الفَصلُ الثّالِث عَشر: اٍنعكَاسٌ لِذكرى شَجية.
صُوتُ خُطواتٍ حَثيثَةٍ تَتردَدُ كَالصَّدى فِي الرَّواق المُبلطِ ببِلاطٍ رُخامِي، جَعلَت السَّبعِينِي يُوقِفُ مَسيرَه وَيلتفتُ نَاحِيةَ الشَّاب المُتجهِ صَوبه، كَانَ ذَا قامةٍ طَويلةٍ وَجسدٍ رَشيق، أَشقر الشَّعر مُموج، عَينين خَضراوَتين كَالزَّبرجدِ البَراق، وَشامةٍ سَوداءَ تحتَ عينهِ اليُسرى، يَرتدِي مَلابِس فَوضويةٍ غَير مُرتبة؛ فَقميصهُ الأَبيضُ المُجعدُ مَفتوحُ الأزرَار كَاشفًا عَن بعضِ صدرِه، وَربطةُ العُنقِ الّتي كَان مِن المُفترضِ أَن يُعدلهَا مَع قمِيصهِ باتَت عِصابةَ رأسٍ تُزينُ رأسَه، والسَّماعَةُ الطِّبيةِ المُعلَقةِ حَولَ عُنقهِ تَكشِفُ هُوِيتهِ كَطبِيب.
«أَيهَا الزَّعِيم! مَن ذَلكَ الشَّخص؟!» نَطقَ الطَّبيب بِوجهِ باشٍ هشٍ كَعادَتهِ بعدَ أن لحِق بِقائَده، مُعدِلًا نَظارتهُ الطِّبيَة، فيما اِوتكَّز المُخاطَب عَلى عُكَازهِ بِكلتَا يَديه مُجِيبًا بِإبهَام: «عُضوٌ جَديدٌ رُبمَا؟ لَستُ أَدرِي فِي الوَقتِ الحَالِي.»
زَم الطَّبِيبُ الشَّابُ شَفتَيه بِكُلوحٍ وَهُو يَصيحُ بِاِستِياءٍ مُصطَنع: «وَلو لِمرةٍ وَاحدةٍ أَخبرنِي مَا أُريدُ مَعرفتهُ دُونَ غُمُوضك يَا زَعيم!»
«لَيسَ ذنبِي أنّكَ شخصٌ ذُو اِستِيعابٍ بَطِيءٍ أَريَان.»
فَما كَادَ يُتم حَديثهُ حَتّى أَدَار كَعبهُ مُغادِرا، لكِن أريَان مَعرُوفٌ بِعنَادِه وَرأسِه الصَّلدِ كَالصَّخر، لِذا مَا كَان لِيستسلِمَ فِي بِدايةِ الطّرِيق، بَل لَحِقهُ بِكلّ سُرورٍ يُزعِجهُ حَتّى يبُوحَ بِمّا فِي جُعبتهِ مِن أسرَار.
«أريان، أَلا تَمتلِكُ عَملا؟ مَن سيَعتنِي بِكَايل بِرأيِك؟»
قَطبَ الأَكبرُ حاجِبه مُستنكِرًا إِصرَارهُ فِي مَعرِفةِ مَا لَا يَخصُه؛ إِذ أَنّ إِحاطَتهُ عِلمًا بِمقصَدهِ لَن يُغنِيه وَلن يَزيدَه شَيئا. فِي حِين أَنّ الأخَر أَحاط مُؤخِرةَ رَأسِه بِذراعَيه بِكلّ إريَاحِيةٍ مُجِيبا: «مُهِمتِي هِي الاِعتِناءُ بِأَعضاءِ المُنَظمةِ لَا الغُربَاء.»
فَما كَان المُخاطَب يهُم بِفتحِ بابِ مَكتَبه حَتّى اِستوَقفَته صَدمةُ مَا أُذناهُ سَمِعت، وِبنظرةٍ تُحاكِي ذُهولهُ الشَّدِيد وَرغبتهُ العَارمةَ فِي البُكَاء اِستطرَد بِرثاء: «أريَان، أَتبتَغِي مَوتِي لِهذهِ الدَّرجة؟!»
