَ بِهَا وَإِلّا لَأُشيعت جَنازةٌ لِلمُدير، رَد قَائدُ مَهجعِ أَلكَامَاس عَلى إِيثَان بِاِستهزَاء: «نَسيتُ أَنّك اِبنُ الإِيرل نَايتراي، لَا بُد أنّ عَائلتكَ أَغني مِن المُدير.»
وَما قَالهُ صحيحٌ تَمامًا وَلا غُبارَ عَليه، لَكن مَا لَا يَعلمُه أَنّ وَالدهُ لَيس مُتباهِيًا كَالمُدير لِيطلِي كُلّ القَصرِ بِالذَّهب، وَلَا يَرى رَغبةً فِي تَوضيحِ الأَمر لَه، وَلا حَتى فِي دُخول نِقاشٍ مَعه، لَكن مَا أَردفهُ تَاليًا جَعلهُ يُصدم: «إِذًا تَم تَغييرُ الخُطة، بَدلًا مِن المُدير لِنخطِف الإِيرل نَايترَاي!»
صَر الأَصغرُ عَلى أَسنانِه مُحاولًا كَبت اِمتعاضِه، وَبنبرةٍ يَتخلَلهَا بَعضٌ مِن التَّحدي وَالاِستهزَاء قَال: «أُريدُ أن أَراكَ تُحاوِل!»
بِالتَّفكِير مَليًا فَلطالمَا كَان الإِيرل نَايترَاي قُدوَته؛ يُحبُ حَقًا دَهاءهُ الحَاد، وَطُرقَ تَلاعُبه بِخصمهِ وَكيفيةَ تدمِير نَفسيته! كَيف يَعرفُ كُلّ هَذا عَنه؟ بَسيط، لَقد رَأى ذَلكَ حِينمَا أَنقذه مِن براثينِ السِّيرك الّذي خَطفه، لِذا وَبجديةٍ بَالغةٍ فَكر فِي الإِلتصاقِ بِاِبنهِ الحَبيبِ وَمُحاولةِ لِقائه مَرةً أَخرى!
وَسُرعانَ مَا حَرفَ اِنتباههُ إِلى جَميل مُتسائلًا بحمَاس: «نِيه، جَميل! لَقد قُلتَ أنّك أَميرٌ أَليس كَذلك؟»
هَز الأَسمرُ رَأسهُ بِأن نَعم، ثُم رَد: «أَجل الأمِيرُ الثَّالثَ عَشر، وَأصغرُ الأُمراءِ وَالأَميرات.»
«هَل يُخططُ لِإنجابِ شَعبٍ لَه أَم خَليفةً لِيرِثه؟» سَخرَ أَسِيل تَحت أَنفاسِه، فَتلقَى رَكلةً مِن لِينُوس فِي قَدمهِ جَراءَ هَذا؛ إِذ طَلبَ مِنهُ الكَف عَن السُّخريةِ وَالتَّدخُل فِي شُؤونِ الأَخرين. وَما أَرادهُ فَقد نَاله؛ حَيثُ اِلتزمَ الصَّمت وَلو كَان فُضوليًا فِي النَّبشِ عَن مَاضِيه.
وَلأنّ الحَالكَ قَد أَطبقَ فَمهُ سَاد الصَّمت المَكان، فَباتَ صَوت الخُطواتِ يَترددُ كَالصَّدى كَإيقاعٍ لِأغنيةٍ لَم يُحببهَا قَلبُ هَذا الأَول، فَاِبتدَأ بِموضُوعٍ جَديدٍ كَان ضَحيتهُ هَذهِ المَرة مُديرُ أَكادِيميتِهم كَايل سمِيث.