زَفرَ بِعُمقٍ قَبل أَن يَدخُل غُرفتهُ المُتصِلة بِمكتبِه لِيريحَ نَفسهُ وقد أَذن بِالفِعل لأَريَان بِالوُلوجِ مَعهُ قَصدَ إِخبارِه بِمُرادِه، وَمن دُون أَن ينتَبه الأكبرُ لَه اِفتَر ثغرَهُ عَن بَسمةِ اِنتِصار وَاسِعة.
«إذًا مُختصرُ ما قُلتَه هُو أنّك تُريدُ ضمَ ذلكَ الشّخص إلينا بعدمَا أنقذتَ حياته. فهمتُ هذا ووعيتُه، لكن ما لَم أعرِفه، لمَ تريدُ جعلهُ عضوًا في مُنظمتنا مِن الأَساس؟! ورجاءً لا تقُل لِحمايته؛ فاِنضمامهُ سيُعرِض حياتَه للخَطر لا أَكثر.»
مُتكِئٌ على الحَائِط بالقُرب مِن النّافذة الكَبيرة الّتي سمَحت لضوءِ القمرِ بالوُلوج، مَا أعطَى جوًا مُسالمًا في الغُرفة، يُحدِق في زَعِيمِه الجَالس على السّرير، وعَلى عكسِ العَادة مَا اِعتلت أمراتُه اِبتسامةً خرقَاء، أو ماكِرة، إنّما أحاطَتهُ هالةٌ مِن الهُدوءِ المهِيب، الّذي يُقسمُ إدمُوند أنّه سيختفِي بعد لحَظات، وَإلا فأريَان هَذا مَسكون؛ فمَا عَهدهُ هكَذا قبلا، وَلا يظنُه قَادِرًا على الاِعتياد؛ فإِن كَان المَوضوع لا يتَعلقُ بِمهنتِه، أو بِالمَال، فلن يُبدي كلّ هذا الهُدوء المُحنك.
زفَر السّبعيني ذَا العُيون الضّيِّقة الفِيرُوزِية زَفيرًا حَارا، مُتعبًا حِين ردّ: «ومَاذا سيكُون أكثَر من ذلكَ في رأيِك؟»
«لا تَسخر مِني، لو كَان الأمرُ كذلكَ لاِحتوت مُنظمَتنا على أَغلب سُكان بريطَانيا.» أَعرب الأَشقرُ عن اِبتسَامةٍ ساخِرة فِيما أَجاب، وَقد ضاقَ به الأمرُ ذرعًا مِن مُحاولَاتِه المَقيتةِ في اللفِ والدّوران، وحتمًا لن يخرجَ هذِه الليلةَ من هذه الغُرفةِ إلّا وقد نَال مُرادَه. وَلعلَ إِصرارهُ هذا نَابعٌ مِما رآه مِن اِهتمامٍ أعربتهُ تقاسِيم إِدموند بكَايل، فودّ لو يُحيط بذلكَ مَعرِفة؛ وَخاصةً أنّه نُسخةٌ طِبقَ الأصل عن ذلكَ الشّخص.
«لِم صرتَ ذكِيًا في هَذهِ اللَحظة؟» بعثرَ الأكبرُ خُصلاتَ شعرِه المَهقاء مِن الشّيب بِامتِعاض، تنهدَ تنهِيدةً عمِيقةً تنمُ عن اِستِسلامِه، وكما اِبتغى أريَان فقد علمَ السّبب وراءَ لهفةِ الزّعيم لِضمه إلى مُنظمتِه، ومَا أشدَ غيظَه وحنقهُ حِينئذ!
«أنتَ فظيعٌ جِدا، ألا تَعتقدُ هذا؟ كُن مُتأكِدًا أنّي لن أسمَح بِانضمامِه، وسأسعَى جَاهِدًا لِتحقِيق ذلك!»
ألقَى كلماتِه المُغتاظةِ بِقسوةٍ في وجهِ إدموند الّذي لم يَرف له جَفن، مُغادرًا غُرفته، وصوتُ كعبِه يتعَالى في الأرجَاء.