«أَيُها المُدير! لِمَ الأَكاديمِية صَارَت سَاحةً للدِّماء؟ وَمن هَؤُلاء؟ بَل وَمن هُو الأُستاذُ آستَر بَايسكرَاف؟ وَما الّذي يَقُرب لِإِيثَان؟»
رُغمَ عِلم المُخاطبِ بِأنّ طَالبهُ العَزيز لَن يَكف عَن إِزعاجِه حَتى يَحصُل عَلى مُبتغاه وَيَسقِي فُضولَه، إِلّا أَنّه فَضلَ تَجاهُل أَسئلتِه؛ فَمعرفتهُ لِإِجاباتِ مَا يُحيرُه سيُلقِيه فِي الهَاوِية، وَهذَا حَتمًا شَيءٌ لَن يَرضاه.
«أَسئلتُكَ كَثيرةٌ أَلا تَعتقدُ هَذا؟»
صَمت قَليلًا مُفكِّرًا فِي كَيفيةٍ للمنَاصِ مِن هَذا المَوضُوع حَتى تَذكَر شَيئا، فَاِستطرَد بِبسمةٍ مَاكِرة: «بِذكركَ لِموضُوع الأُستاذِ البَديل، تَذكرتُ أنّي لَم أَمنحكُم عُقوبتكُم بَعد، وَلأعبرَ لَكَ عَن اِمتنَانِي لِتذكِيري بِهَا، سَأخَففُ العُقوبةَ مِن أَجلكُم.»
إِزاءَ اِبتسامتِه المُسببةِ للرُّعبِ فِي قُلوبِ الفِتية، أَدركُوا أَنّها نِهايتهُم لَا مَحالة! مَا جَعل إِيثان يَرمُق أَسِيل بِحنقٍ وَعينانِ اِتقدتَا شَررًا غَاضبا؛ يَودُ حَقًا لَو بِاِستطاعتهِ خَنقه وَتمزِيقهِ إِلى أَشلاء، وَفي ذَاتِ الوَقت يَأمُل لَو تَكُون عُقوبتهُم بَسيطةً لَا ضَربًا مِن المُحال.
«مَاذَا عَن جَعل ثَلاثَتكُم تُرفهُون عَن الضُّيوف وَالطُّلابِ المُرتاعِين؟ بِسببِ مَا حَدثَ اليَوم فَاِحتماليةُ فُقدانِ أَكاديمِيتِي لِسمعتِهَا عَلى الأَبواب، وَهذا لَا يعنِي إلّا شَيئًا وَاحدًا! وَهو إِفلاسِي القَريب.»
قَطبَ ذَو الشَّعرِ الغُرابِي حَاجِبيهِ بِاِستنكارٍ حينَ صَاحَ بِغَيظ: «هَل هُو جَادٌ أَم يبتَغي مِنا ضَربهُ حَتى يَستعِيدَ رُشده؟»
«فِي رَأيِي الخَيارُ الثَّانِي هُو الصَّواب.»
بِملامحَ مُظلِمةٍ وَافقَ إِيثَان أَسيل فِي كَلامِه، فَيشاركُهما جَميل قَائلًا بِثغرٍ مُفترٍ عَن اِبتسامةٍ مَرحةٍ لَم تُناسِب فَحوَى كَلامِه: «أُجيدُ اِستخدَام السَّوط، هَل لِي بِالمُشارَكة؟»
حَاوطَ لِينُوس ذِراعيِه حَولَ أَعناقِ الثَّلاثةِ تَاركًا كَايل وَراءهُ بِخُطوَاتٍ مستطرِدا: «دَعكُم مِنه، وَلا تُلقوا لَه بَالا؛ فَذلكَ سَيجعلُكم عَجائزًا فِي وَقتٍ مُبكرٍ لَا أَكثر.»
بِرؤيةِ جَبينِ الشَّابِ المُتجعِد أَدركَ الصِّبيةُ كَم أنّ هَذا الشَّخص مُعتادٌ عَلى تَصرُفاتِ المُديرِ المُزعِجة، بَل وَسيُصابِ مِن الجُنونِ بِسببِهَا قَريبا، فَاِكتفَى إِيثان وَأسيل بِالتَّربيتِ عَلى كَتفهِ مُشيدَين بِقدرةِ تَحمُلهِ الكَبيرةِ الّتي سَمحت لَه بِعدمِ قَتلهِ لِحدِ الآن، عَكسهُما مَن يُفكّرانِ بِجديةٍ بَالغةٍ فِي نَحره. بَينمَا هَذا الأَول اِلتفتَ خِفيةً نَاحِيةَ قِرمزِي العَينين يَرمقهُ بِنظراتٍ مُهددةٍ وَمُعاتبةٍ فِي نَفس الوَقت، وَقد فَهمَ المَعنِي مَقصدَ نَظراتِه حَيثُ عَاتبهُ عَلى عَدمِ إِنكارِ مَعرفتهِ بِأجوبةِ أَسيل؛ الطِّفلُ الّذي لَن تَكفُ الشُّكوكُ عَن مُساورَتهِ لَحظة، أَو الكَف عَن مُحاولةِ البَحثِ عَن إِجاباتٍ عَنها، فَكيفَ لِمُديرٍ عَادِيٍ أن يَعرفَ كُلّ هَذهِ الأَشياء، وَخاصةً مَوضُوع مُنظمةِ البَرسيمِ الأَحمر؟
<----«« »»---->
أَدارَ آستَر مِقبضَ البَاب لِيقَابلهُ مَنظرُ فينياس الجَالسِ عَلى سيِاج السَّطح، أَغلقَ البَاب وَراءهُ بِإحكامٍ مُتقدمًا نَاحِيته.
«لَم أَتوقَع رُؤيتكَ قَط هُنا، فِينياس.»
اِستعدَل الأَسمرُ فِي وِقفتهِ مُنحنيًا بِلباقةٍ وَهُو يُجيب: «أُبلغكَ خَالصَ تَحياتِي سَيد آستَر، سَعيدٌ لِرؤيتكَ بِأحسنِ حَال.»
أَومَأَ بِرأسهِ بِلطفٍ كَردٍ عَلى مُجامَلته قَبل دُخولهِ فِي صُلب المَوضوع مُستطرِدا: «لَقد كُنتُ أَبحثُ عَن شَخصٍ أُبلغهُ بِمَا تَوصلتُ إِليه مِن اِستنتاجاتٍ لِحد الآن، فَهل تُريدُ الإِصغاء؟»
اِزدادت اِبتسامةُ بُندقي الشَّعر اِتساعا، وَدل ذَلك عَلى شعُورهِ بالاِستمتاع، ثُمَ رد عَليه: «سيكُون شَرفًا لِي.»
«بِدايةً وَبعدمَا سَمعتُ الحِكايةَ كَامِلة، خَطرَ فِي بَالِي أَن المُشتبهَ بِه شَخصٌ قَريبٌ مِن إِيثان، فَكيفَ لِشخصٍ يَهابُ الظَّلام أَن يَتجرَأ وَيدخُل زُقاقًا مُظلما؟ إِلا إِذَا لَمحَ شَيئًا لَفت اِنتبَاهه، وَربمَا كَذلكَ يُمكنُ أَن يستدرجَه البارونُ إِلى الزُّقاق، لَكني أَلغيتُ ذَلك، لِماذا؟ لِأنّ بَارونَ الليلِ شَخصٌ لَا يمزحُ وَيُنهي ضَحاياهُ بِسرعةٍ دُون مَنحهم فُرصةً لِلعيش، وَربمَا تَتساءلُ عَن الحَادثةِ الحَاصلةِ فِي سكُوتلاندا، صَحيحٌ أنّ الحَادثةَ لَا تمتُ لِأي صلةٍ بِطريقتهِ فِي القَتل، إِلّا أَني شَككتُ بِه وَبالأَخص أَنت. أَعلمُ أَنّ كَلامِي مُتناقضٌ إِلى حَد الآن، لَكن الصُّورةَ سَتتوضحُ بَعد قَليل، بَعد هَذهِ الحَادثة تَوقفت سَلاسلُ القَتل لِثلاثةِ أَسابيع، وَلعلكَ أَدركت مَعنى ذَلك، أَجل فهَذه هِي مُدةُ شِفائك، وَقد كَانت هَذه الضَّربةَ القاضيةَ الّتي تَجعلنِي أَقطعُ الشَّك بِاليقين.»