<----«« »»---->
دلَف الغُرفةَ بتأنِي، أغلقَ البابَ وراءهُ بتَرو، فلَم يُصدر صَوتا. وَقفَ أمامَ السّرير، حيثُ يرقُد كَايل بِسلام؛ مُستغرِقًا في النّوم العَميق، ثمّ انحنَى بِجذعهِ يُمعنُ النّظر في تَفاصِيل وجهِه النّاعِمة مُستَعينًا بِوهجِ القمَر؛ أَهدابٌ دعجاءُ مُسبلة، بَشرةٌ بيضَاء تَشوبُها بعضُ الحُمرة، شامةٌ سوداءُ تحت الشّفةِ السّفلى مِن جِهةِ اليَمين، وَثقوبٌ مَلأت شفتيهِ الكَرزِيتَين. مَد يدهُ لإِبعادِ خُصلاتِ شعرهِ الفحمِيةِ عن جبهَته.
ولِوهلَة، حَسب أنّ الزّمن قَد تَوقف، لكنّهُ سُرعان مَا اِستعادَ رُشده، وَشدّ القبضَ على يَدهِ المَمدُودة. أدَار كَعبهُ مُستعِدًا للمُغادرة، فَإذ بِه يتوقفُ إِزاءَ دَخيلٍ غير مُتوقعٍ في الغُرفة.
«لينُوس، مَاذا تَفعلُ هُنا؟»
شدّ الصّغيرُ المدعُو لِينُوس على أَطرافِ قمِيصهِ السّماوِي، طَأطَأ رأسَه، فَاِنسلت خُصلاتُه إِلى الأسفلِ مُخفيةً مَلامِحه، وباِرتباكٍ وُضحَ من نَبرةِ صوتهِ المُهتزة، وَالمُتلعثِمة، وَحركةِ يديهِ المُضطربَتين أجَاب: «حَسنا...كُلّ ما فِي الأَمر...أنا أَعنِي...»
بِحنيةٍ مَسد أريَان عَلى شعرِ اِبن أخيه فِي مُحاولةٍ لإِبعادِ تَوترِه، رَفعَ الصّغير رَأسه، فتلاقَت عيناهُ الزّرقاوتين بُزرقاوتي عمهِ حِين ردّ هذَا الأخِيرُ فِيما يرسمُ على ثغرِه اِبتسامةً مُتكلِفة، وَمُنكَسِرة: «هَل أتَيتَ أنتَ الأخرُ لِرؤيةِ شبيهِه؟»
هَز الصّغيرُ رأسهُ نافِيًا صِحةَ كَلامِه، ثمّ نطَق بِنبرةٍ مِلؤهَا القلقُ كَما عَينيه: «أنَا هُنا لأنّي قلِقٌ عَليك.»
جحظَت عينَا الأكبَر، وَابتسمَ بِمرارةٍ فِي دَاخله؛ أترَاهُ مُثيرًا للشّفقةِ لدرَجةٍ يجعلُ فيهَا طِفلًا لم يتجاوَز العقدَ مِن عمرِه يَشعُر بِالقلَق عَليه؟
«أنَا بِخير، وَمتَقبلٌ بِالفِعل فِكرةَ موتِه، لن أفتعِل شيئًا غَبيًا مِن شَأنهِ أن يُؤذيَ ذلكَ الغُلامَ الّذي لَا دَخل له، شُكرًا على قَلقكَ لِينُوس.»
نظرةُ شكٍ وعدمُ تصدِيقٍ هِي مَا اِكتفى الأَصغرُ بهَا كَإجابةٍ على عَمِه الّذي مَا كَاد يَطأُ عتبةَ البابِ حتَى تناهَى إِلى مَسمعهِ صوتَ كَايل المُرهقِ، وَالمُتعب دَلالةً على اِستِيقاظه، وَيا لهُ مِن وَقتٍ رائِعٍ كي يَفيقَ مِن غَفوتِه!
تَيبسَ فِي مَكانِه لَا يدرِي مَا العَمل؛ فكَيف يُفترضُ بهِ مُواجهتُه؟ خائِفٌ مِن سيطرةِ مشاعرِه عليه وَحدوثِ ما لَا يُحمدُ عُقباه، ما قالهُ للينُوس تَوًا يُعدُ كَذبًا لا يَمتُ للوَاقعِ بأيّ صِلة، فشبحهُ يُطاردهُ على الدّوامِ مُسببًا له الأرق، وَالصُّداع.
أخدَ نفسًا طَويلا، يطرُد عنهُ كلّ أفكارٍ سِلبية، وَاستبدَل ملامِح الاِضطرابِ بأخرَى جَذلة، وَليِنة فيمَا ردّ: «مِن الرّائعِ اِستيقاظُك، بمَ أستطِيعُ مد يدِ العونِ لك؟»
«مَاء...كأسُ ماءٍ رجَاء.» بِصوتٍ مُتحشرِجٍ نَبس، وَمن دُون تَأخيرٍ لبى أَريان طَلبه وَأمدهُ بكأس مَاءٍ ساعدَه في شُربه.
أَشعل الطّبيبُ الأنوار، ثمّ راحَ يتفقدُ حالَ مَرِيضه، مُستفسِرا: «هَل يُمكنكَ إخبارِي إن كُنتَ تتَألم، أو تشعُر بعدمِ الرّاحَة؟»
«أنا بِخير، لكِن أين أنَا؟ وَمن أنت؟»
«اِعذِرني، أنا أريَان رُوتشِيلد؛ طَبيب. وَأنتَ حاليًا تحتَ رِعايتِنا؛ رِعايةِ مُنظمةِ الشّفق، زَعيمُها السّيدُ إِدمُوند فَانسلِيت، وهُو ذاتُ الشّخصِ الّذي أنقَذك. لِذا رَجاءً تصرف وكَأنّك فِي بيتِك، فَشفاؤُكَ هُو الأَهمُ في الوقتِ الحَالي.»
هَز كَايل رَأسهُ مُتفهِما، ثمّ اِنتقلت أنظارهُ إِلى الصّبي الّذي اِرتمَى على سَريرهِ مُستطرِدًا بنبرةٍ شعَت حَماسا: «وَأنا لِينوس رُوتشيلد، مَاذا عنكَ أخِي؟»
«كَايل سمِيث، مِن اللَطيفِ مُقابلتُك لِينُوس، إنّك تُذكرنِي بِشقيقي الصّغير.»
اِكتفى الحالكُ بالتّربِيت على رَأسِ الصّغير حِين ختمَ الكلَام، بينمَا توردَت وجنتَا هذَا الأخير بِشكلٍ طَفيفٍ حِين ردّ: «هَل يُمكننِي اِعتبارُك أخًا لي؟ لَطالمَا أردتُ أخا!»
«لكنِي أخشى أنّ سُبلنَا لَن تتَقاطَع مُستَقبلا.»
أمالَ المُخاطبُ رأسهُ باِستفهام.
«ألم يُخبِركَ الجدُ بعد؟»
عِندما رأَى لِينوس الحِيرةَ على وَجه كَايل، أدركَ أنّه لا يدرِي شيئا، فَأردَفَ بِحماسٍ نابعٍ مِن القَلب: «أنتَ ستُصبحُ وَاحدًا مِنا!»
سحب أريان اِبن أخيهِ الوحيد مِن ياقةِ قَمِيصه مُستعدًا لِطردِه قائِلا: «لِينُوس، هَذا يَكفي. المَريضُ بحَاجةٍ للرّاحة، دردِش مَعه كمَا تَشاءُ في الصّباح.»
لوى الأصغرُ شفتيهِ بِاِستياء، لكنهُ ورغمَ أنفهِ اِنقادَ لأمرِ عمِه، وزارهُ مَع أولِ خيطٍ للضِّياء، فاِنتهزَ فرصةَ غيابِ عمهِ كي يحكيَ لهُ كلّ ما هُو بِحاجةٍ لمعرِفته، وَخاصةً موضوع ذلكَ الشّبِيه. وَمع جُل مُحاولاتِه في إِقناعهِ للإِنضمامِ إليهم، إلّا أنّه يستمِرُ في الرّفضِ القاطِع، مَع علمِه التّام أنّ حياتهُ وحياةَ مِن حولهِ مهدَدةٌ بالخطَر.
صحيحٌ أنّه تحتَ تهديدِ الخطرِ في كلّا الحالتَين، لكن اِنضمامهُ سيقلصُ احتماليةَ موته، وَهذا بالفِعل كَافٍ لضمانِ نجاتِه!
يُتبَع...
<----«« »»---->
لَا حَول وَلا قُوةَ إِلا بِالله.
اللهُم صلِ وَسلَم وَبارِك عَلى سَيدنَا مُحمد.
1146 كلمة.
Bạn đang đọc truyện trên: Truyen247.Pro