تَنهد فِينياس بِشكلٍ يُرثى لَه فِيما يهزُ كَتفيهِ مُصرحًا عمَّا في بَالِه: «لَا أَمتلكُ شَيئًا لِأقوله، عَدا أَنّ حَظي البَائِس جَعلنِي مَوضعًا للشَّك.»
«أَنا أَتفق فَأنتَ لَست القَاتلَ الّذي أَبحثُ عَنه، وَلكني لَم أَقُل مُطلقًا أَنّك لَست شَريكًا له.»
شبحُ اِبتسامةٍ رُسمت عَلى ثغرِ المُخاطَب؛ فَها قَد بَدأَ الأمرُ يُثيرهُ وَيشعرهُ بِالحمَاس، ضم كَتفيهِ إِلى صَدره، فَبدى كَشخصٍ مُستعدٍ لِتلقي مُحاضرةٍ شَيقة.
فِي حينِ أنّ الحَالكَ اِستمرَ فِي حَديثه: «ذَات مَرةٍ زَار البارُون إِيثان وَأخبرهُ بِأنّ سببَ زِيارتهِ لَم يَكُن إِيذاءه، بَل وَعلى العكس أَعطاهُ لُغزًا طُلب مِني حَله، أَتعلمُ لم؟ كَان ذَلكَ لِحمايةِ إِيثان مِن المَجزرة، لَم يَهتم لِمَا سيحصُل لِأرواحِ النَّاس الأَبرياء لأنّ لَا قُدرةَ لَه عَلى إِنقاذهم مِن الأَصل، وَلكن عَلى الأَقل يَود مِن الصَّبي البقاءَ سالما، لكن لِمَ يُريد حِمايتهُ وَهو مَن اِكتشف هُويته؟ ذَلكَ بسيطٌ لأنّه عَزيزٌ عَلى قَلبه. قَد قَال أَيضًا لَه أنّه صَديقُ وَالده، وَريفن لَا يمتلكُ إِلّا صَديقين، أَنَا وَالإِيرل مِيريث كلافلين.»
«تَقصدُ أنّ الإِيرل كلافلين هُو المُشتبهُ به؟»
وَبدلًا مِن إِعطائِه إِجابةً مُحددةً اِستمَر فِي شَرحِ مُجرياتِ الأحدَاث بِفهمِه الخاص: «أَلا تَجدُ أنّه مِن الغَريب أَنّ جَرائمَ القَتل المُتسلسلة تَحدثُ في الليل كُلّ يَومين، بَل والضَّحايا فَقط مِن النُّبلاء؟ وَكما تَعلم فَالضحايَا لَهم صِلةٌ وَثيقةٌ مَع بعض، النُّبلاء التِّسع الّذين قُتلوا إِلى حَد الآن مَع الدُّوق إِرنست فالكِيري الّذي سيقتل اليوم عَلى الأرجح هُم مَن تَسببُوا فِي دَمارِ عَائلتي.»
«أَظنكَ أَخطَأتَ فِي العَد، فَعدد مَا قُتل إِلى يَومنَا هَذا عَلى يد البَارُون هُو عَشرةُ نُبلاء.»
«لَم أَشمُل الفِيكُونت أَلبِرت كَلافلِين لِأنّي لَا أَدري إِلى الآن سببَ قَتله، لَكن بِالنَّظر إِلى مَا اِرتكبه مِن جَرائمَ فَلا بُد أنّ أَحدًا طَلبَ مِنه، أَو اِعتبرهُ شَوكةً فِي حَلقه، لَكن إِن اِفترضنَا أَن الفرضيةَ الأُولى صَحيحة فَهذا يَدفعُني إِلى الشَّك بِأنّ الإِيرل مِيريث مُتواطِئٌ مَعه، أَو شخصًا قريبًا مِنه يُدركُ هُويته، بِاِختصارٍ فَالبارون لَديهِ شُركَاء وَأنتَ مِن ضِمنهم. وَأكثرُ شَيءٍ جَعلنِي أَثبتُ عَلى أَنّ لديهِ شُركَاء، هُو يَوم مَقتل كُلّ مِن المَاركِيز دُوغلاس بَاركر، وَالبَارُون أَردِين كَاردِينِيه، وُهو اليَوم الّذي يَلي مُباشرةً يَومَ مَقتل أُستاذِ الرِّياضياتِ فِي أَكادِمية سَكارليت، وَهذا مَا لَم يحدُث مِن قبل، بَل وَمُحالٌ أَن يَكُونَ البَارون هُو القَاتل.»
«هَل لِي أن أَعلم لِم؟»
«بِبساطةٍ لَقد بَقيتُ مُستيقظًا طوَال تِلكَ الليلَة، وَأتذكَرُ جَيدًا أَحداثَها.»
«إِذًا أَنت تَقُول...؟»
«كَان مِن الغريبِ حَقًا بِالنِّسبةِ لي فِي صِغري أَن لا أَتذكَر أَيّ حدثٍ فِي كُلّ لَيلة يَحصلُ شَيءٌ مَا وَيكُون لِي دَخلٌ فِي ذَلك، تَم إِيهامِي بِأنّي أَمشي فِي نَومي، وَلذا لَم أُبالِ كَثيرا. لَكن عِبارةً صَغيرةً فَقط أَعادت إِيقاظ الشَّك في دَاخِلي، لَقد قَال البَارُون لِإيثان بِخصُوصي: إِنّه يَغطُ في سُباتٍ عَميقٍ لَن يستيقِظ مِنه إِلا بَعد سَاعات. قبلَ خُلودِي للنَّوم لَم أَشرب أيّ شَيءٍ أَو أَكلٍ مَا قَد يُحتملُ وُجود مُنومٍ فِيه، وَلستُ مِن النَّوع الّذي نَومهُ ثقيل، وَإن اِفترضنَا أّني سرتُ أَثناءَ نَومِي فعلًا فَلا بُد أن يَنتبه لِي أَحد، أَلستُ مُحقا؟»
«هل رُبمَا تَعني بِأنّك تُعانِي مِن الإنفصام؟»
«لأصدقكَ القَول لَم أكُن مُتأكدًا قَبل مَجيئي إِلى هُنا، فقد كَان سببُ بَحثي الرَّئيسي عَنك هُو مُحاولة مَعرفة الحقيقة، لَكن الشَّقي قد أَكد لِي ذَلك؛ هَل كُنت تَعلمُ أنّه اِستعَاد ذَاكِرته؟»
اِختلجت عَينا الأَسمرِ صَدمة، مُتداركًا الأَمر بَعد هُنهيةٍ قَصيرة، لَم يعُد هُناكَ حاجةٌ لِإخفاءِ أيّ شيءٍ بمَا أَنّ سيدهُ الصَّغيرَ قَد اِستعادَ ذَاكِرته، ثُمَ سَأل: «قبلَ كُلّ شَيء لَم أَسمع إِلى الآن تَفسيركَ حَول مَا حَصل فِي سكوتلَاندا.»
«جُل مَا أَستطيعُ قَوله هُو أنّ غَبيًا مِن أجل تَشويشِ أَفكارِي عرضَ نَفسهُ للخَطر، لَكني عَلى الأَقل أَستطيعُ مِن خلالهَا أن أقول أنّ مَشاعركَ صَادقةٌ تِجاهَ سيدكَ الصَّغير.»
لَم يَتمالك فِينياس نَفسه وَسمحَ لِضحكاتهِ أَن تَنسابَ علنا، تَمنى حَقًا أن لَا يُكشفَ أيّ شَيء، لَكن بمَا أَنّ الأُمورَ وَصلت إِلى هَذا الحَد، فقرَر أن يكونَ كَريمًا بِشرحهِ مَا حَدث مِن البِداية.
«اِسمح لِي بِشرحِ القصةِ كَاملةً بِمَا تَعلمهُ وَما لَا تعلمُه قَبل قُدومه، أَيزاك وَالّذي هُو شَخصيتُك البَديلة مُنذ لَحظةِ وُجودهِ إِلى الآن وَهُو يفكِّر فِي كَيفيةٍ للاِنتقام. وَقبل ثَلاثِ سَنواتٍ مِن الآن ضَم ثَلاثةَ أَشخاصٍ مَعه، مِن ضِمنهم أَنا، الإِيرل مِيريث كَلافلين، وَسيباستيان، وَهذا الأخيرُ لَا يمتلكُ لَقبًا وَلا مَكانًا ينتمِي إِليه حَتى اليومِ الّذي قَابلَ فيهِ أيزاك، وَكما تَرى فُكلّ شخصٍ لهُ حِكايةٌ مَعه، وَكلٌّ مِنا وَافقَ عَلى مُساعدَته دُون تَردد. وَبمُساعدةٍ مِن الإِيرل تَمكَن مِن تَوطيد عَلاقاتِه مَع ضَحاياه وَاِستخراجِ مَا شَاء مِن المعلُوماتِ مِنهم، وَقد طُلبَ مِن مِيريث تكوينُ جَماعةٍ مَع المَاركِيز دُوغلاس بَاركَر وَالدُّوق إِرنست فَالكِيري وَإيهامِهما بِأنّ البارُون يَودهُما كَشركَاء لَه، هُما وَافقا بكلّ رَحابة صَدر، لِمَاذا وَافقَا؟ هَذا شيءٌ لَا يَعلمهُ إِلّا أَيزاك. وَكمَا تَعلم فالدُّوق والمَاركِيز هُما الرَأسُ المُدبر وَاليدُ اليمنَى عَلى التَّرتيب، وُكلّ هذا مِن أَجل مُراقبةِ تَحركَاتِهما. إِضافةً إِلى أنّ جَميعَ الضحَايَا تَم قَتلهُم عَلى يَد أَيزاك عَدا الفِيكُونت كَلافلين، البَارُون كَاردِينييه، والمَاركِيز دُوغلاس، إِذ تَم قَتلهُم مِن قبلِي أنَا وِسيباستيَان، وِمثلمَا اِستنتَجت فالفِيكُونت كَان شَوكةً فِي حَلقِ مِيريث مَا جَعلنَا نَتولى أَمره.»
أَخد نَفسًا طَويلًا قَبل أن يَسترسلَ فِي كَلامِه مُجددًا دُون اِنقطَاع: «وَإِن كُنتَ تَتساءلُ عَن سببِ عَدمِ إِشراكِ مِيريث فِي جَرائمِ القَتل فَهذا لِأنّ أيزاك مَنعه؛ لَا يُريدهُ أن يَكُون قَاتِلًا مِن أَجل اِبنهِ الّذي مَا زَال رَضيعا، عَكسنَا نحنُ الّذين لَا نمتلكُ عَائلةً أَو شَيئًا نَخسرُه، وَبهذا أَظنُني شَرحتُ كلّ شيء.»
يُتبع...
<----«« »»---->
سُبحان الله وَبحمده، سُبحانَ الله العَظِيم.
اللهم صلِّ وَسلِّم وَبارِك عَلى نَبينا مُحمد وَعلى آل مُحمد وَصحبهِ أَجمعين.
2269 كلمة.
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro